في طيّات التّحولات الاجتماعية الصهيونية، وفي سياق تأثير هذه التحولات على التكوين الديمغرافي والاجتماعي للجيش، وتحوّله – وإن بشكل محدود – من جيش شعبيّ إلى جيش مهنيّ على شاكلة غالبية الجيوش الغربية، تلعب أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية دوراً جوهرياً في استجلاب ودمج شريحة هامة من هامش المجتمع إلى مركزه، أي أبناء التيار الصهيوني القومي المتدين، من خلال استدخالهم في الجيش، وبالأخصّ في الوحدات القتالية.

مقدمة فريق التحرير

نضع بين أيديكم مقالاً أكاديمياً مترجماً عن الإنجليزية، وهو بعنوان “تمكين الجيش: ثورة أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية وصناعة مجتمع المعرفة الأمنية الجديد- عسكرة يهودا والسامرة”، لكاتبه “يودي ليبيل” من جامعة مستوطنة “أريئيل”. يعالج المقال أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية في المستوطنات الصهيونية، فقد كان على الجيش الصهيوني في العقد المنصرم أن يُعدّ ذاته لتحديات متنوعة نابعة في مجملها من محيطٍ إقليمي متحوّل تتعددُ فيه أوجه الصراعات واللاعبين. وبالرغم من أهمية التّحديات الخارجيّة لصناع القرار في أعالي الهرم الصهيوني،إلا أن التغيّرات الاجتماعية الصهيونية الداخلية لا تقل عنها أهمية، ولا تقل عنها تأثيراً في تحديد أولويات الجيش وتحولاته.

في طيّات هذه التّحولات الاجتماعية، وفي سياق تأثير هذه التحولات على التكوين الديمغرافي والاجتماعي للجيش، وتحوّله – وإن بشكل محدود – من جيش شعبيّ إلى جيش مهنيّ على شاكلة غالبية الجيوش الغربية، تلعب أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية، تلك التي ينتسب لها أبناء التيار الصهيوني القومي المتدين، دوراً جوهرياً في استجلاب ودمج شريحة هامة من هامش  المجتمع إلى مركزه، وذلك في سياق مجمتع عسكري يستند في قدرته على البقاء إلى مفاهيم ترتبط بـ”القوة” وسياسات “الجدار الحديدي”.

يخدم اليوم في الجيش الصهيوني 73٪ فقط من الذكور المؤهلين للخدمة العسكرية، و58٪ من الإناث المؤهلات. وتعتبر هذه معدلات منخفضة في مجتمع يرى الخدمة العسكرية طقسَ عبورٍ اجتماعي ضروري “لمواطنة” فاعلة، وفي مجتمع يرتكز على الخدمة العسكرية في قدرته على احتواء الإختلافات الأيديولوجية والإثنية والاجتماعية والسياسية. يعاني المجتمع الصهيوني خصوصاً في شقه العلماني-الليبرالي من متلازمة “ما بعد البطولة” وقابلية واندفاعية أقل نحو الجيش وبالذات في الوحدات القتالية.

وينبع انحسار الإندفاع نحو الخدمة العسكرية من تغيرات ديموغرافية ترتبط بشكل أساسي بصعود التيارات الدينية الحريدية (اليهود الأورثودوكس)، والاضطرابات الاجتماعية التي أحدثها تنامي هذا التيار في رحم مجتمع علماني آخر يرى في الخدمة العسكرية عبئًا وثقلًا اجتماعيًا . ولا يمكن فصل هذا الانحسار عن التحولات الاقتصادية البنيوية التي غيرت الطابع الاقتصادي والاجتماعي للكيان من نظام اقتصادي اعتمد على مفاهيم التكافل الاجتماعي المرتبط بأيديولوجية الحركة الصهيونية العمالية، والتي سيطرت على الحركة الصهيونية في بداياتها، إلى اقتصاد نيو-ليبرالي يحيل المجتمع الصهيوني للنزعة “الفردانية”، وإلى استعدادية أقل للتضحية في سياق مجتمع متعدد الجبهات والمعارك.

في ظل هذا السياق، تأتي أهمية أكاديميات ما الخدمة العسكرية، والتي نخرط فيها أبناء المتدينين الصهاينة، إذ أنها استطاعت خلق مجتمعٍ معرفي- عسكري، له رموزه الخاصة ونماذجه الحيّة، ولديه القدرة الكافية على إنتاج جنود أكفاء وشرسين مقبلين بقوة على الانضمام إلى الوحدات القتالية في الجيش.

وقد ساهمت هذه الأكاديميات في أن يأخذ أبناء التيار الديني الصهيوني دوراً متصاعداً في هيكلية الجيش الصهيوني، وبالتالي الحصول على نفوذ سياسي واجتماعي أوسع. وهنا لا يمكننا الفصل بين الأهمية النابعة من تكوّن نخبة عسكرية جديدة في داخل الجيش الصهيوني، وبين خروج تلك النخبة من رحم رأس الحربة الضاربة للمشروع الإستيطاني في الضفة الغربية، وتأثير ذلك على ثقافته السياسية، ومستقبل “الحلول” السياسية المقترحة من قبل “النخبة الفلسطينية” وحاضنتها “الدوليّة”.

وقد وقع اختيارنا على هذا المقال للترجمة، لأهمية منهجيّته التحليليّة -ضمن علم الاجتماع العسكري- في دراسة التحولات في المجتمع العسكري الصهيوني ضمن سياق التحولات الاجتماعية للجماعة الاستيطانية المُحاربة المسماة ” اسرائيل”. وقد تطوّعت فرح عصام مشكورة لانجاز هذه الترجمة، وقام فريق باب الواد بتدقيق الترجمة ومراجعتها.

 

*******************************************

 

تمكين الجيش : ثورة أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية وصناعة مجتمع المعرفة الأمنية الجديد- عسكرة يهودا والسامرة

Settling the Military: the-pre military academies revolution and the creation of a new security epistemic community – The Militarization of Judea and Samaria

لكاتبه: يودي ليبيل Udi Lebel
دائرة الأنثربولوجيا والسوسيولوجيا، جامعة آرئيل، فرع السامرة وغور الأردن مركز R&D، أريئيل، إسرائيل
نشر في مجلة  “الشؤون الإسرائيلية”  Israel Affairs في عدد رقم 21، الصادر عام 2015.
ترجمة: فرح عصام
تحرير:فريق موقع باب الواد

يصف هذا المقال تأسيس أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية في منطقة يهودا والسامرة باعتبارها كيانات تقوم بدور وكلاء الثقافة  (المترجمة: Cultural agent هُم أي فئة في المجتمع تعمل على إرساء ثقافة أو أفكار وقيم معينين كالمؤلفين والفنانين..الخ) الذين يسبقون الوجود العسكري في تلك المناطق. ويتابع هذا المقال تطور مجتمع المعرفة الأمنية Security  epistemic community   في تلك المناطق، والذي شكّل هوية جديدة للمستوطنين. لقد غيّر تزايدُ التحاق الشبان المتدينين – الصهاينة بالوحدات القتالية ومساقات الضباط في جيش الدفاع الإسرائيلي بفضل تلك الأكاديميات، وضعَ المستوطنين وكل المتدينين – الصهاينة في المجتمع الإسرائيلي في مقابل النخب غير المتدينة، والمتدينين الأرثذوكس (الحريديم)، والجماعات المتدينة الصهيونية التي لم تنخرط في أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية. أصبحت منطقة يهودا والسامرة “منطقة أمنية” معروفة بالتضحية والبطولة والعطاء وبشراكتها التربوية مع الجيش، والتي انعكست بنسب مئوية أعلى لأنشطتها في المؤسسات التعليمية والدينية والثقافية مشجّعةً خدمة عسكرية جادّة وذات معنى.

