قبور بلا شواهد، وشهداء بلا وصايا، وموت منزوع من طقوسه الجنائزية، وحداد بلا مراثٍ ولا موثبات، غير آيات من سورة عمران تنبعث من حنجرة شيخ المنزول يوسف في كلّ يوم قبيل صلاة الفجر. والغنم تُركت وصوفها عليها كإشارة للزعل والحداد، وتذكر الحاجة كلثوم أن الرعيان الذين جزّوا صوف غنمهم قبل وقعة الشهداء تركوه منفولاً بلا غسيل، مفروكاً بالفحم ومعلّقاً على ألواح الصّبر المحيط بالبيوت.

سيبقى الشّيخ يوسف شاهداً مؤتَمَناً أكثر منه شيخاً ومعلّماً للكُتّاب، المواهلة يعرفون أصله الشركسيّ، لكن لا أحد فيهم يعلم كيف حطّ به المقر في القرية. فمنذ أن نزل المنزول[1] أصبح مؤدباً على بابه، وشيخاً لمحرابه لا يبرحه إلا إلى خُصٍّ[2] اتخذه منزلاً لا يبعد عن المنزول سوى مرمى الحجر. ذلك الخُصّ الذي تطلُّ عتبتُه على أطلال مسقط رأسه شرقاً في قرية “كفر كما” الشركسية، فضلاً عن أن للشيخ حسّاً أمنياً في المِعمَار، يقتضي بأن تكون عتباتُ البيوتِ بنفس اتجاه مجرى عيون الماء، فكما كان يقول: “العين يجب أن تبقى على العين”. وإلى الناحية القبلية من الخُصّ تقعُ مضافةُ “أبو الفهد”، تلك المضافة التي سترمي بأحد عشر فدائياً مع ثورة الـ1936.

مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، وتحت ستر الليل سيخطم إلى دار أبو الفهد ضيفٌ ورفيقُه يجهلهما حتى أبو الفهد نفسه، وثالثهم الشّيخ يوسف. على غير عادته، بالكاد لامس عكازُ الشّيخ يوسف مسطبةَ الدّار، كما تقول ابنته كلثوم، التي كانت تغادر طفولتها وقتئذ. وتذكُرُ كلثوم إلى يومنا هذا تلك الليلة وذاك الضّيف الغريب الذي أثار اهتمام أبيها إلى حد القلق، وتذكُرُ استقبالَه على سراجٍ نوره خافت خفوتَ عبارات التّهليل والتّرحيب. كانت إذاً مضافةً بلا ضيافةٍ، لا صافر نار، ولا برغل، ولا عنزة حايل يذبحها أبو الفهد كما تعود كلما حلّ ضيفٌ.

على أربعتهم زرفل صاحبُ البيتِ بابَ مضافتِهِ، بطريقةٍ تُشبِهُ مَشطَ سبطانة الخرطوش، ليدور حديثٌ غير مسموع توّلاه الضيفُ بلهجةٍ لا تُشبِهُ لهجةَ فلاحي فلسطين، تقول الحاجة كلثوم. وقبيل الفجر، سيسري الضّيفُ ورفيقُه عبر درب رأس “حكورة البيدر”، مغادراً عين ماهل مرةً واحدةً وبلا رجعة.

لاحقاً، ولمّا عمّ الإضرابُ عمومَ مدنِ وأريافِ فلسطين، ستصبحُ دارُ أبو الفهد ثكنةً متقدةً بالمتحلّقين حول موقد نارها، في حديثٍ لا ينتهي عن الزيت والبارود. وفيما تمكّن فدائيٌّ من رأس “لويس أندروز”، انبعثت صرخةُ الحرّاثين من سهل البطوف حنجرة الشاغور، مدوّية ما بين مرج ابن عامر وجبال حيدر شمالاً حتى الزابود. كانت تلك الموجة الثانية للثورة من عام 1937، وقد اشتعل الجليل. يعرف الشّيخ يوسف من يكون “لويس أندروز”، “حاكم اللوى” الغاشم الذي هدّدَ الناسَ بألواح صبّارهم، ويذكر جيداً يوم أن شدّ عسكريٌّ الحاجَ سعيد من حلقة المنزول وسحبه إلى “حكورة البيدر” مُجبّراً إيّاه على شلع لوح الصّبر من مكانه وخلع نعليه، وقد اعتاد الإنجليز هذه التقنية: “يا بتنطق يا بتمشي ع لوح الصبر”.

