تنطلق هذه الورقة من ادّعاءٍ أساسيٍّ مفادُه أن تشخيص علي شريعتي الأيديولوجي كمؤدلجٍ سَلَبه جوهر أعماله ورسالته وشخصيته. وبلغة فوكو، فإنّ الخطاب حول شريعتي كمؤدلجٍ قد أسكت العديد من الجوانب لِما كانَهُ شريعتي، وما أراد أن يفعله ويؤسّس له. ستستكشف هذه الورقة ذوات شريعتي، الفكرية والشخصية، من خلال تتبّع منهجية شريعتي ذاته، فتحرير علي شريعتي معرفياً، كمقدمةٍ لهذه الورقة، أمرٌ لا مفرَّ منه، فقد خطّ طريقاً عندما قال: “هناك فرقٌ بين المعرفة التي تُفهم، والمعرفة التي تُعلّم، فستلحظ وتعرف أناساً واسعي المعرفة حول شخصٍ أو كتابٍ أو مدرسةٍ فكريةٍ، لكنهم في الوقت ذاته لا يفهمونها جيداً”. بهذا القول، أرسى شريعتي فرقاً بين المعرفة التقنيّة المبنيّة على سعة المعرفة من جهةٍ، والفهم المبنيّ على التعاطف الفكري والروحاني من جهةٍ أخرى، ما يفسّر أيضاً التناقضات التي وقعت فيها النماذج التفسيرية لعلي شريعتي. 

* يمكنكم قراءة وتحميل هذا المقال بصيغة (PDF) من هنا

أن تفهمَ ما كنت تعرفهُ دائماً – من غير أن تفهمه أبداً

أفما كنتَ مدىً حيناً وحيناً صدى؟
حسين البرغوثي
وعُد لي واقفاً، لا عصا في يديكَ، ولا دليلَ خارجك، خالصاً مما عداك.
حسين البرغوثي
الموطن الذي نسعى إليه السرمدية، الحقيقة التي نريد كبحرٍ لا شاطئَ له
فريد الدين العطار

على الرغم من كون عنوان هذه الورقة يدلّل على محتواها وتوجّهها، كما لو أنها ستُفهم على كونها مسعىً آخرَ ومُشابهاً لتقديم المفكر الإيراني المعروف علي شريعتي مرةً أخرى كمؤدلجٍ إسلاميٍّ للثورة الإيرانية، لكن هذه المرة بلغةٍ اصطلاحيةٍ وصبغةٍ إسلاميةٍ. غير أن هذه الورقة ستنطلق من ادّعاءٍ أساسيٍّ مفادُه أن تشخيص علي شريعتي الأيديولوجي كمؤدلجٍ سَلَبه جوهر أعماله ورسالته وشخصيته. وبلغة فوكو، فإنّ الخطاب حول شريعتي كمؤدلجٍ قد أسكت العديد من الجوانب لِما كانَهُ شريعتي، وما أراد أن يفعله ويؤسّس له.

تأسيساً على ما سبق، ستستكشف هذه الورقة ذوات شريعتي، الفكرية والشخصية، من خلال تتبّع منهجية شريعتي ذاته، فتحرير علي شريعتي معرفياً، كمقدمةٍ لهذه الورقة، أمرٌ لا مفرَّ منه، فقد خطّ طريقاً عندما قال: “هناك فرقٌ بين المعرفة التي تُفهم، والمعرفة التي تُعلّم، فستلحظ وتعرف أناساً واسعي المعرفة حول شخصٍ أو كتابٍ أو مدرسةٍ فكريةٍ، لكنهم في الوقت ذاته لا يفهمونها جيداً”. بهذا القول، أرسى شريعتي فرقاً بين المعرفة التقنيّة المبنيّة على سعة المعرفة من جهةٍ، والفهم المبنيّ على التعاطف الفكري والروحاني من جهةٍ أخرى، ما يفسّر أيضاً التناقضات التي وقعت فيها النماذج التفسيرية لعلي شريعتي. [1]

تحرير علي شريعتي معرفياً

مُتتبّعاً خطى شريعتي، أُجادل بالقول إنه لمعرفة ذات شريعتي، يجب علينا تخطّي محدودية الوعي الفلسفي-العلمي، فهذا هو اعتقاد شريعتي ذاته عندما حاول فهم معلّمه المفكر الباكستاني، محمد إقبال، ويقول الباحث أحمد خان بهذا الصدد: “آمن الدكتور شريعتي أنّه لفهم سرّ ذات إقبال، يجب علينا فهم محدودية الوعي الفلسفي-العلمي، وإدراك أن هذا الوعي يقف عند الحقائق الباردة فقط، في حين أنّ الوعي العرفاني يجسّد ثلاثة عناصر: التوتر، والحب، والفعل”. [2]

ولذلك، فإنّ محدودية الوعي الفلسفي-العلمي ساهمت في إسكات وتعْمِية ذوات شريعتي، ويمكن تفسير هذه المحدودية في سببين مُتداخلين؛ أولهما ما يكمُن في المناهج المقارنة للثورات، وثانيهما ما يمكن تسميته بـ”الأنماط الفكرية للتراجم”. أما بالنسبة للسبب الأول، فإنّ السياقات المغايرة للثورات قد ألقت بظلالها ومُفرداتها على السياق والثورة الإيرانية. وبلغة السيميائي والباحث الأرجنتيني “والتر منيولو”، فإن التصاميم العالمية للمعرفة قد طغت على التواريخ المحلية، فعلى سبيل المثال؛ كان نابليون، بدايةً، قد نحت مصطلح “مؤدلج” في مواجهة من يصفهم بالثرثارين والحالمين الذين يدمّرون كلَّ الأوهام، مُلقِياً اللوم عليهم في هزيمته أمام روسيا في حينه. [3]

ومع ذلك، ارتبط هذا المصطلح لاحقاً بسياقاتٍ مختلفةٍ تحمل صفاتٍ متنوعةً، تتراوح بين المنهجين الليبرالي والماركسي من جهةٍ، والثوري والتقليدي من جهةٍ أخرى، حيث الغرضُ الأساسي للمؤدلج القيامُ بخلق رؤيةٍ للعالم، والتي يمكن تفسيرها ماركسياً بناءً على الممارسة المادية؛ إذ يوضّح الباحث البريطاني “تيري إيجلتون” الأمر بالقول: “كانت لدى ماركس بشكلٍ واضحٍ أنظمةٌ اعتقاديةٌ تاريخيةٌ ورؤىً للعالم. وكما ناقشتُ في حالة الأيديولوجيا الألمانية، فرؤية الوعي بشكلٍ أكثر معقوليةً ومحدّدٍ بالممارسة المادية، بدلاً من الوعي في إدراكه الواسع للمعاني والقيم والنوايا”. [4] بالإضافة لذلك، فقد تمّ وسم المؤدلجين بأنّهم مفكرون ذوو أهدافٍ قصيرة الأمد، وأنّهم يمارسون الأدلجة القائمة على تجريد وتسطيح التاريخ معاً.