مقدمة وأهداف هذا المقال

منذ مطلع الألفية، تخدم نسبة متزايدة من الإسرائيليين الصهاينة – المتدينين (من أتباع التيار الصهيوني المتدين) في الوحدات القتالية لجيش الدفاع الإسرائيلي، فضلا عن تحوّلهم إلى ضباط من أصحاب التصنيفات المتوسطة والعالية في تلك الوحدات. على مدار سنوات طويلة، كان الميدان العسكري وروح إسرائيل أمرين مرتبطين بالحركات الاشتراكية الزراعية اليسارية، الحركات العلمانية، والتي طبّقت خيار “اليهودي الجديد” الذي أدار ظهره للشتات المتدين، بالأخص مع وسمه عالم التوراة وحياة الجيش كمجالين متنافيين dichotomous spheres.

يركّز هذا المقال على الديناميكيات التي أطلقت مع تأسيس أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية- وهي المؤسسات التي أتاحت لشباب الصهاينة المتدينين خيار الارتباط بالجيش وبعالم التوراة بأسلوب هجين، الأمر الذي أدى لانخراط غير مسبوق للقوميين المتدينين في الأنشطة العسكرية الإسرائيلية. في كتابه “النخب الجديدة في إسرائيل” New Elites in Israel الصادر سنة 2007، في فصل “نخبة الجيش الجديدة”، وتحت العنوان الفرعي “المخزون الجديد لضباط جيش الدفاع الإسرائيلي”، كتب المحررُ السابقُ في صحيفة حركة العمال المعروفة باسم دافار Davar، يورام بيري Yoram Peri، قائلًا:

إن أكثر الجماعات بروزًا هي معسكر القوميين- المتدينين. فيما مضى كانت أعداد اليهود المتدينين …في التصنيفات العالية ضمن جيش الدفاع الإسرائيلي ضئيلة… هذه الأيام، ربع ضباط الفرق وقادة الوحدات متدينون… وقد تلقت هذه الظاهرة دفعة إلى الأمام مع تأسيس أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية، إذ منحت هذه الأكاديميات شرعية دينية للخدمة في الجيش كجندي منتظم ضمن وحدات جيش منتظمة، وليس كجندي مرتبط بحركة “يشيفوت ههسدير”  (مركز ديني جمع ما بين دراسة التوارة والانتظام بالجيش في وحدات منفصلة) والتي كانت لها وحدات منفصلة داخل الجيش.

كما سنستعرض، فإن هذا الوضع لم يؤثر في صورة الجيش فحسب، إنما أثر كذلك على المجتمع القومي المتدين بشكل عام وعلى النظام الاجتماعي للمستوطنين تحديدا، وبالأخص فيما يتعلق بتموضع تلك الفئات ضمن المجتمع الإسرائيلي: في علاقة تلك الفئات مع الجمهور العلماني العام، وفي علاقتها مع فئة اليهود الأرثوذوكس (الحريديم)، وفي علاقتها مع القوميين المتدينين البرجوازيين الذين لم ينضموا إلى هذا الخط العسكري الجديد- إذ أدى ذلك إلى ظهور تقسيمات جديدة داخل معسكر القوميين المتدينين. ولهذا التموضع الجديد نتائج سياسية وثقافية وحتى إيروتيكية.

لقد جذبت هذه النزعة في عمليات الدمج المتسارعة للجنود المتدينين في الجيش مؤخرا انتباهًا بحثيًا وجدليًا، وقد وصل الأمر حد الإشارة إليه بالأقلمة أو المناطقية (المترجمة: النزعة لتشكيل أقاليم لا مركزية (Regionalization). يركّز النقاش الأساسي على الاشكاليات الثقافية فيما يتعلق بشخصية الجيش، وبالأخص فيما يتعلق بالقضايا النسوية (إذ يطالب بعض الحاخامات من التيار المتدين الصهيوني أن لا يخدم الجنود الذكور جنبًا إلى جنب مع الإناث منهم في الجيش)، والنتائج المتعلقة بالأخلاقيات وقيم الحرب لجيش الدفاع، والإِشكالية المحتملة التي قد يواجهها الجنود إن وجهت لهم أوامر بإخلاء مستوطنات.

سيركز هذا المقال، كما ذكرنا، على وجه واحد لهذا التطور، مستعرضا الديناميكيات الداخلية المشتركة ضمن مجتمع القوميين-المتدينين، مع اهتمام خاص بتأثيرات هذه الأكاديميات التي أنشأت في يهودا والسامرة-الضفة الغربية. حسب رأيي، فإن نقاش عسكرة الفئة المتدينة في إسرائيل قد تجاهل العامل المكاني، لأن، كما سيتم التوضيح، أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية هي أيضًا تطور مبتدع  إذا ما أخذنا بعين الاعتبار وضع “الأراضي” الواقعة شرق الخط الأخضر في عيون الجنود القوميين المتدينين وكذلك في رأي  الجمهور الإسرائيلي فيما يتعلق بالمستوطنات والمستوطنين.

لقد أطّر الجيل المؤسس لحركة غوش إيمونيم حركةَ الاستيطان بوصفها استمرارية لطلائع المستوطنين في الكيبوتسيم (المستوطنات الجماعية التابعة ليهود أوروبا بشكل خاص أو الاشكناز) والموشافيم (المستوطنات التعاونية التي استقطبت اليهود الشرقيين)، بالتزامن مع منح هذه الأراضي معنى دينيًا، وبذلك إظهار أنفسهم كمن يعيدون الشعب اليهودي إلى جذوره. منذ أن بدأت ثورة أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية في السامرة (شمالي الضفة الغربية)، كما سنعرض، فإن الجيل الحالي من المقاتلين يدين بهويته العسكرية الجديدة لهذه المنطقة.

إن موقع العديد من هذه الأكاديميات في يهودا والسامرة، والذي جذب شبابًا متدينين من بيوت آبائهم لتجربة المراهقة والاستقلال، بات الموقع الذي يحدث فيه هذا التحول النفسي- الثقافي-  تحولا من فرد نشأ على قيم دراسة التلمود الفكرية إلى فرد آخر تشكلت ذكورته الجسدية والروحية ونضجه  خلال تحضّره للخدمة العسكرية القتالية.

