يموضع خالد عودة الله في هذا المقال مشروع “رامي ليفي” التجاريّ شرق القدس، المقام على أراضي بلدة بيت حنينا، ضمن السياق التاريخيّ للاستيطان الصهيونيّ شمال القدس، وصراعنا الممتدّ معه منذ مئة عامٍ، كانت فيها مستوطنة “عطروت” بؤرةً مركزيّةً لهذا الصراع.

في مطلع العام الحالي، افتتح المستوطن الرياديّ “رامي ليفي” مجمّعاً تجاريّاً في شمال القدس (مول عطروت) على أراضٍ مصادرةٍ من بلدة بيت حنينا. يحتوي المجمّع على العديد من المحال التجارية، أبرزها فرعٌ ضخمٌ من سلسلة متاجر “رامي ليفي شيفوك هشكما” للبيع بالتجزئة، بجوار فرعٍ لسلسلة متاجر التجزئة “همشبير”. هذا بالإضافة إلى عددٍ من المتاجر والمطاعم العربيّة. ومنذ الإعلان عن البدء بالمشروع، جرى تسويق مجمّع “رامي ليفي” كمشروعٍ للتعاون الاقتصادي والتعايش السلميّ ما بين “الإسرائيليّين” والفلسطينيّين، أو “حلّ الصراع عن طريق الشوبينغ” حسب تعبير “ليفي”.

في المقابل، أطلقت العديد من القوى الوطنية دعواتٍ لمقاطعة المجمّع الجديد بصفته مشروعاً تهويديّاً تطبيعيّاً، مُحذّرةً من أثره المدمّر على الاقتصاد المقدسيّ المنهَك، وخاصةً قطاع تجار التجزئة؛ عصب النشاط التجاري المقدسي. أقوم في هذه الدراسة المختصرة، بموضعة هذا المشروع ضمن السياق التاريخيّ للاستيطان الصهيونيّ في شمال القدس، وصراعنا مع هذا الاستيطان لأكثر من 100 عامٍ، كانت فيها مستوطنة “عطروت” بؤرةً مركزيّةً لهذا الصراع في مراحله المختلفة.

“عطروت”: سمسار ومستوطن وفلّاح

أقرّت الحركة الصهيونيّة مخططاً استيطانيّاً ما بين عامي 1907-1908 يهدف إلى إنشاء بؤرٍ استيطانيةٍ في محيط مدينة القدس، في سبيل خلق عمقٍ جغرافيٍّ دفاعيٍّ للوجود الصهيونيّ في المدينة، من خلال استيعاب مستوطني الهجرة الثانية في هذه البؤر، بالإضافة إلى دفع المستوطنين للخروج من الحيّز المديني في القدس نحو العمل الزراعيّ في الأرياف. ركّز الصهاينة مجهودهم لخلق هذا العمق الاستيطانيّ في شمال القدس، على طول طريق القدس- نابلس، لاعتباراتٍ لوجستيّةٍ، بما يشمل سهولة الاتصال مع الوجود اليهوديّ في المدينة، وأخرى دفاعيّةٍ للسيطرة على الطريق الحيويّ والوحيد ما بين القدس وعمقها العربيّ في الشمال.

تَرافق هذا المسعى الاستيطانيّ الشماليّ مع مسعىً غربيٍّ رديفٍ يهدف إلى خلق بؤرٍ استيطانيةٍ على طول سكّة حديد يافا – القدس، والسيطرة على طريق “باب الواد” الواصل ما بين مركز الثقل الساحليّ للاستيطان الصهيونيّ في “تل أبيب” والقدس.

اقرأ/ي أيضاً: يافا – القدس: تاريخٌ موجزٌ لسكّة الاستعمار

تحت الحكم العثمانيّ، وقبل أن يعلو هدير مدافع الحرب العالميّة الأولى، انطلق نشطاء الحركة الصهيونيّة، مستعينين بجيشٍ من السماسرة العرب، لشراء أراضٍ في شمال القدس لإقامة بؤرٍ استيطانيةٍ. أثمرت جهودهم شراء مئات الدونمات في كلٍّ من قرية النبي صمويل الاستراتيجيّة -ولم ينجح مشروع إقامة مستوطنةٍ باسم “رامة” حسب المسمى التوراتيّ المزعوم للنبي صمويل- وفي شمال غرب تل الفول في بيت حنينا، وفي بيتين وقلنديا وبير نبالا والجديرة.

لا يُخفى على القارئ أنّ قضية بيع الأراضي للصهاينة تعدّ من القضايا الحسّاسة والمحرّمة في البحث التاريخيّ الفلسطينيّ، ومصدر هذه الحساسيّة عند الفلسطينيّين هو “بروباغاندا” الأنظمة العربيّة التي استخدمت وضخّمت بيوع الأراضي من قبل الفلسطينيّين للصهاينة للتغطيّة على هزيمتها المذلّة في حرب النكبة. وثانياً، “بروباغاندا” الحركة الصهيونيّة وتضخيمها للمساحات التي قامت بشرائها للأرض. في المحصّلة، بقيت هذه المسألة، على أهميتها، مهملةً بحثيّاً وتوثيقيّاً من الباحثين الفلسطينيّين، وأخذت معظم الكتابات فيها منحىً دفاعيّاً، دون أن تدرس بشكلٍ مفصّلٍ وعلميٍّ في وقائعها المحدّدة لفهم ملابساتها في سياقها الاجتماعيّ التاريخيّ، في مقابل طوفانٍ من الأبحاث التاريخيّة الصهيونيّة “الموثّقة” حول هذه المسألة.

أقول هذا مع التنبيه إلى ضآلة المساحات التي تمّ بيعها للصهاينة وتمثّل أقلّ من 5% من أراضي فلسطين، وبيعت 95% من هذه الـ 5% من قبل كبار المّلاك من غير الفلسطينيّين، السورييّن واللبنانيّين وغيرهم. ولسنا بحاجة بعد 100 عامٍ من الصراع الدمويّ مع العدوّ الصهيونيّ أن نثبت وطنيتنا لأحدٍ، في الوقت الذي باعت فيه هذه الأنظمة بلادها بالجملة للمستعمر الأجنبي . [1]

لنعود إلى حكايتنا، أثمرت هذه المحاولات الاستيطانيّة، وبمعاونة سمسارٍ يدعى “نخلة قطّان”، نجاح الصهاينة في إنشاء بؤرةٍ استيطانيةٍ على أراضي قرية قلنديا في العام 1910، بمساحة حوالي 243 دونماً، وصلت إلى 700 دونمٍ في العام 1913 بحسب المصادر الصهيونيّة. [2] اشترت “شركة هاخشرات هيوشوف” [3] هذه الأراضي من قرية قلنديا أساساً، إضافةً إلى مساحاتٍ صغيرةٍ من قريتي بيرنبالا والجديرة، بتمويلٍ من البنك الصهيونيّ “البنك الإنكليزي الفلسطيني”، “أنجلو بالستينا كومباني”. [4]

في البداية، أطلق الصهاينة اسم “مستعمرة قلنديا” على هذه البؤرة، وأسموها لاحقاً “عطروت”، نسبةً إلى خربة عطارة التي تقع ما بين قلنديا وكفر عقب، والتي يزعم الصهاينة أنّ لها تاريخاً توراتيّاً.

