تستعرض قسم الحاج تجربة فرقة العاشقين الفلسطينية، كمشروعٍ غنائيٍّ وأدائيٍّ جماعيّ، صدح مسانداً الفدائي وموثقاً تاريخ الثورة الفلسطينية، قبل أن يخفت الصوت شيئاً فشيء، ويتقهقر المغني انعكاساً لارتباكٍ فرضه السياسيّ الذي أجهض الثورة.

تواجه المجتمعات المستعمَرة وما بعد الاستعمارية حروباً عميقةً وخفيّةً على مستوى البنية التحتية الثقافية للشعب، فلا تعكس الحروب العسكرية المباشِرة، بهزائمها وانتصاراتها، صورة هذا الصراع بشكلٍ مباشرٍ ولكنها تدّل عليه؛ إذ لا يمكن، تبعاً للثائر الراحل “أميلكار كابرال”، أنْ تتمّ السيطرة السياسية والثقافية على شعبٍ ما مع الحفاظ على ثقافته. ولذا، فالمجتمع الفلسطيني، كمجتمعٍ مستعمَرٍ أو يعيش في جزءِ من وطنه في “مستعمَرة ما بعد استعمارية” [1] في الضفة الغربية وقطاع غزة، يواجه حرباً ضروساً على جبهته الثقافية، بعد أنْ هرمت على المستوى الرسمي جبهتيْه؛ السياسية والاقتصادية. تركّز هذه الورقة على المشروع الوطني الغنائي لفرقة العاشقين كأحد النتاجات الوطنية الثقافية الفلسطينية، والتي روَت تاريخ الثورة الفلسطينية وعكست كذلك، بتجربتها، نكوص المشروع الوطني الرسمي الفلسطيني عن “ثوابته”، وتفكك القاعدة المادية للثقافة الفلسطينية، ما أدّى إلى حصر الجبهة الثقافية وقمع مثقفيها.
 
إنّ تجربة فرقة العاشقين الفلسطينية، كمشروعٍ غنائيٍّ وأدائيٍّ جماعيّ مثّلتْ أحد انعكاسات الهوية الثقافية والسياسية للشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده، وكانت تُدعم مادياً من منظمة التحرير الفلسطينية. وفي مرحلةٍ تاريخيةٍ لاحقةٍ، وعند التحوّل الجذري الذي ألمّ بمنظمة التحرير الفلسطينية، واجهت فرقة العاشقين تعقيداتٍ مركّبة كتعقيدات الواقع الفلسطيني والمشروع الوطني الرسمي، الذي تحوّل من مشروعٍ تحرريٍّ بالأصل، إلى مشروع سلطة -دولة بسيادة شبه شكلانيّة. غير أنّها وفي كل مرحلةٍ كانت تسعى للحفاظ على إرث العاشقين الغنائيّ الوطنيّ، ولكن ذلك لم يحِل دون محاولة استغلالها من قبل رأس المال الفلسطيني مستغلّين إرثها الوطنيّ العريق.
 
ابتدأ التحوّل الجذري عند الفرقة من الانشقاق داخل حركة فتح في العام 1983، إلى إعلان الاستقلال في العام 1988، مروراً بتوقيع اتفاقية أوسلو في العام 1993، وليس انتهاءً بما سُمّي بـ “إعلان الدولة” في العام 2011. وفي مسيرة الفرقة وعملها وتوقفها عن العمل بعد العام 1993، والبحث عن بدائل لها في فرقة “الجذور” 1987، وهي تعكس التحول الحاصل في منظمة التحرير ما بعد انفصالها عنها وفقدان قاعدتها المادية اللازمة لاستمرار عملها. 
 
وهنا لا بدّ من استدعاء الأسئلة القديمة الجديدة حول مَنْ يقود مَنْ، أيقود السياسيُّ الثقافيَّ؟ أم يعيد الثقافيُّ صياغةَ السياسيّ ويصحح بوصلته؟ وما دور القوى الماديّة-الاقتصادية في صياغة وصناعة الاثنيْن؟ 
 
فرقة العاشقين: في اليرموك البداية
 
شكلت أغاني فرقة العاشقين أرشيفاً غنائياً شفاهياً لحكاية الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، فمنذ ظهرت الفرقة في المشهد الثقافي الفلسطيني-العربي في العام 1977 وأغانيها تعيد، شفاهةً، تأريخ وأسطرة الرواية الفلسطينية الفدائية وتوثيقها بالسماع، المشفوع بالأداء الاستعراضي الراقص بالزي العسكري “الكاكي”. فالفرقة انطلقت من مخيم اليرموك في سوريا من خلال دائرة الإعلام والثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية بعد عرض مسرحية “المؤسسة الوطنية للجنون”، لسميح القاسم، بتنظيمٍ من الدائرة نفسها وبإخراج الفنان فواز الساجر. وقد ضمّت المسرحية أغانيَ من تأليف أحمد دحبور، ومنها أغنية “والله لازرعَكْ بِالدار يا عودِ اللوز الأخضر”، [2] والتي كانت المقدّمة الغنائية للعمل المسرحي ذاته.
 
حقّقت هذه الأغنية ذيوعاً واسعاً، مما جعل عبد الله الحوراني، المدير العام للدائرة، يفكر جدياً بتأسيس فرقةٍ غنائيةٍ بالتعاون مع الملحن حسين نازك والكاتب أحمد دحبور. وقد تم ذلك بتجميع عددٍ من المغنين الموهوبين، ومنهم حسين منذر، الذي سبق له التعاون مع حسين نازك في الغناء في بعض المسلسلات السورية، والإخوة الهباش؛ محمد (الراوي الطفل) في أغاني الفرقة، وسُمَّي حينها باسم (الطفل المعجزة)؛ لقدرته البديعة وصوته الصادح في الإلقاء، وخليل (العازف على الطبل والدف) وخالد (العازف على القانون والشبابة) وآمنة وفاطمة. بالإضافة إلى مها وميساء أبو الشامات ومها دغمان وأحمد الناجي ومحمد الرفاعي وهناء منصور.. وآخرين. [3]
 
ثمّ تطورت فكرة الفرقة لتصبح فرقةً تقدّم الغناء بجانب الرقص التعبيري، فحُذف تعبير “أغاني” من اسم الفرقة وتحوّل إلى فرقة العاشقين وهذا ما ميَّزها عن إذاعة صوت العاصفة السابقة لها، إذ إنّ الأخيرة اعتمدت فقط على السماع بينما أُعدت فرقة العاشقين لتكون فرقةً غنائيةً تقدّم الرقص التعبيري. واختير السوري ميزر مارديني، الذي كان يعمل في المسرح العسكري في سوريا، لتصميم الرقصات وعاونته بذلك بثينة منصور، وحرصت الفرقة في غالب عروضها على الظهور بالزي “الكاكي”، شبيه الزيّ العسكري للفدائيين الفلسطينيين. 
 
