تُعدّ انتفاضة الأقصى من الأحداث التاريخية العظمى التي لها ما بعدها في حياة الفلسطينيين على جميع الأصعدة، خصوصاً مع ما أفرزته من صعود قوى وهبوط أخرى، وخلقها أساليبَ وحيلاً جديدةً للتعامل مع العدوّ الصهيوني وأجهزته الأمنية.

لا يمكن التعامل مع الانتفاضة الثانية إلا بوصفها امتداداً لتاريخ طويل من المقاومة التي مارسها الشعب الفلسطيني على مدار أكثر من مائة عام في مواجهة المشاريع الاستعمارية على أرضه، إذ ورثت المقاومة التي خاضها الفلسطينيون في هذه الانتفاضة عدداً من أساليب العمل عن الثورات السابقة، وطوّرتها بشكلٍ يتلاءم مع التحديات التي فرضتها المعادلات العسكرية والميدانية الجديدة. بالمقابل، بقيت الخطوط العريضة للتفكير السياسي في الانتفاضة الثانية  قريبةً من البرنامج الذي طرحه الشعب الفلسطيني خلال سنوات مقاومته السابقة.

وفي ظلّ محاولات بعض الجهات الحقوقية وتيارات أخرى تنادي بـ”اللاعنف” الكتابةَ عن الانتفاضة الثانية، على نحو غير بريء ومُجتزأ يفصل بين التطور الذي طرأ على الانتفاضة من المظاهرات الشعبية والعمل العسكري والعمليات الاستشهادية، تأتي هذه المقالة المقتضبة لوضع الحقائق حول هذه الانتفاضة في نصابها الصحيح، على اعتبار أن تلك القراءات تُسقط من اعتبارها طبيعة بحث الفلسطيني الدؤوب عن وسائل دوماً أفضل وأكثر نجاعةً، حتى وهو يحمل الحجر بيده. كما تُسقط كذلك مسألة أن الانسحاب الجزئي للعدو بعد أوسلو كان محكوماً بطبيعة انتشار قواته التي غادرت المدن في حينها، وتركّز تواجدها على المداخل، وأي رجوع لعدد الشهداء الذين ارتقوا بدم بارد على الحواجز خلال الأيام والأسابيع الأولى من عمر الانتفاضة يمكن أن يجيب عن ذلك.

 

 

البنية التحتية للانتفاضة

لنا أن نتخيّل شكل البنية التحتية التي أخذت على عاتقها رفع مشروع العمل العسكري خلال الانتفاضة الثانية في الضفة الغربية وقطاع غزّة بشكل أساسي، فنرى مجموعة من الأسرى المحررين والعائدين من الخارج ومن راكموا خبرات خلال الانتفاضة الأولى وهبّة النفق وما بينهما. ورغم  متابعة أجهزة أمن الاحتلال الحثيثة لهذه المجموعة، غير أن الأخيرة استفادت من حرية نسبية في التنقل داخل المناطق التي انسحب منها الاحتلال جزئياً، لكن تزامناً مع ملاحقة السلطة الفلسطينية لعددٍ آخر منهم.

من خلال تتبع سير الشهداء والأسرى الذين كانوا صناع الحدث العسكري والعملياتي، يمكن أن نرصد عدة خطوط في العمل تخترق جميع الفصائل، فهناك مثلاً قسم أُفرج عنه من سجون السلطة الفلسطينية أو تم تهريبه، وعاد للعمل بإمكانيات ضعيفة، ليساهم في تصليح الخطوط التي ضُربت خلال السنوات التي سبقت اندلاع انتفاضة الأقصى. يمكن اعتبار الشهيد صلاح الدين دروزة نموذجاً ملهماً على ذلك، إذ كان له فضل السبق في إعادة ترتيب خطوط كتائب القسام من خلال نقطة ميتة؛ كان يتعامل مع المطاردين من خلالها تحت اسم وهمي هو “راشد”، غير أن يد الاغتيال كانت سريعة له عام 2001، وذلك ربما لعلم المخابرات أنه كان يربط السياسي بالعسكري في حركة “حماس” في تلك الآونة.

