هذا المقال هو الثالث ضمن سلسلة “تاريخ مختصر للهروب من السجن”، بإمكانكم الاطلاع على المقالات السابقة من هنا: الجزء الأول، والجزء الثاني

****

رغم مرور عشرين عاماً، إلا أن تفاصيل حكاية غسان مهداوي خلف الشيك لا زالت تسترخي في ذاكرته. ليس النسيان وحده عدوّ التجارب، بل كذلك غياب اللهفة والشغف عدوّ ثانٍ لها. لم ينسَ غسان أيّاً من تلك التفاصيل، مهما جاءت “مملةً” أو هامشيةً، لكنه كذلك لم يفقد لهفة الحكاية الأولى. لم نكن نعرف قبل أن نصل بيته في ضاحية شويكة من طولكرم، أننا لن نحتاج أصلاً إلى تكرار الأسئلة أو تفصيلها، أو بعضُنا – وهو يرتب أجندة ذلك اليوم – ظنّ أنها مقابلة تنتهي في “ساعة زمن”، وننتقل لمقابلة أخرى.

كأنها حدثت البارحة، أو كأنه يروي القصة لأول مرة، على كرسيه البلاستيكي جلس غسان متظللاً بأشجار حديقة بيته المتواضع، ليحدّثنا في ثلاث ساعات بلا انقطاع – قلّت مقاطعتنا له فيها – عن أهم أعوام حياته، عام 1996، حينما نجح ورفيق حكايته الأسير السابق توفيق الزبن في الهرب من سجن “كفار يونا”[1]، عبر نفق بطول 11 متراً، في أول هروبٍ لأسيرٍ فلسطينيٍّ عبر نفق، حسبما يذكر.

بداية القصة

في إحدى المخيمات الصيفية التي اعتاد غسان الالتحاق بها مع أبناء جيله في الثانوية، بدأ صاحبنا (المولود عام 1973) يتلمس عتبة الطريق إلى فلسطين. في ذلك المخيم لَفَتَه ومثله زملاؤه دفترٌ كان يخطّ فيه أحد الفتية شعارات ورسومات تفوح رائحة البارود منها، فبدأت الأسئلة تزاحمه، فكانت الانتفاضة الأولى لتتدفق معها الأجوبة. مثله مثل كثيرين من أبناء جيله، جدلت الانتفاضة الأولى وعي غسان، لتحسم مسار سنينه لاحقاً.

شارة التحديّ الأولى لذلك الجيل كانت رفع العلم فوق المباني، مروراً بخطّ الشعارات الوطنية على الجدران، إلى رمي الحجارة والزجاجات الحارقة، وصولاً إلى غرس سكين في أحشاء مستوطن، وحرق حافلة صهيونية. تطوّرت نضالات غسان ورفاقه الذين شكّلوا خليّة من خلايا الانتفاضة الأولى تخطّط وتنفّذ  أكثر من عملية ضدّ أهداف الاحتلال. في السابع من أيلول من العام 1990، اعتقل غسان وصدر الحكم بحقّه بالسجن لـ 17 عاماً. [2]

أدرك غسان أنه بات في بطن الحوت، ليشغله بعدئذ سؤال واحد لا غير: “كيف يمكن الهروب؟” وبينما كان يخضع للتحقيق القاسي وللشبح لساعاتٍ طويلةٍ، لم تغادره فكرة الهروب أبداً، “لم يكن ذلك قدراً كي أستكين له”، كما يقول. وحتى خلال فترة التحقيق معه حاول غسان استغلال سهوة السّجان عنه عند إخراجه من الزنزانة للاستحمام، إلا أن الفرار في ذلك الظرف لم يكن سهلاً ومعقولاً.

الأسير السابق غسان مهداوي في حديقة بيته
الأسير السابق غسان مهداوي في حديقة بيته

ولما نُقِل إلى سجن طولكرم المركزي، راودته فكرة الهروب مجدداً، وهذه المرة من خلال الاختباء في حاوية للنفايات التي يشرف الأسرى بأنفسهم على إخراجها من المهاجع. لم يكن عمره حينها يتجاوز الثامنة عشر عاماً، وشاور في فكرته تلك أمير السجن، الذي أشاد بوعيه الفطريّ في البحث عن خلاص في هروب، ومع ذلك لم يوافقه الأمير، لظروف السجن وللمسؤولية الجماعية الملقاة عليه.

