في ظلّ أشجار الطرفا، كانت تنفخ في النار تحت قدرٍ جدّةٌ من بير هدّاج برفقة حفيديها، تُعِدُّ الطعامَ لتُقرِي به زوّارَ قبرِ الشّيخ الأعسم في بير عسلوج من ديار بير السبع. ما إن أنهيتُ قراءةَ الفاتحة، حتى نَادَتْ عَليَّ بصوتٍ خفيضٍ فيه بحّة، كأنّه قادمٌ من عمق البلاد: “مَيّل كُلَكْ لُقمة”. سكبتْ لي مِما قُسِم، فأكلتُ لقيماتٍ هنيّة، منعني الحياءُ أن أطلبَ المزيدَ لِتَطول هذه البرهةُ النفيسة. شَكرتُها، وتابعتُ سيري إلى غايتي من رحلتي، إلى تُليلات العِنَب حول سُبيطة، والتُليلات هذه من عجائب بلادنا، ومن مواطن هيجان عشق فلسطين في قلبي.

“تليلات العنب” : ياعين لدّي قبلة… بالكروم القِبلية

حول سُبيطة، 50 كم جنوبي مدينة بير السبع، تنتشر عشرات الآلاف من التليلات من صنع يد الإنسان، يسميها أهل البلاد بـ”تليلات العنب”. لا يقتصر وجودها حول سبيطة، وإنّما تنتشرُ أيضاً حول عَبدة، ويُسمّيها البدو هناك “رُجوم الكروم”. والتليلات هذه، عبارة عن أكوام مخروطيّة من التراب الممزوج بشظايا صخرية، يتراوح ارتفاعها ما بين نصف متر إلى متر ونصف، وقطرها 3 أمتار، بعضها مُسوَّر بالحجارة، تنتظم في خطوط مستقيمة لمئات الأمتار، في المعجم العربيّ الزراعيّ القديم تُسمّى صفوف الأشجار والكروم بـ”السِكَك”.

 

 

وتتواجدُ التليلات على سفوح الوديان التي تُغطيها تربةُ “الحَمادة” أو “الحَماد”، والحَماد هو الاسم الذي يطلقه البدوّ على التربة الصخريّة التي تغطي الهضاب في المناطق الصحراويّة. يقول العلامة أحمد وصفي زكريا، في سِفره “عشائر الشام”، إنّها سُمّيت بذلك لمحمدة الأرض التي يكفيها المطر القليل لكي تنبت العشب الكثير. [1] وقد قال يوماً شاعرٌ عربيٌّ:

إن ضاقت الأرض ذرعا فـ(الحماد) به … ما يُوسعُ الأرضَ عوداً غير منصرم

أقسمتُ بالله مما شفَّني كمداً  …   إنّي وهذا الثرى فرعان من رحم

وكما هو واضح من التسمية، فإنّ هذه التُليلات بقايا كروم العنب التّي عَمَّرَها أهلُ البلاد منذ قديم الزمن، وحَفِظَتها الذاكرةُ الشّعبيّةُ لبدوّ ديار بير السبع.

يُحدثنا نعوم شقير في رحلته إلى سيناء في العام 1906 عن سؤاله لكبيرٍ من البدو عن هذه التُليلات، فأجابه: “من الأخبار التي أخذناها عن أسلافنا أنّ بلادنا هذه كانت مشهورة بخصب كرومها وجودة عنبها”. [2]

وأغلب الظَّنِ أنّ التُليلات والرُجوم صنعها الأقدمون عرائشَ للدوالي، وذلك لشُحِّ الأخشابِ لصنع العرائش، بحيث تتسلق عليها دلوب الكروم وتتدلى عليه القطوف، وهذه عادةٌ زراعيةٌ معروفةٌ في بلادنا، فزُرعَت الدوالي في قرانا على السناسل (السلاسل الحجرية)، وعندما قمتُ بزراعة أرضنا بالكروم والزيتون في مواجهة الجدار الصهيوني قبل 10 سنوات، زَرعتُ العنب الجَندلي والحَمداني على السناسل كما كان أسلافي يزرعونها منذ آلاف السنين، وتركته للشمس والهواء وماء المطر دون مبيد أو سماد، فيجود بعنبٍ فيه طعمُ البلاد.