هذه النبذة القصيرة للمصطلح توضّح تعقيدات الحمولة التاريخية التي أُلقِيت على شريعتي عند وصفه بالمؤدلج، إذ إنّ غالبيّة مَن وصف شريعتي بالمؤدلج، انطلق من تأثيره الفكري العارم على الجماهير الإيرانية، والذي اعتُبِر حجر الأساس للتغيير الفكري الذي بَلْوَر الثورة الإيرانية. في حين كان هناك آخرون كالمفكّر والناقد الإيراني “حميد دباشي” الذي شخّص شريعتي كمؤدلجٍ لتفسير ذوات شريعتي. ولكن ألم يكن بالإمكان تقديمُ تفسيرٍ وتشخيصٍ مغايرين لدور شريعتي في خلق رؤيا للعالم لا ترتبط بدور وحمولة المؤدلج، على اعتبار أنّ خلق رؤى للعالم لا يقع حصراً على عاتق المؤدلجين؟ أليس بالإمكان اعتمادُ أنموذجٍ رسوليٍّ في تفسير ذوات شريعتي؟

أما السبب الثاني، فيُعزى إلى الأنماط الفكرية للتراجم المبنيّة على التصور الغربي للفكر، والتي ترتبط بما ناقشه شريعتي حول نقص الكتابات الإيرانية حول الشخصيات الإسلامية البارزة التي تُعتبر من أعمدة التاريخ الإسلامي، إذ لاحظ شريعتي أنّه “ليست هناك كتبٌ قابلةٌ للقراءة وجديرةٌ بالاهتمام في اللغة الفارسية جديرةً بهذه الشخصيات البارزة، وتستحقّ الاحترام من وجهة نظرٍ إنسانيةٍ. فإذا ما صدرت ستة كتبٍ مؤخراً عن الموضوع، فجميعها تراجم، لأننا لم نأخذ زِمام الأقلام لندوّن بأنفسنا”. [5]

بناءً على ما تقدّم، جاء تأكيد شريعتي على وضع الأقلام في الأيادي بدلاً من الترجمة، كدلالةٍ على مسعى شريعتي لخلق نموذجٍ معرفيٍّ يمتلك القدرة على تفسير اللامُفسّر من قبل النماذج المعرفية الأيديولوجية الحالية. ولذلك، بدلاً من قراءة شريعتي عبْر نظّاراتٍ ملوّنةٍ بلونٍ أيديولوجيٍّ واحدٍ ومحدّدٍ- [6] وفي هذه الحالة سيكون النمط الأكاديمي الأيديولوجي بما يحتويه من مقدماتٍ منطقيةٍ محدّداً سلفاً-  يتوجّب علينا السعي نحو التخلّي عن المعرفة المسبقة، وإعادة التعلّم من شريعتي ذاته، ويوضّح شريعتي الأمر بقوله:

“انتبهوا كيف أصبح المثقفون الشرقيون مع ما لديهم من الثقافة العظيمة الفيّاضة بالمعنوية، والفكر، والفلسفة، وعلم الحياة، وحيوية الفكر والروح، أفواهاً فاغرةً تتلقّف اللقم الثقافية التي ترميها أوروبا أمامهم، وأن كلّ ما يفخر به هؤلاء استيعابُهم لجميع الألفاظ والاصطلاحات والأفكار من المفكر الأوروبي الفلاني، والمدرسة الأوروبية الفلانية، في القرن التاسع عشر أو العشرين أو الثامن عشر، ومن ثمّ يأتون بها هدايا لشعوبهم. لو أردنا أن نتعرّف على ما جاء به هؤلاء المثقفون؛ وسائط النقل هذه التي عُرفت باسم المثقفين، وأية مدرسةٍ يردّدون، وأي نموذجٍ وأية فكرةٍ سيعرضونها باعتبارها هديةً، فإننا سنرى أن المحتوى الواقعي لهذه الرسالة وهذه الهدية، هو عددٌ من الأحاديث التي لا تمتّ لنا بصلةٍ، لا تمتّ لمصيرنا ولا لآلامنا وأتعابنا بصلةٍ”. [7]

وفي مكانٍ آخر يضيف: “أنا أقترح طريقاً ثالثةً، على العلماء عند قيامهم بالبحث أن يتحرّروا من معتقداتهم المسبقة، وبعد الوصول إلى النتائج، عليهم أن يلتزموا بها”. [8] 

ومع ذلك، فإن فهم شريعتي ما يزال معرَّضاً بشكلٍ كبيرٍ إلى ذات المنهج الذي انتقده بنفسه، حيث ما يزال يواجه ذات الموقف الذي واجهه المفكر محمد إقبال من قبله عندما وصُفت أعماله بأنها “صدى لبيرجسون، ونيتشه، ومفكرين أوروبيين آخرين”. فعلى سبيل المثال، في العمل الذي قدّمه حميد دباشي عن علي شريعتي في مؤلفه “لاهوت السخط”، قام دباشي بتوصيف شريعتي على أنه مؤدلجٌ إسلاميٌّ بامتيازٍ، ليقود هذا التوصيفُ دباشي، في نهاية الأمر، إلى توصيف شريعتي على أنه شخصيةٌ طليعيّةٌ لإعادة الاستعمار الثقافي، مُدّعياً أنّ “شريعتي، في محاولته الجدّية لتحويل التعقيد التاريخي والتنوع العقائدي للإسلام إلى أيديولوجيا سياسيةٍ موحّدةٍ مناسبةٍ لحداثة أجندته الثورية.. كان شديد الاغتراب، وبطريقةٍ مُقنعةٍ كان مُصاباً بالحنق حول الأساس الفاعل والمأخوذ لشخصية الإسلام والثقافة…وفي الوقت نفسه،كان مسحوراً بفعالية الأيديولوجيات الغربية، وخصوصاً الماركسية”. [9]

بالرغم من تقصّي حميد دباشي المنهجي لأعمال علي شريعتي، إلا أن الأنماط الفكرية للتراجم التي تفتقر للرؤية والرؤى، قد أخفت المقدمات المنطقية والأهداف التي سعى إليها شريعتي. بدايةً، فليس ما هو أدلّ على ذلك من قول دباشي “ربما أخفى عالم التساؤل لطالب الثقافة السياسية وراءه سعياً فكرياً وروحانياً شكّل هذه القناعة وبلغها حول رجلٍ لديه رؤيا”. ولكنه في الوقت نفسه، سعى إلى ترجمة شريعتي وأعماله بمنطقٍ أكاديميٍّ مُغَربن، كما لو أنّ ثمّة سلالةً خطيّةً لأفكار شريعتي متجذّرة في الفلسفات الغربية، وبخاصّةٍ الماركسية.