في سجن الجنيد في نابلس، تطاولت فكرة الهروب على غسان مجدداً وتحديداً مع زيارات الأهل، فعند نهاية كل زيارة يفتح السّجانون أحد الأبواب الموصدة في منّة عاطفية مبتذلة على الأسرى الآباء كي يحتضنوا أطفالهم، ولماذا لا يكون ذلك مخرجه نحو الخلاص؟ بقي يسأل غسان، إلا أن “أدواته المفقودة”، كما يقول لم تأخذ هذا التفكير إلى حيّز التنفيذ.

وبالرغم من فائض الزمان المشروط بضيق المكان اللذين يقترحهما الأسر على الأسرى، إلا أن صاحبنا بقي وفياً لفكرة الهروب، وإن لم يكن كلّ ما يخطر بباله من أفكار ناضجاً وجاهزاً للخروج إلى حيز التنفيذ، ومع ذلك لم يحرم نفسه من متعة التأمل بالأمل في الهروب.

يقول في حديثه لنا: “لم أفقد الأمل بالحرية يوماً، في كلّ محطة اعتقال كنت أبحث عن فرصة للهروب من واقع السجن، في كلّ سجن ينقل إليه الأسير يبدأ في رسم تصور عام للمكان الذي يعيش فيه، ومن ضمن ما كنت أفكر فيه في كلّ مرةٍ أُنقل فيها لسجنٍ جديدٍ، هو البحث عن نقطة الضعف التي يمكنني الهروب منها، لا أقول ذلك لتضخيم نفسي، ليس هذا حالي فقط، فالحريّة حاضرةٌ في فكر كلّ أسير، إذا تحدثتَ مع غالبية الأسرى فستجد أن التفكير بالهروب قد راودهم وألح ّعليهم أكثر من مرة”.

سجن جديد، ومحاولات جديدة

في أعقاب توقيع اتفاقية أوسلو، أغلقت السجون الصهيونية الواقعة على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، ونُقل الأسرى إلى سجونٍ أخرى أُنشأت على الأراضي المحتلة عام 1948.  ونُقل غسان  في عام 1996 من سجن جنيد في نابلس إلى سجن “كفار يونا”.

وفي زنزانةٍ يتوسّط سقفها نافذة مغطاة بقضبان حديدية، بدأت أولى محاولات غسان في الهروب من سجن “كفار يونا”. في الزنزانة ضيقة الأفق، وشحيحة الموارد، يتحوّل كل شيء – مهما بدا خسيساً – في عيني الأسير الغارق في التفكير بالهروب إلى أداة ذات قيمة. وهكذا تحوّلت مضخة الماء الحديدية في دورة المياه – “النيجرة” – في يديّ غسان ورفيقه في الزنزانة إلى قضيب حديدي، ربطاه بأحزمة الحقائب التي كانا يملكانها داخل الزنزانة، واستخدما “أداتهما” الجديدة تلك كنوع من “العتلة” لقصّ القضبان الحديدية التي في النافذة وسط سقف زنزانتهم.

يقول غسان: “كانت تلك مغامرة غير مدروسة، فحتى لو نجحنا بفتح النافذة، فلم تكن لدينا خطةٌ كيف سننزل من سقف السجن ونهرب”. لم يُكتب لتلك المغامرة النجاح لأن أمراً مفاجئاً بالنقل إلى سجن آخر جاء إلى غسان.

قصة “الحياة”

“موافق، بس كيف؟”، ردّ غسان على سؤال أحد الأسرى له أثناء سيرهما في الفورة: “غسان، شو رأيك نهرب من خلال النفق؟”. لم يمنع غياب الخطّة – حتى تلك اللحظة – غسان من أن “يعيش الحالة”، فقد حلم في تلك الليلة بنفسه يهرب من السجن من خلال نفق!

حتى يكون النفق أقصر ما يكون، بحث الأسيران عن غرفة أرضية قريبة من الجدار الخارجي للسجن. وهكذا، طلب غسان مهداوي وزميله نقلهما إلى الغرفة رقم (3) في القسم رقم (1)، ومن ثم انضم لهما أسيران آخران سيشاركان في تنفيذ الخطة. [3] وكان السؤال التالي بعد انتقال الأسرى الأربعة إلى الغرفة المرجوة: من أين يبدأ الحفر، كيف نحفر، وأين نذهب بالرمل الناتج عن الحفر.