وتساعدُ السناسل والرجوم الحجرية على حفظ الرطوبة عند جذور الدوالي إذ تَقيها من أشعة الشمس. وعلّمتني أميّ أنْ أَرُصَّ الحجارةَ حول عُروق شتلات الشجر كي تحافظ على الرطوبة بعد سقايتها، وكانت تقول لي: “الحجر حنيّن على الشجر”.

(عنب حمداني زرعته على السناسل، خالد عودة الله، أيلول 2018)

وقد وجدتُ عند ابن وحشية في كتابه “الفلاحة النبطية”، المرجع الأول لأدبيات الزارعة عند العرب، حديثاً يُصدق على تليلات العنب، يقول ابن وَحشية:

“إنّ الكَرم نَجم سعد، مُسعد لمتخذه، والنظر إليها تسرّ النفس، وشرب عصيرها يفرح القلب ويقوّيه، ويشجع الجبان…وأنا أرى أن تكون الكروم ناشية بقرب تلول لتعرش من موضع منبتها على تلك التلول، والعلّة في منفعة التعريش أنّ الريح إذا كان الكرم معرشاً، تحيط به من جميع جوانبه، فتروحه من حرّ الشمس”. [3]

صراع على تُليلات العنب

منذ أن دخلتْ تُليلات بلادنا، في الأرشيف الاستعماري على يد “بالمر”، (Palmer)، في العام 1871، تحوّلت إلى محجٍ لعلماء الآثار والرحّالة، وخاصّة المختصين منهم في علم الآثار الزراعيّ، فعندما لاحظ “بالمر” أكوام الحجارة المنتشرة بكثرة ما بين العوجا وسُبيطة، استفسر عنها من مرشدِهِ البدويّ، فأخبرَهُ أنّ اسمها تُليلات العنب، وأنّها بقايا زراعة كروم العنب، وظلّ كل علماء الآثار ينقلون عن “بالمر” حتّى جاء دورُ علماء الآثار الصهاينة. [4]

احتُلَتْ سبيطة وما حولها خلال عملية “حُوريف” في 25 كانون الأول 1948، بعد معركة مع الكتيبة العاشرة المصرية المرابطة في المنطقة. وفي الخمسينيّات، بدأ الصهاينة حفرياتهم ودراساتهم الأثرية فيها، وصاروا يُشكّكون بما تعارف عليه أهل البلاد حولها، وبما اعتمده “المستكشفون” من أقوالهم، حول تُليلاتنا ورُجومنا، ولسان حالهم يقول: لقد جاء وقت أن يكشف “أهل البلاد الحقيقيون” الحقيقة.

(صورة جوية لتُليلات العنب تظهر في طرفها السفلي بقايا سكة الحديد العثمانية ما بين العوجا وبير السبع)

يعتمد الصهاينة أطروحةَ عالم الآثار، ومقاتل البالماخ السابق، “يهودا كيدار” [5] في تفسير وظيفة تُليلات العنب. يقول كيدار إنّ التُليلات ليس لها علاقة بزراعة الكروم، وإنّ وظيفتها زيادة انجراف الطّمي من سفوح الهضاب والتلال التي تتواجد عليها إلى الوديان، لتوفير تربة صالحة للزراعة في قيعان الأودية. وأما المعضلة الأساسية التي وقف أمامها “كيدار” في تفسيره هذا، فهي اسمها واضح الدلالة الذي حفظه أهل البلاد، ولحلّ هذه المعضلة قام بتأويل الاسم، فقال لقد سمّيت بتُليلات العنب من قبل البدو لأنّ منظرها من بعيد يُشبه كُروم العنب. ولكن مهلاً، إذا كانوا سمّوها كذلك لأنّها تظهر من بعيد ككروم العنب، فهذا يعني أنّهم عرفوا الكروم عياناً قبل أن يُشبِّهوا بها التليلات.

