قدّم وليد سيف الدراما الأهم حتى اللحظة من حيث تناولها تغريبة الفلسطينيين في وطنهم والشّتات بدءاً من الثورة الفلسطينية الكبرى في ثلاثينيات القرن الماضي وصولاً إلى نكسة حزيران وما تبعها. قصّة اللجوء الأطول في العالم، قصة حزينة لا تترك من يشاهدها إلا وتصنعه من جديد، دراما كلّفت وليد سيف زهاء ثلاث سنوات من أجل كتابتها، وكلّفتنا دموعَ حزن بعد فرح.

العمل السوري الذي يتناول حياة الفلسطيني بكافة تنوعاته كان الأول من نوعه الذي يمسك بتفاصيل تلك الحياة التي لم نكن نعلم عنها الكثير، فكان سيناريو المسلسل مبنياً على حقائق موّثقة مكتوبة وشفوية، استغرق البحث فيها مدة طويلة؛ بدأها وأنهاها وليد سيف ابن مدينة طولكرم الفلسطينية في ثمانينيات القرن الماضي. شاركه المخرج حاتم علي في تحويل تلك الشهادات إلى عمل درامي مصوّر كان فيه على درجة عالية من الأمانة في نقل الشخصيات المكتوبة وتحويلها إلى أجساد تعذّبت وعذّبتنا معها بواقعية وإنصاف واتّساق قلّ مثيله، وهو ليس التّعاون الأول بين الرجلين. لم يكن مسلسل التّغريبة الفلسطينية قصّة تستهدف الفلسطينيين وحدهم، بل هو عمل يمكنه أن يمسّ أي صاحب ذائقة مهما كانت علاقته بالقضية الفلسطينية ضعيفة أو حتى مقطوعة.

يركز العمل على شخصية أحمد صالح الشّيخ يونس “أبو صالح” الذي يلعب دوره الفنانُ السوريُّ جمال سليمان، حيث يبدأ المسلسل بمشهد وفاته، ولكنه لا ينتهي به، بل يحرص كل من وليد سيف وحاتم علي، على ترك النهاية مفتوحة للتأويل، وهي أقرب إلى رسالة استمرار النضال بعدما يقرر رشدي استعادة بندقية والده الشّهيد والانطلاق من جديد.

تميّز مسلسل التّغريبة الفلسطينية بتنوّع شخصياته، فهو يمتلك بناءً محكماً لكلّ شخصية فيه تجعلنا بلا شك قادرين على تخيّل أي منها، بل وإسقاطه مباشرة على شخصية من الواقع بكل سهولة. ولأن الثنائيات كانت حاضرة بكثافة فيه، فإن المسلسل يتناول فيما تم تناوله اختلاف المصير والتفكير بين المثقف وبين الفلاح العادي، فالمثقف الذي يحيل كل الأحداث من حوله إلى أسئلة ذات طابع فلسفيّ وجوديّ يصبح في حالة من الغبطة لأخيه الفلاح الذي يتمترس على جبهة القتال ويعرف مجريات الأمور وتعرف روحه طريقها، ولا تطرح الكثير من الأسئلة.

إن تناول عمل ضخم وبديع كمسلسل التّغريبة الفلسطينية بشخصياته الغنية بالتفاصيل يبدو أمراً صعباً، لكننا هنا سنحاول الترّكيز على شخصية “أبو صالح”، كشخصية رئيسة عاصرت تغيّرات جمّة وساهمت تجربتها الماديّة في صناعة وعيها بشكلٍ أساسي.

“أبو صالح”.. الثائر بطبيعته

دفع “أبو صالح”، على الدوام، ضريبة مواقفه الثابتة والقوية وتحيُّزه الواضح للحق أينما كان، سواء بتعرضه للجلد على يد الإقطاعي “أبو عزمي” بعد أن رفض سرقة الأخير لأرض المشاع، أو مطاردته من قبل الإنجليز بعد أن أطلق النار لأول مرة، عندما قرروا منح تلك الأرض لليهود كي يقيموا عليها مستعمرتهم. وهو الذي كان قد أمضى أياماً عدة في تجميع موافقات أهل القرية على عريضة ينوي تقديمها للحكومة من أجل إرجاع الأرض إلى أهلها وردِّ حقوق المزارعين، ليقوم أخوه مسعود بإقناعه بتمزيق تلك العريضة التي من شأنها لفت أنظار الإنجليز إلى الأرض. فلم يتردد “أبو صالح” في تمزيق الورقة التي أجهد نفسه في سبيلها عندما علم ذلك، فكان هذا الوعي الطبيعي الذي يمتلكه “أبو صالح” الأرضيّة الصلبة التي بُني عليها تخيّله لما يجب فعله من موقعه الحالي فيما بعد.