كانت “غرفة الأحلام” تلك تقريباً بمساحة مترين ونصف عرضاً وثلاثة أمتار ونصف طولاً، فيها 4 أسرّة، سريران فوق بعضهما على كلّ جهةٍ بمحاذاة الحائط، بالإضافة إلى غرفة حمام صغيرة، يفتح بابها إلى الخارج، فيغطي عندما يفتح مساحةً ضيقةً جداً تقع بين طرف أحد الأبراش، وحائط غرفة الحمام.

في البداية، فكّر الأسرى بأن تكون فتحة النفق تحت “الأبراش” – أسرّة الأسرى – حتى لا تتم ملاحظتها من قبل مفتشي السجن. لكن ذلك لم يكن ممكناً عملياً لأن الأسرّة في ذلك الوقت كانت مثبتةً بالأرض ولا يُمكن تحريكها. في النهاية، اتفقوا على أن يبدأ الحفر، وأن تكون فتحة النفق، في المساحة الضيقة الموجودة بين طرف أحد الأبراش وبين الحمام، باعتبارها “نقطةً ميتةً”، لن يلتفت إليها المفتشون، ويمكن سترها بواسطة فتح باب الحمام حتى نهايته.

كانت حماسة غسان تزداد تدفّقاً كلّما تقدّم في سرد تفاصيل قصته تلك. كان بإمكانه أن يقول لنا قمنا بخلع بلاطتين من أرضية السّجن، وحفرنا النفق أسفل تلك البلاطتين، وهربنا. لكنه اعتنى بتفاصيل حكايته بإيقاعها البطيء كما تعتني أمٌّ بمولودها، لحظة بلحظة، خطوة خطوة، على أفضل حال وبمنتهى التفاصيل سرد لنا لحظات القداسة تلك.

خطّة الهروب كما سار فيها غسان وزملائه في سجن (كفار يونا) )

خلع البلاطتين

من قال أننا يجب أن نخلع بلاطتين أصلاً؟ لماذا لا نقتلع ثلاث بلاطات أو أربع منها؟ بدأت الخطّة تقترح تفاصيلها عليهما خطوة بخطوة. كنوع من “البروفا”، قام الأسرى بأخذ قياس البلاطات ورسمها على كرتونة، ومن ثم قصّوا الكرتونة من وسطها بنفس مساحة البلاطتين، أي قاموا بتفريغها داخلياً، وأدخلوا أنفسهم داخل الفتحة التي صنعوها. كان الهدف هو فحص إمكانية مرور رؤوسهم وأجسادهم فيما بعد من خلال فتحة البلاطتين.

وكان من حظّ الأسرى المتشوقين للخلاص، أن كانت تجري في تلك الفترة عمليات ترميم للسجن، وكان يعمل ويشارك في تلك العمليات بعض الأسرى، ومنهم الأسير توفيق الزبن الذي كان في نفس الغرفة. أما غسان مهداوي فقد كان يعمل فيما يسميه الأسرى “المردوان”، وهو القسم المشرف على خدمة الأسرى. من خلال عملهما في هذين القسمين، استطاعا الحصول على ما يلزم من أدوات للبدء في الحفر، ومنها بلاطتان لاستبدال البلاطتين المخلوعتين بعد كسرهما، وقضبان حديدية ومسامير وغيرها، استخدموها في مختلف مراحل حفر النفق.

استعان الأسرى بباب الحمام الحديدي بعد خلعه من مكانه لكسر البلاطتين، [4] ومن ثم وضعوا مكانهما البلاطتين الجديدتين. بطبيعة الحال، كان من المهم أن لا تبدو أي علامات في محيط البلاطتين الجديدتين، وأن لا تظهرا مختلفتين عن أخواتهما. وحتى لا يكشف أمرهم، قاموا بإلصاق البلاطتين ببعضهما البعض، وأحضروا حزاماً من إحدى الحقائب التي كانت موجودة معهم، فوضعوه أسفل البلاطتين، واستعانوا به لرفع البلاطتين الملتصقتين ببعضهما في كلّ مرةٍ يريدون بها الحفر. وعندما ينتهون من عملية الحفر، يرجعون البلاطتين مكانهما، ويحرصون على إحاطتهما بـ”الروبة”، حتى لا تظهر أيّ علامة على أنهما مخلوعتان.