في المحاولة المستميتة لنفي معرفة أهل البلاد بحقيقة التُليلات ما يَشي بتوترٍ نفسيٍّ عند الصهاينة في سعيهم إلى استملاك المكان معرفيّاً، هذا بالإضافة إلى حساسيّة قضية الزراعة في ديار بير السبع التيّ تُربِك صورة “الصحراء القاحلة” ،حتّى جاء الصهاينة “فأزهروها”. كما قدّم الصهاينة نظريةً أخرى تقول إن التُليلات الموجودة على السفوح تقوم بتوجيه مياه السيول لا الطمي نحو قيعان الأودية، فهي عبارة عن نظامٍ للريّ. ومما يغيظ أنني وجدتُ كُتّاباً أردنيين يتباهون بعبقرية أجدادهم الأنباط في هندسة الريّ بِتَبني ما يقوله الصهاينة عن التُليلات.

مِن ألف باء معرفة العدو، أنّ علم آثاره ليس إلا بندقيةً أخرى يُصوِّبها المستوطن نحو البلاد وأهلها. لكنْ، في حقل دراسات الآثار الزراعيّة في ديار بير السبع، هُنالك مَهمةٌ خاصّةٌ لهذا العلم يُعبّرُ عنها أوضحَ تعبيرٍ مشروعُ “برنامج الدراسات الأركيولوجية الحيوية في النقب البيزنطي“، [6] وهو مشروع بَحثيّ بتمويلٍ أوروبيّ وصهيونيّ مُشترك، يقول المشاركون فيه إنّ الهدف منه معرفةُ أسباب نجاح البيزنطيّين في تشييد مجتمع زراعيٍّ مزدهرٍ في ظروف مناخيّة قاسيّة، ومن ثمّ معرفة أسباب انهيار هذا المجتمع لاحقاً. كلّ ذلك في سبيل الاستفادة من هذه التجربة في استدامة الاستيطان الصهيوني في ديار بير السبع. [7] هذا من تمظهرات “متلازمة القلق الوجودي” التي يعاني منها المشروع الصهيوني في بلادنا فلسطين، وقريب منه هَوس الصهاينة بدراسة الاستيطان الصليبي وآثاره في بلادنا لتلافي مصيره.

خمس رصاصات كارلو عند تُليلات العنب

لم يكتفِ الصّهاينة بالدراسات النظريّة حول وظيفة التُليلات في سُبيطة، فقاموا في العام 1956 ببناء مزرعةٍ تُروى من مياه السيول شمالي سُبيطة على مساحة 7 دونمات، وقاموا بإنشاء مجموعة من التُليلات لكي يثبتوا نظريتهم حول وظيفتها في زيادة الطمي وتوجيه المياه.

صمّم المزرعةَ عالمُ النبات الصهيوني “بن آري” كي تُشكِّلَ نموذجاً لمستوطنات صهيونية زراعية في “النقب” تعيش على الزراعة المَروية بمياه السيول، وقَرَرَ أن يبني له بيتاً في مزرعة سبيطة التجريبية ويستوطن فيها، إلا أنّ تصاعد العمليات الفدائية المنطلقة من غزة وسيناء أجبره على ترك المزرعة والتخلي عن فكرة الاستيطان، خاصّةً بعد مقتل “يائير بيلد” عند تليلات العنب في وادي الحرايق (سرباد סרפד عند الصهاينة) جنوبي سُبيطة. [8]

كان “يائير بيلد” قائد سرية استطلاع وحدة المظليّين في المنطقة الجنوبية، وكان قائداً “كارزماتياً” واعِداً، ونموذجاً للقائد المحبوب بين جنوده. يرفع لواء معرفة الأرض معرفةً تَفصيليّةً، مُحرِّضَاً على الإبداع في فن القتال، فمثلاً أدخل استخدام الجمال في العمليات العسكرية داخل سيناء لمطاردة البدو قائلاً: “إذا كان البدو يستخدمون الجمال للإغارة علينا فعلينا أن نستخدمها في الهجوم عليهم”.