بقي الشّيخ يوسف يمقتُ أكوازَ الصّبر، بينما أحبّ السفرجل، تلك الفاكهةُ الّتي حملها تجارُ مالطة إلى ساحل شرق المتوسط قبل قرنين، ففيما كانت عساكرُ الإنجليز تروح وتجيء بحثاً عن مطاردي جبل سيخ[3]، كان الشّيخ يوسف أول من تنبّه إلى السفرجل كإشارةٍ مُشفّرةٍ لا يَفُكّها إلا أبناءُ ذلك الجبل المولعون بشعر الشروقي[4] والجناس. على أجرانِ ماءِ عين عُلّيقة[5] كان يرمي الشّيخ يوسف حبات السفرجل، فيَفهَمُ المطاردون أنّ السفرجل العائم على وجه الماء يعني أن “السّفر قد جلّ”، أي يجبُ إخلاءُ المكان إلى حين، فـ”الجناس يصحُ لغير العتابا”، كما ظلّ يُردِدُ الشَيخ.

وفي أيار من السّنة الثالثة للثورة، وفيما مدافع الإنجليز تدكُ مغاورَ الفدائيين من تلال قرية المشهد، كان الشّيخ يوسف من عتبة خُصّهِ المطلّة على “حكورة البيدر” يرقب فهداً ابن أبو الفهد وهو ينهرُ على مهرهِ الأصبح محرّضاً الرّجادين[6] والفلاحين على مقايضة الرصاص بالقمح. ويذكرُ الشّيخ يوسف كيف كان المهر يهمرُ من حكّةِ حديد لجامه بأسنانه، فيما دخان القذائف لا يزال منبعثاً من التّلال الغربيّة، “سنحذي حوافر الخيل من حديدِ ذاك المدفع”،  بهذه العبارة كان يصيح فهد، والشّيخ يرى روح الفتى تفرُّ منه وتعود، إنّها علامةُ الشّهادة يقول الشّيخ.

أما عن الأيام التي سبقت الوقعة، فلا تفاصيل عنها، غير أن البواريد التي وفّرها المهربون هي من حَدّدَ عددَ الفدائيين. إحدى عشر بندقية ألمانية الصنع تساوي الواحدة منها رأس حاملها. حملها القردحجية من آبار قرية “عين دور” مغشّاة على القوادم[7]، ومغطّاة بقش الشعير إلى عين ماهل، والقردحجي هي كنية أطلقها الناسُ على من احترف صيانة الأسلحة والتجارة بها.

إلى يومنا وذاكرةُ المواهلة نحيفة عن الأيام التي سبقت وقعة الشهداء، ليس لأن الذاكرة تشيخ، إنما التكتم المسكون بالقلق قبل الوقعة وبعدها قد صَرَفَ الناسَ عن الحديث فيها، وحتى تاريخها لا يزال محطَّ جدلٍ، فالمواهلة يقولون إنها وقعت في نهاية أيار لسنة 1938، بينما القردحجي داوود أبو داوود من أهل كفر كنا – رَبع الرّمان كما درجت تسميتُهم- يؤكد على أن وقعة كبشانة كانت في نهاية آب من نفس العام.

داوود القردحجي من كفر كنا، مصدر الصورة: موقع الجزيرة نت

إلى الشّرق من كفر كنا – قانا الجليل- تمتدُّ وعرةُ الكبشانة المحاذية لسلسة جبال طرعان منها شمالاً. وتمتدّ مرحان الكبشانة التي يغطيها البلان والقندول[8] شرقاً إلى حيث سلاسل كروم الشّجراويين –نسبة إلى قرية الشجرة- وحبائل دواليهم المعرشة حتى بساتين لوبية باتجاه حطين. الطريق التي تفصل كبشانة عن سهل طرعان قديمة ومعروفة للتجار والجيوش وقطاع الطريق، لأنها تربطُ حيفا والسّاحل مع سوق الخان وطبريا شرقاً، ومنها إلى دمشق الشام. أراد الثوارُ نصبَ كمينٍ لسرية عسكريّة إنجليزيّة كانت في طريقها من حيفا إلى طبريا، وكبشانة هي نقطة الاستحكام. فصيل يزيد فدائيوه عن الثلاثين من خيرة شباب عين ماهل وكفر كنا وآخرين من قرى سهل البطوف.