وفي الحديث عن العمل النضالي المنظّم خلال الانتفاضة الثانية، يمكننا القول إن خلايا “كتائب القسام”، التي استطاعت لملمة صفوفها، ورثت عملاً عسكرياً مرتكزه العمليات الاستشهادية، لتتبعها عمليات إطلاق النار والهجوم على حافلات المستوطنين، وأشهرها ربما عمليتا “عمانوئيل” الأولى والثانية عام 2002، واللتان أوقعتا في صفوف العدو خسائر فادحة، وسكن الرعب على إثرهما المنطقة لشهور طويلة.
في ذات السياق، يمكننا ملاحظة تقارب في الأداء العملياتي بين حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” خلال الانتفاضة، إذ لا يمكننا نسيان  الضربة التي وجهتها  “الجهاد الإسلامي” لجيش العدو بالخليل، من خلال تنفيذها عملية “زقاق الموت” في شهر رمضان من العام 2002، إذ اقتحم ثلاثة مقاتلين وادي النصارى في البلدة القديمة بالخليل، وهم: ولاء سرور، وأكرم الهنيني، وذياب المحتسب، وانتهت العملية باستشهاد ثلاثتهم، ومقتل 17 جندياً، من بينهم حاكم الخليل العسكري وقائد حرس الحدود في الخليل وقائد وحدة “الناحال”، وتبعها كذلك إقالة كل قادة جيش العدوّ الصهيوني في الخليل.

على إثر ذلك، بقيت هذه العملية محفورة في ذاكرة النخبة العسكرية الصهيونية، لتجعلها تلملم الجراحات عن وجهها المثقل بخسارة عدد من الجنرالات في عمق المنطقة الأمنية المزروعة في الخليل. وكانت العقول المدبرة للعملية هي كل من الشهيد محمد أيوب سدر الذي تعرض لعدة محاولات اغتيال، وفي إحداها تم بتر قدميه ويديه، والشهيد ذياب الشويكي، إضافةً إلى الأسير نور جابر، وهو أحد أبناء المنطقة ومزود الخلية بالمعلومات الاستخباراتية، والأسير محمد عمران.

أما على صعيد حركة “فتح”، فكان مرتكزها في العمل العسكري والميداني على العائدين من الخارج وبعض عناصر الأجهزة الأمنية. ويجدر بنا هنا كذلك استعادة دور مجموعةٍ كانت تنتسب للكتيبة الطلابية التي عملت في لبنان في عقد السبعينيات، مثل الشهيد ميسرة أبو حمدية، والذي عمل بشكلٍ فعاٍل مع معظم الأجنحة العسكرية للمقاومة، ونقل لها جزءاً من خبراته خلال الانتفاضة الثانية، إذ ساعد “كتائب القسام” في العمليات التي نفذتها عام 1992، كما قدم خدماتٍ لها ولـ”كتائب شهداء الأقصى”، وذلك قبل أن يقضي شهيداً في أحد السجون الصهيونية عام 2013. 

الخارطة الجغرافية للمقاومة

كان للتوزيع الجغرافي لعمليات المقاومة وغياب قيادة عملياتية مركزية أثر إيجابي وسلبي في آنٍ واحد. مثلاً، كانت تتم  بعض العمليات في مكانٍ واحدٍ ووقتٍ متقاربٍ، وهو أمر كان بالإمكان تفاديه لو كنا نمتلك قيادة مركزية ذات  نظرة واحدة وتنسيق عالٍ، غير أن تخيّل وجود هكذا قيادة بهذه المواصفات العالية هو أمر سوريالي نظري لا تستجيب له الوقائع المتاحة والتحديات التي تتوالد يومياً أمام أعين المناضلين والمقاومين. بالمقابل، كان يمكن تجاوز كل ذلك بالتنسيق اللوجيستي المحلي بين التشكيلات المختلفة، وهو ما حدث في مرات عديدة في الاجتياحات الكبيرة التي شهدتها الضفة الغربية، أو العمليات التي نُفذت في قطاع غزّة، مثل عمليات الأنفاق الأولى عام 2004، والتي تمّ فيها تفجير موقع محفوظة العسكري جنوب قطاع غزّة عبر نفق طوله 500 متر، وتم إجراء ثلاثة تفريعات من النفق وتفجير ثلاث عبوات ناسفة بالموقع، إضافةً إلى العملية الاستشهادية في أسدود في آذار من العام 2003 وغيرها.