في نفس العام ابتدأت فرقة العاشقين الغناء حين قررت دائرة الإعلام والثقافة التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية في دمشق أن تنتج مسلسلاً عن الأسرى الفلسطينيين بعنوان بأمَّ عيني [4] اعتماداً على كتاب المحامية “الإسرائيلية” “فيليتسيا لانغر” والذي يحمل ذات الاسم. [5] وقد تضمن هذا العمل الدرامي عدداً من الأغاني الوطنية التي تلائم مضمون العمل، ولذلك فقد استُعين بفرقة العاشقين لغنائها، وفي وقتٍ لاحقٍ جُمَّعت هذه الأغاني في ألبومٍ واحدٍ، هو الألبوم الأول لفرقة العاشقين. ويضم أغنياتٍ، مثل: يا عود اللوز الأخضر؛ عن إنسان؛ قتلي محض باطل؛ أحبك أكثر؛ هنا باقون؛ يا ظلام السجن خيّم؛ العرس الفلسطيني؛ يا أحبابي العشرة آلاف. وكانت كلمات هذا الألبوم من تأليف مجموعةٍ متنوعةٍ من شعراء الأرض المحتلة: محمود درويش، سميح القاسم وتوفيق زياد، ومؤلفي أغاني فرقة العاشقين: محمد حسيب القاضي وصلاح الدين الحسيني وأحمد دحبور، أما ألحان هذا الألبوم (بأمّ عيني) فجميعها من ألحان حسين نازك. [6] أمّا الألبوم الثاني لفرقة العاشقين فهو ألبوم ظريف الطول وهو مستمدٌّ من الحنين إلى الوطن وإرثه الثقافي واشتمل في مضمونه على الرموز المستمدة من ثقافة الأرض والفلاحة والحياة الشعبية. 
 
وفي العام 1980 قامت دائرة الإعلام والثقافة التي ترعى الفرقة بعمل مسلسلٍ تليفزيونيّ عن الشيخ عز الدين القسام، الذي استشهد في العام 1935. وقد تضمّن هذا العمل التلفزيوني أغانيَ عديدةً ذات علاقةٍ بالدعوة للثورة والقتال ومقاومة الاستعمار البريطاني وتمجيد الشهادة والدفاع عن القدس. [7] وفيه أدَّى الفنان حسين منذر لأول مرةٍ أغنية من سجن عكا وطلعت جنازة [8] التي تتحدث عن إعدام شهداء ثورة البراق الثلاثة (محمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي) في العام 1930، وتضمَّن المسلسل أغانيَ أخرى غيرها تتنوع بين مواويل وعتابا ودلعونا تمركزت حول المواضيع الوطنية، مثل: 
 
كنّا نغني في الأعراس جفرا .. عتابا .. ودحّيّه؛ جفرا وهي يالربع؛ نادى القسام؛ يا فدائي اسمع اسمع؛ السجن ما يعيبني والقيد لي خلخال. وقد جمعت دائرة الإعلام والثقافة هذه الأغاني بألبومٍ صوتيٍّ واحدٍ، هو الألبوم الثالث لفرقة العاشقين و سُمي باسم ألبوم عز الدين القسام، وهو من تأليف صلاح الدين الحسيني (أبو الصادق) وألحان الموسيقار حسين نازك. [9]
 
لقد شكّلت مرحلة خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت في العام 1982 إلى تونس واجتياحها من قبل العدو الصهيوني في نفس العام حمولةً ثقيلةً وصعبةً على كل المستويات ذات العلاقة بالقضية الفلسطينية، مما كان له الأثر الكبير في التأثير على الذاكرة العربية_ الفلسطينية الجمعية وخاصة بعد العام 1983. إذ أعلنت الفرقة انفصالها عن دائرة الإعلام والثقافة التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية في دمشق، نتيجةً لبعض المضايقات الإدارية وغير الإدارية التي مورست عليها. وحسب رأي حسين نازك، فإنّ سبب الانفصال لم يكن سبباً سياسياً بل كان بسبب بعض المنتفعين والأمور الإدارية التي ضايقت عمل الفرقة. [10]
 
غنَّت فرقة العاشقين ألبوم “الكلام المُباح” في حفلة عدن عام 1983 بحضور القادة الفلسطينيين وعلى رأسهم ياسر عرفات، حيث كانت مناسبة الغناء والاحتفال المهيب إحياءً للذكرى الثامنة عشرة لانطلاقة حركة فتح. وقد شكَّل هذا الاحتفال نقلةً كبيرةً ونوعيةً في أغاني الفرقة وفي شهرتها وذيوعها على مستوى العالم عامةً، والعالم العربي خاصةً، حيث شهد هذا الحدث ذروة فرقة العاشقين وحمل داخله أيضاً انطفاءة شعلتها. ولا شكَّ أنَّ الدور السياسي لمنظمة التحرير، الراعي الرسمي لهذه الفرقة كان كبيراً في إكساب الفرقة هذا الدور الهام الذي أُسنِد إليها في التعبير عن القضية السياسية غنائياً، و خاصّةًَ أنّ حفلتها كانت بعد حرب بيروت بعدّة أشهرٍ فقط، حين عزمت الفرقة أمرها على غناء ألبومٍ خاصٍ بحرب بيروت مطلع العام 1983 تسرد فيه حال الملحمة الحاصلة هناك. [11]
 
وفي هذا الألبوم ظهرت أغنية لغة العاشقين [12] التي اعتبرت في وقتٍ لاحقٍ وكأنّها النشيد الرسمي للفرقة، إذ تعلن الأغنية عن موقف الفرقة من الغناء ومن السياسة، بعد أن نضجت واكتملت محاولاتها في التجريب، وغيرها من الأغاني مثل: معسكر أنصار وهبَّت النار والبارود غنّى وصبرا وشاتيلا وقامت القيامة بصور وشوارع المخيّم ووردة لجريح الثورة ويمشي على الجمر شبل وغيرها.
إذ تقول أغنية لغة العاشقين:
 
