يُحتفى بهذا النموذج وهذا الفهم للاستعمار الاستيطاني مؤخراً من قبل العديد من الباحثين الفلسطينيين والصهاينة وغيرهم، على اعتبار أنّه النموذج الأفضل الذي جادت به الأكاديميا “أخيراً” لفهم ماضي وحاضر ومستقبل فلسطين. ويقترحون مشاريع وطنية ووسائل نضال جديدة بناءً على هذا الفهم المدعّم بدراسات وتنظيرات من باترك وولف نفسه، بالإضافة إلى الباحث الأسترالي الأبيض لورينزو فيراتشيني، والذي له العديد من الكتابات عن فلسطين، يحاول من خلالها تطوير إطار نظري للاستعمار الاستيطاني، وتقديم اقتراحات وحلول “لحل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني”، كما يقول.

مقدمة

في الجزء الأول من هذه الورقة قدّمتُ باختصار نموذج “منطق الإبادة” – الذي صاغه وولف من خلال دراسته للتجربة الاستعمارية في أستراليا – وهو نموذج يؤكد على مركزية السيطرة على الأرض لدى المستعمر المستوطن الذي جاء ليبقى دون عودة، ومحورية الإبادة المادية والثقافية والسياسية والمجتمعية لأهل البلاد.

حسب هذه الرؤية، لا يقبل الاستعمار الاستيطاني القسمة على اثنين، فهو يسير في خطٍّ مستقيمٍ أبديٍّ، ولا ينتهي زمانياً ولا مكانياً، لأنّه عصيٌّ على المقاومة أو التغيير، كما يؤكد وولف وفيراتشيني، وغيرهم في العديد من الدراسات والمحاضرات. تتلخص الفرضيات المؤسسة لهذا النموذج كما ذكرت سابقاً بـالهزيمة الأبدية والساحقة لأهل البلاد، وأزلية الاستعمار الاستيطاني.

يُحتفى بهذا النموذج وهذا الفهم للاستعمار الاستيطاني مؤخراً من قبل العديد من الباحثين الفلسطينيين والصهاينة وغيرهم، على اعتبار أنّه النموذج الأفضل الذي جادت به الأكاديميا “أخيراً” لفهم ماضي وحاضر ومستقبل فلسطين. ويقترحون مشاريع وطنية ووسائل نضال جديدة بناءً على هذا الفهم المدعّم بدراسات وتنظيرات من باترك وولف نفسه، بالإضافة إلى الباحث الأسترالي الأبيض لورينزو فيراتشيني، والذي له العديد من الكتابات عن فلسطين، يحاول من خلالها تطوير إطار نظري للاستعمار الاستيطاني، وتقديم اقتراحات وحلول “لحل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني”، كما يقول.

المنطلق الأساسي لهذه الورقة هو الوعي بالعلاقة ما بين المعرفة والاستعمار الأوروبيين، خلال 500 عام، وهي علاقة حاكمة ومؤطرة لا يمكن تجاهلها في تقييم الأفكار والأطر التحليلية، ولا يمكن اختزالها بالتفسير المؤامراتي الفجٰ، كما ناقش العديد من الفلاسفة والباحثين. فالمعرفة، كما هي أداة تحرر، يمكنها كذلك أن تكون أداة استعمار تعزز الاستعمار وتعيد إنتاجه تحت مسميات البحث العلمي والموضوعية المعرفية، وتقبل الأمر الواقع، والبراغماتية، ومفاهيم الأخلاق والإنسانية (الغربية الأوروبية بطبيعة الحال). 

وعلى الرغم من أنّ هذا الحقل المعرفي لا يزال جديداً وفي طور التشكّل، إلا أنّ الفهم البنيوي (الفهم بأن الاستعمار بنية وليس حدثاً) القائم على منطق الإبادة والفرضيات المؤسسة لهذا النموذج، (والتي تستبطن القناعة بهزيمة أهل البلاد وأصحاب الأرض وأبدية الاستعمار، وأن عجلة الزمن لا يمكن إرجاعها الى الوراء)، فَرَضَ نفسَه على طبيعة الأسئلة والقضايا والحلول التي اشتغل فيها الباحثون الذين تبنوا هذا النموذج لدراسة الحالة الفلسطينية.

ومن هنا يمكن رصد بعض الثيمات المشتركة، التي سنناقش من خلالها إشكالية المعرفي والاستعماري والسياسي في هذا النموذج. كما ذكرت سابقاً، أنا أدعي بأن هذا النموذج يعزز الاستعمار في فلسطين من خلال تأكيد رواية المستعمر: المستوطن جاء ليبقى، و”إسرائيل” أبدية. الأخطر من ذلك هو إطار الدعوة إلى فقدان الأمل، الدعوة إلى الانتحار وإلى التسليم بأمر المستعمر المستوطن “الذي لا وطن له سوى وطننا”.

بطبيعة الحال لا أدّعي في هذه الورقة بأنّ كل ما كُتب إشكاليّ أو ينطبق عليه الوصف أعلاه، أو بأنّ العدو الصهيوني لا ينطبق عليه ما وصفه هؤلاء الباحثون من صفات عنف وإبادة. القضية الأساسية هنا هي أنّ هذا الإطار الذي نشأ بناءً على فهم الحالة الاستعمارية في أستراليا، والذي صاغه باحثون مستوطنون بيض، من خلال أطر معرفية غربية قائمة على أسس عنصرية مستمدة من منطق الثغور (frontier) (القائم على ثنائية الأوروبي الأبيض المتحضر والآخر المتخلف) ولها باع طويل في تبرير وتعزيز الاستعمار، لا يتضمن فقط إشكاليات معرفية ومنهجية، بل يتضمن أيضاً إمكانية تعزيز الاستعمار الصهيوني من خلال تقديم حلول لإشكاليات القلق الوجودي للعدو الصهيوني كما سيناقش الجزء الأخير من هذه الورقة.