وفي أيّار 1914، وصلت النواة الاستيطانيّة الدائمة الأولى إلى المستوطنة، بقيادة كلٍّ من “مائير روتبرغ”، مؤسّس “همشبير همركزي”، و”ليفي أشكول”، مؤسّس حزب العمل ورئيس الوزراء الثالث للكيان فيما بعد. وبدأت طلائع المستوطنين الأولى بترسيم حدود المستعمرة وزراعة أشجار التين والعنب والزيتون تقليداً للفلّاحين الفلسطينيّين في المحيط.

نشبت “التوتّرات” بين المستوطنين والفلّاحين منذ البداية، وتحوّلت في كثيرٍ من الأحيان إلى اشتباكاتٍ حول حدود أراضي المستعمرة المتداخلة مع أراضي الفلّاحين. ولعلّ الأمر الدالّ على الطرق الملتوية التي سُرِّبت من خلالها الأراضي، بمعاونة السماسرة وبعض المخاتير، هو أنّ العديد من الاشتباكات كان سببها استمرار الفلّاحين بفلاحة أرضهم وجني محاصيلها، بالرغم من انتقال ملكيّة هذه الأراضي قانونيّاً للصهاينة.

كما لم تقتصر المواجهة على الاشتباكات المباشرة مع المستوطنين الجدد، وإنّما تعدّتها لعمليات التخريب وخلع الأشجار التي كان يزرعها المستوطنون، دون أن يعني ذلك غياب العلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة ما بين المستوطنين والقرى المحيطة، خاصةً في موضوع بيع المياه من الآبار المحيطة، وبعض المنتجات الزراعيّة والحيوانيّة، للمستوطنين.

وفي هذا الجانب، تتقاطع الرواية الصهيونيّة مع ما سمعتُه من رواياتٍ شفويّةٍ من “ختياريّة” المنطقة، أثناء جولاتي الميدانيّة خلال نشاطي في اللجنة الشعبيّة لمقاومة الجدار في شمال القدس، حيث كانت مسألة الملكيّات اليهوديّة للأراضي إحدى الاعتبارات في رسم مسار الجدار في المنطقة.

ويجدر التنبيه هنا إلى أنّ “عطروت” أُنشئت في خضمّ مرحلة “احتلال العمل العبريّ”، لذلك لم يتمّ تشغيل الأيدي العاملة العربيّة من القرى المحيطة في المستوطنة، ممّا ساهم في تعميق حالة العداء مع المستوطنين، والذين اعتمدوا بدورهم على إظهار قوّتهم وأسلحتهم في مسعاهم لخلق حالةٍ من الردع لضمان أمنهم، ولكونهم “جزيرةً صغيرةً في بحرٍ من العرب”، بحسب وصفهم.

وفي صيف 1914، خرج مسؤول الحراسة في المستوطنة، “يوسف زيسمان”، مساءً مشياً على الأقدام نحو مدينة القدس، وقُتل في الطريق ولم يُعثر على جثّته. [5] بعد هذه الحادثة، ومع ازدياد وتيرة الاشتباكات اليوميّة مع فلّاحي القرى المحيطة بالمستعمرة، استسلمتْ المجموعة الاستيطانيّة. وفي تشرين الثاني، وقع القرار بإخلاء المستوطنة، ويصفه أحد المستوطنين: “غادرنا قلنديا بشعور الهارب من المعركة”. [6]

كتب “ليفي أشكول” في يوميّاته:

“قبل قدومي إلى قلنديا، التقيتُ فقط بالعربيّ الهادئ المطيع، العربيّ الذي نركب على أكتافه لينقلنا من القارب إلى الشاطئ، ولكن في عطروت التقيتُ للمرة الأولى بالعربيّ العدائيّ الذي يحمل بيديه النبّوت (الهراوة) والحجر باحثاً عن أوّل فرصةٍ ليغرس السكّين في ظهري”. [7]

تتناقض هذه الرواية مع ما يورده الكتاب التذكاريّ لمستوطنة “عطروت”، والذي يعزو إخلاء المستوطنة إلى نشوب الحرب العالميّة الأولى، وأنّ هذا الإخلاء تمّ بعد تأجير أراضي المستوطنة للفلّاحين مقابل ثلث المحصول. [8]

في العام 1914 كان خراب عطروت الأوّل …

وجاء الإنجليز…

في شتاء العام 1917، احتلّ الإنجليز قرية قلنديا، قادمين من جهة قرية الجيب، بعد معارك طاحنةٍ مع الجيش العثمانيّ في جبل النبي صمويل، مفتاح القدس من الجهة الشماليّة على مرّ العصور. ومع الاحتلال الإنجليزيّ لفلسطين، هبّت الرياح مواتيةً للصهاينة حاملةً معها نواةً استيطانيةً جديدةً إلى “عطروت”، حدّدت لها القيادة الصهيونيّة مهامها بترميم بساتين المستوطنة، وإثبات الوجود على الأرض لمواجهة “تعدّيات” الفلّاحين على أراضي المستعمرة، مشدّدةً هذه المرّة على ضرورة بناء علاقات حسن جوارٍ وتعايشٍ مع الفلّاحين في القرى المحيطة للحفاظ على أمن المستوطنة المعزولة واستغلال هذه العلاقات للعمل على توسيع مساحة المستوطنة للوصول بها إلى مساحة 1000-1500 دونمٍ، مع ضرورة تركيز هذا التوسّع بمحاذاة شارع القدس – نابلس لقطع القدس عن عمقها الشماليّ.