وفي التوزيع الجغرافي للأحداث التي كانت تتمّ بوتيرةٍ سريعة، قيل الكثير عن تأخر الخليل في الالتحاق بالانتفاضة، ولكن تم معالجته ببقاء المقاومة منظمةً على فترة طويلة نسبياً في المدينة، وهو ما افتقدته مدن شمال الضفة الغربية المحتلة التي يمكن القول إنها رمت بقوتها في الشهور الأولى من الانتفاضة، وربما لم تتمكن حتى الآن من تعويض القوة البشرية النوعية التي فقدتها خلال تلك المعركة.
في أحاديثٍ كانت تدور بشكل يومي مع أحد الأسرى الذين كانوا جزءاً من الأحداث، قال إن المراجعات اللاحقة لسير العمليات والانتفاضة تبين بوضوح أن شمال الضفة الغربية انخرط في الانتفاضة بطريقة كان يجب أن تكون بشكل مغاير، وذلك عبر العمل المحدود والمستمر والحفاظ على العناصر التي يستلزم تعويضها وقتاً طويلاً. تفسّر هذه المسألة غياب نابلس وطولكرم الكبير عن هبة القدس الأخيرة.

أما على صعيد القدس والأراضي المحتلة عام 48، فقد كان انخراطهما خلال الانتفاضة الثانية متفاوتاً، إذ يمكن تتبع ظهور عدد من الخلايا التابعة للمقاومة في القدس، مثل خلية سلوان التي أدارها الأسير محمد عرمان، وتألّفت من عضوية الأسرى وسام عباسي ووائل قاسم، وعلاء الدين عباسي، فضلاً عن خلايا “الجبهة الديمقراطية” التي تشكّلت في بلدة العيسوية وضمت عدداً من الأسرى، مثل الشقيقين سامر ومدحت العيساوي، ومحمد زيدان وحسين درباس، وخلايا أيضاً لحركة “فتح” كانت مسؤولة عن نقل استشهاديين وإطلاق نار، كالأسير فراس حتاوي المحكوم بالسجن المؤبد، والأسير المحرر عصام بغدادي الذي أمضى 11 سنة، والأسير مراد العجلوني من كفر عقب المحكوم بالمؤبد، بالإضافة لعدد من خلايا الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية.

في نفس السياق، بقي دور الفلسطيني في الأراضي المحتلة 48 كنقطة ارتكاز ومساندة غالباً. يُعزى الغياب الكبير لذلك إلى عدّة عوامل اجتماعية وتاريخية وسياسية، والتي لا يمكن لكاتب السطور أن يوفيها حقها. لكننا على المقلب الآخر، يمكننا ملاحظة أن فصائل المقاومة استفادت خلال عدد من عملياتها من أهالي الأراضي المحتلة 48 عبر الدعم اللوجستي أو نقل الاستشهاديين أو العمل المباشر، مثل الخلية التي كانت تنتمي إلى “كتائب القسام”، وكان مسؤولاً عنها الشهيد مازن فقهاء، والتي ضمت أسيرين من الداخل ساعدا في إيصال الاستشهادي جهاد حمادة إلى مدينة صفد في شهر آب عام 2002، حيث كانت الضربة الأولى للمدينة منذ النكبة، إذ فجر حمادة نفسه في باص هناك، وأسفرت العملية الاستشهادية عن مقتل تسعة مستوطنين.

تفرض تلك الحقائق سؤالاً مفاده، “أين يمكن إمساك نقطة التحول في نظرة الفلسطيني بالأراضي المحتلة 48 للعمل العسكري؟”، وذلك على الرغم من أن الخلايا الأولى التي قاتلت الكيان الصهيوني بعد قيامه كانت من الأراضي المحتلة 48، ويمكن تتبع مئات الشهداء والأسرى والمبعدين من قرى الجليل والناصرة والنقب في صفوف المقاومة بالخارج، وذلك مثل مجموعات فوزي النمر، ونضال الحمد من الناصرة الذي  قضى شهيداً، وهو آتٍ من لبنان لتنفيذ عمليٍة قرب شواطئ “نهاريا”، فيما أصيب بالعملية رفيقه منير منصور من مجد الكروم واعتقل عام 1971 وأُطلق سراحه بالتبادل مع الجبهة الشعبية- القيادة العامة (أحمد جبريل) عام 1985، إضافةً إلى الشهيد خالد أبو عيشة الذي ارتقى خلال عودته من لبنان لإخفاء أسلحةٍ في فلسطين عام 1964، والشهيد علي الصبيحي، إذ ارتقى قرب سهل البطوف شمال فلسطين بعقد السبعينيات من القرن الماضي، وكانت مهمته جمع معلومات عن مواقع الاحتلال عبر التسلل من سوريا، وهو من وجهاء عرب الصبيح.