إنّ حضور سؤال علاقة الاستعماري بالمعرفي عند دراسة استعمار راهن (والأهمّ أن هذا الاستعمار على أرضنا لا على كوكب آخر) ليس فقط أمراً حكيماً بل هو أيضاً مسؤولية أخلاقية وسياسية.

 لا تقدم هذه الورقة مراجعة شاملة لكل ما كتب عن فلسطين وعن منطق الإبادة، بل تركز هنا على بعض إصدارات مجلة دراسات الاستعمار الاستيطاني، والكتابات التي تدعو إلى تبني هذا النموذج لمقاربة الحالة الاستعمارية في فلسطين.

ومن أجل تنظيم محاور النقاش، سأبدأ في هذا الجزء بالفرضيتين المؤسستين لهذه الأدبيات في دراسة الحالة الاستعمارية في فلسطين: تفرّد منطق الإبادة واستحالة التحرر في فلسطين. من ثم سأقدم الأفكار والمقترحات، التي قدّمها باحثون فلسطينيون وغيرهم، لصياغة مشروع وطني يستند إلى منظور منطق الإبادة الذي طوره باترك وولف ولورينزو فيراتشيني وغيرهم.

تفرد منطق الإبادة الصهيوني

يؤكد باترك وولف على مركزية وتفرّد منطق الإبادة في دراسة الحالة الصهيونية تحديداً. ففي مقال طويل عن الاستعمار الاستيطاني في فلسطين يؤكد وولف على أهمية مفهوم منطق الإبادة من الناحيتين التحليلية والسياسية. تحليلياً، وبالاستناد إلى هذا النموذج، يرى وولف النكبة على أنّها تكثيف لعملية سابقة لا حدثاً عابراً أو اضطرارياً، بل عملية تراكمية طويلة فصّلها وولف في مقالة كاملة.  

ويفهم وولف الحالة الصهيونية كحالة استعمار استيطاني مكثفة لا مثيل لها على الإطلاق؛  حيث يكمن منطق الإبادة في أوضح تجلياته في الحالة الصهيونية، والتي على الرغم من تقاطعها مع المشاريع الاستيطانية الأخرى (أستراليا والولايات المتحدة الأمريكية)، إلا أنّها المشروع الأكثر حصرية، والذي يتفوق على ما سبقه من مشاريع. يخبرنا وولف على سبيل المثال إنّ ما حدث عام 1948 يٌقزم بعضاً مما حدث في أستراليا[1].

بل أكثر من ذلك، حيث من الممكن تخيل إعادة تسمية بعض المواقع في أستراليا إلى اسمها الأول كما عرفه أهل البلاد، لكن من المستحيل حتى تخيل إعادة تسمية جفعات شاؤول بدير ياسين على سبيل المثال (فما بالكم إعادة تسمية “إسرائيل” بفلسطين). يخبرنا وولف بأنّ ما حدث ويحدث وسيحدث للفلسطينيين لا يُذكَر أمام الحالة الاستعمارية في أستراليا مثلاً؛ إنّ سياسات التذويب والاستيعاب لأهل البلاد هناك هي رفاهية لا تتوفر للفلسطيني، فالمستوطن الصهيوني لا يريد تهويدنا مثلاً كما فعل المستعمر الأبيض في أستراليا أو الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال إجبار أهل البلاد على اعتناق المسيحية، فالاستعمار الاستيطاني في فلسطين حصراً يهودي. يعني ذلك أنّ الإبادة هي الخيار الوحيد المتوفر للفلسطيني الذي لا يزال في حالة المواجهة  frontier situation مع هذا المشروع منذ 135 عاماً.

على الصعيد المنهجي، هذا التجلي لمنطق الإبادة كما يقول وولف يجعل من الصهيونية أرشيفاً ومكاناً مهماً للباحثين والمهتمين بدراسة منطق الاستعمار الاستيطاني، وبالتالي يمكنهم من تقديم رؤى سياسية بناءً على هذا الفهم كما ستناقش هذه الورقة لاحقاً.

بطبيعة الحال، فإن التركيز على تفرّد منطق الإبادة في فلسطين دفع العديد من الباحثين إلى تركيز أسئلتهم البحثية حول هذا المنطق وكيفية عمله. فلسطين في عيون “منطق الإبادة” هي شيء لا يمكن حتى تخيله. في إحدى الأوراق التي نشرتها مجلة دراسات الاستعمار الاستيطاني في عددها الأول الخاصّ عن الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، يكتب ديفيد لويد عن إشكالية تواجهه كل مرة يكتب فيها عن فلسطين، فهو لا يستطيع أن يتخيلها دون أن يتخيل معها ما يلغيها، يعني “إسرائيل”. فلسطين في هذه الأدبيات هي مناطق ممزقة، هشة، خواء، والفلسطيني عاجز عن الفعل وبلا تاريخ، حيث يظهر تاريخ البلاد كتاريخ للغزو، وكأنٰ الاستعمار يقوم بفعله بسلاسة مطلقة بدون عوائق ومقاومة.

استحالة التحرر من الاستعمار

 كما ذكرت في الجزء الأول، إنّ أدبيات دراسات الاستعمار الاستيطاني تقضي باستحالة التغيير أو التحرر من الاستعمار الاستيطاني. على سبيل المثال، يشرح فيراتشيني في كتاب عن راهن الاستعمار الاستيطاني (2015) إشكالية التحرر من الاستعمار الاستيطاني من خلال استعارة من علم الأمراض، ويعقد مقارنة ما بين الخلية الفيروسية (الاستعمار الاستغلالي) والخلية الميكروبية (الاستعمار الاستيطاني)، ويقول فيراتشيني بأنّه على الرغم من أنّ البكتيريا والفيروس كائنات دخيلة على الجسد (جاءت من الخارج exogenous)، إلا أنّ هناك اختلافاً جوهرياً بينهما حسب رأيه؛ ففي حين يحتاج الفيروس إلى خلايا حية ليستمر في العمل، فإن البكتيريا لا تحتاج إلى ذلك. ناقش فيراتشيني هذه “المعضلة” بشكل خاص في دراسة الحالة الفلسطينية التي تثبت صحة استنتاجه كما يدعي (استحالة التحرر من الاستعمار).