“زي اللي بنقّر جبل بإبرة”

استمر الأسرى في مسيرهم نحو “المجهول”، وبدأت مرحلة الحفر في “صبّة الباطون” الموجودة أسفل البلاط. بمسمارٍ سميكٍ خُلِعَ من أحد الأبواب القديمة في السجن، رُبِطَ في رأسه سلكٌ من مخلّفات أسلاك الكهرباء، وبالاستعانة بقطعةٍ حديديةٍ كالمطرقة بدأ الأسرى بالضرب في الباطون، يحفرون كلّ يوم ما مساحته “تجويف متكة” لا أكثر.

كان العمل في الحفر مُضنياً، أو كما يصفه غسان: كالذي “ينقر جبلاً  بإبرة”. بينما الأسرى يتحينون الأوقات التي تكثر فيها الضجة في السجن، خاصة عند خروج ودخول الأسرى إلى الفورة ومنها، أو عندما يُشغِّل العمّال “الكانجو” في أعمال التصليحات، وذلك حتى لا تُسمع أصوات الطرق، أو يتعمدون مثلاً رفع صوت التلفزيون. كما كانوا يقسّمون بينهم المهام، فأحدهم يحفر، والثاني يراقب التحركات خارج الغرفة، وهكذا.

بعد أن تخلّصوا من طبقة الباطون، التي كانت بِسُمك 13 سم، تفاجئوا بطبقة أخرى كان الحفر فيها أصعب من الأولى، [5] يقول عنها غسان: “كنا نضرب فيها بواسطة المسمار “يلبد”، لا يخرج أي شيء من الباطون”. استعان الأسرى بقضيبين حديدين كانوا قد وجدوهما في طبقة الباطون الأولى، لإكمال الحفر في الطبقة الثانية. وبواسطة “طارّة” شبه مهترئة، [6] قاموا بتثبيتها على مروحة، واستطاعوا حفّ أحد القضبان الحديدية لاستخدامه في الحفر بشكلٍ أكثر فعالية.

في ظلّ المسير نحو المجهول ذلك، كان الأسرى بين الحين والآخر يخفّفون عن بعضهم البعض بالممازحة والقول: “ها يا شباب؟ بدنا نطلع عشا لولاد الليلة؟”، يعني هل سننجح في حفر الباطون أم لا. بعد 54 يوماً من الانحناء على نقر صبتيّ الباطون، وصل الأسرى إلى الأرض، إلى طبقة الرمل. وقد كان المسمار العزيز الغالي الذي بدأوا الحفر فيه قد اهترأ، ولم يعد صالحاً للاستخدام، إلا أن غسان احتفظ ببقاياه، ليصحبه معه في رحلة الحرية، كواحد من جنودها.

التفتيش ثلاثاً

خلال مرحلة حفر النفق نفسه، والتخلّص من الرمال، كادت محاولة الهروب أن تكشف 3 مرات. في البداية، كان الأسرى يخرجون الرمل من النفق المحفور، ومن ثم يذوبونه في شبكة الصرف الصحي عن طريق دفع كميات كبيرة من المياه. “كنا نرمي الرمل، والمياه تسحب تقول لنا هل من مزيد”، إلا أن ذلك لم يستمر طويلاً.

في أحد الأيام، وبعد حفر طويل تشكّل فيه نفق يمكن لثلاثة أشخاص الوقوف فيه، تنبّه الأسرى إلى أن مياه الصرف الصحيّ قد فاضت في ساحة السجن. على الفور، أوقف الأسرى عملية الحفر وتذويب الرمل، وقاموا بتفتيت صابونة وقطع من الخبز في مياه الصرف الصحيّ في محاولة للتغطية على قصتهم.

من وراء نافذة الغرفة، وقف غسان يراقب مسؤول الصيانة في السجن برفقة عماله يحاولون اكتشاف سبب انسداد الشبكة وفيضان المياه. كان أحد العمال يرفع في كل مرة يغيب فيه رأسه إلى الأرض حيث الفيضان حفنة من الرمل، فيتزداد توتر غسان، “روّحت”، “خلاص الليلة على العزل”، “كشفونا”.  إلا أنهم لم “يكشفونا”.

أجرى ضابط الصيانة ومسؤول الحرس جولة تفتيشية في جميع غرف الأسرى، وأولها غرفة أصحاب الهروب، ولم يعثرا على دليل واحد. بعد ذلك، أرسلوا قوّة شرطية كبيرة قامت بتفتيش مستلزمات الأسرى واحدة واحدة، الأحذية، المخدات، الملابس، ومع ذلك لم يعثروا على حبة رمل واحدة عالقة بملابس الأسرى، ولم يلتفتوا إلى البلاطتين “بوابة الحرية”.