في السابع من أيلول 1959، خرج “بيلد” وحيداً لتنفيذ تمرين في الملاحة الصحراوية، وتعرّض في وادي الحرايق لإطلاق النّار من كمين، فسقط قتيلاً بخمس رصاصات من سلاح كارل غوستاف. كان مقتل “بيلد” ضربةً معنويةً قاسيةً للصهاينة، فقد كان “بيلد” نموذجاً للبطل الصهيوني الذي يمنح من هم حوله الثقة بأنفسهم وبالمستقبل. [9]

بحسب تحقيق صحافي نُشر، في 16 أيلول 2010، في صحيفة “هآرتس” الصهيونية، تبيّن أنه بعد شهرين من العملية أَعدَمَ الصهاينةُ الشهيدين عليان سالم العتايقة وعوّاد أبو مغنم من عشيرة السراحين، المُتهَمَين بقتل “بيلد”. [10]

(خريطة صهيونية للآبار في ديار الصبحيين من العزازمة )

استغل الصهاينةُ الحادثةَ، وأطلقوا “حرب الآبار” لتهجير البدو من عرب العزازمة من جبال بير السبع، متّبعين استراتيجية التعطيش بتلويث آبار المياه بالنفط (السولار). وإذا كانت أُمّنا هاجر قد ارتبط ذكرها بعذابات الأم الوحيدة الباحثة عن الماء في الصحراء، فقد سمّى الصهاينة عملية تعطيش البدو لتهجيرهم باسم عملية “هاجر”.

وهنا، لا بدّ الإشارة إلى رواية ثانية عند الصهاينة تفيد باستشهاد قاتلي “بيلد” في اشتباكٍ مسلحٍ في العام العام 1963، [11] ورواية ثالثة تُحمّل مسؤولية مقتل “بيلد” للشهيد سعيد بن بندك، وهو من فرسان الصبحييّن العزازمة.

(الحافلة المُهاجمَة)

ارتبط اسمُ الشهيد سعيد بن بندك بعملية نقب الصافي (معليه عقرابيم מעלה עקרבים)، ففي منتصف ليل الـ17 آذار 1954، فُتحت النار على حافلة للمستوطنين في طريقها من بير السبع إلى المرشرش (إيلات) يحرسها ثلاثة جنود صهاينة. أدّت العملية إلى مقتل 11 صهيونياً، وكانت بذلك الأقسى على الصهاينة بعد “نهاية” حرب النكبة، ونفّذ” شارون” على إثرها في 29 آذار عمليةً انتقاميةُ في قرية نحالين، استشهد على أثرها 11 شهيداً.

قال الصهاينة حينها، إنّ منفذي الهجوم تسللوا من الأراضي الأردنية، فأرسلت الأردن قصاصي أثر لمساعدة الصهاينة على الوصول إلى الفدائيين، بينما ظنّ الأردنيون أنّ الفدائيين تسللوا من سيناء، وقدّمت المخابرات الأردنية معلومات استخبارية تؤكّد أنّ الجهة المسؤولة عن العملية هي مجموعة “الكفّ الأسود”. [12]

ما نعرفه من هنا وهناك، أنّ “الكف الأسود” شبه تنظيمٍ محليّ لمجموعة شباب من بدو بير السبع المُهجّرين إلى سيناء بعد النكبة، قاموا بتشكيله للتخريب والإغارة على الممتلكات الصهيونية في جنوب ديار بير السبع. ولا تزال بعض الإشارات إلى إرث هذه المجموعة باقيةً بين بدو سيناء إلى يومنا هذا.

