يمكننا أن نرسم في هذا السّياق مساراً لعمليات عمل المنظومة الاستعمارية، إذ أنها تتطّور باتجاه الاتساع لتُحوّل كلّ تفاصيل حياة الفلسطينيين إلى جبهات ونقاط اشتباك ممكنة ومحتملة، ولهذا فإنّ التوصيف الصحيح لهذه العمليات ليس “فرديّة” وإنما بُنيوية، أي أنها ناتجة عن طبيعة (ومنطق) الحالة الاستعمارية كحالة قمع وضبط قُصوى، دائمة التوسع غايتها تشكيل الفلسطيني كحالة من العبودية.

(المكان)

من “تيّلت أرمون هنتسيڤ” (متنزه المندوب السامي)، عادة ما تقف مجموعات الجنود الصهاينة يطلون على المدينة المقدّسة من جهتها الجنوبية، يتحلقون حول ضبَّاط سلاح التعليم في الجيش الصهيوني، ومعلمي الطريق (موريه ديرخ)، ويستمعون لشرح متعدد الموضوعات؛ حول القدس، “والهيكل”، “وحائط المبكى”، و”مدينة دافيد”، وتاريخ مفصل لسير عمليات حرب “تحرير/ توحيد القدس” في العام 1967.

والإطلال على المكان من علٍ وتعريفه- كمشهد “نوف”- ممارسة استعمارية تقليدية، ترتبط بهوس السيطرة على المكان وترويضه، وكأنّ ما يقع تحت البصر من علٍ يخضع فعلياً للناظر. من ذلك المطل تبدو الأحياء العربية المقدسيّة عدائية ولكنّها تحت السيطرة.

(الخروج عن/ على السيطرة)

في يوم الأحد الثامن من كانون الثاني، وبينما كانت مجموعة من منتسبي دورة ضباط هيئة الأركان في الجيش الصهيوني، تستعد للاستماع إلى شرح عن المشهد من على مطل المندوب السامي -في سياق يوم تعليمي حول القدس، ضمن ما يعرف بـ “برنامج يوم الأحد” في دورة ضباط هيئة الأركان- قام الشهيد فادي القنبر، 28 عاما من جبل المكبر، بدهس المجموعة بشاحنته مما أدى إلى مقتل 4 جنود وجرح 13 آخرين.

 (الزمن والسرعة والمسافة)

إنّ الحديث حول الاخفاق الاستخباراتي للأجهزة الأمن الصهيونية وحول فشل السياسات العقابيّة في ردع المقاوم القادم لم يعد له معنى، وبغض النظر عن الجهة التي يصدر عنها هذا الحديث. فمن الواضح  الآن، أن ما أطلق عليه العمليات الفردية ما هي إلا تطوّر حتمي ناتج  أساسا عن طبيعة منظومة القمع  والضبط الاستعمارية في القدس.

يمكننا أن نرسم في هذا السّياق مساراً لعمليات عمل المنظومة الاستعمارية، إذ أنها تتطّور باتجاه الاتساع لتُحوّل كلّ تفاصيل حياة الفلسطينيين إلى جبهات ونقاط اشتباك ممكنة ومحتملة، ولهذا فإنّ التوصيف الصحيح لهذه العمليات ليس “فرديّة” وإنما بُنيوية، أي أنها ناتجة عن طبيعة (ومنطق) الحالة الاستعمارية كحالة قمع وضبط قُصوى، دائمة التوسع غايتها تشكيل الفلسطيني كحالة من العبودية. 

باختصار، إنّ من يحوّٰل كل مناحي الحياة إلى أسلحة للقمع فإنه في الوقت ذاته يمنح الخصم المزيد من الأسلحة، وإذا كانت كلّ عمليات السيطرة والقمع تقوم على السرعة أي مغالبة الزمن، التنبؤ والاستباق، فإنها عاجزة عن العمل عندما يكون الزمن، ما بين الهمّ بالفعل والفعل ذاته، يساوي صفراً، وبالتالي يتحول كل اشتباك معها إلى اشتباك من مسافة صفر.