يقارن فيراتشيني في أكثر من دراسة بين العدو الصهيوني من جهة، وحالات استعمارية أخرى مثل الجزائر الفرنسية وأستراليا وغيرها من جهة أخرى. هذا التنظير يخبرنا بأنّ “إسرائيل” لا تُهزم، وباستحالة النموذج الجزائري تحديداً أو حتى الجنوب الإفريقي في الحالة الفلسطينية، وأنّ النموذج الأكثر قرباً هو النموذج الأمريكي أو الأسترالي كما قال فيراتشيني مراراً وتكراراً.

في إحدى هذه الدراسات يقارن ما بين العدوّ الصهيوني وأستراليا لفهم سبب فشل “عملية السلام” في البلدين. يستنتج فيراتشيني بأن الإشكالية تكمن بأنّ إعادة الأرض ما زال طابو وخطاً أحمر بالنسبة للأسترالي الأبيض والمستوطن الصهيوني، فالموضوع لا يتعلق بإرادة سياسية، المسألة مسألة بقاء أو زوال. بناءً عليه، يؤكد فيراتشيني استحالة إسقاط نموذج زيمبابوي مثلاً على كل من أستراليا و”إسرائيل”، لأنّ  نهاية الاستعمار الاستيطاني (في أستراليا أو فلسطين) تعني نهاية كل شيء، أيّ نهاية العالم. وفي سبيل إقناعنا، يُذكّرنا فيراتشيني بألبير كامو، صاحب الطاعون وسيزيف ومنظر العبثية واللاجدوى؛ بعبارة أخرى، العدو الصهيوني “قدر محتوم. إذا تحررت أستراليا، تتحرر فلسطين”.

الماضي والحاضر والمستقبل

كما ذكرت سابقاً، فقد استُقبِل هذا النموذج بحفاوة من قبل العديد من الباحثين والناشطين المهتمين بالشأن الفلسطيني. كتب سلامانكا وزملاؤه مرحبين بهذا الإطار، داعين إلى استعادة منظور الاستعمار الاستيطاني لدراسة الحالة الاستعمارية في فلسطين. إذ يُمكّننا هذا الإطار، كما يقولون، من فهم النكبة كبنية مستمرة لم تتوقف، فالنكبة ليست حدثاً انتهى في عام 1948، النكبة لا تزال تحدث كل يوم وكل لحظة؛ هذا الفهم، كما يقول سلامانكا، يُمكّننا من صياغة أجندة بحث تحرّرية، إذ من المهم تحليل هذه الهيكلية المستمرة (في المكان والزمان) للحركة الصهيونية وتحليل الأيدولوجية التي تغذّي سياسات وممارسات العدو الصهيوني تجاه الفلسطينيين في كل مكان.

وللتأكيد على هذه الأهمية، يخبرنا سلامانكا وزملاؤه بأنّنا نستطيع من خلال هذا النموذج قراءة ماضينا وحاضرنا (نكبة مستمرة)، وقراءة أنفسنا وعدونا (مهزومين أمام عدو لا يقهر)؛ يقتبس سلامانكا وولف ويقول: “كما يقول وولف، فإنّ الأمر بالنسبة للسكان الأصليين هو بيد المستوطنين، أي الإبادة (مادياً ومعنوياً)”.

وتسليماً بهذه المقولة، يؤكد سلامانكا أنّ السؤال المركزي للدراسات المهتمة بالقضية وحركات التحرر هو كيف يمكن أنّ نطور شيئاً عملياً من أجل أنّ يصبح التحرر من الاستعمار هو الهدف الرئيسي. الجواب هو نموذج منطق الإبادة كما طوره وولف، يقول سلامانكا؛ فهذا الإطار قادر على أن يقدم أجوبة تحليلية سياسية لقراءة واقع فلسطين اليوم، تتحدى استثنائية العدو الصهيوني (وتحرجها أمام العالم) وتقوم بمقارنتها بجنوب إفريقيا/ روديسا/ الجزائر الفرنسية، كندا، أستراليا والولايات المتحدة الأمريكية.

وبالطبع، يؤكد الباحثون أنّ هذا النموذج مهمٌ للفلسطينيين لأنه يؤكد على حقيقة أنّهم “سكان أصليون” (التي تستحضر المتحف وأشباح من الماضي). بالإضافة إلى ذلك، يمكن لهذا النموذج أنّ يشكل أداة سياسية مؤثرة كما يؤكد سلامانكا وزملاؤه، من خلال إعادة خلق وإعادة توجيه التحالفات السياسية والأخوة السياسية والتضامن مع الفلسطينيين ضدّ العدوان الصهيوني؛ فهذا النموذج يقدّم فرصة من أجل خلق تجمعات وتحركات جديدة للنضال المشترك من أجل تقرير المصير، وخلق تضامن مشترك مع “السكان الأصليين” في القارة الأمريكية (شمالاً وجنوباً) وأوقيانوسيا وغيرها من أجل النضال ضدّ كل أشكال الاستعمار والإمبريالية والعنصرية. 