بقي الشّيخ يوسف حتى أواخر الستينات يذكر تلك الوقعة بحرقة، ونارُ روحه الحامية على من غادروا بيادرهم أمام عينيه قابضين على بنادقهم، وترويدة بقت ترنُّ في أذنيه “نادي يا مير العرب ع الخيل والخيالي”، أنشدها الشّهيد أحمد الحاج سعيد فيما كان يسرج حصانه صبيحة يوم المعركة، كانوا فلاحين أكثر منهم مقاتلين.

الشّاهدُ الناجي من المعركة أبو داوود يقول: “اقتربنا من حافة الطريق ومن خلف شلوح شجر العبهر فتحنا النار لتفتح علينا أبواب جهنم”. والباير (لقب أحد المشاركين في الوقعة) والذي نجا رغم الرصاصات الستة التي طرّزت كتفيه بقي متذكراً وابل أزيز الرصاص الذي عفّر تراب الطريق. أدرك الفدائيون أنّه لا يمكن إعداد كمينٍ لكمينٍ. فهد ومصطفى أول الشهداء، ليلحق بهم خمسة آخرون، من أحد عشر ماهلياً، بينما نجى أربعةُ مصابين،  ستنقلهم الوقعة من طور النجاة إلى طور التواري والفرار.

ثلاثة أيامٍ بعد المعركة ولم تغادر قطعان الطراعنة زرائبها. أحد الجمّالين من أهل طرعان أرغمه عساكر الإنجليز على جلب جِمَالِه التي أعدّها لنقل حجار محاجر التون، كي ينقل عليها جثامين الشّهداء إلى مدخل القرية، أنكر أهل طرعان معرفتهم بهوية الشّهداء، وأُرغِموا رجالاً ونساءً على حفر القبور ودفن الشّهداء ليلاً.

فاطمة الماهلية الوحيدة الّتي كانت قد تزوجت إلى طرعان وقتها، حين اقتربت من الجثامين لم تتعرف إليهم باستثناء الدحلي أكبر الشّهداء سناً، لأنه كان يزور أبيها، وذكرت أنها حين أرادت تعديل ثنية سرواله سقطت منه بِذارُ القمح والذرة، وقد نثرتْها فوق قبره، وأعدّت له في اليوم التّالي شاهداّ يُعرَّفُ به من سائر الشّهداء. وبِذارُ ثنية السّروال شاهدٌ بالنسبة للمواهلة على أن الوقعة وقعت في أيار لا في آب، لأنه موسم حصاد الذرة.

قبور بلا شواهد، وشهداء بلا وصايا، وموت منزوع من طقوسه الجنائزية، وحداد بلا مراثٍ ولا موثبات، غير آيات من سورة عمران تنبعث من حنجرة شيخ المنزول يوسف في كلّ يوم قبيل صلاة الفجر. والغنم تُركت وصوفها عليها كإشارة للزعل والحداد، وتذكر الحاجة كلثوم أن الرعيان الذين جزّوا صوف غنمهم قبل وقعة الشهداء تركوه منفولاً بلا غسيل، مفروكاً بالفحم ومعلّقاً على ألواح الصّبر المحيط بالبيوت. والصوف أيضاً من الشواهد التي يستحضرها المواهلة للتأريخ للمعركة على أنها وقعت في أيار لأنه الشهر الذي يُجز فيه صوف الغنم.