بطريقة مشابهة لتجربة الجامعة في أوساط الشبان الأمريكيين، أو متروبولية المثليين جنسيًا، سيصبح جليًا أن مناطق يهودا والسامرة هي أماكن يستطيع فيها المحاربون الصهاينة المتدينون التحول إلى ما هم عليه، في نظرهم وفي نظر عموم الجمهور الإسرائيلي: جنودا قتاليين وضباطا. تسهل هذه المناطق التحولات حتى أنها تمنحها الشرعية. الأهداف المركزية لهذا المقال هي ملاحظة التطورات التالية:

1- أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية هي منصات إطلاق مؤسساتية تدفع بالعديد من شبان القطاع القومي المتدين نحو مواقع ذات أهمية في جيش الدفاع الإسرائيلي، بالإضافة إلى تحولها – أي الأكاديميات – إلى محرضة على خلق الهيئة العسكرية المكانية (المترجمة: بمعنى أنهم منحوا تلك المناطق هيئتها العسكرية المؤسساتية). مع تأسيس أول أكاديمية لما قبل الخدمة العسكرية في مستوطنة إيلي في السامرة، وتحوّلها إلى نموذج لمؤسسات أخرى مماثلة، باتت مناطق يهودا والسامرة “مناطق أمنية” يوّجه شبانها لتأدية خدمات عسكرية ذات أهمية، ينتج عنها هذا التفرد النفسي-الثقافي لهذه المنطقة. إن الهيئة المكانية لتلك المنطقة معروفة بالنزعة العسكرية الثقافية. وسيتسرب ذلك إلى مؤسسات أخرى هناك- “يشيفوت ههسدير”، والمدارس الثانوية الدينية والعلمانية، وحركات الشباب، الخ.

2- لهذه النزعة نتائج مؤثرة على هوية أبناء الصهاينة- المتدينين المولودين منذ الثمانينات، حيث تبدو يهودا والسامرة كأمكنة تسهّل التحولات النفسية-الثقافية لشبان القطاع الصهيوني المتدين: تحويل الشباب المتدين من كونهم طلاب يشيفا (المترجمة:حيث للتلمود أولوية على الخدمة العسكرية إن لم يكن يختصرها) إلى جنود قتاليين. وعليه، فإن هذه المنطقة غير منفصلة عن هويتهم الاجتماعية ومناصبهم.

3-  نتيجة هذا التطور، تشكّل مجتمعُ معرفة أمنية جديدٌ في يهودا والسامرة. خلال خدمتهم العسكرية، يعود الضباط والجنود إلى هناك، سواء بهدف العيش هناك أو سعيا للبحث عن نصيحة من مرشديهم في الأكاديميات أو لمشاركة خبراتهم مع أصدقائهم. فلمجتمع المعرفة الأمنية هذا رموزه وأبطاله ومفكروه ومعلموه.

4-  فيما يخص هذا القطاع، كانت هنالك إعادة إحياء وتجديد لأخلاقياته وتموضعه الاجتماعي: لا من خلال الميل إلى موضعة هذا القطاع ضمن حركة الكيبوتسات من خلال تقديم المستوطنات كاستمراريةً لهذه الكيبوتسات وحسب، وبالتالي نيل تعاطف الإسرائيليين العلمانيين، ولا من خلال موضعتهم في المزاج اليهودي كمستوطنين في ربوع أرض إسرائيل التوراتية فينالون بذلك تعاطف الإسرائيليين المتدينين وحسب، وإنما بوصفهم نموذجًا استدلاليًا جديدًا يميًز المستوطنين عن أقسام أخرى من الصهاينة- المتدينين الذين يستمرون في حضور يشيفوت ههيسدر. أساسًا، فإن أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية هي مؤسسات مبتكرة أُنشئت في مستوطنات السامرة وباتت نموذجَ محاكاةٍ لكل قطاعات المجتمع الإسرائيلي، تعترف بها الدولة وتقدرها.

5- على النقيض من صورة المستوطنين القديمة في أذهان الجمهور الإسرائيلي- تلك المرتبطة بأنهم يهتمون بمفاقمة مصالحهم- فإن ثورة أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية، والتي أدت إلى اندماج غير مسبوق لطلابها في الجيش، قد حوّلت صورتهم لأول مرة إلى أفراد يساهمون ويقدمون التضحيات من أجل تحسين المجتمع الإسرائيلي العام.

أكاديمية بني دافيد في مستوطنة إيلي: قبول الاندماج والامتياز في الجيش

شعار أكاديمية بني دافيد
في العام 1987، دعا كل من عمرام ميتسنيه Amram Mitzneh، وهو لواء القيادة الوسطى، الذي سيصبح فيما بعد رئيس حزب العمال، ويوسي بن حنان  Yosi Ben Hanan ، قائد فيلق الدبابات، الحاخام يغال ليفنينشتاين الذي كان آنذاك مساعد قائد وحدة الدبابات الاحتياطية، للعودة إلى الجيش. في هذا اللقاء، ناقش ثلاثتهم صعوبة الاعتماد على المحاربين القدامى الذين شغروا مواقع معظم الضباط حتى الآن (اليسار، العلمانيون، وجماهير الكيبوتسات والمدن). حدث هذا عشية ما بات يعرف بـ”أزمة الدافعية”: ابتعاد فئات النخبة هذه عن الخدمة العسكرية، وهو تعبير إسرائيلي لما يعرف بوجه أعمّ بالفجوة المدنية-العسكرية. شكى الضابطان إلى الحاخام ليفنينتشاين أن “الشباب المتدينين لا يترقون إلى ضباطٍ  فضلا عن أنه لا يتم تحميلهم المسؤولية”. فأوضح اللواء ميتسنيه:

“يعاني المجتمع الإسرائيلي أزمة قيم هذه الأيام وأن هذه الأزمة ستستمر في التطور… لدى عموم المتدينين قيم دافعية عميقة… ونحن نتفق مع الرأي القائل بأن هذا القطاع يجب أن يقدم مساهمة نوعية أكبر للجيش”.
نتيجة هذا اللقاء، وبعد مرور عامٍ عليه، أسس الحاخام ليفنينشتاين ومعلمه الحاخام إيلي سادان، “بني دافيد” (أي أبناء داوود)، وهي أول أكاديمية لما قبل الخدمة العسكرية، وذلك مستوطنة إيلي الواقعة في السامرة. ستحضر هذه المؤسسة طلابها للاندماج في الجيش، مزودةً الطلاب بالموارد الدينية والروحية، والجسدية منها، وبشكل جوهري ستزوّدهم بوعي اجتماعي فريد، بهدف تقليل إحتمالية أن يُسهِمَ اندماجُهم المستقبلي في الجيش في خسارتهم لهويتهم الدينية أو في تآكل دافعيتهم في المساهمة في الجيش.

وقد كانت هذه مبادرة رائدة فيما يتعلق بالخدمة العسكرية للجمهور المتدين في إسرائيل. حتى ذلك الوقت، انتمى الشبان المتدينون في سن 18 إلى ثلاث مجموعات:

(1)    جمهور الأورثودوكس المتدينيين الذين عادة ما تجنبوا التجنيد الإسرائيلي تمامًا، وذلك عن طريق وسائل قانونية أو حتى بحكم الأمر الواقع، ومن خلال ترتيبات رسمية وأخرى غير رسمية بين الأحزاب الأرثوذوكسية المتشددة والحكومة الإسرائيلية منذ نهاية العام 1970.

(2)    الصهاينة المتدينون الذين تجندوا في سن الـ18. العديد منهم، بالأخص أولئك الذين انتموا للوحدات القتالية، أصبحوا غير متدينيين. أما أولئك، الذين حافظوا على هويتهم الدينية فهم الذين خدموا في وحدات غير قتالية. وبذلك انحصرت الصورة العامة للجندي المتدين في الجيش بكونه مشرفًا على “الكشروت” (أي مشرف على تطبيق تعليمات الشريعة اليهودية، خاصة فيما يخص الطعام)، رجل دين، وقائمًا بأدوار متنوعة أخرى ضمن حاخامية الجيش.