يعتقد آخرون أنّ هذا النموذج يقدم أجوبة مهمة لفهم الماضي،[2] إذ يؤكد بابيه بأنّه يُمكّننا من قراءة صحيحة “للنزاع”  في فلسطين. يفسر بابيه أكثر ويقول إذا ما نظرنا إلى الأكاديميا أو السياسيين، نرى بأنّهم لا يفهمون الحالة في فلسطين كحالة استيطان، بل يتعاملون معها على أنّها “حالة صراع بين حركتين وطنيتين”، وهذا الفهم الخاطئ حسب بابيه أدى إلى اقتراحات خاطئة لحلّ “النزاع” في فلسطين.

إضافة أخرى لهذا النموذج، كما يكمل بابيه، هو أنّه يؤكد استحالة حلّ الدولتين، فكما أكدّ وولف وغيره، الاستعمار الاستيطاني لا يقبل القسمة على اثنين. الحالة الصهيونية هي حالة فريدة من الاستعمار الاستيطاني والأبارتهايد في الوقت ذاته، بسبب الخاصية العرقية اليهودية التي تقوم عليها الصهيونية. ويختم بابيه بأنّ المسؤولية تقع على عاتق الأكاديميين بالتوضيح  للعالم بأنّ من تعتقدون بأنّها الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط هي على العكس من ذلك تماماً.

تكمن المشكلة، حسب بابيه، في أنّ العالم لا يتعامل مع “إسرائيل” على أنّها دولة استعمار، فهم لا يعلمون. هناك الكثير من العمل الذي يجب القيام به لإقناع مراكز صنع المعرفة في الغرب بأنّ إسرائيل دولة استعمار استيطاني. هذا الأمر مهم جداً ليس فقط في الأكاديميا، بل سياسياً وأخلاقياً أيضاً، كما يؤكد بابيه، الذي يهدف في ورقته إلى تحدي الادعاءات بديموقراطية وتحضّر العدو الصهيوني وإحراجها أمام الرجل الأبيض، وتحدي مناعة العدو الصهيوني في العالم لأي محاسبة أو مساءلة.

أما فيراتشيني، المتشائم من أي إمكانية للتحرر من الاستعمار الاستيطاني، فيعتقد بأنّ نموذج الاستعمار الاستيطاني لديه بعض ما يقدمه “لحل النزاع” في ما يسميه “إسرائيل\فلسطين”، والذي يمكن تلخيصه في ما يلي:

أولاً، يُمكّننا هذا النموذج من فهم الحالة الاستعمارية التي أمامنا بشكل صحيح. وبالتالي، يوضح فيراتشيني  أن “صراع” فلسطين الكبرى تمّ حله عام 1948″، كما أنّ الصهاينة كغيرهم من المستعمرين المستوطنين السابقين جاءوا ليبقوا ونجحوا في ذلك بشكل حاسم. لهذا السبب كما يقول فيراتشيني “لم تعد تحقق إسرائيل انتصارات لأنّها ليست بحاجة إلى ذلك (فالموضوع حُسِم عام 1948)”؛ لكنّ الإشكالية حسب رأيه هي نتاج هذا النصر المحقق لإسرائيل والهزيمة للطرف الأخر – الذي لا يذكره فيراتشيني.

النقطة الثانية مرتبطة بالأولى، فبناءً على هذا الفهم للحالة الاستعمارية في فلسطين (نصرٌ حاسمٌ للعدو، هزيمةٌ ساحقةٌ للفلسطينيين، والمستوطن جاء ليبقى) نستطيع من خلال هذا النموذج، حسب ادعاء فيراتشيني، النظر إلى ما وراء حالة المواجهة والصدام ما بين “الإسرائيليين” والفلسطينيين. فحسب هذا الفهم، تكون دراسات الاستعمار الاستيطاني قادرة على أنّ تقدم تفسيراً لسؤال “لماذا يعدّ المشروع الاستعماري الاستيطاني في فلسطين غير قادر على الانتهاء بعد، كما فعل غيره من المستعمرين المستوطنين؟” (انتهاء الاستعمار الاستيطاني كما هو في الجزء الأول).

ثالثاً، تُمكّننا دراسات الاستعمار الاستيطاني أيضاً من فهم الصهيونية- والتي يعتقد فيراتشيني أنّها ظهرت كردّ على معاداة السامية- إذ يشرح فيراتشيني بأنّ الاستيطان هو الفكرة الأساسية لدى الصهيونية، فهو ليس وسيلة للوصول لغاية ما، وليس أمراً يتعلق بالدولة، الاستيطان هو الغاية بحدّ ذاتها. نستطيع من خلال هذا الفهم، كما يدّعي فيراتشيني، تحليل “النزاع” بشكل أفضل، وتفسير الادعاءات الصهيونية مثل أرض الميعاد وشعب الله المختار.

كما ويؤكد فيراتشيني أنّه ليس معادياً للسامية، ويوضح أنّ جميع المستوطنين يملكون ادعاءات مشابهة لإثبات “أصلانيتهم” indigeneity وهذا ليس بالشيء الجديد، فالصهاينة ليسوا “سكاناً أصليين”، وعلى الرغم من أنّهم يعملون على تثبيت هذا الادعاء(الأصلانية)، إلا أنهم لن يتمكنوا أبداً من أن يصبحوا سكاناً أصليين.