استشهد فهدٌ وهو عريسٌ والحناء على راحتيه، وسيتعفف أبناء عمومته ورفاقه عن الزواج بعروسه فخرية التي تعففت أيضاً وآثرت العودة إلى أهلها في ريف دمشق. واستشهد مصطفى الذي بقي رفاقه يذكرون كيف كان بإمكانه بـ”جرّة أووف وكسرة عتابا” أن يقيم الحصادين المنحنين على مناجلهم في مرج ابن عامر منتصبين وقوفاً مرةً واحدةً، ليقولوا “هاظ مصطفى الشيخ حسن”. واستشهد أحمد الأمين الذي ترك ابنه عارف وحيداً ويتيماً، وكذلك استشهد حسن الذي ستنجب زوجتُه بعد شهرين من استشهاده ابنه الوحيد حسن. واستشهد أحمدُ الحاج سعيد مسبّح المنزول في ليلة القدر وليالي الجبر من رمضان، وأخيراً سعيد الملقب بالـ”قاروط” أي اليتيم، “آخر طلقة في بيت النار” كما يقول المواهلة.

في أواخر الستينيات سيصلُ جبل سيخ رجلٌ ومعه صبيٌّ على بغلٍ أبيضٍ خصيّ، مبرودِ الذنب، يسألان عن منزول القرية، سيحملان الشّيخ المحتضر ويتوجهان به إلى خُصّه بطلبٍ منه. التقط الصبيُّ عصا الشّيخ، وإبريق وضوئه ومصلياته، قطعة من القماش مُخاط عليها بصوف الخيش سبعة أسماء وعبارة “كبشانة الفداء”. وإلى الشّرق نحو كفر كما الشركسية سيشقّ البغل طريقه حاملاً يوسف الشًيخ إلى مسقط رأسه ومثواه الأخير.

سيبقى خصّ الشّيخ مطلّاً على حواكير البيدر التي عاد إليها المواهلة لذري أغلالهم نهاراً وإحياء أفراحهم ليلاً. وفي ليلة من ليالي أعراس الصّيف وفيما اصطف الشيب والشباب كتفاً إلى كتف في صف الحداية، التفت الحادي الحطيني إلى ناحية خصّ الشّيخ يوسف وأنشد:

يا يوسف شيخنا التقي يا ناجي من الدهر الشقي

إن ما كان بيجمعنا الزمان بجنات رضوان بنلتقي

سلامٌ على جبل سيخ وشيخه، وسلام برائحة السفرجل على شهداء كبشانة الفداء، وعلى قانا ورمانها الأحمر القاني السّلام، وسلام على دار أبو الفهد وعلى ضيفها المتستر الأمين الشّيخ عزّ الدين.

عين كبشانة إلى الشرق من كفر كنا، حيث وقعت المعركة

أسماء شهداء موقعة كبشانة:

من قرية عين ماهل
فهد يوسف ذياب حبيب الله.
مصطفى الشيخ حسن ملكاوي.
أحمد عبد الفتاح أمين. حسن حموضة.
محمد مصطفى علي الدحلي.
سعيد حسن موعد – القارووط.
أحمد الحاج سعيد حسين حبيب الله.
من قرية كفر كنا
تركي سعيد طه
حسن هزاع
قاسم احمد ناصر
محمد مصطفى طه
صبحي محمد
عيسى طوافشة
من قرية البعينة: 
أحمد حمودة
ذياب عيادة
حسين سليمان
محمد دلاشة

———–
الهوامش:
[1] المنزول: مكان يقيم الناس فيه الصلاة أشبه بالمسجد ولكن بلا مأذنة ولا قبة وفيه محراب فقط. ويستخدم للمناسبات الاجتماعية ويقصده الضيوف وعابرو السبيل، ولاحقاً أصبح منزول قرية عين ماهل أول مسجد في القرية.
[2] الخُص: هو بيت صغير من غرفة واحدة مبني بالخشب، بالعادة كان يبنيه النواطير لنطر بساتينهم فيه. 
[3] جبل سيخ: سلسلة جبلية في الجليل الأسفل، تقع على سفوحها الشرقية قرية عين ماهل.
[4] الشروقي: نمط من أنماط الشعر القديم في بلاد الشّام، أصوله عراقية، وانتقل إلى بلاد الشام، ويُغني في أعراس الجليل.
[5] عين عُلّيقة: إحدى عيون الماء في عين ماهل.
[6] الرجاد: هو الذي يرجد الغلال من الحقل إلى البيدر أي الذي يتولى نقلها على الدواب. 
[7] القوادم: جمع قادم أشبه بسلم مفتوح من الخشب يوضع على ظهر الدابة لنقل الأغلال فيه. 
[8] البلان والقندول: أعشاب برية شجيرية.