(3)    الصهاينة المتدينون الذين انضموا إلى “يشيفوت ههيسدر” فور إتمامهم المرحلة الثانوية. وقد كانت هذه “يشيفوت” (مدارس تلمودية)، لروؤسائها (وهم حاخامات صهاينة متدينون) اتفاق مع وزارة الدفاع بحيث يسمح  لطلاب تلك المؤسسات أن يلتحقوا بمساق لدراسة التلمود والتوراة يمتد لأربع سنوات يخدمون منها مدة 16 شهرًا في الجيش. خلال خدمتهم العسكرية هذه، يخدم هؤلاء في وحدات متجانسة برفقة زملاء لهم من “يشيفوت هسدير” أخرى، وهي وحدات تُسهّل تطبيق الشعائر الدينية. بهذا المعنى شكّل طلاب الهسيدر نوعًا من المجتمع المغلق Gated community داخل الجيش، ما يؤدي إلى منع تعرض أولئك الجنود لبوتقة الانصهار في الجيش الإسرائيلي. وعليه؛ لهؤلاء الطلاب مهام هامشية فقط في الجيش، بحيث لا تخولهم خدمتهم المختصرة الالتحاق بمساقات الضباط أو تسلم تكليفات لسنوات إضافية في الجيش.

تكمن روح الابتكار في أكاديمية ما قبل الخدمة العسكرية في إيلي بأن أهدافها كانت معاكسة لما وصف قبل قليل: فطلابها لم يكونوا حبيسي الوحدات المتدينة، بل إنه جرى حثهم على الانضمام لوحدات متنوعة جنبّا إلى جنب مع أقرانهم غير المتدينين من الجنود. لقد أصبح المجتمع المتدين مقتنعًا أن الأكاديمية قد حضرت خريجيها  بأساس ديني وروحي صلب يحول دون خسارتهم إيمانهم الديني أثناء الخدمة في الجيش. وفقًا لذلك، شهد الحاخام سادان بأنه أختار مصطلح “أكاديمية Academy ” (بوصفه تعبيرا عن برنامج تحضيري) لا المصطلح “يشيفا”. وقد أوضح أن دور أكاديميته كان منح الطلاب “الاستعداد الروحي لأداء مهمتهم، تحضيرهم كما ينبغي للتعامل الذهني والروحي مع خدمتهم العسكرية”.

أصبحت أكاديمية “بني دافيد”  باعتبارها رائدة، ورمزًا ونموذجًا للمحاكاة. ولأول مرة، يبتكر نموذج في أراضي يهودا والسامرة ويتم تبنيه من قبل مؤسسات مشابهة في أرجاء الدولة. بعد عشر سنوات، التحق 10% من خريجي المؤسسات التعليمية الدينية بأكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية في يهودا والسامرة قبل التحاقهم بالخدمة العسكرية. أصبحت الأكاديمية مؤسسة تفتتح عملية تحوّل نفسي-ثقافي في أوساط الشباب القوميين المتدينين- من شباب توكل إليه مهام هامشية في الجيش، شباب قادته هم حاخامات وعلماء توراة، إلى شباب يرى الجيش مركزيًا في حياته وتطلعاته، معني بالاندماج مع الجنود العلمانيين ذكورًا وإناثًا، إلى شباب قادته ومعلموه كانوا ضباطًا قتاليين شجعانًا، والذين لم تكن أنشطتهم روحية وحسب وإنما جسدية كذلك. ولم يحدث هذا كله في تضادّ مع عالم التوراة الصّهيوني-المتدين، وإنما بتبريكات قادة طوائف عدة، بمن فيهم حاخامات صهاينة أورثودوكس. تكمن ثورة أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية في أنه مع تأسيسها، لم يعد الطلاب الذين فضلوا هذه الأكاديميات على الانضمام إلى “يشيفوت ههسدير”، والذين خدموا سويًا مع الجنود غير المتدينين (طوال فترة حضورهم إلى الأكاديمية)، لم يعودوا يوصمون بالانحراف عن أو الخيانة لعالم الصهيونية المتدينة، وإنما صار يُنظر إليهم بوصفهم شرعيين ومعياريين، وحتى أبطالا.

أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية هي منصات إطلاق للجنود القتاليين

تشبه هذه الأكاديميات الأكاديميات العسكرية في الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ يخدم الخريجون مع كافة الجنود الآخرين لا ضمن نطاقات عسكرية منفصلة. تتيح الأكاديميات الإسرائيلية لطلابها الرياضة والملاحة، وحتى تمارين عسكرية قتالية عديدة، بالترافق مع تعميق فهمهم لإرث المعركة، وشرح قضايا الأمن القومي، وعرض محاضرات من ضباط سابقين وحاليين. يحدث كل هذا ضمن إطار التوراة مع التزام وجداني بالوصايا، وهو إطار يصور الخدمة العسكرية باعتبارها إحدى الوصايا اليهودية. الأكاديمية نفسها هي تهجين ما بين معسكر جيش وسكن جامعي، وتتم إدارة جدولها اليومي- بما فيه من أعمال منزلية ومهام حراسة وتطوع في الخدمة الاجتماعية، وحضور ملتزم لمحاضرات التوراة والتلمود-  من قبل الطلاب أنفسهم. نادرا ما يغادر الطلاب الأكاديمية، وتكون الزيارات العائلية عادة في عطل نهاية الأسبوع، تماما كما الحال في الوحدات القتالية داخل الجيش.

أثناء خدمتهم العسكرية، تظلّ الأكاديمية بيتهم الثاني، مؤسسة مسانِدة، مكانًا للقاءات وطلب المشورة والأعياد والاحتفالات، والعطلات- يفضل الطلاب لقاء زملاء الدراسة على عائلاتهم. وتخصص الأكاديمية مندوبًا لكلّ فرقة كي يتواصل مع الطلاب طوال فترة خدمتهم كجنود. كما يحضر ممثلون عن الأكاديميات مراسم تخريج طلابهم عقب إتمامهم دورات عسكرية قاسية، فيما يدعى الجنود أنفسهم، بإذن ضباطهم، إلى المراسم التي تقام ضمن الأكاديمية. تُرسل الكراريس التي تنشرها الأكاديمية إلى الخريجين، إما من خلال البريد العادي أو البريد الإلكتروني. في عام 2006، أورد الحاخام سادان أنه في أي وقت كان فإن ثمة 450-500 من طلابه قد يخدمون في الجيش. حتى أن ثمة وعيًا اجتماعيًا وهوية جديدين في الجيش: ميخانستيم (أي. رجال الأكاديمية)- كما يعرفون في الجيش.

كما سبق، فإنه منذ تأسيس “بني دافيد” في مستوطنة إيلي، باتت أكاديمية ما قبل الخدمة العسكرية نموذجًا لهكذا مؤسسات، وباتت رائجة ضمن أوساط الشباب القوميين-المتدينين، ليلتحق بها أخيرًا شباب العلمانيين. الصديق يجلب الصديق، والأخ يجلب الأخ، خاصّة أن هناك تشوق لخدمة عسكرية فريدة من نوعها باتت الآن ممكنة بعد الاتفاق مع قادة المجتمع المتدين. علاوة على ذلك، كان لهذه الأكاديمية منافع كثيرة أخرى كاللياقة البدنية، والصحة، واكتساب شرعية جديدة لذكورة مشتهاة، وهي أمور أدت بالكثيرين إلى المجيء إلى الأكاديمية كجزء طبيعي من تطورهم الشخصي. وعليه أسست 36 أكاديمية لما قبل الخدمة العسكرية، علمانية ودينية، على امتداد البلاد.