بالتالي القضية أو السؤال الذي يطرحه فيراتشيني هو كيف يمكن أن يصبح الشخص أصلانياً بشكل فعال “[t]he question then is how to be efficient self-indigenisers.؟ الجواب الذي يقدمه فيراتشيني هو تغيير السرديات المؤسسة للاستعمار الاستيطاني، فبعض السرديات الجديدة يجب أن تقال، وبعضها على العكس يجب أن يُمحى، من أجل المواجهة والاعتراف بما يسميه فيراتشيني “العنف المؤسس”: يقول فيراتشيني إنّه لا يمكن أن يصبح المستعمر أصلانياً دون أن يعترف بالوجود الجماعي “للسكان الأصليين”، فالاعتراف بالوجود الفلسطيني، يضيف فيراتشيني، أكثر فعالية في تأصيل المستعمر من قمع الفلسطينيين.[3]

على كل حال، لا يخبرنا سلامانكا ولا زملاؤه كيف يمكن أن يطور أي شخص أجندة تحرر وطني تستند إلى نموذج نظري يستبطن استحالة التحرر من الاستعمار الاستيطاني، لأن “الأمر بيد المستوطن”، كما يؤكد اقتباس وولف الذي يعتمده سلامانكا. كيف من الممكن صياغة سؤال تحرري في فلسطين بالاستناد إلى نموذج يدعو إلى إعادة تعريف التحرر من الاستعمار بناء على دراسته للحالة الاستعمارية في أستراليا؟

ما الحل؟

حاول آخرون تقديم إجابة على هذا السؤال، فمثلاً في دراسة منشورة في مجلة الدراسات الفلسطينية بعنوان: “المشروع الوطني الفلسطيني: نحو استعادة الإطار الكولونيالي الاستيطاني” (2014)، ينتقد نديم روحانا “المنظومة الفكرية التي أوصلت الحركة الوطنية الفلسطينية إلى طريق مسدود”، أولاً لأنّها اعتمدت النموذج الخطأ، ألا وهو النموذج الجزائري، ومن ثمّ “منظومة الصراع القومي” التي أوصلتنا إلى حل الدولتين، في حين “استمر الإسرائيليون في التعامل مع الصراع كأنّه صراع كولونيالي”.[4]

يشرح روحانا بأنّ الحركة الوطنية الفلسطينية انتقلت في تاريخها ما بين نموذجين في التعامل مع العدو الصهيوني: نموذج الاستعمار، ونموذج الصراع القومي الذي أوصلنا إلى طريق مسدود. لكن وعلى الرغم من هذا التحول ما بين النموذجين، يعتقد روحانا أنّ الفلسطيني كان على خطأ في الحالتين بشكل أو بآخر؛ يوضح روحانا ذلك قائلاً: “لماذا تعاملنا في صراعنا مع الصهيونية ضمن إطارين مختلفين؟ ولماذا لم يطرح أي فصيل فلسطيني حتى أواسط السبعينات أي تحدٍ فلسطيني لمنظومة الفهم الكولونيالي للصراع؟ الجواب: لأننا كنّا على حق ولكنّنا في الوقت نفسه أهملنا مركباً مركزياً في الصراع وهو الشعب الإسرائيلي، ومدى استعدادنا لأخذه في الحسبان في أي مشروع وطني نقترحه”[5].

يؤكد روحانا في ورقته على خطورة حلّ الدولتين، ويدعو بالاستناد إلى نموذج الاستعمار الاستيطاني إلى البدء “بتفكير سياسي وأكاديمي يقود إلى بدائل عن التقسيم، وإلى العمل على مشروع وطني فلسطيني تحرري يُحدد أهدافه بهزيمة الكولونيالية الاستيطانية، واستبدالها بوطن يشارك الفلسطينيون والإسرائيليون في بنائه على أسس من المساواة والأمن الجماعي، والتخلص من الامتيازات الكولونيالية، والمشاركة في الحكم، واتباع وسائل نضالية تتلاءم مع هذا المشروع”.

بطبيعة الحال، من أجل اتباع وسائل نضالية تتلاءم مع المشروع الصهيوني يجب بالضرورة فهمه أولاً، إذ يؤكد روحانا على أنّ الصهيونية مشروع استعماري استيطاني شبيه بالمشاريع الاستعمارية في الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا، لكن هناك ثلاث نقاط مركزية يختلف فيها المشروع الصهيوني عن المشاريع الاستيطانية الأخرى، كما يقول روحانا، وهي قضايا يعتقد روحانا “لا خيار للشعب الفلسطيني إلا التعامل معها”، وهي:

أولاً: لا يوجد للمشروع الصهيوني الاستيطاني على أرض فلسطين وطن أمّ. أدى عدم إدراكنا لهذه النقطة، كما يؤكد روحانا، إلى ارتكاب “خطأ جسيم” من خلال اعتماد النموذج الجزائري (الثورة الجزائرية التي حررت أرض الجزائر بعد 150 عاماً من الاستعمار حيث عاد المستعمرون من حيث جاءوا)؛ هذا الخطأ أوصلنا إلى “إحباط مطلق وباب موصود”،  لذلك وبناءً على هذا الفهم “فإن أي مشروع جديد يجب أن يتعامل بجرأة وبوضوح مع الشعب الإسرائيلي كشريك مستقبلي في الصراع ضد الكولونيالية”(ص 27 من المقال).

ثانياً: لا مفرّ للفلسطيني من فهمه بأنّ الحركة الصهيونية الاستعمارية هي أيضاً حركة قومية، هذا لا يعني- كما يقول روحانا- أنّ للصهيونية حقاً في أرض فلسطين، لكن يجب أن نأخذ دائماً بعين الاعتبار أنّ للصهيونية جانباً استعمارياً طاغياً وجانباً قومياً أيضاً.

ثالثاً: علينا أن نأخذ في الحسبان أيضاً مركزية المركّب الديني للحركة الصهيونية، والذي يتداخل مع المركّب القومي، هذه القضية مهمة جداً لأنّها، كما يوضّح روحانا، تزيد من استعداد الصهيونية “لاقتراف أعمال عنف أكثر تطرفاً في حال انزلاق الصراع إلى مساحات تبريرية دينية” ص28 (هذه النقطة تحديداً مهمة عند التفكير في وسائل المقاومة الجديدة التي يقدمها روحانا).