في هذا الصدد، مرّ شريعتي بموقفٍ مُشابهٍ في حياته عندما روى “كنت أتباحثُ كثيراً مع أحد الأشخاص، والنظرية التي كنت أتباحث بشأنها كانت من استنتاجاتي الخاصة بي، فيما كان قبح هذه النظرية هو أنّ الأوروبيين لم يقولوا مثلها حتى الآن…ولكنه عندما يرى أن كلامي ليس له سندٌ إفرنجيٌ لا يجرؤ حتى على فهمه وقبوله، لا يمتلك جرأة فهمه”. [10]

ثانياً، في حين قدّم دباشي دفاعاً عن شريعتي، أو ربما دفاعاً عن المناهج الأكاديمية، فقد أدان التفسيرات المختزلة التي ارتبطت بشريعتي عندما صُنّف كمؤرخٍ، أو فيلسوفٍ، أو سوسيولوجيٍ، أو إسلامويٍّ. ويفسّر دباشي رفضه لهذا التشخيص لشريعتي، على اعتبار أنّه بالإمكان تحويل أطروحات شريعتي وتقديمها على أنها رطانةٌ خطابيةٌ ضمن المقاييس الأكاديمية. غير أن دباشي عمل، في الوقت ذاته، على اختزال شريعتي بوصفه مؤدلجاً يسطّح التاريخ والحقائق، وفضّل جلال الأحمد -أحد المفكرين الإيرانيين- بناءً على مقاييسَ أكاديميةٍ.

كشفت هذه القراءة لشريعتي قصوراً آخرَ، وهو اعتقاد دباشي بأن تفسير الواقع والتاريخ يكون بأدواتٍ أكاديميةٍ علميةٍ، ومنهجياتٍ منهجيّةٍ صارمةٍ، لذلك ادّعى بأن غرض شريعتي كان “يتمنى التغيير لا التفسير، القيادة لا الجدال، الحراك وليس الإقناع، إحراز تقدُّمٍ لا العقلنة. ولذلك، اتخذ شريعتي لغةً فوق تاريخيةٍ”. [11] وكما لاحظ الباحث “روبرت لي” بشكلٍ عامٍ: “لقد قيل عن شريعتي أنه قد ضحّى بالصرامة المنطقية والتفاني للحقيقة من أجل التأثير السياسي، وقد قال آخرون إنّه كان قوةً سياسيةً هامشيةً، ومهتمّاً بشكلٍ أكبر بالأفكار عوضاً عن الفعل السياسي”. [12]

لكن، من قال وقرر أنّ ثمّة طريقةً واحدةً لبلورة التصورات والتحليل، ألا وهي التصوّر الأكاديمي؟ وكيف لعقلانياتٍ مختلفةٍ أن تُختزل في واحدةٍ؟ أليست هناك تفسيراتٌ أخرى خارج التفسيرات المعقلنة؟ وكيف للتفسير أن يتنافى مع التغيير؟ كما لو كان الغرض من التغيير يتعارض مع التفسير، وكما لو كان التغيير مُمكناً دون التفسير، وكما لو كانت المعرفة واستخدامها لدى شريعتي من أجل ذاتها فقط، لا من أجل التغيير. والإجابة تكمن في تأثيرات المنهج الأكاديمي في قراءة شريعتي وأعماله ولغته. وهنا أيضاً قدّم دباشي تفسيراً خاطئاً للغة شريعتي، والتي تتمحور حول الشعور بالواقعيّة والراهنيّة، والتي عبّر عنها شريعتي بالقول: “لو ضاع هذا الجيل، لأصبحنا مغسولي الأدمغة”. [13]

فمنذ البداية، كان مسعى شريعتي اللامتناهي فِهمَ العلل والأمراض التي يعانون منها بدايةً، وكان ذلك واضحاً في قوله:

“في السنوات الأخيرة، آمن معظم المفكرين بأن النقاش لا جدوى منه، وأن الحديث عن معاناتنا لا فائدةَ منه. حتى الآن، لقد تحدّثنا وناقشنا حول معاناتنا، دون أن نتخذ أيَّ إجراءاتٍ إزاءها…أحياناً سيصعد الانطباع الخاطئ بأننا قد شخّصنا عِلَلنا، وأنه حان الوقت الآن لشفائها. ولكن للأسف، يجب القول بأننا لم نشخّص عِللنا إلى الآن”. [14]

بناءً على ما تقدّم، سنلحظ قصور قراءة حميد دباشي لشريعتي، إلى جانب التناقضات التي وقع فيها عندما وصف شريعتي بأنه من جهةٍ، صاحب آخر رؤيةٍ رساليةٍ، ومن جهةٍ أخرى، مؤدلجٌ إسلاميٌّ وشخصيةٌ طليعيةٌ لإعادة الاستعمار الثقافي، حيث لم يستطع قصر الفجوة في تناقضه هذا. وعلى غرار حميد دباشي، قدّم الباحث “حميد الجار” قراءته حول شريعتي بوصفه مؤدلج الثورة الإيرانية، لكنه لم يكن حاسماً بموضعة شريعتي في علاقته مع الفلسفات الغربية وتأثيرها عليه. فعلى سبيل المثال، أشار الجار إلى تفنيد شريعتي للماركسية، وأنه لم يتأثر بها بالقول: “إنها ليست مسألة أخذ مفاهيمَ غربيةٍ بطريقةٍ ميكانيكيةٍ وإلصاق عناوينَ إسلاميةٍ لها…لقد قام بهضم هذه الموضوعات، ثم انطلق لتفنيدها. لم يكن شريعتي مهدّداً بها، كما أنه لم يخضع للرهبة منها”. [15]

ولكنْ، عند قيام حميد الجار بمراجعةٍ لندواته حول شريعتي لنشرها في كتابٍ، أضاف هامشاً وضّح فيه زاويةً أخرى لعلاقة شريعتي بالفكر والفلسفة الغربيين، في إحالةٍ إلى الاشتباك النقدي لشريعتي بالأفكار والفلسفات الغربية، وخصوصاً الماركسية، والذي فتح لشريعتي الباب أمام استخدام لغتها ومنطقها دون تشرّب مقدماتها المنطقية وأهدافها. في المحصّلة النهائية، تكمُن المشكلة في المعايير التي يستخدمها القارئ في تناول شريعتي، لذلك تقترح هذه الورقة منهجيةً أخرى لقراءته، تنفي تشرّب شريعتي للأفكار والفلسفات الغربية كما لو كان صدىً لها، كما الحال عند تشخيص دباشي من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى تتجاوز نموذج حميد الجار حول الاشتباك النقدي ومحدوديته، متتبّعاً خطى شريعتي ذاته في وصف معلّمه محمد إقبال:

“إقبال كفيلسوفٍ، ذهب إلى أوروبا، وأجاد فهم فكر الفلسفة الغربية. لقد كان فيلسوف القرن العشرين، لكنه لم يبقَ خادماً وخانعاً أمام الفكر الغربي، بل قام باحتلال الغرب معرفياً”. [16]

الرؤيا: العودة إلى الذات

بدايةً، دعوني أقتبس شريعتي لتوضيح وتفسير رؤياه، “إذا تحّول جميع أفراد المجتمع إلى نُسَخٍ من الحسين وأبي ذر، ستكون هناك حياةٌ وحريةٌ، ومعرفةٌ وتعلّمٌ، وقوةٌ واستقرارٌ، وسيتم تدمير الأعداء، الأمر الذي سيُبقي على حب الله”. [17] ولذلك، فإن تحويل شريعتي للمجتمع الإيراني إلى نُسَخٍ من الحسين وأبي ذر، يتناسب وتطلعاته للوجود الإنساني ورسالته في هذا العالم؛ رؤياه في تحويل الوجود الإنساني المتشكّل عبر سجونٍ، إلى وجودٍ متحققٍ ومتحرّرٍ من هذه السجون، حيث يروي شريعتي:

“الإنسان المثالي هو الإنسان الذي تغلُبُ نصفه من الروح الإلهية على نصفه الآخر من الرواسب والطين، والذي تمّ تحريره من العجالة والتناقض بين القطبين…إنه التقدّم نحو الهدف النهائي والكمال، تطورٌ لا نهائيٌّ، وليس قولبةً في أشكالٍ نمطيةٍ لذواتٍ موحّدةٍ. هذا الإنسان ثنائي الأبعاد، طائرٌ يستطيع الطيران بكلتا جناحيه”. [18]

ولكن أليس هذا الفهم للإنسان المنشود، والذي لا يمكن قولبته في أشكالٍ نمطيّةٍ لذواتٍ موّحدةٍ، يتناقض وتجسيد شريعتي له في الحسين وأبي ذر؟ للإجابة عن هذا السؤال، يجب علينا تحرّي ماهيّة الإنسان المنشود لدى شريعتي، وتجسيده، وعلاقته بالحسين وأبي ذر. في محاضراته حول الإنسان والإسلام، يفرّق شريعتي بين البشرية والكينونة والوجود الإنساني المتحقّق. فالبشرية لدى شريعتي هي وجودٌ يمتلك خِصالاً فسيولوجيّةً وبيولوجيّةً وسيكولوجيّةً مشتركةً بين جميع الأعراق أينما وُجدوا؛ وجودٌ يتم تحديده بما أطلق عليه شريعتي “السجون الأربعة”، وهي: البيولوجيا، والمجتمع، والتاريخ، والذات، في حين أن الوجود الإنساني هو الحقيقة المطلقة التي يجب على البشرية بلوغُها، إذ يصبح هذا التجسيد للإنسان المنشود ممكناً فقط عند كسر السجون الأربعة، فيصير حالةً من التحوّل والصيرورة الدائمة (Permanent Becoming).

فيما يتعلق بالسجون الثلاثة الأولى؛ البيولوجيا والمجتمع والتاريخ، فيمكن كسرها من خلال العلم والإدراك الذاتي والوعي بها، في حين أن السجن الرابع- الذات- يمكن كسره فقط بالدين والحب والشغف. فالبنسبة لشريعتي، فالحبُّ هو عطاءٌ دائمٌ لغرضٍ أسمى، إذ لا ينتظر الإنسان أيَّ مُقابلٍ لأفعاله، وهو طريق التضحية ونكران الذات في سبيل الآخرين، أو لهدفٍ أسمى. ولذلك، يفسّر شريعتي أنّه ليس بإمكان العلم والمنطق كسرُ السجن الرابع، سجن الذات، كونه سجناً ذاتيّاً وداخليّاً، إذ إنّ الطريقة الوحيدة لكسره تكمُن في الحب والشغف والتحوّل إلى صيرورةٍ مشتعلةٍ وملتهبةٍ، عندئذٍ فقط يظهر الإنسان؛ “خطى خطواته نحو صيرورة الإنسان، تحت شمس الإيمان والحب”. 193

وهنا، ميّز شريعتي رؤياه عن الأفكار الأخرى المتعلقة بالوجود الإنساني، حيث انتقد الانعتاق الغربيّ الماديّ الذي مكّن البشر من كسر السجون الثلاثة الأولى، ثم قادهم الأمر إلى العدميّة، إذ استبدلوا الهدف الأسمى أو الله بغرور الأنا، وكان لانعتاقهم هذا أنْ أوقَعَهم في عبودية الفرد لأناه. كما وقف شريعتي أمام انعتاق الصوفيّ على نمط الحلّاج ونقَدَه، على اعتبار أنّ الوصول إلى الله صيرورةٌ دائمةٌ لا تتوقف، كما وتتجاوز الأنا الصوفيّة على نمط الحلاج. [19] ويستدلّ شريعتي بذلك:

“إنّا لله وإنّا إليه راجعون، هذه هي فلسفة معرفة الإنسان. “إليه راجعون”، أي أنّ الإنسان يرجع إلى الله، إن كلمة “إليه” هذه تعطي صورةً عن بحثنا، بعكس التصوّف الذي يقول إنّ الإنسان يصل إلى الله. (والحلّاج وصل إلى الله، يحدّد لله محلّاً ثابتاً، فالإنسان في سعيه عندما يصل إلى هناك، يتوقّف عند الله). “إليه” أيّ نحوه، لا فيه، لا له، بل نحوه، من هو؟ الله، ونحو الله ماذا يعني؟ إنّ الله لم يكن في محلٍّ ثابتٍ، حتى عندما يصل الإنسان إلى هناك، تكون نهاية حركته، ويتوقف هناك. إن الله عبارةٌ عن اللانهاية، عبارةٌ عن الأبدية، عبارةٌ عن المطلق. بناءً على هذا، فإن حركة الإنسان نحو الله، بعبارةٍ أخرى ومعنىً آخر، هي أن حركة الإنسان بصورةٍ أبديّةٍ ودائمةٍ غيرُ قابلةٍ للتوقف، هذا معنى الصيرورة ومعنى الإنسان”. [20]

وبناءً عليه، نستطيع أن نميّز التفرقة التي أرساها شريعتي بين الحلّاج وابن سينا من جهةٍ، والحسين وأبي ذر الغفاري من جهةٍ أخرى. فالفرق حاصلٌ بين المجاهدين نحو الله، الذين يرتبط جهادهم بالمجتمع، وبين الخلاص الفردي والمغترِب الذي ميّز تصوّف الحلاج وابن سينا. ولذلك، فتجسيد شريعتي للإنسان المنشود في الحسين وأبي ذر، كان تجسيداً للثورة الدائمة المنشغلة بالناس، وتحرّرهم من خلال نماذجَ إسلاميةٍ تاريخيةٍ. [21]

ولكن كيف لعملية التحول من الكينونة البشرية الى الصيرورة الإنسانية أن تحدث؟ على أيّة أرضيةٍ؟ وإلى أيّ مدى يستطيع البشر اختراق السجون التي تحدّث عنها شريعتي؟ في تحليله للواقع والتاريخ، نبّه شريعتي إلى اثنين من العوائق التي تقف في وجه الصيرورة الإنسانية؛ أولهما الاستعمار الغربي، وثانيهما الثقافة الدينية الحالية. فيما يتعلق بالعائق الأول، يروي شريعتي كيف أن الاستعمار الغربي لا يهدف فقط إلى تجريد المجتمعات والأمم من سماتها الثقافية والتاريخية، بل يهدف أيضاً إلى تشويهها، ولذلك اعتبر الاستعمار الغربي نوعاً من إخضاع الآخرين من خلال زيادة الاعتمادية المعنوية والمادية على الغرب. كما يشير شريعتي إلى أن عملية الاستعمار الغربي غيرُ مفصولةٍ عن تصوّر الغرب العدواني لذاته وللعالم من حوله، حيث يسعى الغرب إلى توحيد الحضارات والثقافات والتواريخ من وجهة نظرٍ غربيةٍ، عبر محو سمات الآخرين الثقافية والتاريخية، مبرراً ذلك بالتفوّق الغربي على سائر العالم.