الكلامُ المباحُ ليس مباحًا ونغنّيهِ
فالأغاني سلاحُ
سرُّنا رايةٌ على رأس رمحٍ
فأذيعي أسرارَنا يا رماحُ
 
كما وتعدّ أغنية اشهد يا عالم علينا وع بيروت [13] الأطول في هذا الألبوم، وربما في مجمل إنتاج فرقة العاشقين باستثناء المسرحيات الغنائية المطوّلَة /المغنّاة كمغنّاة سرحان والماسورة، [14] ولعلّ سبب استدعاء هذا الحشد من الأفكار وطولها نسبياً هو تضمين الأغنية بالمشاهد المكثفة من حصار بيروت في العام 1982 إذ تبتدئ الأغنية/ الملحمة الغنائية بتمهيد لأجواء وظروف هذه الحرب التي اتخذت سمة الشعبية، والتواطؤ المحلي مع المستعمِر الصهيوني المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية أولاً، وتواطؤ الصمت العربي تجاه هذه الملحمة ثانيأً.
 
  اشْهَدْ يا عالَم علينا وعَ بَيْروتْ..      اشْهَدْ عَلْ حَرْبِ الشَعبِيّةْ
والّلي ما شافْ من الغُربالْ يا بَيْروتْ..  أَعْمى بِعْيُونْ أَمْريكيّةْ
 
لم توفّر حرب بيروت أيّ نقطةٍ للوجود الفلسطيني إلّا وأصابتها بالغارات والحصار وخاصةً في أكبر مخيمات لبنان مثل: الرشيدية؛ البرج الشمالي؛ النبطية؛ عين الحلوة؛ تل الزعتر؛ برج البراجنة؛ صبرا وشاتيلا؛ البداوي. [15] وحيث كانت المناطق الساحلية هي الأماكن الأكثر ملائمةً للإنزال البحري، أكان ذلك من الجانب الفلسطيني اللبناني أو من جانب العدو الصهيوني ومعاونيه من الكتائب اللبنانية، فإنَّها كانت الأماكن الأكثر عرضةً للغارات والمواجهات المسلحة، مثل: قلعة شقيف؛ ومنطقة الزهراني والدامور وخلدة وشاطئ مخيم الرشيدية.  ثم جاء حصار بيروت، وما تبعه من غاراتٍ على برج الشمالي والمطار وحيَّ السلم وصحراء الشويفات والمطار وبرج البراجنة، وقد سجلت هذه المعركة تاريخاً لحربٍ مجنونةٍ فاقت التصورات برعبها ودمويّتها ومدّتها الزمنية الطويلة. [16]
 
روت الأغنية هذه الأحداث بما يحتمله قالبها الغنائي – اللحني الذي لا يتيح ذكر الكثير من التفاصيل، ولكنها تعطي خطوطاً عامةً وهامةً موجزةً عن حرب بيروت في العام 1982 وصِدام القوات الفلسطينية – اللبنانية المشتركة الدامي مع العدو الصهيوني ومعاونيه. وهذا الصِدام كما تروي الأغنية، كان على جميع الجبهات البحرية والبرية والجوية، وخاصةً المخيمات الفلسطينية بهدف القضاء عليها مثل مخيم الرشيدية وعين الحلوة والنبطية وشاتيلا وبرج البراجنة. بالإضافة إلى أماكن أخرى مثل صور وقلعة شقيف والمتحف والجيّة والدامور وخلدة.. وغيرها.
 وقد كانت قلعة الشقيف من أوائل الأماكن التي تعرضت لقصفٍ مدفعيٍّ صهيونيٍّ للتمكّن من الفدائيين الذين تمركزوا فيها وذلك في بداية الحرب في 4 حزيران. [17]
 
قَلْعِةْ شقيف اللي بْتِشْهَد يا بَيْروتْ عاللّي داسوا راسِ الحيّةْ
جَمَلِ المَحامِلْ شَعِبْنا يا بَيْروتْ.. بْعينِ الحِلوِةْ والنَبَطِيّةْ
واحْنا ردّينا الآليّة يا بيْروتْ،  بِحْجارِة صيدا والجِيّةْ
تراب الدامور اللي بيشهد يا بيروت عالخساره الصهيونية
وبخلدة خلّدنا الوحدة يا بيروت.. لبنانية فلسطينية
 
هنا، يختلط التاريخ بالجغرافيا، ويتَّحدان معاً في ترابط أحدهما بالآخر. فالأغنية تمتلئ بحمولة المكان وهذا ليس عابراً ولا عشوائياً، حيث إنَّ الأماكن تتجاوز الجغرافيا المجرَّدة الى ذاكرة المكان وارتباطه بالهوية. وفي هذه الأغنية تحديداً، فإنَّ علاقة الأماكن المذكورة وسياق ذكرها بالخطّ التاريخي يستدعي إلى الذاكرة أنَّ امتدادات جغرافيا الفداء والثورة الفلسطينية في لبنان، حيثما تواجد الفدائيون الفلسطينيون واللبنانيون ودشّنوا قواعدهم العسكرية التي شهدت صِداماتٍ دمويةً حينذاك. فقد تمركزت قوات الـ 17، القوات الخاصة بالقائد العام للثورة الفلسطينية للدفاع عن غالبية هذه المناطق، حيث توزعت السرية الثانية في الكتيبة الأولى من قوات الـ17  في المنطقة الجنوبية في خلدة والدامور. [18] بينما تمركزت الكتيبة الثانية في صيدا وامتدت مساحة المنطقة التي تغطيها من الجيّة وجيّة حتى مخيم المية ومية [19] أمَّا كتيبة المدفعية الثقيلة فقد استقرت في مخيم برج البراجنة [20] في حين أنّ الخط الساحلي، مثل خلدة والناعمة والدامور والجية كان محصناً ومعززاً بالحراسة. [21] وهذه الأماكن كلها تحضر في الأغنية سريعاً، دونما التفاتٍ إلى سبب هذا الحضور وإنما بالإشارة إلى كونها شاهدة على صِداماتٍ ومعارك مع  الفدائيين الفلسطينيين واللبنانيين وأعدائهم.
 