من المهم أن نُبقي هذه النقاط الثلاث، كما يخبرنا روحانا، نصب أعيننا كلما فكرنا في مواجهة العدو الصهيوني، ويجب أن نتذكر بأنّ المستوطن لن يذهب إلى مكان آخر (ففلسطين ليست الجزائر)، و”الشعب الإسرائيلي” كباقي الشعوب له مميزات الشعوب الأخرى. وأخيراً، فإنّ اليمين الصهيوني الذي يشرعن العنف على أسس دينية وإلهية مؤثر جداً في وقتنا الراهن على الرؤية المركزية  للمشروع الاستعماري في فلسطين. ويذكّرنا روحانا بجدار جابوتنسكي الحديدي الحاضر أبداً، والذي يشكّل العمود الفقري لسياسات العدو الصهيوني على أرض  فلسطين.

بعد الأخذ بعين الاعتبار هذه النقاط الثلاث التي يتميّز فيها العدوّ الصهيوني عن غيره من مشاريع استيطانية، يقترح روحانا الحلّ: “هنالك أسس جديدة تجدر مراجعتها عند الحديث عن مشروع وطنيّ يصبح مشروعاً فلسطينياً تشدّ إليه الأجيال الشابة من الشعب الفلسطيني ويُقدم بديلاً إنسانياً للعلاقات الكولونيالية الحالية بين الإسرائيلي والفلسطيني داخل فلسطين وخارجها، ويحظى بتأييد فلسطيني وبتأييد شعوب العالم ونخبهم بما في ذلك العالم الغربي، ويجعل القضية الفلسطينية قضية مركزية في ضمير العالم، مثلما كانت قضية التحرر من الأبارتهايد في جنوب إفريقيا، ويجند الفلسطيني والإسرائيلي للتضحية من أجلها”[6].

هذه الأسس كما يذكرها روحانا هي التالي:

الأساس الأول لأي مشروع مستقبلي فلسطيني يجب أن يرتكز على الشعب الفلسطيني وليس على الدولة الفلسطينية، هذا يعني أنه: “إذا كان الفلسطينيون يريدون الوطن الفلسطيني، فإنهم لن يتمكنوا من إقامة دولة فلسطينية عليه. إنّ استرداد الوطن الفلسطيني لن يكون وفق النموذج الجزائري أو نموذج العودة والتحرير، إنما سيكون باسترداد الوطن بمن عليه، الشعب اليهودي الإسرائيلي. وبذلك فإنّ الدولة ستكون للفلسطينيين والإسرائيليين لكنّها ستعطي الفلسطينيين كل ما تعطيه دولة\وطن (nation/state) . ولذلك من المهم الحديث بوضوح عن مكان الإسرائيلي في التفكير السياسي المناهض للكولونيالية، والذي يسعى لحل أنقاضها”.[7]

الأساس الثاني، حسب روحانا: “يرتكز إلى جميع الأسس الإنسانية، ويقوم على المساواة السياسية والمشاركة في وطن مشترك”. إذ إنّ أي مشروع مستقبلي في فلسطين يجب أن يشمل “الشعب الإسرائيلي”، فهذا هو واقع الأمر وعلينا أن نعترف به و نتعامل معه، لقد فشلنا وهُزمنا بينما نجحت وانتصرت الصهيونية، هكذا يؤكد روحانا. “يضعنا هذا الواقع أمام سؤال أخلاقي أمام هذا الشعب (الذي يستعمر أرضنا، ويريد إبادتنا) والذي نشأ في فلسطين، ولا وطن له سوى وطننا”. إذاً فالأساس الثاني هو “شراكة حقيقة تنتج من عملية مصالحة تاريخية مع الشعب الإسرائيلي (لا مع الصهيونية) يكون لها مقوماتها ومتطلباتها الواضحة.” وبطبيعة الحال، فإنّ هذا الموقف الأخلاقي يتطلب أيضاً “اعتراف الإسرائيليين بالجناية التاريخية واعتذارهم عنها وتخليهم عن أيّ من الامتيازات المادية والمعنوية في مقابل الاعتراف بهم شركاء حقيقيين في الوطن الفلسطيني”[8]. بناء على ذلك، يمكن لهذا الأساس أن “يطوّر هوية جديدة تشمل الفلسطيني والإسرائيلي، ويرى فلسطين جزءاً من الثقافة العربية الإسلامية، تشارك فيها الثقافة اليهودية”[9].

هذه المرتكزات الأخلاقية والإنسانية (التي سنجاهر العالم بها) مهمة حسب روحانا، لأنّها تطمئن المستعمِر الخائف بطبيعة الحال لأنّه سرق الأرض، وسيساعد هذا المشروع المستعمِر على تجاوز خوفه من الجريمة التي اقترفها (استعمار أرضنا وتشريدنا)، فيجب علينا- كما يقترح روحانا- أن نطمئنه، مع الاعتراف بصعوبة طمأنته كما يقول روحانا. إلا أنه يجب أن نؤكد لهم أنّ هذا “ليس مشروعاً تكتيكياً ولا مرحلياً- هذا سيكون عرضاً لمصالحة تاريخية مع الشعب الإسرائيلي على أنقاض الصهيونية والهيمنة الكولونيالية”[10].