ولذلك، أشار شريعتي إلى أن الوصول للاستقلال التام يبدأ بتحقيق الاستقلال المعنوي، فلا يمكن تحقيق الاستقلاليّة الاقتصاديّة دون تحقيق الاستقلال المعنوي، والعكس صحيح، [22] مركّزاً بذلك على السمات الثقافية والتاريخية للشخصية الإيرانية، واستعادتها من أيادي الاستعمار والمسار المُعولم، ليشخّص تلك الشخصية من خلال إقراره أنّ “الثقافة هي مجموعة المصنوعات المعنوية لأمٍّة ما تشكّلت على طول تاريخها، وضمير المجتمع وروحه هو الذي يمنحها هذا الشكل…والفرد عبارةٌ عن خليةٍ اجتماعيةٍ يكتسب شخصيته الإنسانية بتبلوّر الخصائص الثقافية لمجتمعه. ومن هنا، فإنّ ما تُسمّى بالذات ليست إلا تجلّياً لثقافة المجتمع في الوجدان الفردي”. [23]

إنّ هذه العملية، أي استعادة شخصية المجتمع الإيراني ومساره التطوّري، تأتي في إطار مواجهة الاغتراب الذي يفرضه الاستعمار على الناس، “لنتمكّن من أن نفكّر بأنفسنا، ونعرف أنفسنا، لنحصل على قوة الاختيار، ومن ثم نحوّل العوامل التاريخية، والعوامل الدينية والعرفانية والأدبية، التي أصبحت اليوم بصورةٍ ماديةٍ مخدّرةٍ، وصارت سبب ركود مجتمعنا وانحطاطه، إلى صورةٍ خلّاقةٍ محرّكةٍ وبنّاءةٍ”. [24]

تعدّ هذه العودة إلى السمات التاريخية والثقافية للشخصية الإيرانية شكلاً من شكلين أرساهما شريعتي لما أطلق عليه العودة إلى الذات، مشيراً إلى أنّه على الرغم من أن فكرة العودة إلى الذات قد ذاع صيتها في إيران قبل تناولها من قبل مفكرين غربيين أو أفارقة، الا أن تبنيها من قبل معظم المفكرين الإيرانيين جاء على صيغة تكرار ما تناوله كلٌّ من “إيمي سيزار” (Aime Ceasaire) و”فرانتز فانون”. [25] لكنّ العودة إلى الذات لدى شريعتي لم تكن كذلك؛ أي لم تكن تقهقراً دفاعياً إلى الماضي، كما لم تكن عودةً أمريكيةً فلكلوريةً للذات، فكلا الاتجاهين محدودا التوجه، يحملان أطروحاتٍ غيرَ واعيةٍ خارج السياق، ومستحيلةً في الوقت نفسه. ولذلك تساءل شريعتي “لكن النقطة التي أريد أن اركّز عليها هي: العودة إلى أي ذاتٍ؟ ما تقوله إيمي سيزار أو ما أقوله أنا في إيران؟ ذلك لأن ذاتها تختلف عن ذاتي…لكننا الآن ونحن نريد أن نعود الى قواعدنا الثقافية، ينبغي أن يفترق كلٌّ عن الآخر. على كلٍّ منا أن يعود إلى منزله، ولذلك على كلٍّ منا نحن المفكرين عندما نقول: “فلنعد إلى ذواتنا”- وكلنا مشتركون في هذا- أن يطرح أمام نفسه هذا السؤال: أيّ ذاتٍ؟ وهذه القضية التي لم تُطرح في إيران”. [26]

كما أدرك شريعتي العائق الثاني؛ أي الثقافة الإسلامية المعاصرة في حينه، مُعتبراً إياها خللاً يجب التحلّل منه للانتقال من الكينونة البشرية إلى الصيرورة الإنسانية. ولذلك، ميّز هذا الوعي دعوة شريعتي للعودة إلى الذات مقارنةً بغيره، فبحسبه “لا يوجد شخصٌ يحقد على الدين بقدر ما أحقد أنا عليه. كذلك لا يوجد شخصٌ يؤمن بالدين بقدر ما أؤمن به أنا، ولا يأمل فيه بقدر ما آمل فيه في القرن العشرين”، واعتبر ذلك السبب وراء سوء فهمه الدائم والمتواصل. [27] ففي نظره، يوجد هناك دينان؛ دين التوحيد الذي يأتي على شكل الإيمان الواعي، ودين الشرك الذي أخذ أشكالاً مختلفةً عبر التاريخ، منها ما هو مباشرٌ كالشرك بالله، ومنها ما يتخفّى ويتستّر خلف ستار التوحيد، كالدين التبريري، والدين التخديري والدين الرجعي، والدين الذي لا يهتم بأمور الناس. [28]

بالنسبة لشريعتي، حدث هذا الانقسام بين الشرك والتوحيد في عهد هابيل وقابيل، عندما قتل الأخير الأول، وبناءً عليه تحولّت الحياة وأُخضعت إلى نظام قابيل، بما فيها الدين، حيث أصبح “وسيلةً للخداع والاستحواذ على المنافع المادية”. [29] ويضيف شريعتي بالقول:

“سلاح قابيل كان الدين، كما كان سلاح هابيل الدين أيضاً. ولذلك كانت حرب الدين ضدّ الدين أمراً ثابتاً في التاريخ الإنساني… الصراع العابر للتاريخ بين هابيل وقابيل هو الصراع بين التوحيد والشرك، بين العدل والوحدة الإنسانية من جهةٍ، والتمييز الاجتماعي والعرقي من جهةٍ أخرى. هذا الصراع وُجد في كامل التاريخ الإنساني، وسيدوم الى آخر الزمان، الصراع بين دين الخديعة والخبل وتبرير الأمر الواقع، وبين دين الوعي والنشاط والثورة”. [30]

وكذلك يميّز شريعتي أشكالاً أخرى من الشرك، حيث يعتبر الدين الآتي على شكل تقليدٍ محليٍّ، أو تقليدٍ قوميٍّ، أو تقليدٍ اجتماعيٍّ، أو مظهرٍ لعقلٍ جمعيٍّ، ديناً للشرك، لانتفاء قدرة الاختيار الواعي لأصحابه. [31] على عكس الدين الذي جاء به الأنبياء على شكل أيديولوجيا، إذ إنّه شكلٌ خلق صحوةً للاتبّاع، ومكّن الأفراد والناس من اختياره طوعيّاً، وبشكلٍ واعٍ لملاءمته لحاجاتهم. ولذلك، اعتبر شريعتي أن الإسلام “أولُ مدرسةٍ فكريةٍ تعترف بالجماهير كقواعدَ أساسيةٍ واعيةٍ في تشكيل التاريخ والمجتمع”. [32] ولهذا السبب، انتقد شريعتي علماء إيران والمؤسسة الدينية في حينه، لفصلها الدين عن الجماهير، وسلبهم للدين قدرتَه على خلق الحركة والالتزام والمسؤولية والوعي الاجتماعي. [33]