بعد “الفيضان الأول”، أوقف الأسرى عملية الحفر لفترة وجيزة حتى تهدأ الأمور، ومن ثم عادوا للحفر ولكن غيّروا طريقة التخلص من الرمال. عن طريق الأقمشة الزائدة الموجودة لديهم خيّطوا أكياساً واستخدموها لتخزين الرمل المستخرج من الحفر. في صباح كلّ يوم، كان الأسرى يخرجون أكياس الرمل المخزنة داخل النفق، يضعونها في أحد زوايا الغرفة، يحفرون ما استطاعوا، ومن ثم يرجعونها في آخر النهار إلى داخل النفق.

المرة الثانية

كان ذلك منهكاً للأسرى، وقد خسروا من أوزانهم الكثير بفعل هذا التعب. قرروا العودة إلى حيلتهم الأولى بتذويب الرمال في مياه الصرف، ولكن هذه المرة تعمدوا إلقاء كميات كبيرة من المياه حتى يضمنوا إذابة الرمل وعدم سداد مسالك شبكة الصرف الصحي، وهذا كان يعني أنهم استغرقوا ساعتين كاملتين لتذويب دلو واحد من الرمل. وبينما كانوا على بعد خطوات قليلة من الوصول إلى جدار السجن، بعد أن حفروا نفقاً يصل لمسافة 8 أمتار، عرف الأسرى عن طريق الصدفة، أن القسم الجنائي من السجن يعاني من مشاكل في تصريف المياه، وأن هناك فيضان آخر حصل فيه.

مرة أخرى، توقف الأسرى عن الحفر، وأغلقوا مدخل النفق، وقرروا التروي قليلاً حتى تنكشف هذه الغمّة. بعد يومين، اقتحمت قوات معززة أقسام الأسرى منفذة حملة تفتيش دقيقة في داخل الغرف، إلا أن الحظّ كان لجانب غسان وزملائه مجدداً، فقد أُعميت عيون المفتشين عن منطقة فتحة النفق. في نهاية حملة التفتيش تلك، لم تملك إدارة السجن إلا توصية العمال في ترميم السجن بأن لا يرموا الرمال الزائدة عن حاجتهم في الصرف الصحي.

الثالثة ثابتة؟

خلال هذه الفترة، أحبطت إدارة سجن عسقلان عملية هروب نفذها كل من حافظ قندس ونضال زلوم وآخرون من أصحاب الأحكام العالية. خيط الأسرى الحالمون بالحرية ملابس نسائية تسللوا بها خلال زيارة الأهالي من الطابق الثاني إلى الحمام في الطابق الأول والموجود بالقرب من قاعة الزيارة. عند انتهاء الزيارة خرج الأهالي والأسرى المتنكرون من القاعة، إلا أن الأسير نضال زلوم تأخر خلفهم، ما لفت انتباه السجان “لماذا تلبس هذه المرأة حذاء رجالياً؟”، فكشف الأمر وأطلق صفارات الإنذار.

إثر هذه العملية قررت إدارة سجون الاحتلال تشكيل لجنة أمنية لفحص كافة السجون. يقول غسان: “عرفنا هذه المعلومة من ممثل المعتقل الذي تم تبليغه بالمعلومة من قبل إدارة السجون، ليكون سجن كفار يونا أول مهام هذه اللجنة”. ورغم أن كافة عمليات التفتيش لم تكشف النفق، إلا أن الشبان أصبح لديهم يقين أن هذه اللجنة ستكشف النفق وستحبط عمليتهم.

وفي صباح يوم أحد، خرج كافة الأسرى إلى ساحة السجن وبدأت اللجنة المُعينة بتفتيش الأقسام. بينما كان ينتظر في خارج غرفته، شاهد غسان التفتيش الدقيق في الغرفة المجاورة رقم (2)، فأيقن أن اكتشاف أمرهم قد حان. لكن يقين السجّان بأن الغرفة رقم (1) محصنة لكونها حديثة الترميم، وبالتالي لا يعقل أن تكون فيها محاولة هروب، قد غلب. بقي المفتشون في غرفتهم ثلاث دقائق لا أكثر، وخرجوا بلا شيء.