في البداية تطلب الأمر تفعيل الضغوط والاقناع على مدراء وزارة الدفاع من أجل إقناعهم بتأجيل الخدمة العسكرية لطلاب أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية. ونزولًا عند طلب ابن أخيه الحاخام موشيه هاغارلو، رئيس أكاديمية ياتير، عملَ الحاخام إسرائيل مير لو، والذي كان حينها رئيس حاخامات دولة إسرائيل  لصالح أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية. عندما أسست الأكاديميات الأولى في إيلي، ولاحقًا في بير ياتير وعتصمونة وبيدويل- جميعها وراء الخط الأخضر – ذهب الحاخام لو برفقة عضو الكنيست زيبولون أورليف، عضو حزب مفدال (حزب شرقي)،  إلى الجنرال في الاحتياط موردخاي غر، الذي كان حينها يشغل منصب نائب وزير الدفاع، للطلب منه تأجيل الخدمة العسكرية بحيث يتمكن الطلاب من إتمام تحضيرهم في تلك الأكاديميات. وخلال الفصل التالي، ذهب الحاخام لو إلى وزير الدفاع موشيه آرينز ونائبه، عوفاديا إيلي، بهدف تأجيل خدمة الطلاب العسكرية لمدة عامين، وبهدف زيادة عدد الطلاب، الذين كان عددهم حتى ذلك الوقت محصورا بـ200 طالب على امتداد البلاد.

شيئًا فشيئًا بدأت كلّ من وزارة الدفاع والجيش، والذين قدروا جودة خريجي الأكاديمية و نجاحهم المحتمل، بدأوا بتشجيع التحاق المتجندين المتدينين بأكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية تلك عقب إنهاء دراستهم الثانوية. وعلاوة على ذلك، عندما كان يتنافس خريجو مدرستين مختلفتين على القبول في ذات وحدة الجند أو الكوماندوز، بدأ الجيش يفضل طلاب أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية على أولئك المجندين فور تخرجهم من الثانوية العامة.

سرعان ما تكشف للحكومة أن هذه قصة نجاح باهرة لها عوائد استراتيجية: فعدد الجنود القتاليين القادمين من أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية كان أعلى بمرتين من باقي المتجندين، فيما كان عدد الضباط القادة القادمين من أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية أعلى بـ 3.5 مرات من بقية الضباط المتجندين، وكان عدد الضباط رفيعي الدرجات أعلى بثلاث مرات. في حزيران 2012، اكتُشف أن ربع الخريجين من مسار الضباط في جند المشاة هم من خريجي أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية، بينما كان %18 من خريجي هكذا دورات في فروع أخرى من الجيش  (مدفعية، فيالق دبابات، الخ) هم أيضًا من خريجي أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية. كان ذلك مدهشًا جدًا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن خريجي أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية كانوا فقط 4% من مجموع المتجندين في الجيش.

وبالتبعية، أقرت الحكومة زيادة سنوية بنسبة 15% لعدد الطلاب في تلك الأكاديميات، آخذة بعين الاعتبار أن الأكاديميات” تساهم في تطوير المجتمع والجيش والدفاع وكذلك في التطور الشخصي للطلاب. ونجم عن ذلك تسلم الطلاب تأجيلات من وزارة الدفاع، فيما وفرت لهم وزارة التربية والتعليم الدعم المالي. علاوة على ذلك، فقد تجلى الاعتراف بتلك الأكاديميات والتعاون معها في قرار قسم الشباب وطلائع الشباب المحاربين (ناحال) في وزارة الدفاع- وهو الجهة التي تقر تأسيس أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية الجديدة وكذلك تعيين الموظفين المسؤولين عنها- بمنح أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية، منذ اللحظة التي تؤسس فيها، صفة فرع من فروع وزارة الدفاع، وبالتالي فإنها تعمل تحت كنفها. وقد اعتبرت وزارة التربية والتعليم مشروع أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية موردا قوميا قيّما، مانحة إياه حماية حكومية. ويدرج موقع وزارة الدفاع على الانترنت أهداف هذه الأكاديميات والتي تمولها الدولة، كالتالي:

“لقد أُسست أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية بغرض تحضير الشباب وخريجي المدارس لخدمة عسكرية فعالة كاملة في جيش الدفاع، لتشجيع التطوع في الوحدات القتالية، ووحدات النخبة، ومساقات الضباط…ضمن إطار من التعاون بين وزراة التربية والتعليم ووزارة الدفاع والجيش، لقد غطت الدولة أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية بـ”مظلة” رسمية تتضمن: الاعتراف، والتأجيل المصرَح به للطلاب (تأجيل الخدمة العسكرية)، وتخصيص الميزانيات، إلخ”.

مجتمع المعرفة الأمنية الجديد في يهودا والسامرة

في غضون عشر سنوات كانت هناك نقلة ثقافية أُحدثت بفضل ثورة أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية، وقد أدت إلى إنشاء مجتمع معرفي أمني جديد new security epistemic community ، معززًا أنواعًا رمزية جديدة كانت غير معروفة في المجتمع المتدين. اشتملت هذه الأًنواع على صناع الرأي في المواضيع الأمنية، وكانوا في أغلب الأحيان من يهودا والسامرة، وسمهم أوسبورن بـ”مثقفي العامّة”، وهم يشكلون أنماطًا مثالية يتم تقليدها-أي أنها أساسا، سلطات معرفية- أخلاقية جديدة. سنصف هؤلاء أدناه.

المعلمون والمربون

أصبح رؤساء أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية مربين “جدد”: لم يكونوا علماء توراة، أو سليلي عائلات حاخامية شهيرة، وإنما هم حاخامات كانوا ضباطا كبارا في جيش الاحتياط. مكانتهم العكسرية هي مصدر ثرائهم الرمزي وأساس شرعيتهم بالإضافة إلى كاريزميتهم. ولم تكن حقيقة أنهم يحملون رسامة حاخامية سوى تفصيل تكميلي على سيرتهم الذاتية. لقد كان المربون في أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية أيضا ضباط احتياطـ، بالإضافة إلى رسامتهم الحاخامية. وعليه، على سبيل المثال، في أكاديمية ما قبل الخدمة العسكرية في مستوطنة إيلي، كان ثلاثة من المربين الكبار قادة احتياط  في الكتائب. وكان مؤسس ورئيس أكاديمية أوتزيم المنشأة في مستوطنة عتصمونة في منطقة غزة الحاخام رافي بيريز، وهو طيار مروحية في القوات الجوية، وبعد تسريحه برتبة رائد، خدم في جيش الاحتياط ضمن مدرسة الجيش للطيارين. كان بيريز من بين أوائل الإسرائيليين المتدينين الذين يتمون مساق الطيار. لقد كان الشعار الإسرائيلي “الصفوة سيخدمون في سلاح الجو” لسنوات محققا من قبل إسرائيليين غير متدينين، وفي الأغلب من خلفيات أوروبية نخبوية (الأشكناز)- شباب الكيبوتسات أو خريجي الثانويات الحضرية النخبوية. كان بيريز متدينا ومغربيا، درس في مدرسة مركاز هاراف التلمودية، وكان قد ارتسم للحاخامية في يشيفات هاكوتيل (تلمودية حائط المبكى): وهما مؤسستان كانت لكليهما أيديولوجيات الصقور اليمينية المتشددة. ومن تلمودية مركاز هاراف انطلقت الأصوات التي تنادي الصهاينة المتدينين للاستقرار في الأراضي المحررة بعد حرب الأيام الست.