من هنا، يأتي تعريف التوحيد المثير للجدل لدى شريعتي، والذي يقوم أساساً على إرادة الناس وقدرتهم على الاختيار من جانبٍ، وتأريضه من جانبٍ آخر، إذ نصّ أن التوحيد:

“يُقال إنه انحدر من السماء للأرض، تاركاً وراءه دوائرَ المناقشات الفلسفية واللاهوتية والعلمية، والتفسيرات والمحاججات. إنّه يدخل في علاقات المجتمع، ويفرض العديد من التساؤلات المتعلقة بالعلاقات الاجتماعية، والعلاقات الطبقية، وتوجهات الأفراد، والعلاقة ما بين الفرد والمجتمع، والأبعاد المختلفة للبناء الاجتماعي، والمؤسسات الاجتماعية، والعائلة، والسياسة والثقافة والاقتصاد والملكية والأخلاق الاجتماعية، ومسؤولية الفرد والمجتمع. ولذلك، فإن التوحيد يوفّر الأساس الفكريّ لجميع العلاقات في المجتمع”. [34]

وفقاً لهذا التحليل، أعاد شريعتي رسم تعريفات وحدود كلٍّ من التوحيد والشرك، في الوقت نفسه الذي حاول فيه تحرير الدين من قبضة المؤسسة الدينية، وإعادته للناس، ويخلُص في هذا الصدد: “وعلى هذا الأساس، وخلال هذا البحث والتفتيش، قبلت أنا الإسلام، ليس إسلام الثقافة الذي يصنعه العالم، بل إسلام الأيديولوجيا الذي يربّي المجاهدين، ليس في مدرسة العلماء، ولا في سنّة العوام، وإنما في ربذة -خِرقة- أبي ذر!”. [35]

إعادة قراءة شريعتي: إبستمولوجيا الرؤيا الرسوليّة

في العودة إلى الذات، استطلع شريعتي أشكالاً مختلفةً من المفكرين، وشرح الفروقات بينهم، في الوقت الذي ركّز فيه على المفكّر المنشود؛ ألا هو المفكّر المستنير، والذي وصفه شريعتي بأنه:

“قد بلغ الوعي، وبالتالي فهو ذو رؤيةٍ شاملةٍ منفتحةٍ ومتطورةٍ وقادرةٍ على إدراك أوضاع العنصر والمجتمع الذي يعيش فيه…ولا بدّ له أيضاً من إحساسٍ بالمسؤولية هي وليدة نفس ذلك الوعي الإنساني الخاص…هذا الوعي ليس فلسفةً أو علوماً طبيعيةً وإنسانيةً أو فنوناً وصناعاتٍ وآداباً أو بقية الفروع والتخصصات الأخرى…هو نوعٌ من الوعي الأيديولوجي، أو بتعبير القدماء، نوعٌ من الاستعداد للهداية وشعورٌ بالنبوّة وحاسة القيادة، نفس الطريق الخاص الذي كان موجوداً عند الأنبياء، هو العلم الذي عبّر عنه الرسول بقوله: “نورٌ يقذفه الله في قلب من يشاء”…والعرفان عندنا يعني نفس هذه المعرفة التي هي فوق كل المعارف والعلوم، ولا شكّ أن العلوم تستطيع أن تساعد في نضجها وثرائها وقوتها، لكنها لا تتأتّى بالقطع عن طريقها”. [36]

يتقاطع توصيف شريعتي هذا للمفكر وطبيعة المعرفة المنشودة مع تشخيصه لوعي معلّمه، محمد إقبال، مميّزاً بين الوعي الفلسفي من جهةٍ، والوعي الصوفي من جهةٍ أخرى. فالوعي الفلسفي مجرّدُ حقائقَ ومعلوماتٍ سطحيةٍ حول أشياء، في حين أن الوعي الصوفي يفوقه براعةً من حيث الأسباب، كما يثقب الغلاف الخارجي للمعرفة. إنه تفرّسٌ ينقّب عميقاً داخل الأشياء كما لو كان مَشرطاً. إنه يملأ روح الموجودات، إنه نوعٌ من التفرّس الذي لا يرضى بالمظاهر، ولا يبقى خاملاً مع السطح، كما أنه لا يتماشى مع الغرور الفلسفي”. [37]

إنّ فهم شريعتي لأشكال الوعي المختلفة نابعٌ من تجربته الصوفيّة العرفانيّة المتمثلة في مؤلفه (Kavir). فكما سردها، قد بدأت رحلته الصوفية عندما كان في الصف الخامس، وما بين الصفين السابع والثامن حاول الانتحار، غير أن كلمات مولانا جلال الدين الرومي أنقذته. [38] ولذلك، قال شريعتي إن البحث عن الله يستلزم “رؤيا خاصةً في غير متناول المنطق أو الفلسفة، حيث يلقي الله تعالى المعرفة والبصيرة على من يختاره ليرى الحقيقة”.

كما أوضح شريعتي أن العرفان لا يتأتّى من الفكر، مُقدّماً نقداً لـ”ابن عربي” لمسؤوليته عن مأسسة التصوّف. فبالنسبة له، الفرق بين الإيمان الخارجي، أيّ الظاهري، والداخلي، أيّ الباطني، هو القاعدة المؤسِّسة للتمييز بين التعبّد التقليدي المبنيّ على العقل للوصول إلى الله، وبين تعبّد القاصد للحقيقة ومقرّه القلب، ليخلُص بأنه قد تبنّى تصوّراً جديداً للإسلام، وأنّ التصوّف هو دينه. [39]

في التقليد الصوفي، تستلزم التجربة العرفانيّة الانطواءَ والانفصالَ عن الناس، والنفور مما هو دنيويّ، واللامبالاة بشيءٍ سوى الله، إلا أن شريعتي ولحسّه العالي والعميق بالمسؤولية الاجتماعية، حملته الأخيرة للاهتمام بقضايا وهموم الناس، والمزاوجة بين التصوّف العرفاني والتصوّف الاجتماعي. ولذلك، نرى أن شريعتي قد درس تاريخ الصوفية في الإسلام بشكلٍ دقيقٍ، ووجد نمطين متناقضين للتصوّف؛ الأول الذي كان ينفر من الاختلاط بين الناس، واعتبره تصوفاً يقترف جريمةً بسبب تجاهله لقضايا الفقر والدكتاتورية والجهل والجوع والمرض والفساد، حيث شبّهه بجرعةٍ سامّةٍ من الصوفيّة الصفويّة الشيعيةّ. أما التصوف الثاني، فقد مثّل البطولة والكفاح والقابلية لتحدي الأمر الواقع. واستقى شريعتي النمط الثاني من التصوّف من حركة “ساربدران”، وهي حركةٌ اجتماعيةُ اقتصاديةُ ساهمت في تحرير إيران من الغزو المغولي في القرن الثاني عشر.