ومع كلّ ذلك، بقيت “عطروت” تعاني من نقص الموارد الماليّة الكافية لتطويرها، وكانت مهددةً بالانهيار حتى العام 1922، عندما انتقلت فيه ملكية أراضي المستوطنة إلى “الصندوق القوميّ اليهوديّ”، لتتحوّل مستعمرة “عطروت” إلى “موشاف” عمّاليٍّ زراعيٍّ يحظى بالدعم الكامل من المؤسسات الصهيونيّة الاستيطانيّة. [9]

وبعد أن صارت عطروت “موشاف”، تمّ توزيع 378 دونماً على 18 عائلةً مستوطنةً، بمعدل 20 دونماً للعائلة الواحدة. وبُنيت مساكن المستوطنة الخشبيّة بالاعتماد على مخططٍ دائريٍّ لاعتباراتٍ عسكريّةٍ أمنيّةٍ. وبالنظر إلى صغر المساحات وطبيعة الأرض الصخريّة الوعرة، مضافاً إليها عدم وجود مصدرٍ دائمٍ للمياه، توجّه مستوطنو “الموشاف” إلى تربية الأبقار وإنتاج الحليب كقطاع إنتاجٍ رئيسٍ في المستوطنة، بعد استيراد نوعٍ محسّنٍ من الأبقار الهولنديّة.

كانت “عطروت” المورّد الرئيسيّ للحليب لمصنع “تنوفا” في القدس. وأمّا إنتاجها من الألبان فكان يُباع لمعسكرات الجيش البريطانيّ. وممّا سمعتُه من “ختياريّة” المنطقة أنّ أبقار “عطروت” الهولنديّة كانت تُثير حسد وطمع فلّاحي المحيط “دِرّة البقرة القابرة أهلها واصلة الأرض”، فكثرت غاراتهم على حظائرها طمعاً في الوفرة الهولنديّة.

في العام 1922، قرّر الإنجليز نقل مطار القدس من البقعة، جنوبيّ المدينة، إلى قلنديا شمالها، وقد استفادت المستوطنة اقتصاديّاً وأمنيّاً من بناء الإنجليز لمطار القدس بجوار المستوطنة. وتوّلت الشركة الصهيونيّة “سوليل بونيه” عملية تشييد المطار موفّرةً فرص عملٍ للمستوطنين في بادئ الأمر، ومن ثمّ باع المستوطنون منتجات ألبانهم للجنود الإنجليز في المطار، ولاحقاً أصبح قدوم الصهاينة من القدس لمشاهدة الطائرات وهي تهبط وتقلع فرصةً استثماريّةً سياحيّةً للمستوطنة.

([10] مطار القدس الأول في حيّ البقعة، 1918)

خلال ثورة البراق، تولّت وحدةٌ مكونةٌ من 17 جنديّاً إنجليزيّاً، تمّ نقلهم من مصر لتعزيز القوات الإنجليزيّة في فلسطين، وتمركزت في مطار قلنديا، الدفاعَ عن “الموشاف” الذي تعرّض للعديد من الهجمات من جهته الشماليّة، وأُخليَ من معظم المستوطنين ولم يبقَ فيه سوى مجموعةٍ من المقاتلين للدفاع عنه. وتشير شهادات المستوطنين إلى أنّ هذه الهجمات كانت تتكثّف في شهر رمضان وموسم النبي موسى، وسيستمرّ الإنجليز في حمايتهم لـ”عطروت” في ثورة الـ 1936، كما سنرى لاحقاً.

(صورةٌ جوّيةٌ لمطار قلنديا، 1946)

( صورةٌ جوّيةٌ لمستوطنة "عطروت"، 1946)

وفي العام 1924، أنشأ الصهاينة مستوطنة “كفار عبري” التي باتت تُعرف بـ”نفيه يعقوب” لاحقاً على أراضي بيت حنينا وحزما، على بُعد 2 كم جنوبيّ “عطروت”. انفتحت بعدها شهية الحركة الصهيونيّة وبدأت بالتفكير جديّاً في إقامة تكتّلٍ استيطانيٍّ استراتيجيٍّ شمال القدس، يضمّ كلاً من “عطروت” و”كفار عبري”، بالإضافة إلى “قرية العاملين في الكسارة”، شرقيّ “عطروت”، خاصةً بعد أن قرّرت بلدية القدس مدّ خطٍّ لتزويد المستوطنتَيْن بالمياه، وتمّ وصله في منطقة أرض السمار ” التلّة الفرنسية” بخطّ المياه الرئيسيّ القادم من عين فارة إلى القدس، وسيتحوّل هذا الخطّ منذ تدشينه إلى هدفٍ دائمٍ للتخريب.

("ينكِل" مع حافلته برفقة أحد حراس المستوطنة، أرشيف مستوطنة "بني عطروت")

“ينكِل”: الرياديّ في قطاع المواصلات يصلُ “عطروت”

في نهاية العشرينيّات، قدم المستوطن “يعقوب جولدبرغر”، المعروف بـ “ينكِل”، الريادي في قطاع المواصلات الصهيونية في القدس، إلى “عطروت” بهدف توسيع أعماله في نقل الركاب وتدشين خطّ مواصلاتٍ جديدٍ بين “عطروت” والقدس، خطّ رقم 17. حملت الحافلة المصفّحة الحليب يوميّاً من “عطروت” إلى مصنع “تنوفا” في القدس، بالإضافة إلى العاملين في المصنع من مستوطنة “عطروت”.

لم يحتلّ “ينكِل” موقعاً قياديّاً رسميّاً في المستعمرة، إلاّ أنّ اسمه سيرتبط في الذاكرة الشعبيّة لفلّاحي المنطقة بالصراع الدامي مع مستعمرة “عطروت”. أمّا عند المستوطنين، فقد كان “بطل عطروت القوميّ” لتأديته المهمة الحيويّة الصعبة، والتي ارتبط استمرار وجود المستعمرة بها؛ وهي ربط المستعمرة المعزولة بالوجود اليهوديّ في القدس، إضافةً إلى أنه كان رأس الحربة في المواجهة الدائمة مع عرب المنطقة.

فمنذ أن تفتح وعيّي على الدنيا وأنا أسمعُ من “ختياريّة” بلدنا عن “ينكِل”، صاحب الشوارب العريضة، الذي كان يقود حافلته المصفّحة يوميّاً، مُشهراً مسدسه من النافذة، ومتّجهاً من “عطروت” إلى مصنع “تنوفا” في القدس.

في ثورة الـ 36، ونظراً لوجود الحامية البريطانيّة في المطار وقيام طائرات الاستطلاع الإنجليزية بإبلاغ مستوطني “عطروت” عن تحرّكات قوات الثوّار، تركّزت عمليات الهجوم على “عطروت” في مهاجمة قافلة “ينكِل” المصفّحة في طريقها من “عطروت” إلى القدس، بالإضافة إلى عمليات تخريب خطّ المياه الرئيس وقطع خطوط الهاتف، وصولاً إلى فرض حصارٍ على المستعمرة أدّى إلى إخلاءٍ شبه كليٍّ لها، ولم يتبقَ فيها سوى حاميةٍ واحدةٍ من “الهاجاناة”.