في الرابع من كانون الأول 1968 احتفلت الصحافة الصهيونية بخبر” مقتل” الشهيد سعيد بن عيد بن بندك بعد اشتباك مسلح في جبال النقب بعد رفضه تسليم نفسه. [13]

سُبيطة

تقع سبيطة كما أسلفنا على مسافة 50 كم جنوبي مدينة بير السبع، ويُسمّيها الصهاينة (شِفطا)، بلدة نبطية في ديار عرب الصبحيين من العزازمة، وأطلالها أكثر أطلال ديار السبع اكتمالاً، إلا أن المصادر التاريخية شحيحة حولها. بناها العرب الأنباط وازدهرت في العصر البيزنطي، وعَرفها العرب باسم سُبيط وسوباطة، والسُنيطة، ووصفها المقريزي بأنها أعظم مدن مَدين الفلسطينية. [14] وفي العصر المملوكي كان فيها دكاكين موقوفة على المدرسة الأشرفية في المسجد الأقصى المبارك. [15]

وفي سُبيطة، وما حولها، وصلت الزراعة الصحراوية القائمة على الريّ بمياه السيول في الأودية إلى أوجها في بلادنا، وذلك خلال العهد الإسلامي المبكّر. والتجوال بين آثار هذه الزراعة يُخضر الروح وينعش الهويّة، سحرٌ ما في هذه الأودية يحيط بي أحسّه، ولا أَجِدُ في لغتي ما ينطق به، فقط أمشي وأجُس وأتذوّق إلى أن يدركني الليل.

(أطلال سدّ في وادي الزياتين، خالد عودة الله، آب 2018)

في وادي الزياتين: “والقلب مثل السيل يتبع مجاريه”

في جنوبي فلسطين، حيث تقلُّ مياه الأمطار وتقسو ظروف المناخ، برع أهل البلاد في فنون الزراعة السيلية، والتي تعتمد على تخزين وتوجيه مياه السيول التي تجري لفترات قليلة في فصل الشتاء في الأودية. وتعتمد هذه الزراعة على تأهيل مجرى الأودية (يسحرني تسمية العرب للوادي بالسرّ) ببناء سلسلة من الجدران الحجرية الاستنداية سدوداً يسميها العرب بالصُنُع، أو الأحباس، ويتحكمون بمرور الماء بينها بفتحة في الأحباس يسمّونها الرجيع، ويُسمّي العرب ما يمسك ماء المطر بالمصانعوفي مدخل قريتي بيت حنينا مكان كان يسمى المصنعة كان به حوض ماء، ومن هنا سمى العرب ساكني القرى أهل المصانع.

تَقسِمُ الأحباسُ الأودية إلى مصاطب، تحتجز كل واحدة منها الماء بقدر يرويها ويروي المصطبة التي تليها، وإذا أرادوا تحويل مجرى السيل، بنوا “الدافع” ليوصلوا ماء السيل إلى البساتين البعيدة عن مجرى السيل، ويسمونه أيضا المأخذ، وحفروا النواشط وهي مسايل جانبية لتوزيع الماء، وأحاطوا بساتينهم بجدران، فصارت البساتين تسمى “حِظار“.

( ما تبقى من زيتون وادي الزياتين، خالد عودة الله، آب 2018)

وتخزن مياه السيول في بركة صناعية تُنقر في الصخر أو تُبنى، تُسمَّى الهرابة وتكون في مجرى السيل، وإذا ظهر الماء في حفرة بعد أول المطر، فتلك هي الثميلة عند العرب. وبير الثميلة بير معروفة بالقرب من سبيطة. ومن جميل ما سمعت شُكر البدو للبئر بعد أن ينفد ماؤه بالقول “يكثّر خيرك رايحين لغيرك”. وعندما وصلت إلى آخر شجر زيتون باقٍ في وادي الزياتين، جلست في ظلها أناجي روح الأسلاف فيها.