في العام 1992 أسس بيرتز أكاديمية لما قبل الخدمة العسكرية وترأسها حتى عام 2011، حينما اختير للخدمة كالحاخام الأعلى في جيش الدفاع برتبة عميد. إن المنزلة الرفيعة لبيريز في أوساط مجتمع القوميين – المتدينين لم تنبع من منزلته الدينية – المتعلقة بالتوارة، وإنما من حقيقة أنه كان أول يهودي متدين يصبح طيارا في سلاح الجو- وهو دور عسكري له اعتبار أسطوري في الثقافة الإسرائيلية. ومثله، أثار ضباط كبار سابقون يرأسون أكاديميات أخرى من أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية الإعجاب لا بسبب براعتهم التوراتية الهلاخية وإنما لرأسمالهم العسكري الرمزي.

كان الحاخام الأعلى السابق في جيش الدفاع، العميد آفي رونزكي، قد خدم في وحدة النخبة شاكد خلال حرب يوم الغفران. نشر رونزكي مقالات تتعلق بجيش الدفاع، فضلا عن سلسلة من المؤلفات (فيما السهم في يد البطل) والذي يحتوي أجوبة شرعية حاخامية (rabbinic response) تتعامل مع المسائل العسكرية. وكان رونزكي تائبًا (أي لم يتربى متدينا منذ البداية، وأنما أصبح متدينا بقرار ذاته)، وقد درس في تلمودية مركاز هاراف، وكان رئيس أكاديمية ما قبل الخدمة العسكرية في ياتير، وترأس “الهسيدر يشيفا” في إيتمار-كلاهما مستوطنتان تقعان شرق الخط الأخضر. وحقيقة أنه غادر من أكاديمية واتجه نحو هسيدر يشيفا يعزز من عملية إعادة الهيكلة التي تجري في “يشيفوت ههسدير” والمؤسسات الآخرى، بهدف أن تصبح شبيهة بأكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية، وهو أمر يظهر الثورة التي سببتها هذه الأكاديميات في يهودا والسامرة: ضابط قتالي تلقى رسمًا حاخاميًا أصبح شخصية تربوية مقبولة كذلك في “يشيفوت ههسدير”.

بالإضافة إلى ذلك، فإن رئيس أكاديمية آتيرت في القدس المقدم في جيش الاحتياط الحاخام كريم، وهو قائد سابق في وحدة نخبوية من القوات المظلية. رئيس بيت-مدراش (صف تلمودي) في أكاديمية بني دافيد في إيلي هو الحاخام أوهاد تيروش، وهو أيضا مقدم في جيش الاحتياط. والحاخام موشيه هاجار، رئيس أكاديمية ما قبل الخدمة العسكرية في ياتير، قرب الخليل، وهو عقيد في جيش الاحتياط، ونائب قائد كتائب الاحتياط. وهو مثال لشخص انتقل من عالم التوراة إلى الجيش، وابن حاخام أرثذوكسي شهير. والحاخام آرون شينوالد، وهو عقيد نشط في الخدمة ضمن قوات الاحتياط، والذي خدم سابقًا في شعبة عمليات القيادة الشمالية، ورئيس يشيفا تعرف باسم شيشدير-تلاعب بكلمتي هسيدر وشيش الذي يعني العدد 6 في العبرية- وهو عبارة عن مسار تعليمي من 6 سنوات في “يشيفوت ههسدير”، يدرس الطلاب خلاله 6 سنوات بينما يخدمون في الجيش 3 سنوات منها. هي إذا عملية تهجين بين “يشيفوت ههسدير”  وأكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية.

جنود متوفون مثيرون للإعجاب

لقد حوّلت ثقافة تخليد الذكرى الإسرائيلية الجنود الذين يسقطون أثناء خدمتهم العسكرية من شخصيات خاصّة إلى أخرى عامة، أنواعا مثالية، نماذج محاكاة دائمة في الثقافة الشعبية. سواء أشار المرء إلى أبناء سقطوا ينتمون إلى حركة العمل، مثل إبراهيم وزيفي جوبر، أبناء ريفكا وموردخاي، والذين سقطوا في حرب الاستقلال، أو أشار إلى أبناء عائلات معروفة بانتمائها للحركة التصحيحية، مثل يوني نتنياهو، شقيق عضو الكنيست بنيامين نتنياهو، وقائد وحدة كوماندوز الأركان العامة، الذي سقط في عملية عنتيبي، فإن القاسم المشترك بين هؤلاء “الجنود الراحلين الأسطورة” أنهم إسرائيليون غير متدينين. فقط بالتزامن مع الموجة المنظمة والجماعية لانضمام القوميين المتدينين للوحدات القتالية في جيش الدفاع الإسرائيلي، وهم في أغلبهم خريجو أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية متأثرون بروح تلك المؤسسات، صار الجنود المتدينون جزءا من هذا الجسد او البانتيون pantheon)، مانحين القطاع القومي المتدين رأس مال رمزي كبير. نشرت عنهم الكتب والسير الذاتية وصورت عنهم أفلام، وعقدت تخليدا لذكراهم محاضرات توراتية، بالإضافة إلى مؤتمرات واجتماعات على شرفهم في أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية. بات ذووهم شخصيات معروفة تتم دعوتها لإلقاء محاضرات أو إجراء مقابلات إعلامية.

وبذلك، على سبيل المثال، أتى روي كلين من رعنانا ليدرس في أكاديمية بني دافيد في إيلي، واختار لاحقًا العيش في إيلي برفقة عروسه. لقد كان كلين أحد الضباط الأوائل الذين أسسوا وحدة الإيجوز Egoz، وكان نائب قائد كتيبة في وحدة جولاني. وضحى الرجل بنفسه لحماية جنوده في حرب لبنان الثانية من قنبلة يدوية  وقعت بمحاذاتهم:  وثب إلى القنبلة أثناء تلاوة جملة من التوراة “اسمعيني يا إسرائيل، إن ربنا واحد”. ولعمله البطولي قُلَّد بعد وفاته ميدالية من رئيس هيئة الأركان. بعد وفاته، حقق كلين مكانة أسطورية في المجتمع المتدين: سميت المؤسسات تيمنا به، ألفت عنه الكتب، وعُقِدت على شرفه محاضرات ومؤتمرات حول القيادية والجيوش واليهودية. أطلق اسمه على مواليد جدد، فضلا عن مدارس ومراكز ثقافية سميت تيمنا به. عرضت أفلام مكرسة لذكراه في أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية، وعقدت مناقشات تتناول بطولته وتحللها. وقد خصصت مسرحيات الحانوكاه في المدارس الإعدادية لتناول بطولته، ومقارنته بالمكابيين.