وخلال هذه الأحداث، بدأ حساب الدم مع “ينكِل” يتراكم؛ “ينكِل” الذي كان يطلق النار على كلّ ما يتحرّك على جانبيْ الطريق، والذي عُرف عنه أنّه صاحب فلسفةٍ للتعايش مع العرب تقول : “من أراد أن يعيش بين العرب عليه أن يُخيف العرب”.

(الشهيد محمد فاطمة الحنيني)

لم تتوقف عمليات القنص على حافلة “ينكِل” في المقطع الممتدّ ما بين بيت حنينا وشعفاط، من شارع القدس – نابلس، لتُسفر إحدى هذه العمليات في حزيران 1936 عن مقتل مستوطنيْن، بعدما أُجبر المستوطنون على النزول من المركبة المصفّحة بسبب الحواجز الحجريّة التي وُضعت على الطريق.

أمّا الضربة الموجعة للمستوطنة، فجاءت في 17 أيلول 1938، عندما قُتل كلٌّ من حارس المستوطنة ومهندس المياه فيها، في بيت حنينا ( مقابل مدرسة النظاميّة اليوم). فقد قام الشهيد محمد فاطمة الحنيني، الذي كان يعمل سائقاً على باص بيت حنينا-القدس، بصدم الدرّاجة الناريّة التي كان يستقلّها المستوطنان في طريقهما لإصلاح خطّ مياه المستوطنة. أصبح محمد فاطمة مطارداً للإنجليز بعد العمليّة، والتحق مقاتلاً بفصيل الشيخ عبد الفتّاح المزرعاويّ، قائد منطقة رام الله، حتى استشهاده  في قرية جالود قضاء نابلس.

كانت “عطروت” محاصَرةً خلال أحداث ثورة عام 1936، واعتمدت أساساً خلالها على الإمدادات التي كانت تنقلها مدرّعات الجيش البريطانيّ. خرجت “عطروت” من ثورة الـ 1936 منهكةً اقتصاديّاً، بميزان عجزٍ تجاريٍّ [11] سبّبه عجزها عن نقل إنتاجها من الحليب للقدس، وصعوبة توفير علفٍ للأبقار، فضلاً عن الانقطاع المتكرّر للمياه بسبب عمليات تخريب خط المياه.

وفي هذا السياق، نُشير إلى أنّ الحركة الصهيونيّة كانت قد اختارت مستوطنة “عطروت” كنموذجٍ ناجحٍ اقتصاديّاً للاستيطان اليهوديّ، لتقوم لجنة بيل الملكيّة بزيارتها على أمل ضمّها لأراضي الدولة اليهوديّة المقترحة بعد تقسيم فلسطين ما بين العرب واليهود.

حرب النكبة : خراب “عطروت” الثاني

استعداداً للمواجهة التي كانت نذرها في الأفق، زرع الصهاينة الألغام ما بين “عطروت” وقلنديا وكفر عقب، كما قاموا بتحسين التحصينات الدفاعيّة وتعزيز مخزون “عطروت” السرّي من الأسلحة والذخائر. بينما وضعت قيادة “الهاجاناة” الخطوط التالية للمواجهة المرتقبة في القدس: عدم إخلاء أيّ مستوطنةٍ أو حيٍّ يهوديٍّ في القدس مهما كان الثمن، وعدم الاكتفاء بالدفاع وإنّما القيام بعملياتٍ هجوميّةٍ، خاصةً ضدّ وسائل المواصلات العربيّة؛ لخلق حالة ردعٍ لعدم مهاجمة وسائل المواصلات الصهيونية الحيويّة، خاصةً التي تقلّ مستوطني “عطروت” المعزولة. [12]

كان الهجوم الأوّل على “عطروت” في شهر كانون الثاني 1947، فردّت العصابات الصهيونية بزرع ألغامٍ على محور بيت حنينا – شعفاط وتفجير حافلة بيت حنينا، ضمن الحرب على طرق المواصلات. وفي نهاية شباط 1948، أرسلت “الهاجاناة” وحدةً صهيونيّةً من سلاح الميدان التابعة لها مكوّنةً من عشرين مقاتلاً، معظمهم طلابٌ جامعيون من كلية “بيت هكيرم” الزراعية، لتعزيز المدافعين عن” عطروت”.

وبعد حوالي الأسبوع من وصول الوحدة، وفي فجر الرابع من آذار، خرج 19 مقاتلاً من الوحدة في مهمةٍ خاصّةٍ (عملية شموئيل)، بناءً على أوامر قيادة “الهاجاناة”، لاستهداف حافلةٍ عربيّةٍ تحمل عمّالاً عرباً من رام الله متّجهين إلى عملهم في معسكرٍ للجيش البريطانيّ في اللطرون. وقرب خربة اللاتاتين من أراضي قرية الجيب، كمنت الوحدة الصهيونيّة للحافلة العربيّة على تلّ النجايم، (مقابل معسكر وسجن عوفر الحالي)، وأطلقت النار عليها، دون أن تصيبها على الأغلب، لأنّ السائق زاد سرعته عندما أحس بالكمين، لتنسحب الوحدة بعد الكمين الفاشل إلى “عطروت”.

( تل النجايم من أراضي قرية الجيب، ويظهر في الصورة "معتقل عوفر "، خالد عودة الله، 2018)

وفي طريقها للانسحاب، وتجنباً للمرور من وسط قرية رافات، اختار قائد الوحدة “دافيد غروسمان” طريقاً التفافيّاً طويلاً للانسحاب يمرّ حول رفات. وبحسب رواية أحد المشاركين في الكمين، فإنّ خلافاً وقع داخل الوحدة حول الطريق الأسلم للانسحاب إلى “عطروت”، كانت نتيجته أنْ تمرّد ثلاثة عناصر على أوامر “غروسمان”، واختاروا المرور مباشرةً من خلال أراضي رفات. وفي منطقة بير الدير شماليّ رافات، وقعت الوحدة الصهيونية في كمينٍ للثوار كان نتيجته إبادة الوحدة ومقتل جميع أفرادها الـ 16. [13] وأما الثلاثة الذين رفضوا الانصياع لأوامر “غروسمان”، فقد وصلوا المستعمرة مصابين حاملين معهم نبأ “المصيبة”.