( أطلال بساتين وادي الزياتين، خالد عودة الله، آب 2018)

شهدت جبال بير السبع خلال الفترة الأمويّة وبداية العباسيّة عملية استقرارٍ زراعيّ مكثفة، وآثار هذا الاستقرار الأخاذ تتوزع على أكثر من 300 قريةٍ زراعيّةٍ صغيرةٍ حول الأودية؛ منها وادي الأبيض ووادي روض الحطاب والحرايق وقيطون والسعدي والعوجا.

يشكو علماء الآثار الصهاينة من أن بدو بير السبع قد استخدموا المنشآت الزراعيّة القديمة، فعدلوا عليها وأضافوا، مما يربك قدرة عالم الآثار على تحديد الأزمنة التاريخية لهذه المنشآت، وهذا جميل عندي!

(هَرابة منقورة بالصخر في وادي الزياتين، خالد عودة الله، آب 2018)

يعتمد الموسم الزراعي عند بدو ديار السبع على أمطار شهر كانون الأول ويسمونه “الأجرد”، ويقولون: “اللي ما بيحرث في الأجرد عند الصليبة بيحرد”، “والأجرد إذا جرد حرّق وإذا مطر غرّق”، يبذرون الحب في المارس، وهو شريط ضيق من الأرض في قاع الوديان، وإذا كبرت مساحته سمّوه مَزرَعاً. ومن جميل أمثالهم “زي الزرعي (طائر) يسبح الله ويسرق البذار”.  

ذات ظهيرة على عتبة مسجد سبيطة

عندما قدمت إلى سبيطة للمرة الأولى، أحسست بأنني أعود إلى ديارٍ لي فيها ذكريات، وحضرني حديث أسامة بن منقذ في المنازل والديار عن المعهَد، وهو المكان الذي عَهدت لك هوى فيه، فلا تزال كلما انتأيت عنه رجعت إليه. أمشي في ربوعها، وكأني أمشي لملاقاة نفسي. ألملم أشتاتي الموزعة بين الأمكنة. ذات ظهيرة (القايلة بلغة أهل البلاد) تفيأت أطلال مسجد سبيطة الذي يعود إلى القرن العاشر الميلادي، وأخرجت أوراقاً أحملها معي حول تاريخ المكان.

طالعت ما يقوله اللعين “لورنس العرب” عن رحلته، “مستكشفاً” جنوبَ فلسطين ضمن بعثة صندوق استكشاف فلسطين في العام 1914، يفتتح لورنس حديثه بمديح لعرفان بيك الجابي قائم مقام بير السبع، يقول لورنس: “لقد كان عرفان بيك متحرراً من الريبة المتنشرة بين العرب في ذلك الوقت من راسمي الخرائط”، [16] ومن ثمّ يقدّم لورنس وصفاً تفصيلياً لسبيطة ولجارتها خربة المشيرفة، مهتماً بشدّة بآبار المياه وحالتها كما يليق بضابط مخابرات يستطلع أرض معركة قادمة. طويت أوراق لورنس وفتحت أوراق تاريخ مسجد سبيطة.

على عتبة مسجد سبيطة

في الثلاثينيّات “اكتشف” كولت، (Harris Colt)، في حفرياته في سبيطة مسجد سبيطة الملاصق للكنيسة البيزنطيّة الجنوبيّة. ومن يومها، انتشرت مقولة “الاحتلال الإسلامي المستنير”، حيث يتجاور المسجد مع الكنيسة، وتتعايش الأديان في حبٍّ وسلامٍ. بقيت هذه الأطروحة مقبولة ومتداولة، حتى قام الصهاينة بمسحهم الأخير ما بين 2015 – 2016 [17] فخرجت صحافتهم تقول: “علماء الآثار يحطمون أسطورة سبيطة: التعايش الاسلامي المسيحي لم يكن موجوداً”. [18]

يستند الصهاينة في “تحطيمهم” لأسطورة سبيطة في التعايش ما بين الأديان تحت حكم العرب المسلمين، إلى عتبة مسجد سبيطة والتي كانت ساكفاً أو قمطة لباب كنيسة منقوش عليها الصليب، وقالوا: إن المسلمين جعلوا القمطة عتبة يدوس عليها كل داخل المسجد رمزاً لإخضاع بيزنطة ودينها. (عند العرب الجزء العلوي من الباب ساكف، وفي معجمنا اليوم قَمط).