على مشارف الجدار الخارجي

قرر غسان ورفاقه أن يستمروا في الحفر، فقد تبقى لهم 3 أمتار لا غير! هذه المرة سيعودون إلى تعبئة الرمال مجدداً داخل الأكياس، حتى لا يعيدوا إثارة الشكوك. ظنّ غسان وزملاؤه أنهم قد وصلوا إلى المنطقة الواقعة خلف الجدار الخارجي للسجن، فبدؤوا بالحفر إلى أعلى. فيما بعد تنبّهوا إلى أصوات كلاب الحراسة، ففهموا أنّ النفق ما زال يجري في داخل منطقة السجن ولم يتجاوز جداره الخارجي، وكانوا يعرفون أن هناك كلاب حراسة تقع بين جدار السجن والجدار الخارجي (انظر الصورة أعلاه).

بهمة الذي لا يكلّ، رجع الأسرى لحفر النفق أفقياً، حتى تجاوزوا إلى جدار السجن الخارجي، فأحدثوا ثقباً إلى الأعلى. لقد كانت المباشرة في عملية الهروب تلك مغامرة المتيقن والمؤمن بالحرية، ولكنها رغم كونها “مغامرة”، كانت تحمل في كل ثناياها تخطيطاً بأدق التفاصيل. لم يكن الأسرى يعرفون ماذا يوجد وراء الجدار الخارجيّ للسجن، صحيح أنه يمكنهم الآن الهروب، لكن لا شيء لديهم لمعرفة ماذا بعد.

لذلك، صنعوا “تلسكوباً” صغيراً بواسطة مرآتين كانوا يخرجونه من فتحة النفق ويراقبون من خلاله ماذا يوجد خارج السجن.  وجد الأسرى أنهم قد تخطوا جدار السجن الخارجي بالفعل، ولكن أمامه جدار من السلك الشائك. ولأنه لم يعد من السهل الاستمرار في المزيد من الحفر أفقياً، قرر الأسرى الهروب من تلك النقطة ومن ثم الركض باتجاه السلك الشائك وقصّه.

ليلة الهروب

بعد سلسلة القرارات والتخطيطات الكثيرة والموتّرة التي مرّ بها الأسرى، جاء موعد القرار والتخطيط الأصعب، الذي لا مجال فيه للخطأ أو التهاون. في شهر آب من العام 1996، وبعد 4 أشهر من العمل المضني، جاءت لحظة الصفر. في الليلة الأولى التي أرادوا بها الهروب شعر الأسرى بحركة نشطة للسجانين، فأجلوا خطّتهم. إذن هناك حاجة لقرار آخر. أصرّ غسان حينها على أن الهروب يجب أن ينفذ في الليلة التالية، فالتنقلات الفجائية للأسرى أو اكتشاف النفق قد يكون بأي لحظة، فقرروا الهروب رغم أنهم لم يناموا لليلتين متواصلتين.

في فجر الرابع من آب لعام 1996، وبعد عمل جبّار استمر منذ أيار من نفس العام، حمل غسان المسمار والمطرقة التي استخدمها في بداية حفر النفق، وتزوّد بحبات تمر والقليل من الطعام، إضافة لمبلغ مال بسيط كان يهربه له الأهل من خلال شباك الزيارة. حانت ساعة الخلاص.

يصف غسان تلك الليلة: “أجرينا تدريباً أوليّاً لكيفية إخلاء الغرفة، وحشونا بعض الأقمشة ببعضها البعض لتشكل مجسماً لشخص نائم في الأبراش المقابلة لباب الزنزانة لتمويه السجان، وتحدثنا بخطة الهروب بشكل كامل، وارتدينا ملابس رياضة تحت ملابسنا، حتى عندما نخرج من السجن، نواصل الركض بشكل طبيعي وكأننا إسرائيليين نمارس الرياضة”.

الصفحة الاولى من "يديعوت أحرونوت": "صدمة من فضيحة هروب المخربين".

ضوء النفق

كان من المقرر أن ينفذ الهروب الساعة الثانية عشرة ليلاً، إلا أن جندي الحراسة على البرج القريب كان شديد المراقبة. قرر الأسرى – المزيد من القرارات والتفكير! – البقاء في النفق حتى الساعة الرابعة فجراً وهو موعد تبديل جنود المراقبة. كان حارس وردية الساعة الرابعة “عزّ الطلب”، فقد أدام النظر في المنطقة الخارجية للسجن، الأمر الذي منح الأسرى استكمال خطتهم.