(صورة للمقاتلين العرب مع جثث الصهاينة في معركة المصيون، أرشيف مستوطنة "بني عطروت")

وبحسب مذكّرات مستوطنةٍ في “عطروت”، فإنّ “كارثة” الوحدة أغرقت “عطروت” في سواد الاكتئاب، إذ بثّت المجموعة الطلابيّة الشابّة روحاً مرحةً وشعوراً بالأمل بإمكانية الصمود في المستعمرة المحاصرة، وها هي بعد أيامٍ من قدومها إلى “عطروت” تُباد عن بكرة أبيها. وبحسب مؤرّخي حرب النكبة من الصهاينة، فإنّ هذه العملية كانت بداية انهيار “عطروت” في حرب النكبة. [14]

حلّ عيد المساخر “البوريم” بعد حوالي عشرين يوماً من “كارثة ” الـ 16. خطّط مستوطنو “عطروت” إلى تحويل العيد إلى احتفالٍ كبيرٍ “لنثبتَ للعرب بأنّنا صامدون ومعنوياتنا عالية”. كان كلّ شيءٍ معدّاً لليلة الكبيرة بانتظار رجوع “ينكِل” بقافلته إلى “عطروت” لتبدأ الحفلة…

("يعقوب غولدبرغر- ينكِل"، أرشيف مستوطنة "بني عطروت")

تحرّكت حافلة “ينكِل” من مدرسة الشرطة البريطانيّة (مقرّ الأونروا اليوم في الشيخ جراح) مصحوبةً بعربتيْن مصفحتيْن. كانت القافلة محمّلةً بالذخائر والإمدادات ومواد التحصين، والأهم كانت تحمل “إلياهو فلنكشتاين”، ضابط “الهاجاناه” ومسؤول التحصينات في قطاع القدس، والذي أرسلته قيادة “الهاجاناه” لإعداد مستوطنتي “كفار عبري” و”عطروت” للمواجهة والصمود في حرب النكبة.

(صورةٌ للمقاتلين العرب بعد معركة شعفاط)

(صورةٌ لإحدى مصفّحات القافلة بجوار مصفّحةٍ للإنجليز)

وفي 24 آذار عام 1948، وعندما وصلت القافلة مصنع الكازوز في شعفاط (بالقرب من أبراج القدس اليوم)، وفيما أصبحت تُعرف بمعركة شعفاط، وقعت “قافلة عطروت” في كمينٍ محكمٍ أوقع 14 قتيلاً، بينهم “فلنكشتاين”، و11 جريحاً أنقذهم الإنجليز في اللحظة الأخيرة قبل الإجهاز عليهم. [15] 

وبدأت حفلة “ينكِل” …

وأخيرا وقع “الشاطر” [16] بين يدي مسلّحي شعفاط وبيت حنينا، وحانت لحظة تصفية حساب الدم الطويل مع “ينكِل” الممتدّ لأكثر من عشرين عاماً. بعد تصفيته، سلخ مقاتلو بيت حنينا وشعفاط شوارب “ينكِل” ورفعوها على سنجة البندقيّة وهم يطلقون الأهازيج…

(خراب "عطروت" بعد سقوطها في 15 أيّار 1948، أرشيف مستوطنة "بني عطروت")

من عطروت إلى لفتا: ” لاجئون” في بيوت اللاجئين

بعد القضاء على قافلة “فلنكشتاين”، أصبحت مُستعمرتا “عطروت” و”كفار عبري” (نفي يعقوب) محاصرتيْن، وانهارت الروح المعنويّة عند المحاصرين تماماً، خاصةً بعد انسحاب قوات “الهاجاناة” من شعفاط، عقب فشل عملية احتلال جبل النبي صمويل. وهنا، جاءت الأوامر من قيادة “الهاجاناة” بإخلاء “عطروت” كليّاً ونقل المقاتلين للانضمام للمدافعين عن “كفار عبري”. وتمّ الاتفاق مع ضابطٍ إنجليزيٍّ من حامية مطار قلنديا على نقل النساء والأطفال خارج “عطروت”، لتُسكنهم “الهاجاناة” في قرية لفتا المهجّرةـ

وفي لفتا، كتبت المستوطنة من “عطروت” في مذكّراتها: “لم أكن قادرةً على استيعاب كيف ترك أهل لفتا قريتهم؟ ولكن الآن ها نحن نترك عطروت مثلهم”. [17]

عاش مستوطنو “عطروت” في بيوت قرية لفتا المهجّرة، وناموا على فراش أهلها، وطهوا طعامهم في طوابينها لمدّة شهرٍ كاملٍ قبل أن يتمّ نقلهم للسكن في بيوت يافا المهجّرة عن طريق “بورما “. في 15 أيّار 1948، سقطت “عطروت” بنيران مجاهدي جيش الإنقاذ والجهاد المقدّس ومقاتلين من بيت حنينا وحزما، وتلاها في 17 أيّار سقوط مستوطنة “كفار عبري” (نفي يعقوب) …

النكسة: العودة إلى “عطروت”

مع نهاية حرب النكبة، سرى شعورٌ بالندم والإخفاق عند “بن غوريون” لعدم احتلال “القدس الشرقيّة” وصولاً إلى “عطروت”، وعبّر عنه بالمصطلح التلموديّ: (البكاء لأجيال)، “هبخيا لدوروت”؛ [18] الخطأ الذي يسبّب ضرراً متّصلاً لا يُمكن إصلاحه، والذي ستندم عليه الأجيال القادمة. هكذا علّق “بن غوريون” على نتيجة التصويت ضدّ مقترحه في المجلس الوزاريّ، في 26 أيلول 1948 وخلال سريان الهدنة الثانية في حرب النكبة، للقيام بعمليةٍ عسكريّةٍ ضدّ موقع الفيلق العربيّ الأردنيّ في اللطرون، ومن ثمّ الاتجاه شرقاً نحو شمال القدس إلى “عطروت” وصولا إلى نهر الأردن. [19]

بعد “البكاء” لجيلٍ واحدٍ، وفي السادس من حزيران، سقط اللطرون بدون قتالٍ تقريباً، بعد أن دفع الصهاينة دماً كثيراً في محاولات احتلاله في حرب النكبة دون جدوى. واندفعت الكتيبة الصهيونيّة الرابعة المؤلّلة من اللطرون نحو مطار قلنديا الاستراتيجيّ، دون مقاومةٍ سوى من مجموعاتٍ مشتّتةٍ من قوات الكوماندوز المصريّة على طول الطريق من عمواس – بيت لقيا – بيت عور الفوقا والتحتا حتّى مفرق بيتونيا، واستشهد منها حوالي 100 مقاتلٍ، 20 منهم حرقهم الصهاينة في حقلٍ للحنطة. [20]

وصل الصهاينة “عطروت” التي كانت قد دُمّرت جزئياً خلال حرب النكبة، وقامت السلطات الأردنيّة في بداية الخمسينيّات بتدمير ما تبقّى منها لتوسعة مطار القدس الدوليّ، والذي أعاد الصهاينة افتتاحه في كانون الثاني 1969 على أمل تحويله لمطارٍ دوليٍّ لـ”العاصمة”. كان الصهاينة قد وسّعوا حدود بلدية القدس شمالاً لتصلَ تخوم رام الله والبيرة خصيصاً؛ من أجل ضمّ مطار قلنديا وما عُرف لاحقاً بـ”الإصبع الشمالي”.