وقد بات المقدم إيمانويل مورانو رمزًا كذلك. هاجر مورانو من فرنسا وعاش في القدس، وتعلم في أكاديمية ما قبل الخدمة العسكرية في إيلي. كان جنديًا قتاليًا في وحدة كوماندوز الأركان العامة، وسقط في حرب لبنان الثانية في ظروف أهلّته أن يحوز ميدالية تأبينية. لأسباب أمنية، وعلى النقيض من جنود قتلى آخرين، حظر نشر صورته، وهو الأمر الذي أضفى على شخصيته وأفعاله طبيعة أسطورية وفردانية. وقد اعتبر مورانو أحد قادة هذه الوحدة وجنرالا مستقبليا في جيش الدفاع. خلدت ذكراه في العديد من المشاريع التذكارية، كالأفلام والمسرحيات. أحد الأفلام التي تناولت سيرته هو فيلم “أسطورة مورانو”، والذي قورن فيه بشمعون بار كوخبا (يهودي يزعم أنه ثار ضد الرومان سنة 132ب.ك) وقد تقلد بعد وفاته جائزة القدس للبطولة اليهودية في مؤتمر القدس السنوي.

كلين، ومورانو، وآخرون هم رموز جديدة في الصهيونية الدينية بوجه عام، وفي المستوطنات بوجه خاصّ. تخلد ذكراهم في أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية، وكذلك في أماكن أخرى عديدة في أنحاء يهودا والسامرة. ولأول مرة، كان لدى المستوطنات ولدى المجتمع المتدين على حد سواء، جنود قتلى أسطوريون يقدمون شهادة على مساهمة الصهيونية الدينية وتضحياتها لأجل أمن الدولة.

الأمهات والآباء الثكلى

يجب على المرء ألا يقلل من شأن الموقع والرأسمال الرمزي للأمهات الثكلى، بالأخص ضمن المجتمع الإسرائيلي. بموت أبنائهن، أصبحت الأمهات من صناع الرأي، تحملن تذكرة دخول إلى وسائل الإعلام الجماهيرية، وهو أمر ذو تأثير لا يستهان به في سحب أو منح الشرعية لسياسة الحكومة الأمنية. وفي تتمة لثورة أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية التي أفرزت أعدادًا هائلة من الجنود المتدينين القتاليين، بدأت الأمهات الثكلى “شخصيات مشهورة” بالظهور في القطاع الديني. وفي مثال على ذلك، ميريام بيريز، التي هاجرت من المغرب إلى إسرائيل، وخسرت اثنين من أبنائها في جيش الدفاع: الأول، أريئيل، سقط في لبنان، والثاني، آليراز، والذي درس في أكاديمية ما قبل الخدمة العسكرية في أوتزام في غزة وعاش في إيلي في السامرة، قتل برتبة نائب قائد لكتيبة الجولاني، أثناء حرب 2008-2009 في غزة (عملية الرصاص المصبوب).

بيريز شخصية بارزة في الخطاب الإسرائيلي العام، بالأخص أنها تختلف عن بقية الأمهات الثكلى اللائي يعرفن باحتجاجاتهن ضدّ الجيش إثر الموت المأساوي لأبنائهن في لبنان. بيريز، على النقيض، وجدت مغزى قوميًا ودينيًا في موت ابنيها، لم تغضب، إنما اعتبرت موتهما أمرًا مثمرًا،  معلنة بقوة:” من يعيش على هذه الأرض وقتًا طويلًا، يأخذ الحب كما يأخذ أشواكها”. باتت بيريز متحدثة معروفة في أوساط الجنود والشبان اليافعين، مركزة على أهمية الصهيونية واليهودية في الخدمة العسكرية، وأصبحت ممثلة عن القطاع الديني في الجيش أيضا، تظهر في مناسبات مختلفة لجمع التبرعات حول العالم. ونشرت سيرتها الذاتية من قبل أكثر الناشرين الإسرائيليين شعبية، وقد كتبتها أكثر كاتبة شابة شعبية في إسرائيل، وسرعان ما أصبحت من الكتب الأكثر مبيعًا. بدأت الصحف الشعبية تلقبها “أم الأبناء”، تماما كما لقبوا ريفكا غوبر، أم الأمهات الثكلى. تلقت بيريز العديد من الألقاب، وفي 2014 كانت قد اختيرت، مع أول امرأة تحمل رتبة اللواء الركن في جيش الدفاع، لإنارة الشعلة في احتفالات يوم الاستقلال، وهو احتفال يثير الانتباه إلى شخصيات تعتبر “وطنية” ويكرمها. اختارتها صحيفة  “هآرتس” كواحدة من أشد النساء تأثيرًا في المجتمع الإسرائيلي، ومنحها مركز  تراث مناحم بيغين في القدس جائزته السنوية لنشاطاتها (مع وحدة النخبة في الجيش شاييتت 12 وآلان ديرشوفيتز وهو مدافع دولي عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها).

قادة سياسيون

إن الشهادة على تعطش الجمهور المتدين لتجربة عسكرية بدنية لا حاخامية-توراتية فحسب، كانت قد تجلت في السياسة كذلك. لسنوات، كان أعضاء الكنيست، وبالتأكيد أولئك الذين يرأسون الأحزاب الصهيونية الدينية، سياسيين مرتفعي المراتب، وأكاديميين، فيما الحصة الكبرى منهم حاخامات. مع ذلك،  بموازاة الثورة في أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية، بدأ خيار القادة السياسيين بالتغير. كانت الإشارة الأولى لذلك هي انتخاب العميد الجنرال إيفي إيتام، أكبر الضباط العسكريين المتدينين في جيش الدفاع الإسرائيلي، ليرأس الحزب الصهيوني المتدين (مفدال – مزراحي) بعد سنة من تسريحه من الجيش. إيتام، كان في الماضي يهوديًا علمانيًا من سكان الكيبوتسات، وكان قائدًا في لواء جفعاتي. بعد عشر سنوات، احتل المركز الأول في احصائية فحصت خيارات الصهاينة المتدينين لشخصية تقود الحزب وتمثل فئتهم.

في 2012، ترشح نفتالي بينيت وانتخب رئيسا لحزب البيت اليهودي وهو التجسد الحالي لحزب مفدال (مزراحي). بينيت وهو قائد احتياط في وحدة نخبة، كان معروفًا بانخراطه في التكنولوجيا المتقدمة، بيد أنه ركز حملته على مسائل الأمن.  وكان قد أكد مرارا أن ابنه سمي تيمنا بيوني نتنياهو الذي قتل في عملية إنقاذ عينتيبي، لا تيمنا بشخصية توراتية ما. صوّرت إحدى الدعايات الانتخابية لحزب البيت اليهودي أربعة جنود مقاتلين بعتاد عسكري كامل، تم تصويرهم من الخلف، مع التركيز على الجندي المتدين في الصورة (الذي يرتدي الكيباة) والذي كان رافعًا يده يحث رفاقه على التقدم، وكان هذا الجندي أشد يقظة وقوة من بقية رفاقه، ومن الواضح أنه القائد. فوق الصورة كانت العبارة الآتية: “نحب الدولة، نخدم الدولة”. وفي أسفل الصورة كتب شعار الحزب:”شيء جديد قد بدأ”، بالإضافة إلى “البيت اليهودي برئاسة نفتالي بينيت”. البروفيسور آفياد كلينبيرغ، كاتب العامود في صحيفة هآرتس، لاحظ الفرق بين القادة السياسيين المتدينين السابقين وبين بينيت: “إنه يتحدث أقلّ عن الهيكل وتحقيق الرؤية الخلاصية للحاخام زيفي يهودا كوك…بينيت لا يتحدث في مصطلحات العناية الإلهية ولا يأتي على ذكر الفداء التوراتي. بل إنه يتحدث عن الأمن، والأمن فقط”.