كان أول الواقفين في النفق الأسير توفيق الزبن، وعوضاً عن القفز عن الشيك، قام بقصّ الشيك بالقرب من إحدى الشجرات، حتى يستطيع التواري خلفها فيما بعد. كان الشيك على ثلاث طبقات، الأمر الذي استغرق وقتاً طويلاً في قصّه. يقول غسان: “اقتربنا من الساعة الخامسة والنصف وبدأت الشمس تشرق ونحن ما زلنا داخل السجن، وهذا سبب قلقاً وتوتراً. وأخيراً نجح توفيق بقصّ الشيك، ولكن في تلك الأثناء همس أحد الأسرى لغسان أنه سيعود للغرفة ولحق به الأسير الثاني”.

يبين غسان أن الأسيرين تراجعا في اللحظات الأخيرة من العملية تحت أثر الضغط النفسي الذي مرّا به خلال الفترة الطويلة التي استغرقها توفيق لقصّ الشيك، “نادى علي توفيق، استعديت للخروج، عدت قليلاً إلى الخلف وناديت على الشابين الذين قررا العودة للغرفة، إلا أنني لم أتلق أي جواب منهم، فاتخذت قراراً بالخروج فوراً”. وهكذا شارك في خطّة الهروب وحفر النفق والاستعدادات الكاملة له 4 أسرى كانوا في تلك الغرفة، ولكن لم يهرب في نهاية الخطّة إلا توفيق الزبن وغسان مهداوي.

المطاردة

بعد تخطي عتبة السجن بعيداً عن الشيك، بدّل غسان وتوفيق ملابسهما وتخلصا من كل ما معهما – حتى ذلك المسمار العزيز – ما عدا راديو صغير. كان “المنطق” يقول أنهم سيتجهان نحو طولكرم، بلد غسان، أو القرى العربية القريبة من منطقة السجن، وحتى يعاكسا هذا المنطق الذي ستفكر به المخابرات الصهيونية، اتجها إلى الشمال بالقرب من الخضيرة.

على مسافة بعيدة عن بعضها البعض، مشى غسان وتوفيق بهدوء وثقة، يستذكر غسان: “كنا نركض عندما تتاح لنا الفرصة، ونقطع الشارع عندما يخلو من المركبات، وعندما نقترب من البيارات كنا نمشي بداخلها، وتعمدنا الابتعاد عن أية تجمعات سكنية”.

استمر المشي حتى الساعة الثامنة والنصف صباحاً، قبل أن يتخذا قراراً بالجلوس قرب برك كبيرة والتواري خلفها حتى عمّ المساء. كان غسان يتابع عبر الراديو الصغير ما يتم تناقله في وسائل الإعلام الصهيونية، التي استفاقت على “صدمة هذا الخبر”، وبدأت بنشر مواصفات الأسيرين الهاربين وطلب مساعدة جيش الاحتلال بإلقاء القبض عليهما. يروي غسان، “كل نشرات الأخبار كانت تتحدث عنا، كما كانت تتحدث عن عمليات البحث الواسعة بمشاركة الطيارات والكلاب والمتطوعين، كنا في حالة ضغط نفسي كبير ولم نستطيع الارتياح، كلما حاولنا أن نغفى قليلاً نفشل، ونقوم لنعاود المسير”.

عام من الحرية والسجن لدى السلطة الفلسطينية

أربع ليالي وتوفيق وغسان لم تغمض عيونهما وهما يقطعان المساحات والأراضي. في نهاية الأمر، وصلا إلى قرية زيتا حيث لغسان صديق هناك. أكل توفيق وغسان في منزل ذلك الصديق إلا أنهما لم يستطيعا الحصول على قسط كافٍ من الراحة، وخاصة أن الاحتلال يبحث عليهما الآن، فقررنا التوجه إلى مغارة قريبة، وبقيا هناك أسبوعاً، إلى أن قررا الافتراق، فذهب توفيق إلى أريحا حيث أقاربه، وذهب غسان إلى رام الله.

أمضى غسان ما يقارب الشهرين مطارداً في رام الله، ومن ثم وصلت له الأجهزة الأمنية الفلسطينية فاعتقلته في سجن أريحا، ومن ثمّ اعتقل زميله توفيق. بعد  شهور في سجن أريحا وبفعل الضغط والاحتجاج من قبل غسان وتوفيق، وافقت أجهزة الأمن الفلسطينية على إطلاق سراحهما بشرط البقاء في مدينة أريحا وعدم الخروج منها.