“عطروت” الجديدة: من احتلال العمل إلى العمل عند الاحتلال

بعد احتلال الضفّة الغربيّة ووضعها تحت الحكم العسكريّ، بدأت سياسات السلطة الاستعماريّة لحكم سكان الأراضي المحتلة بالتبلور شيئاً فشيئاً، فأصبح على هذه السياسيات أن تقدّم حلولاً للمسائل الحياتيّة والأمنيّة المستجدّة، ومن ضمنها مسألة تدهور الوضع الاقتصاديّ في الأراضي المحتلّة حديثاً، حيث معدل البطالة المتصاعد والمخاطر الأمنية المحتملة لذلك من جهةٍ، وضرورة المحافظة على مصلحة سوق العمل الصهيوني من جهةٍ أخرى. تراوحت النقاشات حول المسألة العمّاليّة الفلسطينيّة في بداية العام 1968، ما بين السجال الأيديولوجيّ المتعلّق بمقولة “احتلال العمل” الصهيونيّة، واستخدام العمالة الفلسطينيّة وسيلةً للضبط السياسيّ للفلسطينيّين، وصولاً إلى استغلال العمالة الفلسطينيّة في الصراع مع “الهستدروت” حول معدّلات الأجور، ويغلف كلّ هذه النقاشات الهاجس الأمنيّ لتشغيل العمّال الفلسطينيّين في أرضهم المحتلّة 1948.

نشطت مجموعةٌ من الباحثين الصهاينة أُطلق عليها “مجموعة رحوفوت” (قرية ديران المُهجرة)، واتّخذت من “معهد وايزمان للعلوم” مقرّاً لها، ونفّذت العديد من الدراسات والأبحاث ما بين عامي 1968-1973 على سكّان الضفة الغربيّة من أجل المساهمة في رسم سياسات الحكومة المتعلّقة بأراضي الضفة وغزّة المحتلّة حديثاً، بمساندة رئيس الوزراء الصهيوني “ليفي أشكول” الهارب من “عطروت” في عام 1914. وما يهمّنا في عمل هذه المجموعة هنا هو دورها في صناعة القرار الصهيونيّ بإقامة منطقتين صناعيّتين في عام 1970، وهما “إيرز” على حدود القطاع و”عطروت” شماليّ القدس، بتوليفة العقلية الصهيونيّة والأيدي العاملة الفلسطينيّة الرخيصة. [21]

لم يطالب مستوطنو “عطروت” بالعودة إليها بعد أن أعجبهم “التوطين” في بيوت المستوطنين الألمان الفسيحة في مستوطنة “حميدية ولهلما” الألمانية، [22] والتي غيّروا اسمها إلى “بني عطروت”. كان مرور جيلٍ واحدٍ كافياً ليتخلّى مستوطنو “عطروت” عن “حلم العودة” إليها، بعد أن كانوا قد طوّروا سرديةً حول اللجوء والعودة ، عبّرت عنها المغنّاة:

“عطروت لنا
هي لنا ولنا
نحبّك يا عطروت
سلام يا عطروت
ذكراك ستفرحنا دائماً
سنعود إليك وإلى ذلك الحين إلى اللقاء”. [23] (ترجمة الكاتب)

أقام الصهاينة منطقةً صناعيّةً أسموها “عطروت” في منطقةٍ محاذيةٍ لمكان المستوطنة الأصليّ. والمفارقة أنّ “عطروت” الجديدة (المنطقة الصناعيّة) قامت على الفكرة النقيضة لعقيدة “احتلال العمل العبريّ”، والتي اعتنقها مستوطنو “عطروت” الأوائل بكلٍ راديكاليّةٍ، حيث كانوا قد شكّلوا لجنةً تأديبيةً لمحاسبة أحد أعضاء المستوطنة الذي وشى أحدهم عليه بأنّه يشغّل فلّاحاً من قلنديا في بساتين الكرمة التابعة للمستوطنة. [24]

قامت المنطقة الصناعيّة على مساحة 1460 دونماً صودر معظمها من أراضي بيت حنينا، من أحواض وادي الرام والمواحل والخرايب، وكان مخطّطاً الاستفادة من المطار المجاور للشحن الجويّ لمنتجات المنطقة الصناعيّة. تبدّل شكل الاستيطان في “عطروت”، لكن “عطروت” الثانية حافظت على دورها الوظيفيّ في تقوية الوجود الصهيونيّ في القدس، والذي أُنشئت من أجله قبل 100 عامٍ، والمتمثّل حينها بخلق عمقٍ جغرافيٍّ دفاعيٍّ شماليّ عن القدس اليهودية.

ولكن هذه المرّة بصفتها المنطقة الصناعيّة الأولى في القدس بعد احتلالها، وعبر دورها الاقتصادي في استخراج فائض القيمة من العمالة الفلسطينية لتدعيم اقتصاد القدس كـ”عاصمةٍ” للكيان. هذه “العاصمة” التي عانت منذ نشأتها من التناقض ما بين مكانتها التاريخيّة “والقوميّة” كـ “عاصمةٍ”، وما بين وضعها الاقتصادي المتردّي والمزمن مقارنةً بمنطقة “غوش دان”. فلا تزال هذه “العاصمة”، وبالرغم من مشاريع الدعم الحكوميّ، منطقةً طاردةً للسكان، بميزانٍ سلبيٍّ للهجرة الداخليّة؛ إذ إن عدد المستوطنين المهاجرين من القدس أكبر من عدد المهاجرين إليها، خاصةً بين الأزواج الشابة الصهيونيّة.

(صورةٌ لمول "عطروت"، ويظهر بجانبه مجمع "همشبير" القديم الذي تحوّل إلى مقرٍّ لقوات حرس الحدود الصهيونيّة)

“رامي ليفي”: “الحلوتس”* الجديد

في حفل افتتاح المجمّع التجاريّ في مطلع العام الحالي، استخدم “ليفي” مقولة “بن غوريون”: “هفرخت هشمما”، (أيّ إزهار الصحراء)، في وصف مهمّته الاستيطانيّة الجديدة في “عطروت”. لا يخفي “ليفي” دوافعه الأيديولوجيّة الاستيطانيّة في مشروعه الجديد، كما لم يُخفِ من قبل دوافعه عند افتتاح فرعه في مستوطنة “شاعر بنيامين” على أراضي قرية مخماس، وكذلك تدخّله لإنقاذ مشروع مستوطنة “نفي تصيون” في جبل المكبّر من الانهيار. ومع ذلك، لا يمكننا اختزال دوافعه بالأيديولوجيّا وإغفال الدوافع الاقتصاديّة لهذا الريادي الاقتصادي ورجل الأعمال “الاستثنائي”، [25] الذي بنى إمبراطوريته الماليّة والعقاريّة من الصفر في سوق “محنيه يهودا”.