يدرك “أبو صالح” ضعف مختار قريته وكبير وجهائها “أبو عايد”، إذ أنّ موظّفاً متعلماً ويرتدي الطربوش من المدينة قادر على التحكّم في 10 من أمثال مختار القرية و”أبو عايد” كما يقول. وهذا ما كان دافعاً له لأن يكون قائدًا محليًّا فقام بقيادة مسيرة من الفلاحين اعتراضًا على استشهاد فلسطينيين برصاص الإنجليز، فواجه بصدره رصاصهم وكان بصوته يشعل الحماسة في قلوب الرجال، ولم يكتف بذلك بل اشتبك مع ثلة من الرجال في هجوم مدبّر على مستعمرة صهيونية قريبة. مما لا شك فيه إذن أن صفات “أبو صالح” القيادية توفرت فيه منذ البدء، والتي اتسمت كما ذكرنا بوقوفه مع الحق أينما كان، ورفضه الظلم أينما حلّ.

تُذكّر هذه البداية بالمناضل الريفي محمد عبد الكريم الخطابي الذي قاد في المغرب واحدة من أطول وأشرس حركات مقاومة الاستعمار المعاصرة، والذي تشكّل وعيه عبر سنوات بدأها من موظف للإسبان يؤمن جانبه معهم مدة من الزمن، قبل أن يصبح معتقلاً لديهم ثم مفاوضاً سياسياً محنكاً، إلى أن انتهى به المطاف رعباً وكابوساً على المستعمِر وأعوانه. وهي بداية تشبه إلى حد بعيد البداية التي حظي بها “أبو صالح” على يد وليد سيف في مسلسل التغريبة الفلسطينية، وهو ما يضيف إلى العمل ميزة وأفضلية واقعية قلّ مثيلها.

إلى حيفا نحو الوعي

شكّلت زيارة “أبو صالح” إلى حيفا لأوّل مرة، قبل انطلاق الثّورة الفلسطينية الكبرى، نقطة التحول الرئيسة في فكره ووعيه. بمشهد تراجيدي تبدأ علاقته بالمدينة من خلال مقهى يدعى مقهى فلسطين يقع على ساحل المدينة، إلى جواره عدد من المهاجرين الفلسطينيين.

بدأ “أبو صالح” العمل في البناء تحت إمرة يهودي وافد، وشاهد بعينه الطريقة المُذِلة التي يعمل العرب فيها هناك، واختلاف الأجور الرهيب بين العامل العربي والعامل اليهودي، فضلاً عن اختلاف الجهد المُلقى على كاهل كل منهم. وفي حيفا جلس “أبو صالح” لأوّل مرة في مسجد الاستقلال مستمعاً لخطب الشّيخ عزّ الدين القسام.

ومن بعدها شارك “أبو صالح” في تحريض العمّال العرب على قطع طريق العمال اليهود، وتهديدهم والاشتباك معهم بالأيدي والعصي، قبل أن يسجنه الإنجليز في زنزانة واحدة مع فلسطيني يدعى سعدي محكوم عليه بالإعدام بسبب مساهمته في وضع عبوة ناسفة لدورية عسكرية إنجليزية، ليشهد “أبو صالح” بعينه لحظة إعدامه رميًا بالرصاص فيكون آخر كلماته هناك: “أنا صاحب الدم يا سعدي..” متوعدًا بالثأر لدمائه من قاتليه.

عاد “أبو صالح” إلى قريته مشتاقاً بعد زيارته القصيرة هذه إلى المدينة، لكنه لم يندم على ذهابه إلى حيفا، فهناك قد شاهد وتعرّف بنفسه على أمور وأفراد لم يكن ليعرفهم لو بقي مكانه. يتشابه “أبو صالح” في هذه المرحلة مع كثير من المناضلين التاريخيين، ومن ضمنهم المناضل الأسود “مالكوم إكس” الذي شكّلت تجربته المادية هو الآخر النواة الأساسية في صناعة وعيه بذاته وبقضيته، فإحراق منزله وقمع مُعلِّمه (الأبيض) لطموحه ودخوله السجن، كانت مراحل فاصلة في تكوين ذلك الوعي، التي لولاها لأصبح برجوازياً أسودَ يستجدي الاندماج مع البيض. بينما كان لانتقاله من ميشيغن إلى بوسطن الأثر الكبير، والذي يقول إنه لولا هذا الانتقال لبقي خانعًا وماسح أحذية في بناية المجلس البلدي، فكيف كان سينتهي المطاف بـ “أبو صالح” لو لم يعاصر تلك التجارب المختلفة عندما هرب من ملاحقة الإنجليز له إلى حيفا؟