لا يمكن الجزم بالدقة حول أسباب غياب الفرقة بعد نجاحها الباهر وانتشارها السريع، لكنها مجموعةٌ من العوامل تجتمع معاً في خلق هذه الفجوة التي أضعفت ثبات وتماسك الفرقة. فعلى المستوى الداخلي هناك عدة أسبابٍ، مثل: انشقاق أبو موسى عن يمين حركة فتح 1983؛ انفصال فرقة العاشقين، رسمياً ونهائياً، عن دائرة الإعلام والثقافة في المنظمة؛ مناصرة سوريا لانشقاق أبو موسى ومغادرة أنصار أبو عمار سوريا، وانسحاب ملحن الفرقة الموسيقار حسين نازك. أما على المستوى الخارجي، وربما كان المسبب الرئيسي، اندلاع انتفاضة العام 1987 وانتقال ثقل الحركة النضالية والانتباه السياسي إلى داخل الأراضي المحتلة لا الشتات والمنفى العربي، رغم أنّ الفرقة استمرت بتأدية عروضٍ ناجحةٍ وشهيرةٍ لها، مثل حفلة الكويت في العام 1984 وحفلة عمان في العام 1989 [22] وأنتجت ألبوم أطفال الحجارة  في العام 1988، إلّا أنّ فقدان فرقة العاشقين لداعمها السياسيّ والمادّي بانفصالها الإداريّ عن منظمة التحرير، أدّى لغياب إطارها الجماعيّ الناظم والحامي لها، وخاصّة بعد توفّر بديلٍ ماديٍّ داعمٍ لها.
 
في أغنية أطفال الحجارة-بهروا الدنيا [23] حمولةٌ كبيرةٌ من نقدٍ ذاتيٍّ على تراجع منظمة التحرير عن مشروع “التحرير” ذاته، وخاصّةً في ظل اختلافات الرأي بين القادة الفلسطينيين على دعم انتفاضة الحجارة، ما جعل الشهيد خليل الوزير، أبو جهاد، يقول جملته الشهيرة “لا صوتَ يعلو فوق صوت الانتفاضة”. تقول الأغنية، وهي من كلمات نزار قباني:
 
بهروا الدنيا أطفال الحجارة وما بيدهم إلا الحجارةْ
قاموا وانفجروا
قاتلوا واستشهدوا
قاتلوا عنا إلى أن قُتلوا
وجلسنا في مقاهينا نبحث عن تجارةْ
واحد يبحث عن قصرٍ منيفٍ
واحد يطلب ملياراً جديداً
واحد يطلب في الباراتِ ثارهْ
آهٍ يا جيل الخيانات ..آه ٍيا جيل العمولات
سوف يجتاحك، مهما أبطأ التاريخ، أطفال الحجارةْ
 
ومع انطلاقة انتفاضة الحجارة 1987، تمّ تأسيس فرقة “الجذور” كاستكمالٍ لعمل فرقة العاشقين ولكن بمعزلٍ عن التعقيدات المحيطة بالفرقة ذاتها، التي لربما وُرّثت، بغير رغبةٍ منها، بعض الإشكاليات التي حصلت داخل حركة فتح خاصةً، ومنظمة التحرير بشكلٍ عام.  وقد دعمت عائلة الهباش بكامل إمكانياتها مسيرة هذه الفرقة التي كانت محاولةً للخلاص من سطوة الواقع السياسيّ والاقتصاديّ المستجدّ على فرقة العاشقين واستكمالاً لطريقها الذي ابتدأته في رواية وتوثيق حكاية المقاومة الفلسطينية وتعزيز الحسّ المقاوم والوطني لدى الجمهور. وقد غنّت الفرقة عدداً كبيراً من الأغاني التي لا زالت ترتبط بالذاكرة الفلسطينية خلال انتفاضة الحجارة، ومن كلمات الشاعر خالد أبو خالد، مثل أغنية زغردي يا أم الجدايل [24] و سبّل عيونه، [25] ومجزرة نحّالين في العام 1989 [26] ومن ثمّ توقفت عن العمل لشحّ الإمكانيات المادية، وعادت مع انتفاضة العام 2000 للانطلاق من جديد بوجوهٍ جديدةٍ ومنها طاقم فرقة العاشقين للغناء فيها. [27] فغنّت ألبوميْن هامّيْن، هما: ألبوم ملحمة جنين 2002 عن ملحمة مخيم جنين، ولعلّ أشهرها أغنية يا صرخة من فوق المخيم، [28] وألبوم زين الملاحم 2003، ومنها أغنية كانوا ثلاثة [29] التي تروي حكاية عملية زقاق الموت في العام 2002، والتي نفّذها ثلاثة شهداء هم: ذياب المحتسب وولاء سرور وأكرم الهنيني، من سرايا القدس-الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي.
 
أما فرقة العاشقين، فقد توقّفت بعد العام 1993 تماماً عن الظهور، واستمرّ هذا الغياب مطولّاً حتى العام 2008، إذ عادت فرقة العاشقين وحاولت استرداد مكانتها الغائبة وجمعت بعض أعضائها واستعاضت عمّن غاب منهم بآخرين. 
 
(مجموعة فادي عبد الهادي)
عودةٌ بين ارتباكتيْن
 
في العام 2010، زارت فرقة العاشقين فلسطين لتصدح بأغانيها السياسية من داخل الأرض المحتلة، وقد تنوّعت هذه الأغاني بين أغانٍ قديمةٍ ارتبطت عميقاً بذاكرة الثورة الفلسطينية، وأغانٍ أخرى عكست، لدرجةٍ ما، واقع المشروع السياسي الرسمي الجديد بعد اتفاقية أوسلو. وهي عودةٌ مرتبكةٌ اتكأت على ذاكرةٍ وطنيةٍ سياسيةٍ غنائيةٍ ميّزت الفرقة وأعطتها هويتها الوطنية منذ نهاية السبعينيات وحتى أوائل التسعينيات. ومضت من جديد، حيرى، في واقعٍ رسميٍّ سياسيّ واقتصاديّ رأسماليّ نيوليبراليّ بعد اتفاقية أوسلو. وهو لا شكّ َواقعٌ يناقض الماضي الثوري لمنظمة التحرير الفلسطينية، الذي غنّت له الفرقة من بداياتها وفي سياقه انطلقت. 
 