أخيراً، ومن أجل تحقيق ما ذُكر أعلاه، وبعد الأخذ بعين الاعتبار النقاط الثلاث الأولى (لا وطن بديل “للشعب الإسرائيلي” سوى وطننا، الصهيونية حركة استعمارية وقومية، اليمين العنيف والذي يشرعن العنف باسم الدين والربّ قويّ ومؤثر)، يجب علينا أن نعتمد وسائل وأدوات نضال جديدة تتوافق وطبيعة المشروع الاستيطاني الصهيوني العنيف، (تذكروا بأنّ المستعمر المستوطن جاء ليبقى والاستعمار الاستيطاني لا ينتهي كما أكد لنا وولف) من خلال استعمال وتجنيد مصادر القوة والتي لا تعني “العنف” (المقاومة المسلحة)، فيجب علينا أن نتخلص من فكرة التحرير بالعنف مقابل عنف المستعمر الصهيوني، ففلسطين ليست الجزائر كما يخبرنا روحانا، والمقاومة المسلحة غير مجدية لعدة أسباب:

“أولاً، لأنّ ذلك سيعيدنا إلى المربع المريح للكولنيالي الذي سيستعمل عنفه الأقوى ويؤطر الصراع كأنّه صراع ضد الإرهاب في عالم قابل للاستماع. ثانياً، لأنّ استعمال العنف ضدّ المدنيين – كما تبرهن التجربة الجنوب إفريقية- يبعد الشركاء الطبيعيين للمشروع عن الشعب الآخر. ثالثاً، لأنّ العنف سيحفز إسرائيل على استعمال أدوات قمع جماعي لا تستطيع أن تستعملها ضدّ أشكال النضال الشعبي”.

باختصار، لن نستطيع أن نتفوق على “إسرائيل” القوية القادرة المقتدرة (والتي رأينها تهزم بأم أعيننا في جنوب لبنان وقطاع غزة)، فخيار كل عاقل في هكذا موقف هو إحراج “إسرائيل” أمام العالم. فمثلاً يقول روحانا بأنّ تجربة قرية باب الشمس تدلل على هذه القوة، وهي ذات أثر أوضح وأعمق من المقاومة العنيفة؛ هذه الوسائل الجديدة تخشاها “إسرائيل” “معنوياً وسياسياً وأخلاقياً”، لكن كي تنجح هذه المقاومة الجديدة يجب أن تكون “مكملة لمشروع وطني إنساني يُطرح بوضوح” (ص 36 من المقال) .

السؤال الأساسي لهذه المقاومة يجب أن يكون كما يؤكد روحانا، ومع الأخذ بعين الاعتبار كل ما ذُكر أعلاه هو “ما هي أنجع وسائل المقاومة ووسائل النضال في تحدي المشروع الكولونيالي والوصول إلى تحرر في الأوضاع التي نحن فيها؟”.

قدّم بعض الباحثين الصهاينة أوراقاً قد تجيب على سؤال روحانا أعلاه، مثلاً يحاول بابيه البحث عن فضاء ثالث في فلسطين، من خلال التأريخ لما يسميه المقاومة المشتركة ما بين العرب واليهود من الموجه الصهيونية الأولى حتى عام 1948 من خلال دراسة الحزب الشيوعي الفلسطيني، وبعض المحاولات “غير الناضجة” للمقاومة المشتركة ما بعد النكبة. السؤال الذي يطرحه بابيه في هذا المقال هو: إلى أي مدى يمكن للإنسان أن يتجاوز انتماءاته العرقية والأيديولوجية والقومية من أجل أن يخلق فضاءً مشتركاً، وكم من الوقت يستطيع أن يبقى في هذا الفضاء؟ how far is the distance one is willing to travel out of one’s ethnic, ideological or national comfort zone in order to create a joint space and how much time is one willing to stay inside this space?

بكلمات أخرى، يتساءل بابيه إلى أي مدى يمكن للفلسطيني أن يتجاوز انتماءه لأرضه من أجل أن يقبل مشاركتها مع صهيوني آخر. يُقرّ بابيه بصعوبة هذا السؤال لكلّ من الصهاينة والوطنيين الفلسطينيين فيما يتعلق بالبحث عن فضاءات للمقاومة المشتركة، وقبول كل طرف بالأخر ومشاركة هذا الفضاء معاً. يخلص بابيه إلى أنّ هذه المحاولات لا يمكن أن تنجح ما دامت الصهيونية لا تعترف بأنها حركة استعمار استيطاني. فاعتراف واقتناع الصهيونية بأنها استعمار استيطاني قد يفيد في خلق هذا الفضاء الثالث للمقاومة المشتركة ما بين العرب واليهود. إذ يؤكد بابيه في أكثر من مكان بأنّ الإشكالية تكمن في رفض الصهيونية لهذا التوصيف في حين أنّ “ضحاياها” يقبلونه، وهو أخلاقياً أمر غير مقبول لبابيه.

بالإضافة إلى ذلك، قدّم الباحث الصهيوني Marcelio Servisky مساهمة بعنوان On the study of collaborative struggles in settler societies والتي يدرس فيها الصراع المشترك في المجتمعات الاستيطانية. وعلى الرغم من منطق الإبادة، والثنائية البنيوية التي تقوم عليها المستعمرات الاستيطانية، وقبول مارسيليو بتنظير وولف، إلا أن مارسيليو يؤمن بأنّ هناك دائماً فرصة لظهور جماعات ضدّ الاستيطان بغض النظر عن حجمها وتأثيرها. يرى مارسيليو أنّ الحالة الصهيونية قدّمت وما زالت تقدم بعضاً من هذه النماذج منذ العهد العثماني، مروراً بالانتداب البريطاني وحتى خلال “أيام التطهير العرقي عام 1948، كما يقول مارسيليو نقلاً عن باحثة صهيونية أخرى.[11]

تستبطن الاقتراحات أعلاه بأن الاستعمار في فلسطين هو أمر واقع، وأن القضية في فلسطين تتعلق بادعاءات مختلفة لشعبين على رقعة واحدة، لا أهل بلاد ومستعمرين غرباء، وبالتالي فإن الحلّ هو من خلال الوصول إلى “تسوية” ما لهذا “النزاع” من خلال العمل على قبول الآخر، إقناع المستعِمر بأنه مستعمِر، تغيير السرديات المؤسسة.