وعلى صعيد قطاع غزة، فاتجه العمل العسكري للتنظيم بشكل أعلى، مع الاستفادة من وجود مناطق صغيرة وأزقة ضيقة لا يمكن للاحتلال أن يدخلها إلا بصعوبة، والتي شكّلت خلفية مناسبة للتدريب والعمل والتسليح، ودعمها ذلك قرارٌ بالتوجّه نحو شكل “الميلشيا” أو الكتائب المنظمة، من قبل الشهيدين صلاح شحادة وجمال أبو سمهدانة وغيرهما. ربما كان التوجّه إلى هذا الشكل من العمل ضابطاً للحماسة التي اجتاحت الشباب والمجتمع في غزة. ورأيناها بشكل واضح في محاولات أشبالٍ صغار اقتحامَ المستوطنات، استشهدوا على أطرافها، لتكون بعد ذلك نتيجة قرار الشهيدين وأمثالهما في التوجّه نحو الكتائب المنظمة هي تنظيم العمل وتوجيه ضربات قوية داخل المستوطنات والمعسكرات المزروعة في القطاع، على نحوٍ يشبه العمل في الجيوش النظامية، وهو ما تطور حتى ما وصلنا إليه اليوم في قطاع غزّة.

توزّع العمل العسكري في قطاع غزّة، على مدار سنوات الانتفاضة، بين إطلاق النار على الدوريات الذي تراجع مع تقدّم عمر الانتفاضة، واقتحام المستوطنات وإطلاق الصواريخ وقذائف الهاون التي ظهرت خلال الانتفاضة، وبرزت إلى الوجود بعدها الأنفاق التي تعدّ تطويعاً خلاقاً للجغرافيا لصالح العمل ضد الاحتلال، وضربةً كذلك بوجه السلاح الجوي الذي يُعتبر ورقة “الجوكر” بيد العدوّ الصهيوني. ويعدّ من الظواهر الفارقة التي شهدها القطاع تفجيرُ أول دبابة ميركافا في شهر شباط من العام 2002، وذلك عن طريق عبوة أعدها الشهيد جمال أبو سمهدانة مع عدد آخر من الشهداء، ومن ثم البناء عليها في تجارب أخرى.
كانت هذه الظروف، التي أتاحت للفلسطيني في غزة حرية التنويع في تكتيكاته والتحرّك بحرية نسبية داخل حدود القطاع، غائبةً عن الضفة الغربية، والتي حرمت الفلسطيني بدوره من الاستفادة من الجغرافيا الجبلية والقدرة على المناورة والتخفّي في المغارات والكهوف، إضافةً إلى أن التغيير الذي تبع دخول السلطة إلى الشوارع والسكان يمكن اعتباره عاملاً مهماً في حرمان المقاومة الفلسطينية من القرى، والتي كانت بعيدة نسبياً عن مراكز المدن.

في السياق عينه، يمكن اعتبار أن شق الشوارع وتعبيدها قد سَهَّل على الاحتلال مهمة دخول القرى، وذلك على العكس من الانتفاضة الأولى، إذ منع الفلسطينيون الجيش الصهيوني من دخول عدد من بلدات رام الله لأسابيع طويلة. وبطبيعة الحال، تعود هذه المسألة أيضاً إلى الانخراط الشعبي الكبير في الفعاليات وقتها، وربما تعود كذلك إلى احتمالية أن يكون الفلسطيني لم يراكم خبرةً كافيةً وقتها في التعامل مع اجتياحٍ كبيرٍ كالذي شهدته الضفة في الانتفاضة الثانية.