لعلّ “ليفي” هو الرأسمالي الصهيونيّ الأكثر تأثيراً اجتماعيّاً في “إسرائيل”، كونه لاعباً رئيساً في مجال تحديد أسعار “السلّة الشرائية الأساسية”، حيث كان قد دخل في معارك طاحنةٍ ناجحةٍ مع كبريات الشركات الرأسماليّة (مثل شركة كوكاكولا وشركات الاتصال الخليوي وغيرها) من أجل خفض الأسعار لدعم الطبقات المسحوقة في الكيان. و”ليفي” مثله مثل المستوطنين الأوائل في بلادنا، الذين كان الاستيطان في فلسطين بالنسبة إليهم تجسيداً لأيديولوجيةٍ صهيونيةٍ، وفي الوقت ذاته فرصةً لصناعة مستقبلٍ شخصيٍّ أفضل في “بلادٍ جديدةٍ”. وتعدّ “عطروت” أهم الأمثلة التي تجسّد ذلك، فهي تتمتّع بوضعٍ خاصٍ من حيث الامتيازات الضرائبيّة، منحتها إيّاها حكومة العدوّ كمنطقةٍ ذات أولويّةٍ قوميّةٍ تطويريّةٍ، ودعماً لصمودها بعد أن تمكّنت المقاومة من إخلائها في الانتفاضتين الأولى والثانية، وتسجّل عمليتي الإخلاء الثالثة [26] والرابعة في تاريخها.

أضاف “ليفي” بُعداً أمنيّاً سياسيّاً لمشروعه في “عطروت” يتمثّل في كونه وسيلةً لتمتين السيادة الصهيونيّة على القدس الموحّدة من خلال جعل مشاريعه الاقتصادية وسيلةً للتعايش الفعلّي ما بين العرب واليهود . في إحدى المقابلات، يقول “ليفي” إنّ “القدس الموحّدة ستبقى تحت سيادة “شعب إسرائيل”، لكنّ التحدي يكمن في كيفية إدارة الخلاف بين مكوّنات المجتمع المقدسيّ بمكوناته الثلاث العلمانيّ- المتدين- والفلسطينيّ”. ويعتقد “ليفي” أنّ هذه الخلافات حُلّتْ وتُحلّ على الأرض في متاجره حيث تلتقي المصالح المعيشيّة، وتبقى الخلافات السياسيّة والأيديولوجيّة خارج المتجر.

في سياق التحرّر الوطني، عادةً ما يكون التناقض ما بين الوطن والطبقة الرأسماليّة – الكمبرادور، ولكنّ التحدي الكبير الذي يضعنا أمامه “رامي ليفي” هو تناقضٌ ما بين الوطن ومصلحة الطبقة المسحوقة الباحثة في “سوبرماركته” عن كيلو بندورة بـ “شيكل” في مقابل 10 “شواكل” في الحسبة، وأمام تحدٍ كهذا لا يكفي الخطاب الوعظيّ والتحشيديّ بالمقاطعة.

ضمن هذا السياق المركّب علينا أن نعي مشروع المجمّع التجاري الجديد لـ “رامي ليفي” بما يتجاوز الجانب التطبيعيّ السياسيّ فيه، حيث التطبيع هنا ذو طبيعةٍ أمنيّةٍ لحماية هذا المشروع الاستيطاني الاقتصادي، في وسطٍ مُعادٍ ومعزولٍ. فلا يكاد مستوطنو الأحياء الصهيونيّة في القدس يصلون منطقة “عطروت” لاعتبارتٍ أمنيّةٍ، على الرغم من كلّ التعزيزات الأمنيّة التي كان أهمّها تحويل مبنى “الهمشبير” التجاريّ القديم إلى مقرٍّ لسريّة حرس الحدود لحماية المنطقة الصناعيّة، [27] وخاصةً بعد إغلاق مطار قلنديا، الذي وصل عدد المسافرين خلاله إلى حوالي 70000 مسافرٍ قبل أن تغلقه الانتفاضة الثانية.

كنا قد تحدّثنا عن “عطروت” كموقعٍ لاستخراج فائض القيمة من العمالة الفلسطينيّة، وهنا يقوم المجمّع أيضاً بإكمال عملية الاستغلال من خلال تقصير دورة إعادة ضخّ ما يحصل عليه العمّال الفلسطينيون [28] في “عطروت” من أجورٍ، في “الاقتصاد الإسرائيلي”.

من القسطل إلى “عطروت”: العمارة الاستعماريّة في مشهدين

المشهد الأوّل

(مول " رامي ليفي" على جبل القسطل،و تظهر في الخلفية قلعة القسطل)

على جبل القسطل، تهيمن على المشهد عند خطّ الأفق قلعة القسطل يرفرف عليها العلم الصهيونيّ. ومنذ حرب النكبة، حوّل الصهاينة القلعة، وعبر سلسلةٍ طويلةٍ من عمليات الهندسة المكانيّة، إلى نصبٍ تذكاريٍّ كبيرٍ للانتصار الصهيوني الأهمّ في حرب النكبة باحتلال القسطل ومن ثمّ فكّ الحصار عن القدس. بقيت القلعة بعلمها تهيمن على المشهد في الطريق من القدس وإليها، إلى أن شيّد “رامي ليفي”، قبل سنتين، مجمّعه التجاريّ “كنيون مفيتسيرت” على القسطل. بهندسته المعماريّة عنيفة الحضور، يتربّع “مول رامي ليفي” ككتلةٍ حجريّةٍ مُصمتةٍ ومرصّعةٍ بعلامات الماركات التجاريّة، يعلوها علم “إسرائيل” الذي يبدو محاولةً يائسةً للتعويض عن حجب علم القلعة عن الأفق، وتأكيداً على هويّةٍ شكليّةٍ لمبنىً بلا هويّةٍ وبلا تاريخٍ.

المشهد الثاني

(واجهة مول "رامي ليفي" الرئيسيّة، خالد عودة الله، نيسان 2019)

في منطقة الِعقود من أراضي بيت حنينا المُصادرة، وعلى طريق القدس – نابلس التاريخيّ، شيّد “رامي ليفي” مجمّعه التجاري الثاني بعد القسطل، يجاور المبنى الحديث مبنى “الهمشبير” القديم الذي افتُتح في أواسط الثمانينيّات، وأغلقته الانتفاضة الأولى وتحوّل لمعسكرٍ لحرس الحدود ومركز توقيفٍ. يغطي الواجهة الرئيسيّة للمول قناعٌ من الزخرفة العربيّة الإسلاميّة “الأرابيسك” (الرَقش) في محاولةٍ لإعطاء المبنى هويّةً عربيّةً شكليّةً وظيفتها الانغماس في المحيط العدائيّ، تماماً مثل الملابس والملامح العربيّة التي يتنكر فيها المستعربون في عملياتهم الدمويّة في عمق المناطق العربية.