بالنسبة لشريعتي، ناضلت حركة “ساربدران” في ثلاثة اتجاهاتٍ؛ ضد النظام الطبقي، وضد المؤسسة السنيّة الكهنوتية، وضد أمراء الإقطاع، إذ زرعت الحركة بذور الوعي والثورة في التشيّع، وحضّرت الجماهير للثورة، فشُكِّل أعضاء الحركة من الفتوة الذين جمعوا حب الله والعمل من أجل المساواة والعدل. ولذلك، سعى شريعتي لنسخ تجربة الفتوة كمدرسةٍ فكريةٍ تشكّل رافعةً للنضال الاجتماعي في إيران، مؤكّداً أن “التطوير الناجح والفريد للمُثل الإسلامية يستدعي أيديولوجيا تحرّر الله وحبّه من احتكار الدين، كما تحرّر الحرية من الرأسمالية، والمساواة من الماركسية”. [40]

بالتالي، نرى أنّ غالبية أعمال شريعتي وأيديولوجيته كانت في الحقيقة باباً لتجربةٍ عرفانيةٍ اجتماعيةٍ، فهي تجربةٌ تفضي إلى الثورة المستمرة، ليس كما قاربها “حميد دباشي” بالنسبة للثورة الدائمة عند “تروتسكي”، بل من خلال تجربةٍ عرفانيةٍ تمتاز بالولادة المستمرة للإنسان، التي تتكفّل بإشباع رغباته المعنوية والمادية. كما يمكن أن تُفهم مدرسة شريعتي الفكرية على أنها حقنٌ للصوفيّة في التشيّع، وهندسةٌ اجتماعيةٌ وفكريةٌ مُضادةٌ لتاريخ الصفويّة الشيعيّة الطويل. ولكن يبقى السؤال، لماذا استخدم شريعتي لغةً تعطي انطباعاً بأنه كما لو كان صدىً لأفكار الآخرين؟ لماذا اختار لغةً تغطّي على مدرسته الفكرية في التصوّف إن صحّ التعبير؟ هل لذلك علاقةٌ برفض الجماهير الإيرانية والمؤسسة الدينية للصوفيّة؟

عندما عقد شريعتي ندوته حول الأيديولوجيا في كلية آبادان عام 1968، افتتحها بالقول “الأيديولوجيا، لقد وردت هذه الكلمة في اللغة الفارسية أيضاً، ونرى أنها تُستخدم بكثرةٍ في لغة المحاورة والنقاش لدى الجيل الناهض، وبالأخص المثقفين”. [41] هذه المقدمة لا تدلّل فقط على اطّلاع شريعتي على نقاشات عصره، لكنها أيضاً تدلّل على إدراكه للغة المستخدمة في تلك النقاشات، بالإضافة إلى أن هذه اللغة تكشف نوعية الوعي لدى الجيل الناهض الذي تحدّث عنه شريعتي. فبالنسبة له، وبناءً على التزامه الاجتماعي، فإنّ الأيديولوجيا التي يحملها موجهةٌ لجميع الطبقات الاجتماعية؛ إنها للعامّة من الناس.

إنّ مردّ ذلك انعكاسُ تصوّر الرسالة النبوّية في أنها جاءت لجميع الناس، والتي تعكس فهمه للقرآن ولغته الموجّهة للناس أجمعين بغض النظر عن مكانتهم وموقعهم. ولذلك، حثّ شريعتي المثقفين إلى التحدّث بلغة الناس، التي تتضمّن ثقافتهم، وروحهم ومشاعرهم، وحاجتهم وآلامهم وتطلعاتهم، والجو الفكري والروحي والاجتماعي عندهم. [42] فكان هذا السبب الأول وراء استخدام شريعتي للغة التي استخدمها، وأعطت انطباعاً بأنه صدىً لغيره من المفكرين، فلكي تتواصل مع الناس، عليك أن تستخدم لغتهم، في حين أن مثقفي عصره استخدموا لغةً غريبةً عن الناس في حينه، إذ لم يشعر الناس بأن الموضوعات واللغة التي يتحدّث بها المثقفون تعبّر عنهم وعن مشاكلهم. بناءً عليه، لم يبحث شريعتي عن الأصالة، بل سعى إلى إيصال الرسالة.

فوق ذلك، في ندوةٍ ألقاها سابقاً في ذات المكان، سرد شريعتي عن معضلةٍ واجهته كلما أراد إيصال أفكاره. فعلى سبيل المثال، عندما تحدّث عن الإمام علي في “الكوليدج دي فرانس”، حيث لم يكن أحدٌ قد سمع باسم علي من قبل، حينها اعتُبِر شريعتي مفكّراً حديثاً ومُجدّداً. ولكن حينما قدّم محاضرةً في جامعة مشهد في يوم ميلاد الإمام الحسين، وكما يروي “فكلما أفكّر أن أذكر الإمام الحسين، أخشى أن يردّد الجميع الصلوات على محمدٍ وآله. إنه من السهل لي أن أتحدث عن بطولة “سبارتاكوس” بدلاً من الحسين…لكن لو تحدثت عن أبي الفضل، لتذكروا أبا الفضل وقربته المثقوبة فجأةً، وارتفعت أصواتهم بالعويل…لكنهم لا يعرفون أبا الفضل نفسه من هو؟ هذا الإنسان الذي ضحّى بكلّ حياته وكلّ إمكانياته وكلّ مستقبله من أجل هدفه، واستشهد في سبيل ذلك…ألا ليت لم تكن هناك صورةٌ مسبقةٌ عن الحسين، ومحمد، والقرآن، والإسلام، وليت شعبنا لم يكن لديه أيُّ تصورٍ ذهنيٍّ عن الدين…” [43]

لقد كانت معضلة شريعتي متمحورةً حول التصور القبلي المهيمن على فهم الإسلام عموماً، وعلى الموضوعات التي تناولها على وجه الخصوص، فمثلاً عندما تحدّث عن الحرية من داخل إطاره الفكري الصوفي، تمّت موضعة الحرية في الإطار الإدراكي للمستمعين، ألا هو الحرية في الليبرالية الغربية، وكذلك الأمر بالنسبة للمساواة وعلاقتها بالماركسية، والالتزام والخيار الحرّ لوجودية سارتر. ولذلك، حينما سُئل شريعتي عن طرقٍ لتدريس الدين في المدارس، أجاب بضرورة إلغاء المواد برمّتها، قائلاً إنّهم سيكونون في البداية جاهلين بتلك المعرفة، ولكن عندما يحين الوقت، سيفهمون الأمر فهماً سليماً. فسّر شريعتي توجّهه هذا من خلال تعليمه لقواعد اللغة الفارسية، حينما ابتكر طريقةً للتجزئة والتجميع تتناول جملاً معقّدة التركيب لتسهيل فهمها، ولكنه اشترط ألا يكون للطالب معرفةٌ مسبقةٌ بقواعد اللغة، وبكلماته “عندما يكون العقل فارغاً، حينها يسهل التعليم والفهم”.