تركت تجربة “أبو صالح” في حيفا الأثر العميق في نفسه وسلوكه وحتى أسلوب كلامه، بل أنضجته بضع سنوات فوق عمره وعوّضته بعض الذي فاته، فكوّنت له هذه التّجربة شخصيته إلى جانب استعداده الطبيعي بكل تأكيد خوض المرحلة القادمة والتي أدركها بنباهة توصف بأنها شعور الإنسان بما فات منه، وبما يستهلكه العالم منه، وهي التي تمكِّنه من الشعور بما يجري على مصير مجتمعه في الخفاء، فبرزت شخصيته القيادية لتحويل الواقع الأليم إلى ثورة كان الفلاحون وقودَها. وأتى عام الثورة الفلسطينية الأولى، ثورة الريف الفلسطيني 1936، فكان انخراطه فيها أمراً طبيعياً لا يستدعي الاستغراب، فتحوّل “أبو صالح” من الفلاح الفقير الذي قهرته الحياة، إلى ثائر بطل يعطي الأوامر لمختار القرية ووجهائها الذين اتسموا بالضعف والخنوع والسعي إلى خطب ود المستعمر، فضلًا عن كيدهم الذي بعث في نفس المقاومين توّجساً وريبةً.

الثورة وما بعدها

أخذ الفلاحون قرارهم في فلسطين بتغيير واقعهم، بالثورة على المستعمر الإنجليزي مندوب الصهيونية في بلادهم، فوجدت فلسطين من يذبّ عنها ويلات الاستعمار، فالفلاح كما يراه فرانز فانون، ينتمي للطبقة التي لا تخشى أن تخسر بالثورة شيئًا، بل تطمع بأن تكسب بالثورة كل شيء، فيكتشف أن العنف وحده هو الطريقة المجدية لطرد المستعمر وأعوانه.

والحقيقة أن المقاومة ما هي إلا تكافل لجهود مجموعة من الأفراد يتملكهم الوعي بذاتهم وبمصلحة الجماعة، فالوعي بالذات الجماعية ما هو إلا انعكاس للوعي بالذات الفردية، بينما يكون العنف هو العمل الذي يجمّع الأفراد، فالعنف هنا يعبّئ الشعب ويوحّده ويقذفه باتجاه وحيد لا ثانيَ له. عنف يراه فانون هادماً لمساعي الاستعمار من أجل تفريق وتغذية النزعة الإقليمية بين صفوف الشعوب المستعمرة، فهذا يفسّر حالة الاتحاد التي تشكّلت بسرعة بين “أبو صالح” والسفّاح الذي كان عدوه بالأمس، وتورط معه بعراك بالأيدي انتهى لمصلحة “أبو صالح”، ليكون يده الضاربة في حيفا بمعاونة آخرين قبل أن يستشهد برصاص الإنجليز، فتحوّل “أبو صالح” إلى قائد فصيل وقاضٍ في محكمة الثورة، وتحت ضرباته وأوامر قيادته كان العدو يتهاوى.

إن قرار الحرب هو قرار لتغيير المجتمع، لكنه أوّل ما يغيِّر فإنه يغيِّرُ الثائر نفسه، فيصعب عليه العودة إلى المربع الأول إذا ما فشلت الثورة أو انتهت. في الحلقة العاشرة من المسلسل، يذهب مسعود إلى أخيه “أبو صالح” لإحضاره من الجبال بعد أن انتهت الثورة تدريجياً وببطء غريب فانحسرت وقتل قادتها، إلا أن “أبو صالح” قرر عدم العودة إلى القرية وفضّل المكوث في الجبال على أن يرى نفسه وقد عاد إلى دوره العادي.

فـ”أبو صالح” الذي وجد نفسه في الثورة محارباً الإنجليز والصهاينة إنما كان يحارب معهم حالته الأولى، وهذا ربما ما حمله إلى الزواج من فتاة مدنية، والذي اعتبره نصيباً بينما رأته العائلة على أنه رمز للتقدّم وفخر لهم، فانتقل للعيش في المدينة تاركاً القرية إلا من زيارات أسبوعية سريعة، فلم تعرف له القرية استقراراً بعد الثورة قط، إلا عندما حلّ موعد تسليم القوات البريطانية مقاليد البلاد إلى الصهاينة بعد سنوات مديدة بطيئة مملة ورتيبة، فما كان منه إلا أن عاد إلى قريته حاملاً سلاحه، حينها فقط كان “أبو صالح” قادراً على استيعاب وجوده في قريته، فقط إذا حمل السلاح ودافع عنها، وهو ليس تحيُّزاً إلى المدينة بقدر ما هو رفض للحالة الأولى.