أصرّ غسان على الذهاب إلى مدينة طولكرم، ما تم اعتبرته الأجهزة الأمنية اختراقاً للاتفاقية، وهناك اعتقل مجدداً لدى المخابرات الفلسطينية لمدة ثلاثة شهور. بعد ضغوطات عديدة، تم الإفراج عنه، ولكن على مسؤوليته الشخصية، وبعد شهر تم اختطافه من قبل الوحدات الخاصة الصهيونية داخل منتزه في مدينة طولكرم عام 1997، أي أنه قضى ما يقارب العام ما بين الحرية والمطاردة وبين الاعتقال في سجون السلطة.

أعيد اعتقال غسان مجدداً ليكمل ما تبقى من حكمه الأصلي، وهو 11 عاماً، وتم إضافة عامين إضافيين عليه عقاباً على هروبه من السجن تحت بند “الهروب من حراسات قانونية”، إلى أن أفرج عنه عام 2009. أما توفيق، فبعد الإفراج عنه من سجن أريحا، بقي في مدينة أريحا حتى العام 2000، إلى أن اعتقله الاحتلال، ليكمل حكمه المتبقي، وهو 4 أعوام، من 12 عاماً هي حكمه الأصلي.

لا يعتبر غسان أن إعادة الاعتقال هذه فشل في خطّة الأسرى للهروب، بل يستذكر أن رحلتهم إلى الحرية أحدثت ضجة كبيرة في مصلحة السجون الصهيونية، وهزّت منظومتها الأمنية التي تفتخر بها. وتطالعنا أرشيفات صحيفة يديعوت أحرونوت بما يعكس هذه الضجة، فعنوان الصحيفة في آب 1996 يقول: “المخربون يسخرون من السجانين”. وقد شهدت تلك الفترة عدة إقالات وإجراءات عقابية ضدّ الموظفين في مصلحة السجون.

إلا أن الأهم بنظر غسان، ما صنعته هذه التجربة في ذاته وفي نفوس الأسرى، فقد شكلت إلهاماً لبقية الأسرى، وقد سرت على نفس منوالها تقريباً محاولة الهروب من سجن شطة في العام 1998.

—————————–

الهوامش
[1]  سجن “كفار يونا”: لهذا السجن الصهيوني عدة أسماء، فقد كان اسمه الأول سجن “تلموند”، وسُمي كذلك “سجن بيت ليد”، ومن ثم كان الاسم النهائي الذي اعتمدته سلطات الاحتلال سجن “أشمورت”. وكان لفترة ما يستخدم لسجن الأسرى “الذين يحتاجون حراسة خاصة”، فقد سجن فيها على سبيل المثال الشهيد الشيخ أحمد ياسين، والأسير اللبناني السابق مصطفى الديراني. أغلق السجن في العام 2009، وأصبحت مبانيه تستخدم لموظفي وحراس سلطة السجون الصهيونية، وبني في محيطه مجمع سجون “ريمونيم”، والذي يضم سجن أوفيك، وسجن هشارون، وسجن هداريم.
[2]  كان هذا الاعتقال الثاني لغسان، فسبق أن اعتقل وقضى في السجن 3 شهور، من شباط حتى أيار 1990.
[3]  انتقل غسان وزميله إلى هذه الغرفة تدريجياً، وكان موضوع النقل بين الغرف حينها سهلاً بعض الشيء، إذ يمكن تقديم طلب لإدارة السجن، ومن المحتمل أن تأتي الموافقة عليه في الغالب. في نهاية القصة لم يشارك هذا الأسير في تجربة الهروب.
[4]  يقول الأسير السابق غسان في حديثه أنه كان من الضروري خلال عملية الحفر أن يتم إخفاء أية آثار له منعاً لإثارة الشبهات، وعلى الرغم من أن إدارة السجون تفتش في النفايات التي تخرج من غرف الأسرى، إلا أنه كان من السهل نوعاً ما على الأسرى التخلص من البلاطتين المخلوعتين نظراً لأعمال الترميم والبناء الجارية في السجن وكثرة مخلفات البناء التي تنتج عنها.
[5]  يُخمّن غسان أن وجود الطبقتين يعود لأن مبنى السجن الأصلي من زمن الاستعمار البريطاني، فيمكن أن نكون صبة الباطون الثانية بريطانية قديمة، وأن الصبة الأولى وضعت بعد تجديد السجن من قبل قوات الاحتلال الصهيوني.
[6]  “الطارّة”: الاسطوانة الحديدية التي تستخدم في جهاز الصاروخ” الذي يقصّ فيه الحديد، كان قد حصل عليها غسان في أحد ممرات السجن، وكانت من مخلفات مستلزمات البناء والترميم في السجن.