 

 

تجارب وتحديات

حفلت الانتفاضة الثانية بعدد من التجارب الهامة التي حاولت خلق نقلة استراتيجية كبيرة في العمل النضالي ضد العدوّ الصهيوني. يبرز اسم الشهيد نزيه أبو سباع كصاحب إحدى تلك التجارب الفارقة، إذ حاول نقل تجربة الصواريخ من قطاع غزة إلى الضفة الغربية.ويمكن الاستدلال على مدى خطورة مشروعه من تصريحات شارون التي أدلى بها بعد اغتياله في شهر نوفمبر من العام 2002، إذ قال: “تخلصنا من قنبلة موقوتة”.

على نفس المنوال، تعدّ تجربة خلية الجبهة الشعبية في اغتيالها عام 2001 وزير السياحة الصهيوني، رحبام زئيفي، إحدى أهم النقلات النوعية على صعيد العمل العسكري المنظّم، وتكوّنت الخلية من الأسرى مجدي الريماوي وحمدي قرعان، وباسل الأسمر وعاهد أبو غلمة، وذلك بتوجيه من الأمين العام للجبهة الشعبية الأسير أحمد سعدات. خلّفت تلك العملية انعكاساتٍ لافتةً على الوعي الفلسطيني ورفع المعنويات في تلك المرحلة، التي شهدت اغتيالاتٍ كثيرة للمقاومين الفلسطينيين، باعتبارها أحد الأدوات السياسية والاجتماعية وحتى الاقتصادية التي كان يمتلكها العدوّ الإسرائيلي آنذاك وبفعالية عالية.

ومع اقتراب الانتفاضة من نهايتها،  ظهر الشهيد لؤي السعدي الذي شكّل مجموعات كبيرة من “سرايا القدس” على امتداد الضفة الغربية؛  ووصلت وفق بعض التقديرات إلى 500 مقاوم، وكان مسؤولاً كذلك عن عدّة عمليات استشهادية في “تل أبيب” و”نتانيا” وعمليات إطلاق نار قرب طولكرم وجنين، فضلاً عن خلايا من الخليل وبيت لحم كانت تخطط لعمليات استشهادية في مستوطنة “راموت” بالقدس المحتلة. تحصّن السعدي بالجبال المحيطة بقرى طولكرم، وحاول خلق مجال للحركة والعمل في الجبال ونجح بذلك لفترة، لكن ربما شكّل حجم الخلايا الكبير عبئاً أمنياً يسهّل على العدوّ مهمة كشفها وتفكيكها. لم تترك قوات العدوّ الصهيوني مغارةً إلا وفتشتها بحثاً عن الشبح الذي يطاردها، وذلك قبل اغتياله خلال اشتباكٍ دام أكثر من 6 ساعات في شهر تشرين الأول عام 2000.

أمّا على صعيد التحديات التي واجهت الفعل المقاوم الفلسطيني خلال الانتفاضة الثانية، فقد كانت “الوحدات الخاصة” بأشكالها المختلفة إحدى أهم التحديات، إذ إنّها كانت أداة فتاكة بيد الجيش الصهيوني، أتاحت له الوصول للمطاردين واغتيالهم في قلب المدن أو الأماكن التي تحصنوا بداخلها. لكن ثمّة حالات أخرى تمكن فيها مقاومون من تكبيد عناصر هذه الوحدات خسائرَ ملحوظةَ، كما حصل مع الشهيد سامر دواهقة الذي حاصرته قوة من تلك الوحدات في شهر تموز عام 2005، حينما كان يهمّ بمغادرة منزل شقيقته في العيد، إذ باغتها وأوقع في عناصرها إصابات لم يعلن عنها الاحتلال إلا تدريجياً وعلى فتراتٍ متفرقةٍ.

في نفس المضمار، شكّلت الاغتيالات تحدياً ثقيلاً للمقاومة الفلسطينية إجمالاً، إذ أفقدتها عدداً من الخبراء الذين لا يمكن تعويضهم بسهولة، مثل الشهيد إبراهيم بني عودة من طمون، الذي نقل عنه من عرفوه أنه كان يملك مهاراتٍ عاليةً في التفخيخ والمتفجرات؛ يستطيع من خلالها تفخيخ قلم حبر، وقد اكتسب هذه القدرات أثناء استقراره في الأردن والعراق. تمكنت مخابرات الاحتلال من اغتياله عن طريق سيارة مفخخة في نابلس في شهر تشرين الثاني عام 2000، وذلك بعد فترة قصيرة من الإفراج عنه من سجون السلطة الفلسطينية في بداية الانتفاضة الثانية.