بطبيعة الحال، إذا قبلنا بتعريف الاستعمار الاستيطاني كما طوّره وولف (الجزء الأول)، وقبلنا بصورة الفلسطيني العاجز وغير القادر على الفعل و”إسرائيل” التي لا تشيخ، فإنّ ما يقدمه هؤلاء منطقي ومتماشٍ مع ما سبقه من تنظير، بل أكثر من ذلك، فإنّ هذه الحلول المقترحة قد تكون معقولة أو مقبولة.

أما إذا عدنا إلى المربع الأول، ورفضنا منطق الهزيمة واللاجدوى الذي يروج له هذا النموذج، ستكون هذه الاقتراحات ليست غير مناسبة فقط، بل ستعزز الاستعمار الاستيطاني -من حيث يعلمون أو لا يعلمون-  من خلال تعزيز رواية العدو الصهيوني عن ذاته (الجيش الذي لا يقهر وإسرائيل وجدت لتبقى).

بالإضافة إلى الإشكال السياسي الذي يقدّمه هذا النموذج، هناك أيضاً إشكاليات منهجية وتحليلية تتعلق بمحدودية هذا الإطار في رصد أي فعل مقاوم للاستعمار الاستيطاني، لأنه يستبطن بأن “منطق الإبادة” ذو كفاءة أبدية ويعمل بدون أية معيقات، وبأن دولة الاستعمار الاستيطاني في حالة شباب دائم.

في الحالة الإستعمارية في فلسطين هذا الاستبطان يبعد بصيرتنا التحليلية عن رؤية التشققات وأزمات هذه البنية الاستعمارية، كون هذا المنظار لا يرى إلا قدرة الاستعمار على الفعل، ولا يرى إشكالياته التي تتحدى مركزية التوسع والسيطرة على الأرض، مثلاً، هذا النموذج غير قادر على تفسير انكماش الإستعمار الإستيطاني في فلسطين من خلال سياسة بناء الجدران (الحدود مع لبنان، الأغوار، الضفة الغربية، قطاع غزة، وحتى داخل القدس) أو رحيل المستوطنيين عن أرض غزة وتفكيك المستوطنات من أرضها.

 هذه الاقتراحات التي تتبنى نموذج الاستعمار الاستيطاني تقدم حلولاً لإشكالية بقاء العدو لا التحرر منه. باختصار، ما تحاول أن تقنعنا به هذه الأدبيات هو أنّ أستراليا التي تبعد عن فلسطين أكثر من سبعة الآف كيلومتر، والتي لا يوجد أيّ رابط تاريخي أو ثقافي أو حضاري يجمع بين أهلها وفلسطين، هي أقرب لفلسطين من الجزائر العربية الأقرب جغرافياً وتاريخياً وحضارياً. تقوم هذه المقاربة السياسية غير البريئة – في وقت يتمّ فيه إعادة تشكيل الخرائط في العالم العربي-  من حيث تدري أو لا تدري بتقديم بعض الحلول والأجوبة للقلق الوجودي لبيت العنكبوت الصهيوني الذي بدأ غزله قبل 135 عاماً.

 

يتبع

———-

الهوامش:
1] حدث في Australia’s Port Phillip على سبيل المثال.
[2]  سؤال بابيه هو “كيف تتحول الضحية إلى معتدٍ، وكيف يتحول الطفل المضطَهَد إلى مضطهِد؟ كيف أصبح الفلسطيني ضحية لضحية الهولوكوسوت؟ في الورقة التي نُشِرت في العدد الخاصّ، المذكورة أعلاه، يستخدم بابيه أدبيات ما يطلق عليها “دراسات يهودية ما بعد استعمارية”، وعلم النفس والسلوك من أجل تتبع خطوات المستوطنين الأوائل، ويحاول أن يفهم هذا التحول السريع لدى هؤلاء المستوطنين، اليهود الشرق أوروبيين الأوائل، من ضحايا إلى مضطهدين. يناقش بابيه السؤال والورقة ذاتها أيضاً في ورشة عمل حول الاستعمار الاستيطاني (2016)؛ الجواب هو من خلال عملية “نزع الإنسانية” dehumanise   عن الفلسطيني من خلال منطق الإبادة، من أجل قتله وإبادته كما حدث دائماً ويحدث الآن (يضيف بابيه ملاحظة أخرى وهي أنّ ما تفعله إسرائيل ليس فريداً بالطبع في المنطقة، خاصّة في السنوات القليلة الماضية).
[3] سأعود إلى أسئلة فيراتشيني وباببه وغيرهم في الجزء الثالث عند مناقشة الأسئلة التي تطرحها هذه الدراسات والتي تبدو مهتمة بالدرجة الأولى بحلّ إشكاليات استمرار المشروع الاستيطاني الصهيوني.
[4]  “المشروع الوطني الفلسطيني: نحو استعادة الإطار الكولونيالي الاستيطاني”، نديم روحانا، مجلة الدراسات الفلسطينية، شتاء 2014. ص.18.
[5]  المصدر السابق، ص 25.
[6]  المصدر السابق، ص 32.
[7]  المصدر السابق، ص 34.
[8]  المصدر السابق، ص 34.
[9]  المصدر السابق، ص 34.
[10]  المصدر السابق، ص 35.
[11] في اللحظة التي اجتمع فيها باحثان وناشطان فلسطينيان وصهيونيان وغيرهم، ليحاولوا فهم الاستعمار في فلسطين كما أخبرنا به وولف وفيراتشيني، خرج شاب أسمر فلسطيني من بيته في سردا متجهاً إلى القدس. في اللحظة التي كان يتحدث فيها الباحث الصهيوني مارسيليو عن العيش المشترك، تلقيت رسالة عاجلة: مقتل مستوطنَين في عملية طعن بالقدس. لقد فهم مهند الحلبي ما لا يقدر على  فهمه هؤلاء؛ ما فهمه مهند جعله مخيفاً، كما سرحان والماسورة.