(مسجد سبيطة وعتبته،خالد عودة الله، حزيران 2018)

(مسجد سبيطة وعتبته،خالد عودة الله، حزيران 2018)

لا أدري إن كانت هي نعمة أو نقمة أن يصبح كلٌّ حجرٍ في بلادنا أو شظيةُ فخارٍ مناسبةً لاشتعال معركةٍ في علم الآثار! ولا أدري ما الذي دار في خلد البنّاء عندما جعل قمطة الكنيسة عتبةً للمسجد، هل أراد الإعلان عن تحوّل الزمان، فصار العزيز ذليلاً والعالي واطياً؟ أم أنّه رأى في القمطة مجرّد حجر أكمل فيه مدماكه، وشغل علماء الآثار من بعده ما يقرب المئة عام.

أما أنا فجلست على العتبة، مشغولاً بما قالته العرب عن العتبة في لغتهم، فقالوا سُمّيت العتبة من العتب: الأمر الذي فيه بعض الصعوبة، ومن ذلك العتبة لارتفاعها عن المكان المطمئن السهل “يصعب” ارتقاؤه. ولعل العتاب، وهو لوم الصديق، سُمّي عتاباً لكونه كلاماً يقال عند عتبة الصديق قبل الدخول إلى داره. وقيل إن العتابا من العتاب؛ فهي عتاب للزمان والوليف، ومنه بيت عتابا ناقص أحمله معي من طفولتي، وتأبى الذاكرة أن تُكمله:

طلعنا فوق عالي وارتفعنا … ربّ العرش ما يضيّع تعبنا

لا يمكننا اختزال التجربة الطلليّة بالحنين إلى الماضي والبكاء. الأطلالُ موقعٌ يُشبه عتبة مسجد سبيطة، ما بَين بَين، برزخٌ ما بين زمانين؛ الماضي الذي كان، والمستقبل الذي لم يكن. منذ أن قامت المستعمرة المُسماة “إسرائيل” في بلادنا، وهي تسابق الزمن، تطحن المكان لتؤبّد الزمان، زمانها. على عتبة الأطلال، يتحرر الوعي والحسّ من “أنبوب المسرّع” الصهيوني هذا، ويتسرب الخيال من تشققات الحاضر المنظور له من على عتبة الأطلال.

في مقابل البكاء على الأطلال عند شعراء المعلّقات، لم يبكِ شعراء الصعاليك على طللٍ، وإنما تغنّوا بما أسموه “المَراِقب”، وهي رؤوس الجبال التي اتخذوها موقعاً للترصد بأعدائهم، ويشرفون منها على العالم، وقد شَرُفَت نُفوسُهم بمراقبهم، قريب من قول المتصوفة “كل شُرفة شَرف”، يقول الشنفرى:
وَمَرْقَبَةٍ عَنْـقاءَ يَــقْصُرُ دونَها    أَخو الضِّرْوَةِ الرِّجْلُ الْحَفِيُّ الْمُـخَفَّـفُ

الوقوف على أطلال زمن قادم بصحبة هاياو ميازاكي

(محطة سبيطة الصهيونية للطاقة الشمسية، خالد عودة الله، آب 2018)