الكثير من الملابسات والتعقيدات التي كمنت في طريق عودة الفرقة، وَوراء الأكمة ما وراءها، فقد بادر رجل الأعمال الفلسطيني عدنان العزة، وكان حينها الناطق باسم حركة فتح في لندن، بمبادرةٍ لإعادة إحياء فرقة العاشقين ونجح في ذلك في العام 2008 فقدمت أول حفلٍ لها، بعد الغياب المطّوّل في بريطانيا وفوق مسرح “بلومزبري” بتاريخ 11 أيار من ذات العام. [30] وفي العام التالي بادر مالك ملحم، رجل الأعمال الفلسطيني، الذي كان يقيم في الإمارات، ومدير عام شركة “ريتش ميديا” للإعلام، ورئيس مجلس إدارة قناة عودة الفضائية حالياً، بالتواصل مع فرقة العاشقين عن طريق الفنان محمد الهباش، وتمّ الاتفاق معه في النهاية على دعم الفرقة وتمويلها وأدّوا حفلاً في الاسكندرية في العام 2009. [31] وذلك إلى أن ظهرت لاحقاً بعض الخلافات التي أدّت إلى رفض جزءٍ من فرقة العاشقين استمرار التعاون مع ملحم، فانقسمت الفرقة على نفسها، بين مجموعةٍ استقلّت عن ملحم واستمرّت بالغناء من لندن ورئيس مجلس إدارتها عدنان العزة، وأصدرت ألبوم ربيع العاشقين [32] الذي ضمّ 15 أغنية من تلحين الراحل أحمد دحبور وحسين نازك [33] ومنها أغنية أنا للأبد باقي،  [34] ولم تصدر غيره. وبين مجموعةٍ استمرت بالعمل معه وأصبح راعيها ومموّلها ورئيس مجلس إدارتها، فأصدرت في العام 2011 ألبوم حكاية شعب وثورة. [35] وقام ملحم بتمويل زيارة الفرقة لفلسطين في العامين 2010 و 2011، حينما أصدر الرئيس الفلسطيني محمود عباس في العام 2010 قراراً بتحويلها لمؤسسةٍ تابعةٍ لمنظمة التحرير الفلسطينية، إلّا أنّ ذلك لم يتحقق. 
 
إنّ قراءة هذا الانقسام داخل فرقة العاشقين ربما لا يكشف عن انقساماتٍ داخل الفرقة نفسها بقدر ما يكشف عن انقساماتٍ بين الرؤى الفكرية والسياسية في الواقع السياسي الفلسطيني ذاته، كنتاجٍ للتراكمات السياسية والاقتصادية الرأسمالية التي طبعت الواقع الفلسطيني بعد اتفاقية أوسلو تحديداً. إضافةً إلى الاختلاف بين التوجهات الشخصية والرؤى بين المموّلين وبين بعض أعضاء الفرقة، يضاف إلى ذلك مركزية أزمة مخيم اليرموك في العام 2011 والأزمة السورية عموماً والتي أدّت إلى ترحال أعضاء الفرقة في الشتات العربي والعالمي في خمس دولٍ متنوعةٍ ما جعل عملية تجميعهم وعملهم المستمر معاً على درجةٍ من الصعوبة. 
 
في العام 2011 نلحظ ارتباكاً حدث في الخطاب الثقافي-السياسي الذي تقدّمه بعض أغاني الفرقة، بجسميْها: فرقة العاشقين- أوروبا، وفرقة العاشقين، نتيجةً للتحول في أمريْن: 1.خطاب الأنموذج السياسي، وهو “منظمة التحرير الفلسطينية”، الذي كانت تواكبه الفرقة في بداياتها وفي ذروة صعودها؛ 2. التحول من الثورة كرأسمالٍ رمزيٍّ، إلى رأسمالية الثورة في سياق اقتصادٍ سياسيٍِّ نيوليبراليٍّ في فلسطين “كمستعمرة ما بعد استعمارية”.
 
(مجموعة فادي عبد الهادي)
 
ارتباك الخطاب السياسي
 
ضمّ ألبوم “حكاية شعب وثورة” أغاني مثل: ع رجالها، وأعلنها يا شعبي، و فلسطين لو نادت علينا، و شموع الأمل. فأغنية ع رجالها، [36] تمجّد تاريخ الثورة الفلسطينية والفداء والمقاومة وكأنّها تعيد إلى الأذهان زمناً مضى ولا زال موجوداً، ولكن بخيارات الشعب وليس على أجندة السلطات الرسمية ومؤسساتها ومشاريعها. 
 
عَ رْجالْها عَ رْجالْها.. الثَوْرَةْ بْتِنْدَهْ عَ رْجالْها
 
وهي كذلك تنادي بضرورة الكفاح والمقاومة الجمعية في سبيل تحرير البلاد أكان ذلك بالكفاح المسلح أو بالمقاومة الثقافية، وغيرها، إذ تقول:
 
بِسْيوفْكُمْ وِحْروفْكُمْ.. رُصّوا يا رْجالِ صْفُوفْكُمْ
شِدّوا عَلْ جرَح ْكْفُوْفكمُ.. لاجْلِ الحُرِّيّة نْنالهْا
 
 
كما وغنّت فرقة العاشقين أغنية إعلان الدولة [37] حينما كان الرئيس الفلسطيني محمود عباس يهمّ بالذهاب للأمم المتحدة للتصويت على حصول فلسطين على دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة، رغم أنّ هذا الإعلان يقود إلى تنازل الرسمية السياسية الفلسطينية عن أراضي فلسطين التاريخية على حدود عام 1948. [38]
 
اعلِنْها يا شَعْبي اعْلِنْها.. دَوْلِةْ فَلَسْطينْ اعْلِنْها
وِبْعَلَمَكْ زَيّنْها . . زَيّنْها وِاعْلِنْها
…..
يا أبو عمّار الِحلْمِ تْجَلّى.. شَعْبَكْ عَمّرْ دَوْلِةْ وْعَلّى
لاجْلِ الغُرْبِةْ الْ ضِعْنا فيها.. دَوْلِتْنا بِدْنا نِبْني وِنْعَلّيها
 
 وكذلك أغنية فلسطين لو نادت علينا [39] التي تختصر فلسطين التاريخية إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، وذلك ليس وليد الصدفة وإنمّا لأنّ المشروع السياسي الرسمي وبعد اتفاقية أوسلو أصبح يعرّف فلسطين على جزءٍ من الأراضي الفلسطينية وهي حدود الأراضي المحتلة عام 1967 ويطالب بأن تقام الدولة الفلسطينية عليها. 
 