الرؤية الإيروتيكية للجنود المتدينين

إن الالتحاق المكثف الذي تمتعت به أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية بين جمهور القوميين المتدينين كان نتيجة مزج بين خيار مؤسساتي تمثل بالأكاديميات وبين النزوع النفسي- الثقافي الذي نشأ من نضج وتوق هذا القطاع من الجيل الشاب للجندية التي استثنوا منها. هذا الجيل، وبعكس الأمل الذي حمله معلموهم بأن ينضموا – أي الجيل الشاب – إلى “يشيفوت ههسدير” لم تكن لديه القدرة الطبيعية على دراسة التوراة. علاوة على ذلك، كانوا عادة ما يقدرون عناصر عديدة من العالم غير المتدين، بالأخص أبطال الجيش، مثل مئير هارتسيون، ويوني نتنتياهو، وآريك شارون، الذين ظلوا أبطالًا في نظر الشباب المتدينين حتى بحقبة ما بعد العسكرة التي عصفت العالم العلماني. بشكل عام، كان الجيش سلعة علمانية جذابة، وقد تم استثناء الشباب المتدينين منه وفقا لتعليمات قادته. والآن، مع تأسيس أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية، مُنحت الشرعية لكل ما أقصوا منه: الرجولة والعسكرة والقوة البدنية- ضمن نطاق رأس مالٍ ايروتيكي لأولئك المنضمين.

وقد عُبِّر عن هذا التحول في الثقافة الشعبية. فعلى سبيل المثال، في كتابه “إن لم يكن ثمة وجود للجنة”، يصف رون ليشيم الجنود في جبهة بوفورت عشية الانسحاب من لبنان، وقد تصدر الكتاب قائمة الكتب الأكثر مبيعًا، وبنيت عليه مسرحية وفيلم، كما نال أهم جائزة إسرائيلية في مجال الأدب. يصف أحد الجنود في إحدى المشاهد:

“في لوائي، وفي كل ألوية المشاة، أصبح الجنود المتدينون يمثلون العمود الفقري لهذه الألوية. إنهم أفضل المحاربين وعودهم يزداد اشتدادا. ليس هذا الجيل كمن سبقه من الآباء المستوطنين، إنهم لا يشبهون أي شيء أنتج في الماضي ضمن نظام التعليم القومي – الديني..

فيما يتعلق بحب الوطن والأرض والتضحية وحتى الصحبة، إنهم الأفضل، والأشد حماسا، وعادة الأشد تطرفا. ليس لهم منافس في القوة البدنية والنخوة وتصميمهم على النجاح. وأنا لا أتحدث عن طلاب “يشيفوت ههسدير”، لا عن أولئك الذين يعتبر الجيش بالنسبة لهم مجرد محطة عبور مؤقتة في طريقهم نحو الدراسات التوراتية. رجالنا رجال التنفيذ، خريجو أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية، الضربة الكبيرة لهذا القطاع، أبطال بني عكيفا (حركة شبابية)…لقد استولوا على الكتائب، ووحدات الكوماندوز، ومساقات الضباط”.

قبل خمس سنوات (2000)، كان الفيلم الإسرائيلي الذي أحرز نجاحا باهرا “هاهسيدر” قد عُرض وتلقى جائزة أوفير (الأوسكار الإسرائيلي). كان بطل الفيلم مناحم، ضابطًا متدينًا في وحدة المظلية، وخريج للهسيدر يشيفا، قد وقع في حب ابنة رئيس الهسيدر يشيفا في إحدى المستوطنات. أراد هذا الحاخام أن تتزوج ابنته بيني، والذي كان يمثل الانجاز المثالي لمهمة الصهيونية الدينية في عصر ما قبل أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية: بيني كان عالمًا بالتوارة، عبقريًا، والذي أشار إليه الحاخام إلى أنه سيكون عالمًا رائدًا بالتوارة. مع ذلك، وقعت ابنته الجميلة في حب مناحم، المقاتل، وهي شخصية لم تكن ذكورتها وأنشطتها، كما ذكر، النموذج المثالي لشريكين متدينين آنذاك، حينما عُدّ الزواج بباحث توراة آنذاك أكثر تفضيلا. كانت الرسالة التي بثها الفيلم أنه لكي تقع في حبك فتاة جميلة، فمن المفضل أن تكون ضابطا في لواء المظلية عوضًا عن أن تكون عالمًا بالتوراة في يشيفا. طفت هذه النظرة على السطح على ما يبدو في الوقت الذي كتب فيه نص الفيلم، وهو الأمر الذي تطلب من مؤلف النص-يوسي سيدر- أن يعيش في مستوطنة دوليف لسنتين.

إن الرسالة التي مفادها أن الجندي أشد جاذبية من مفكر التوراة انعكست على اختيار الممثلين. فقد لعب دور مناحم الضابط الممثل آكي آفني Aki Avni، الذي كان الشخصية المشهورة الأكثر شهرة آنذاك، ممثل وعارض نامي العضلات، والذي مثّل مسبقا في المسلسل التلفزيوني “تدريب أساسي”، في شخصية قائد سرية من قوات المجندين في لواء جفعاتي.

أما الابنة فلعبت دورها الممثلة المعروفة رافيت روسن Ravit Rosen ، والتي تلقب بـ”تينكربل” لأدوارها التي تمثل فيها دور الفتاة الرخوة، الطفولية الشابة، والتي تظهر أحيانا عارية في أفلامها، والتي كانت موضوعا لعواميد النميمة في الصحف، وتعتبر أيقونة في النوادي الليلية المميزة. أما بيني فقد لعب دوره الممثل الكوميدي إيدان آلترمان Idan Alterman، الذي ينظر إليه في الثقافة الإسرائيلية على أنه قليل الحظ، مثير الشفقة، والذي يذكر بهيئته بيهود الشتات (قصير ونحيل)، كما أنه ضعيف وشاحب، ويلبس النظارات. وقد أنتجت الفيلم شركة صهيونية دينية وكان قد نال رواجا كبيرا في أوساط القوميين المتدينين في إسرائيل.

كما سأعرض بعد هنيهة، فإنه في المستوطنات الحقيقية، وليس في الأفلام وحسب، أصبحت شخصية مناحم أكثر شعبية من شخصية بيني. وعليه فإن المناطق (أي الضفة الغربية) قد تحولت من منطقة دينية بالأساس وموجهة دينياً إلى منطقة عسكرية ذات توجهات أمنية security oriented.

يتبع.

الجزء الثاني.

ملاحظة: اختصاراً للجهد لم تتم ترجمة الهوامش في هذا المقال، يمكن الرجوع إليها في المقال الأصلي باللغة الإنجليزية، هنا.