خاتمة

مع قرب افتتاح مول “رامي ليفي”، تعالت أصواتٌ صهيونيّةٌ عدّةٌ بأنّ الوجود اليهوديّ في شمال القدس بدأ ينهض من جديدٍ، في ظلّ أمن ما بعد الجدار، وبأنّ الوقت قد حان لإعادة بناء “عطروت” كمستوطنةٍ على أرض المطار المُغلق.
في يوم الافتتاح، أُلقيت زجاجاتٌ حارقةٌ من فوق الجدار على مول “عطروت”،
أصرّ فلسطينيٌّ أن يُفسد الاحتفال ويُبقيَ المعركة المستمرّة منذ 100 عامٍ مع “عطروت” مفتوحةً…

لقراءة وتحميل هذا المقال بصيغة (pdf)، من هنا

****

* “الحلوتس”: مسمّى صهيونيّ أُطلق على المستوطنين الصهاينة الأوائل في بلادنا فلسطين، ويعني المستوطن المُبادر والمُجازف الذي يصلُ أرضاً جديدةً خربةً فيعمّرها ويتحدّى الصعاب ويذلّلها كي يفتح الطريق لمن بعده.

الهوامش:

[1] للاطلاع على مدخلٍ أوليٍّ حول مسألة بيع الأراضي للصهاينة اُنظر مقدّمة “أطلس فلسطين 1917-1966″ لسلمان أبو ستة، و”القوى الاجتماعيّة في فلسطين: فيما بين الحربين العالميتين” لعادل حسن غنيم.
[2] بلغت مساحة مستوطنة “عطروت” بحسب “إحصاءات القرى للعام 1945” 433 دونماً. اُنظر: أبو ستة، سلمان. أطلس فلسطين 1917-1966. لندن: هيئة أرض فلسطين، 2011. ص 36.
[3] פז, יאיר, בן אריה, יהושע. (1992). רכישת קרקעות על ידי יהודים בסביבות ירושלים בין השנים 1920-1932. ص 19، يصعب التأكّد من المساحة الدقيقة للأراضي التي اشتراها الصهاينة في منطقة قلنديا من المصادر المحليّة لأسبابٍ لا تخفى على القارئ.
[4] דנון, רות. (2007). עטרות : מושב ראשון בהרי יהודה (אריאל ; 177-178). ירושלים: אריאל. ص 23.
[5] גולדשטין, יוסף. אשכול – ביוגרפיה. ירושלים: כטר 2003. الفصل الثالث.
[6]  مصدر سابق، ص 35.
[7] ערמון, יצחק, & סתר, עדו. (1965). לוי אשכול. תל-אביב: עם עובד.
[8] דנון, רות. (2007). עטרות : מושב ראשון בהרי יהודה (אריאל ; 177-178). ירושלים: אריאל. ص 25.
[9] مصدر سابق، ص 33.
[10] אלי שילר. קרדום: דו ירחון לידיעת הארץ – ירושלים הבלתי ידועה. מקום ההוצאה: ירושלים. שם ההוצאה: הוצאת ספרים אריאל. שנת ההוצאה: תשמ”א – 1981. עמוד: 111.
[11] סקירה, מאזן – עטרות, מושב עובדים להתישבות שתופית (1935-1937)
[12] דנון, רות. (2007). עטרות : מושב ראשון בהרי יהודה (אריאל ; 177-178). ירושלים: אריאל. ص 155
[13] للمزيد من التفاصيل، اُنظر : نكبة فلسطين والفردوس المفقود لعارف العارف ج 1، ص 117.
[14] שטרייט-וורצל،אסתר.עטרות.2006.נתניה : עמיחי. ص 250
[15] عارف العارف ج 1، ص 133-134
[16] يقول العديد من مستوطني “عطروت” الأوائل إنّ العرب المحيطين بها كانوا يلقّبون “ينكِل” بـ “الشاطر”.
[17] שטרייט-וורצל،אסתר.עטרות.2006.נתניה : עמיחי. ص338
[18]“הבכייה לדורות”
[19] اُنظر : אביטל-אפשטיין, גדעון, גרין, שגיא, & חזנוביץ, רותי. (2017). 67′, ירושלים, מלחמה. ص 196-195.
[20] مرجع سابق، ص 349.
[21] בנבנשתי, מירון, (1987). לקסיקון יהודה ושומרון : יישובים, מינהל וחברה. ירושלים: כנה. ص 135.
[22] مستوطنةٌ أقامها الهيكليون الألمان على أراضي قرية العبّاسيّة، قضاء يافا، في عام 1902، وسمّيت باسم السلطان عبد الحميد الثاني والقيصر “ولهايم” الثاني.
[23] للاطلاع على المغناة الكاملة باللغة العبريّة اُنظر هنا 
[24] דנון, רות. (2007). עטרות : מושב ראשון בהרי יהודה (אריאל ; 177-178). ירושלים: אריאל. ص 128.
[25] يتمّ استضافت “رامي “ليفي” كمحاضرٍ من “نوعٍ مغايرٍ” من خارج الأكاديميا في كليات إدارة الأعمال الصهيونيّة.
[26] في الانتفاضة الثانية، أنجزت المقاومة الإخلاء الثالث لـ”عطروت” بعد إغلاق مطارها ونقل معظم المصانع مقرّاتها إلى مستوطنة “بيت شيمش”.
[27] يمكننا القول إنّ “مول رامي ليفي” الجديد في “عطروت”، هو وريث محاولة شركة “همشبير” فتح مجمّعٍ تجاريٍّ للعرب في “عطروت”، في أواسط الثمانينيّات، ولكنّها فشلت بسبب اندلاع الانتفاضة الأولى، وحاول “تيدي كوليك” إعادة إحياء المبنى خلال الانتفاضة بتأجيره لرجل أعمالٍ عربيٍّ معروفٍ بعلاقاته الوطيدة مع الاحتلال ولكنّ المحاولة لم تخرج إلى حيز التنفيذ.
[28] بحسب إحصائيات العام 2015، فإنّ 80 % من القوى العاملة “المقدسيّة” (اليهود والعرب) هم من فلسطينيّي ”القدس الشرقية “، وهي النسبة الأعلى ما بين كل أماكن العمل في القدس. أنظر: שילוב תעסוקתי במציאות נפיצה، מריק שטרן (2015 )، מכון ירושלים לחקר ישראל.