عَلْ أوُفْ وأوُفْ ومُولايّا.. بْعُرْسِ بْلادِكْ يا صَبيَّة
غَنّي مَوّالِكْ مِنْ غَزّةْ .. وبِالضَفِّةْ قُولي الغُنِيَّة
 
إنَّ غناء فرقة العاشقين لمثل هذا المشروع والمسعى أظهر تراجعاً في مضمون الأغاني من مثل؛ دوس ما انتا دايس عل زناد، و هبت النار والبارودِ غنّى،  وأدّى إلى استياء بعضٍ من الجماهير واعتبروه مأخذاً يؤخذ على الفرقة، وهو كذلك بالفعل، ولكن الفرقة اعتبرت أنّ هذه الأغنية خطوةً رمزيةً وبدايةً لتحصيل بقية حقوق الفلسطينيين كخطوة الشهيد الراحل أبو عمار في العام 1988 عند إعلان الاستقلال في الجزائر، [40] وهو الإعلان ذاته الذي كتبه محمود درويش.
 
ليس هنا متسعٌ لنقاش هذه الخطوة ومآلاتها السلبية عميقة الأثر على القضية الفلسطينية والمشروع التحرري الفلسطيني الذي ترجّل فارسوه وتنازل عنه آخرون.. إلا أنّه يمكن الحديث عن فرقة العاشقين التي قد ارتبكت مرةً كما ارتباك المشروع الوطني الفلسطيني الرسمي وتعقيداته وتعقيد الواقع الفلسطيني ذاته بين تاريخٍ تحرريٍّ وطنيٍّ يشيد بالفدائي والكفاح المسلح والثورة ويغني لفلسطين التاريخية، وبين خطابٍ سلطويٍّ اختزل المشروع الفلسطيني السياسي إلى مشروع الدولة، وخطاب السلطة الفلسطينية وما نتج عنه من بترٍ للامتداد الجغرافي لفلسطين التاريخية، حتى اختزاله بجغرافيّتيْن محصورتيْن ومستعمرتيْن تمارسان حكماً ذاتياً شائهاً في كلٍّ من الضفة الغربية وقطاع غزة. إنّ سياقاً كهذا لا يمكن عزله عن خسران الجبهة السياسية صنو الجبهة الثقافية، وكذلك فقدان الدعامة المادية للثقافة ومحاولات الهيمنة عليها من قبل القوة السيادية. [41] إذ لن تكتمل هيمنة الاستعمار، والمشاريع السياسية المحلية المهادنة معه، إلّا بالسيطرة على الجوانب المادية للشعب، والتي لن تكتمل، بحسب “كابرال”، إلّا بالقمع المستمر للثقافة وإخضاعها أيضاً.
 
وقد نقول أخطأت فرقة العاشقين مرةً إلا أنه لا يمكن الحديث بأيّ حال من الأحوال عن تحوّلٍ جوهريٍّ حصل فيها، التي عادت وانفصلت منذ العام 2013 عن مالك ملحم، لاختلافٍ في الرؤى السياسية بينهم، وأعاد محمد الهباش إحياء فرقة الجذور، التي كان قد أسّسها سابقاً، وأطلقها مجدداً تحت اسم “جذور العاشقين” [42] لتواصل الطريق الثوري الغنائي لفرقة العاشقين. وفي العام 2017، أصدرت فرقة جذور العاشقين أغنية “ثورة شعب” [43] وهي من كلمات حسام حنوف وألحان محمد الهباش.
 
شيل سلاحك أو ما تشيلوا
بكره الشعب بيهدر سيلوا
**
بينده يسار ويمين
من قبل الخمسة وستين
وبعد الخمسة وستين
ودخيلوا ترابا دخيله
**
يا ويل المحبوس بليلهْ
ومطفي عيونه وقنديلهْ
يا ويل اللي ناسي ناسهْ
ومخبي في العتمة راسهْ
ويا ويل اللي غرقان بكاسهْ
والبايع شعبه يا ويلهْ
**
يوضّح خطاب الأغنية درجة انحيازها إلى وح الجماهير والمقاومة الشعبية في ظل تقاعسٍ بل وتخلّي المشروع السياسي الفلسطيني الرسمي عن مهمته الوطنية. الثورة التي ابتدأت من الشعب ضدّ الاستعمار البريطاني وربيبه الاستعمار الصهيوني ما قبل إعلان انطلاق حركة فتح في العام 1965، ولربما في ذلك نقدٌ هامٌ على التحولات الجذرية والعميقة التي ألمّت بحركة فتح ومشروعها التحرري، الذي استبدل بمشروع الدولة الفلسطينية، وسيطرت على صورة منظمة التحرير الفلسطينية.
 
الثورة من رأس مالٍ رمزيٍّ إلى ثورة رأس المال
 
وتأكيداً على دقّة طرح “كابرال” حول أنّ التحرر القومي هو عملٌ ثقافيٌّ وأنّ سيطرة المستعمِر على الجوانب السياسية والاقتصادية لا تكتمل دون السيطرة على الثقافة وتفكيك وتهميش أيّ مشروعٍ ثقافيٍّ مُقاومٍ أو مُناقضٍ له، تدخّل الرأسمال الفلسطيني، وسعى نحو استقطاب المشروع الثقافي الفلسطيني منذ العام 2009، وانسحب وعاد لاحقاً في العام 2019 ليتواصل مع فرقة العاشقين من أجل استكمال دعمه له. وليس بالإمكان تحليل هذه المبادرات بمعزلٍ عن محاولة رأس المال اجتياز واستقطاب الجانب الثقافي لناحيته، من جهة، واستغلال التاريخ الوطني الثقافي لفرقة العاشقين من أجل إضافة نوعٍ من الشرعيّة والقبول الشعبيّ للمشروع السياسيّ والاقتصاديّ الجديد للسلطة الفلسطينية. 
 