وفي العام 2001، دوّى انفجارٌ هزّ مدينة نابلس، كان المستهدف آنذاك الشهيد أسامة جوابرة، إذ انفجرت به عبوة ناسفة كانت مزروعة في هاتف عمومي. عُرِفَ عن الشهيد دوره الكبير في تجهيز العبوات الناسفة التي استخدمت بعمليات المقاومة في الأراضي المحتلة عام 48. يمكن موضعة سياسة الاغتيالات والأساليب الأخرى التي اتبعها العدوّ الصهيوني لاحقاً في سياق تطوير آليات جديدة تنزع بدورها الفاعلية عن العمل المقاوم الفلسطيني، وهو أمر طبيعي في حربٍ وجودية يسابق فيها الجميعُ الزمنَ والفعلَ.

ومن المعروف أن خزان المقاومة البشري يتركّز في الأرياف والمخيمات، وتم تدفيعه ثمناً باهظاً على المستويين الاقتصادي والحياتي من الاحتلال ووكلائه، خصوصاً في شمال الضفة الغربية. وربما يمكننا القول إن هجرة بعض الشباب من بلدات ومدن شمال الضفة إلى رام الله تأتي نتيجةً لسياسات السلطة، والتي بدورها تؤثر بشكل أو بآخر على انخراطهم في أيّ انتفاضة أو هبة مستقبلية.

كما تُعدّ الاعتقالات اليومية، التي يشنها جيش العدو الصهيوني في الضفة الغربية والقدس المحتلة بشكل مكثف، من أبرز وسائله في إنهاك المجتمع الفلسطيني واستنفاد طاقاته في المقاومة وقدراته على التحمّل ودفع الثمن. ما أزال هنا أذكر كلمة عميد الأسرى الأحرار، نائل البرغوثي، التي قال فيها إن من واجبنا حماية شبابنا من السجون، وهي مهمة ثقيلة، ولكن ينبغي أن تأخذ حصة كبيرة في التفكير الفلسطيني، لتجنيب مجتمعنا الثمن الباهظ الذي يدفعه على مستوى الوعي والسياسة والاجتماع جراء الاعتقالات.

وبخصوص التحديات المجتمعية التي واجهت المقاومة، فمن خلال تتبّع التوزيع الاجتماعي لفعل التضحية والانخراط بفعاليات العمل، يمكن ملاحظة نقطة بالغة الأهمية من وجهة نظري، وهي الغياب التام لعائلات كبيرة عن الحركة الثورية الفلسطينية، مقابل عائلات قدمت كثيراً من أفرادها شهداء أو أسرى، مثل عائلة القواسمي في الخليل وعائلة المبحوح في غزة، فضلاً عن عائلات أخرى موزعة على الضفة والقطاع والقدس. تفرض هذه النقطة سؤالاً هاماً، حول ما إن كانت هذه المسألة مرتبطة بطبيعة المجتمع الفلسطيني العائلية، أم أن الانتفاضة برمّتها لم تخترق أماكنَ وعائلات جديدة، وهي قضية ربما بحاجة لدراستها، خاصةً أن الاحتلال استغلها لتوزيع العقوبات والمكافآت على من يريد،  بهدف زيادة التقسيم الاجتماعي الفلسطيني.

وبعد اجتياح نيسان أو ما يعرف بعملية “السور الواقي”، برزت ظاهرة “العربدة” من قبل مجموعات من المسلحين، خاصةً في شمال الضفة الغربية. كبرت وترعرت هذه المجموعات بعد غياب معظم كوادر الفصائل الفلسطينية إما بالاستشهاد أو الاعتقال، وبدأت تمارس السرقة والخاوات والكثير مما تحتفظ به ذاكرة الناس. وربما يمكن إرجاعه إلى نوع من عمليات “كي الوعي” أو “مكافحة التمرد” التي ينتهجها  العدو الصهيوني لاغتيال حركات المقاومة مادياً ومعنوياً.