إنّ إشارة شريعتي إلى فراغ العقل كطريقٍ نحو الفهم مرتبطٌ بالصوفيّة، حيث يمرُّ المُريد في طريقه إلى الله بمرحلة التخلي عن المعرفة المسبقة ليُفني الأنا لإيقاظ حواسّه الداخلية. ولكن في حالة شريعتي، فإن الشعور بالراهنية والإلحاح جعلته يدرك طريقاً آخرَ لإيصال أفكاره ورسالته. بدايةً، وظّف شريعتي الاستخدام المزدوج للغة الصوفيّة ليتجاوز الإطار الإدراكي للمستمعين، ويستبدله باستخدام المصطلحات الشائعة ذاتها، ولكن بإعطائها معانيَ غير المعاني الأصيلة التي تدلّ عليها. هكذا، واجه شريعتي الاغتراب الذي أصاب الجيل الشبابي الناهض، نتيجةَ تعرّضه للفلسفات الغربية، من خلال احتلال لغتها واستبدال مضامينها لديهم. ثانياً، اقترح شريعتي الحركة والنشاط نحو الهدف الأسمى كطريقٍ لتحقيق الصيرورة الدائمة، ويقول بهذا الصدد:

“في الحياة لا يمكننا أن نكون في سياق فهم واستيعاب الحقيقة من خلال الفكر العبقري، أو التنوير الداخلي، أو التفكير العلمي والاستنتاجات الذاتية. لأنه في خضمّ الصيرورة يمكننا أن نصبح ما سنكون عليه. يستطيع المرء أن يفهم الرصاصة النارية عندما تصيبه فقط، لذلك سيمكنه أن يفهم المبدأ بشكلٍ دقيقٍ عندما يقف في نهاية مسار تطبيق ذاك المبدأ، فالحقيقة تتجلّى بالفعل والنشاط”. [44]

كان لشعور شريعتي بالحاجة والضرورة الملحة أنْ مكّنه من إدراك أن الطريق الى الله يمرّ عبر الصراع، كما هو الحال بتجربة الفتوّة الصوفيّة، لتتكشّف بعد ذلك مدرسته الفكرية، كمدرسةٍ مُستترةٍ داخل لغةٍ في داخل لغةٍ أخرى، ورؤيا داخل رؤيا أخرى، طريقُها القلب المحبّ.

الهوامش:

[1] Shari’ati, Ali, 1968. Islamology. Accessed November 20, 2015. http://pakistanlink.org/Commentary/2011/Nov11/11/01.HTM
[2]Khan, Ahmed “Book review: Ma wa Iqbal: Dr. Shariati’s masterpiece on Allama Iqbal. Pakistan Link. Accessed November 20, 2015. http://pakistamlink.org/Commentary/2011/Nov11/11/01.htm
[3] Eaglton, Terry. 1991. Ideology: An introduction. London, New York: Verso. p 67.
[4] Eaglton, Ibid, p81.
[5] Sharia’ti, Ali. 1979. On the Sociology of Islam. Translated by Hamid Algar. Berkeley: Mizan Press. p41.
[6] Shari’ati, Ali. 1968. Islamology.
[7] علي شريعتي، 2007. الإنسان والإسلام. ترجمة عباس الترجمان. بيروت: الأمير للثقافة والعلوم. ص89
[8] Shari’ati, Ali. 1968. Islamology.
[9] Dabashi, Hamid, 2008. Theology of Discontent: The Ideological Foundations of the Islamic Revolution in Iran. Second Printing. New Brunswick, New Jersey: Transactions Publishers. p115.
[10] علي شريعتي، 2007. الإنسان والإسلام، مرجع سابق، ص118.
[11] Dabashi, Ibid, p104.
[12] Lee, Robert D. 1997. Overcoming Tradition and Modernity: The Search for Islamic Authenticity. Colorado, Oxford: Westview Press. p117.
[13] Dabashi, Ibid, p131.
[14] Sharia’ti, Ali. 1979. On the Sociology of Islam, Ibid. p39.
[15] Algar, Hamid. 2001. Roots of Islamic Revolution in Iran. First revised and expanded edition. New York: Islamic Publications International. p113.
[16] Naseem, Hamid. 2001. Muslim Philosophy: Science and Mysticism. New Delhi: Sarup & Sons. p.308.
[17] Shari’ati, Ali. An Approach to the Understanding of Islam. Accessed November 20,2015. http://www.shariati.com/english/lesson/lesson1.html
[18] Sharia’ti, Ali. 1979. On the Sociology of Islam. Ibid. p121.
[19] علي شريعتي، 2007. الإنسان والإسلام. مرجع سابق، ص145-151، ص191-197.
[20] علي شريعتي، 2007. الإنسان والإسلام. مرجع سابق، ص151-ص152.
[21] Shari’ati, Ali. An Approach to the Understanding of Islam. Ibid; علي شريعتي، 2007. الإنسان والإسلام. مرجع سابق، ص31
[22] علي شريعتي، 2007. الإنسان والإسلام. مرجع سابق، ص102، ص131، ص98؛ علي شريعتي، 2007. العودة إلى الذات. ترجمة د.إبراهيم دسوقي شتا. بيروت: دار الأمير للثقافة والعلوم. ص30.
[23] علي شريعتي، 2007. العودة إلى الذات. مرجع سابق، ص411.
[24] علي شريعتي، 2007. الإنسان والإسلام. مرجع سابق، ص130.
[25] علي شريعتي، 2007. العودة إلى الذات. مرجع سابق، ص24.
[26] علي شريعتي، 2007. العودة إلى الذات. مرجع سابق، ص37-ص38.
[27] علي شريعتي، 2007. الإنسان والإسلام. مرجع سابق، ص269.
[28] علي شريعتي، 2007. دين ضد الدين. ترجمة حيدر مجيد. بيروت: دار الأمير للثقافة والعلوم. ص47، ص50.
[29] Sharia’ti, Ali. 1979. On the Sociology of Islam. Ibid, p102-p104.
[30] Sharia’ti, Ali. 1979. On the Sociology of Islam. Ibid, p108-p109.
[31] علي شريعتي، 2007. الإنسان والإسلام. مرجع سابق، ص267-ص277.
[32] Sharia’ti, Ali. 1979. On the Sociology of Islam. Ibid, p49.
[33] Shari’ati, Ali. 1968. Islamology.
[34] Sharia’ti, Ali. 1979. On the Sociology of Islam.
[35] علي شريعتي، 2007. الإنسان والإسلام. مرجع سابق، ص308.
[36] علي شريعتي، 2007. العودة إلى الذات. مرجع سابق، ص195-ص196.
[37] Khan, Ahmed, Ibid.
[38] Rahnema, Ali. 2014. An Islamic Utopian: A political biography of Ali Shari’ati. 3rd edition. London, New York: I.B. Tauris & Co Ltd. p144, p152-p153.
[39] Rahnema, Ali. 2014. Ibid, p150-151.
[40] Rahnema, Ali. 2014. Ibid, p157-159, p160.
[41] علي شريعتي، 2007. الإنسان والإسلام. مرجع سابق، ص260.
[42] علي شريعتي، 2007. العودة إلى الذات. مرجع سابق، ص408.
[43] علي شريعتي، 2007. الإنسان والإسلام. مرجع سابق، ص133.
[44] Dabashi, Hamid, 2008. Ibid, 113-114.