يعزّز هذا الطرح ما حصل حين غنّى محمد دياب برفقة فرقة الاستقلال للفنون الشعبية في تموز من العام 2019 في مدينة روابي، حيث قُدّم حينها، دياب، على أنه نجم فرقة العاشقين رغم عدم مشاركة الفرقة في هذا الاحتفال، وغنّت فرقة الاستقلال بعض أغاني العاشقين، ما أدّى إلى حصول بعض الالتباس عند البعض حول أن فرقة العاشقين قد شاركت في حفل روابي. الأمر الذي اضطرّ “العاشقين” لاحقاً إلى إصدار بيانّ توضيحيٍّ تؤكد فيه على أنّ مشاركة دياب في الحفل إنما تأتي من عاتقه الشخصيّ وبصفته الشخصية وليس كأحد أعضاء الفرقة. [44]
 
يضاف إلى ذلك إعادة تلفزيون فلسطين إنتاج أغنية “ثورة شعب”، التي سبق أن غنّتها فرقة جذور العاشقين في العام 2017، وأضاف بعض التعديلات عليها في آخر الأغنية لكي تبدو ردّاً على صفقة القرن، فأعاد تلفزيون فلسطين في العام 2019 إنتاج الأغنية، وغيّر اسمها إلى ابن الشمس [45] وكثّف مونتاجها بمشاهد للرئيس عباس وهو في الأمم المتحدة والمحافل الدولية، قبالة مشاهد لـ”نتنياهو” و”كوشنر” والرئيس الأمريكي- السابق “ترامب” أثناء توقيع صفقة القرن، ليبدو وكأن هذه الأغنية مخصصةٌ في مديح عباس و”انتصارات” منظومة السلطة خاصّته في حروبٍ من ورق. والمثير للعجب أنّ الأغنية المستحدثة أسقطت مقاطع هامةً من الأغنية الأصلية، وهي مقاطع تدين بشكلٍ غير مباشرٍ السلطة الفلسطينية ومشروعها السياسيّ المنقوص، ومن باع شعبه، وفي العتمة خبّأ رأسه.
 
الليل بيبعت مراسيله
احكيله يا ابن الشمس احكيله
احكيله تضبضب يا هالليل
حاجة تحاول على كل ميل
وحش بقرن ساحب ديل
اكسر قرنوا واقطع ذيله
 
خاتمة
هيمن السياسي والاقتصادي على المشروع الثقافي الجماعي لدى فرقة العاشقين. هذه الهيمنة السياسية ذاتها التي أدَّت فيما مضى إلى انتشار الفرقة وسببت لها نجاحاً كبيراً ثم أدَّت إلى إضعافها بسبب محاولة الفرقة الانفصال عن منظمة التحرير والاستقلال عنها. فالسلطة الرسمية تسعى دائماً إلى احتياز مجموعة من المثقفين حولها في محاولتها وسعيها لتدعيم وجودها وشرعنته. يضاف إلى ذلك أنّ المؤسسة الرسمية تحاول قدر إمكانها الهيمنة على الثقافة وتجنيدها فكرياً لصالحها، وهكذا تساهم في التأثير على أذواق المجموع واستمالتها نحوها، وربطها بها و بمشروعها الإيديولوجي عن طريق الاقتصاد والدافع المادّي. ورغم أنَّها لا تهيمن عليها كلها، إذ تتسع القاعدة الثقافية باتساع امتدادات الشعب ذاته، إلا أنّ لكل ثقافة قاعدتها المادية الضرورية للحفاظ عليها واستمراريتها، وفي غياب هذه القاعدة فإنّ الثقافة تصاب بانتكاسة ويسهل تدميرها والسيطرة عليها من قبل السلطة السيادية أكانت استعماراً أو دولةً حديثةً أو غيرها. ولذا، وكما يرسّخ “كابرال”، يجب تحرير القوى المنتجة لكي تبقى الثقافة حرّة، وعلى حركة التحرر أن ترسّخ قواعدها على مستوى الثقافة الشعبية. وفي غياب ذلك كلّه، تصبح الثقافة الوطنية عرضةً للاغتيال والاستلاب، والاستغلال.
 
في العام 2011، غنّت العاشقين في زمنٍ فلسطينيٍ سياسيٍ مرتدٍ ومنتكسٍ عن زمن الثورة الفلسطينية، زمنٍ مختزل في خطاب السلطة بدلًا من الخطاب التحرري لمنظمة لتحرير والتمثل بميثاقها الوطني للعام 1968. وهو زمنٌ يسيطر فيه خطاب السلطة والخطاب الاستعماري الصهيوني على “الواقعية السياسية”، وسياسة “الوضع القائم”. فلم تكن كبوة فرقة العاشقين في أغنية “إعلان الدولة” و”فلسطين لو نادت علينا” وإعادة إنتاج أغنية “ثورة شعب” إلا انعكاساَ للواقع السياسي الفلسطيني المرتبك والمعقّد، والذي لا تتحمل فرقة العاشقين وحدها نتائجه، فهي كما شكلت منذ بداياتها أحد عناصر الهوية الثقافية –السياسية الفلسطينية في الذاكرة الجماعية الفلسطينية، فإنّها اليوم أيضاَ تعكس قلق هذه الهوية وصعوبة المعركة التي تواجهها على الصعيد السياسي والاقتصادي والثقافي. فغياب الدعم المالي للفرقة منذ العام 1993 وحتى العام 2008، هو ما جعلها تغيب عن الساحة هذه المدة الطويلة، وحين عادت حاول الرأسمال الفلسطيني تجيير تاريخها لصالحه واستغلال تاريخها الوطني، وهذا يفسّر ربما عدم إصدار أيّ ألبومٍ بعد العام 2011. 
 
على الجبهة الثقافية، أن تحمي فرقة العاشقين والقطاع الثقافي عموماً، من لوثة الواقعية السياسية و الاقتصادية النيوليبرالية التي تسيطر على واقعنا الفلسطيني المعذّب، حتى لا ننتقد فقط دونما محاولةٍ لإنقاذ ما يمكن من تاريخنا ومن ذاكرتنا الوطنية. فإنْ كانت فرقة العاشقين قد عكست الواقع السياسي الفلسطيني قديمه وحديثه، إلا أنّ الثقافة هي من تحمي الغد من وطأة ليل الحاضر.
 