ما بين البكاء على الأطلال والترصد من على الَمراقِب، توترت رحلتي في تُليلات العنب حتى وقفت على تلةٍ مشرفةٍ على مشروع توليد الطاقة الشمسية الذي شيّده الصهاينة حديثاً في سبيطة. عشرات الألوف من المرايا تعكس أشعة الشمس على قمة برجٍ عظيمٍ في وسطها، أعلى برج شمسيّ في العالم. قبل دقائق، كنتُ بين أطلال عمرُها آلافُ السنين، وها أنا الآن أمام كتلةٍ من تكنولوجيا المستقبل. أنظر إلى البرج المتوهج المتطاول على المكان معلناً امتلاك الزمان، يشع ثقة بالمستقبل. تذكرتُ أبراج الطاقة الشمسية في “القلعة”، (Industria)، في رائعة “عدنان ولينا” لهاياو ميازاكي

حدّثت نفسي: يوماً ما، سيصبح كلُّ المشروع الصهيوني في بلادنا أطلالاً، ولن يبقى منه على الأغلب في هذه المنطقة سوى أطلال هذا البرج العظيم شاهدة على المغامرة الصهيونية الآفلة. ودفعةً واحدةً استيقظ الياباني الصغير النائم في داخلي، الذي أودعتْهُ فينا مسلسلات الكرتون اليابانية المهمومة دوماً بأفول الحاضر البشع، والواثقة بالبدايات الجديدة في “أرض الأمل”. ورُحت أغني:
“جمعتهم أماني، جمعتهم أماني، أماني حلوة
حلوة وجميلة، حلوة البراءة حلوة، حلوة الصداقة حلوة، حلوة وثمينة
عدنان عنوان المحبة، عدنان عنوان الحنان، عدنان يتخطى المصاعب
عدنان يتحدى الصعاب عدنان يتحدى الثعالب
عدنان غالب، عدنان عدنان غالب”

つづく

***

الهوامش:

[1] زكريا،  أحمد. عشائر الشام.دمشق: دار الفكر، 1983، 28.
[2] شقير، نعوم. تاريخ سيناء القديم والحديث وجغرافيتها. بيروت: دار الجيل، 1991، 73-74.
[3] الكسداني، أبو بكر أحمد بن علي(المعروف بابن وحشية). الفلاحة النبطية. دمشق: المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية.1993، ج2، 933.
[4] Palmer,edward.Desert of Exodus.New York: Harper & Brothers.1872
[5] קידר, יהודה.בעיית התלוליות או “ תולילות אל ענב״ בחקלאות העתיקה בנגב.
[6] The Negev Byzantine Bio-Archaeology Research Program
[7] www.negevbyz.haifa.ac.il
[8] Evenari, Michael. The awakening desert: the autobiography of an Israeli scientist. Springer Science & Business Media, 2012, 149.
[9] ארגמן ,יוסף.דרך יאיר .הוצאת סידרת לוחמים הקיבוץ המאוחד,1982
[10] https://www.haaretz.co.il/misc/1.1221635
[11] על המשמר, 26-4-1963
[12] Theobald, A. (2009). Watching the War and Keeping the Peace: The United Nations Truce Supervision Organization (UNTSO) in the Middle East, 1949–1956, ProQuest Dissertations and Theses.73-76.
[13] דבר. 4-12-19680
[14] المقريزي، تقي الدين. كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار. بيروت: دار الكتب العلمية. الجزء الأول 347.
[15] الخطيب، محمد عثمان سعيد/صالحية، محمد عيسى. “الأوقاف الإسلامية في فلسطين في العصر المملوكي 648-923 هـ/1250-1517 م.”  .‎
[16] 
Woolley, Charles Leonard, Thomas Edward Lawrence, and Marcus Niebuhr Tod. The Wilderness of Zin:(archeological Report). 1915,XV.
[17] 
Tepper, Yotam, Tali Erickson-Gini, Yoav Farhi, and Guy Bar-Oz. “Probing the Byzantine/Early Islamic transition in the Negev: the renewed Shivta excavations, 2015–2016.” Tel Aviv45, no. 1 (2018): 120-152.
[18] 
https://www.haaretz.com/archaeology/.premium.MAGAZINE-no-early-christians-muslims-didn-t-happily-coexist-in-shivta-1.5790295