في المقابل، نجحت عدد من مجموعات المقاومة الفلسطينية في تجاوز بعض التحديات الهامة، أهمها الطرق الالتفافية التي يسلكها المستوطنون، إذ طوّعتها لصالحها وحوّلتها إلى تكلفة عالية تقع على كاهل جيش العدو الصهيوني. ومن أبرز تلك التمظهرات عمليات إطلاق النار على مركبات المستوطنين التي اشتهر بها الشهيدان رائد الكرمي وأيمن حلاوة. وكان من أبرز عمليات الكرمي قتله مستوطنين في مدينة طولكرم في بداية انتفاضة الأقصى، وإطلاقه النار على مقر الارتباط العسكري الصهيوني على مدخل المدينة. وكان قد اغتيل في شهر كانون الثاني عام 2002، بحزام ناسف زرعته مخابرات الاحتلال قرب مقبرة في المدينة، حيث يروى رفاقه أنه كان يمشي بجوار الجدران، تجنباً للمروحيات بعد أن تعرض لعدة محاولات اغتيال. كما استطاعت الخلية، التي ضمت الأسرى المحررين شكيب العويوي وموسى وزوز ومحمد الجولاني ولؤي العويوي، من قتل 8 جنود في عمليات إطلاق نار متنوعة قرب تجمع “غوش عتصيون”، ولم تعلن الخلية عن العملية التي نفذتها إلى أن تم اكتشافها عن طريق الخطأ.

في نهاية المطاف، ثمّة أسئلة تتطلّب منا التفكير فيها والإجابة عليها بتأنٍ بهدف البناء عليها لا من باب المعرفة الباردة؛ أهمها حول العمل السياسي، والسبب وراء إخفاقه في رفد الفعل المقاوم العسكري ورفعه إليه، خاصةً في ظل الخسائر الكبيرة في صفوف العدوّ نتيجة ذاك الفعل العسكري؛ ذلك بالطبع إن جاز لنا التقسيم الصارم بين السياسي والعسكري. وعلى المستوى العملياتي، يمكننا السؤال “لماذا غابت بشكل كبير العبوات الجانبية على الطرق التي يسلكها جيش العدوّ الصهيوني، مقارنةً مع تجربة المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان، والتي شكلت فارقاً كبّد الاحتلال خسائر فادحة؟”. ولماذا كذلك بقيت المقاومة ضعيفةً في بعض القرى صاحبة المواقع الحساسة وعلى مقربة من مدن العدوّ، مثل غرب رام الله؟

إجمالاً، يمكننا القول إن الانتفاضة الفلسطينية الثانية حققت إنجازاتٍ على أرض الواقع، ربما كان على رأسها تحرير قطاع غزة من العدوّ الصهيوني، وإعادة ترتيب العلاقة معه بعد سنوات من عقد جزء من الفلسطينيين علاقات مختلفة معه. وفي السنوات التي تلت الانتفاضة، بقيت الأجيال تتوارث أساليب المقاومة في العمليات الجديدة، خصوصاً مع بروز خط عملياتي فردي عائد نوعاً ما إلى غياب كتلة جماعية مقاومة كالسابق.

ومع ذلك، يمكن ملاحظة عدد كبير من عمليات إطلاق النار ومحاولات خطف الجنود وتشكيل خلايا، كامتداد لإرث الانتفاضة السابق، لكن ما يؤخذ عليها أحياناً، تحديداً في حالة الخلايا كبيرة الحجم، تجاهل ما وصل إليه العدو في تكتيكاته الأمنية وسهولة انكشافها أمامه. كما تغير الكثير على مستوى البنية التحتية للمقاومة، والجغرافيا التي يحاول الاحتلال وأدواته تطويعها لصالحهم، فضلاً عن التغيّر الذي أصاب نفسية الفلسطيني، ونظرته للعمل السياسي وافتقاده الفاعلية واهتمامه بالمجال الوطني العام، لكن يبقى الإرث الذي خلفته الانتفاضة الثانية إرثاً يستفيد منه المقاومون، ويبنون عليه تجاربهم في المواجهة مع العدوّ الصهيوني.