****
[1] الشيخ، عبد الرحيم. “التنمية الميثاقية كأفق تحرري: حول التنمية وثقافة المقاومة في فلسطين”؛ (تحرير ناجح شاهين). دراسات نقدية في واقع التنمية، رام الله: مركز بيسان للبحوث والإنماء (2012)، ص. 155-196. 
[2] “والله لأزرعك بالدار يا عود اللوز الأخضر”: رابط (استرجع في 3 آذار، 2020).
[3] أحمد دحبور “فرقة العاشقين: القصة كاملة” في نبيل عمرو، صوت العاصفة: سيرة اذاعات الثورة الفلسطينية في المنفى ( رام الله: مواطن: المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديموقراطية، 2013).
[4] شارة البداية لمسلسل بأم عيني: رابط. (استرجع بتاريخ 7 آذار، 2020). وهي قصيدة مغناة لنجيب الريس بعنوان “يا ظلام السجن خيّم”، أما شارة النهاية، فهي أغنية لفرقة العاشقين بعنوان “فلتسمع كل الدنيا”: رابط. (استرجع بتاريخ 7 آذار، 2020).
[5] فيليتسا لانغر، بأم عيني. (القدس، منشورات صلاح الدين: 1976).
[6] “فرقة العاشقين.. والله لازرعك بالدار”: رابط.  (استرجع بتاريخ 10 آذار، 2020).
[7] لمشاهدة حلقات المسلسل انظر الحلقة الأولى من مسلسل عز الدين القسام: رابط. (استرجع بتاريخ 10 آذار، 2020). وهو واحد من عدّة أفلام قديمة أنتجتها دائرة الثقافة في منظمة التحرير، ويحتفظ فيها الفلسطيني المهتم بأغاني الثورة الفلسطني، الأستاذ فادي عبد الهادي وينشرها على موقعه الخاص على قناة اليوتيوب (مقابلة شخصية).
[8] لمشاهدة الأغنية في ظهورها الاول، انظر مشاهد من مسلسل القسام 1980، رابط. (استرجع بتاريخ 10 آذار، 2020).
[9] أحمد دحبور، القصة كاملة، مصدر سابق.
[10] التقرير الوثائقي الذي عرضته الجزيرة الوثائقية عن فرقة العاشقين-ثنائيات : رابط. (استرجع في 3 آذار، 2020).
 [11]ثنائية فرقة العاشقين، مصدر سابق.
[12] “لغة العاشقين”: رابط.   (استرجع بتاريخ 10 آذار، 2016).
[13] “اشهد يا عالم علينا وع بيروت”: رابط.  (استرجع بتاريخ 10 آذار، 2016).
[14] “مغنّاة سرحان والماسورة 1979”: رابط. (استرجع بتاريخ 7 آذار، 2016).
[15]محمود الناطور (ابو الطيب). القاطع الثالث من زلزال بيروت.( رام الله: دار الشيماء للنشر والتوزيع، 2007، ط 6: 13).
[16] المصدر السابق، 246.
[17] معين الطاهر. “معركة قلعة شقيف.. روايتان”. مجلة الدراسات الفلسطينية (2015). ص. 146-155.
[18] القاطع الثالث من زلزال بيروت، مصدر السابق. ص 56.
[19] المصدر السابق، 57.
[20] المصدر السابق، ص 62.
[21] المصدر السابق، ص 66.
[22] المصدر السابق.
[23] فرقة العاشقين-أطفال الحجارة: رابط.  (استرجع بتاريخ 18 نوفمبر، 2020).
[24] “زغردي يام الجدايل”: رابط.  (استرجع بتاريخ 18 نوفمبر، 2020).
[25] “سبل عيونه”: رابط (استرجع بتاريخ 18 نوفمبر، 2020).
[26] “مجزرة نحالين”: رابط. (استرجع بتاريخ 18 نوفمبر، 2020).
[27] فادي عبد الهادي، مصدر سابق، ص 60-ص 62.
[28] “يا صرخة من فوق المخيم”: رابط.  (استرجع بتاريخ 18 نوفمبر، 2020).
[29] “زين الملاحم”: رابط.  (استرجع بتاريخ 18 نوفمبر، 2020).
[30] فادي عبد الهادي، مصدر سابق، ص 63.
[31] المصدر السابق.
[32]تتوفر بعض أغانيه منفردة، مثل أغنية أنا للأبد باقي 
[33] ألبوم ربيع العاشقين: مفردات النضال بقالب عصري مبتكر-مقال”: رابط. (استرجع بتاريخ 17 نوفبر، 2020).
[34] “أنا للأبد باقي”: رابط.  (استرجع بتاريخ 20 نوفمبر، 2020).
[35] “مجموعة ريتش تشتري قناة عدة الفضائية”: رابط.  (استرجع بتاريخ 17 نوفبر، 2020).
[36] “أغنية ع رجالها”: رابط. (استرجع بتاريخ 12 آذار، 2016).
[37] للمزيد انظر اغنية “اعلنها يا شعبي”: رابط.  (استرجع بتاريخ 5 آذار، 2016).
[38] لرؤية الخطاب كاملا، انظر: “كلمة الرئيس الفلسطيني أما الجمعية العامة: رابط.  (استرجع بتاريخ 5 آذار، 2016).
[39] “فلسطين لو نادت علينا”: رابط.  (استرجع بتاريخ 9 آذار، 2016).
[40] فادي عبد الهادي، مقابلة شخصية.
[41] أميلكار كابرال، التحرر القومي والثقافة: رابط. (استرجع بتاريخ 18 نوفمبر، 2020).
[42] “أغنية زغردي يا أم الجدايل- توزيع جديد”: رابط. (استرجع بتريخ 18 نوفمبر، 2020).
[43] “شيل سلاحك أو ما تشيلوا”: رابط. (استرجع بتاريخ 18 نوفمبر، 2020).
[44] مقابلة خاصّة أجرتها الكاتبة مع الباحث فادي عبد الهادي، بتاريخ 20 تشرين الثاني 2020، وله كتابٌ ينتظر النشر بعنوان “لفلسطين نغني” أغاني الثورة والعاشقين والتراث 1977-2016).
[45] “ابن الشمس”: رابط.  (استرجع بتاريخ 18 نوفمبر، 2020).