يتتبع أحمد العاروري في هذا المقال تفاعل الجنوبيّ مع شتلة التبغ، أو “شتلة الهموم”، كما يسميها، وتاريخ علاقة الناس معها وتداخلها بحياتهم في جبل عامل، وتعلق شتلة التبغ بحكايا القهر والحبّ والعلاقات بين القرى والبلدات، وكيف رزح التبغ تحت وطأة الدولة والبرجوازية البيروتية، وتلك القادمة من جبل لبنان، فضلاً عن الانتفاضات التي ساهم التبغ في إشعالها.

كان يأتي صباحاً وفي يده طرحة العرس
ثم يقلّم أشجار عينيه حتى يُعرّش في الشمس كالأنبياء
وكان يُراقص شتلة تبغٍ ويجذُبها صوب كفّيه
لكنها لا تصلُ فيقطر حُزناً وتقطُرُ سحراً
ويمتدُّ تمتدُّ حتى يُلامِسها في السماء…

تقصر هذه السطور بكلِّ تأكيدٍ عن تبيان تاريخ علاقة الناس مع شتلة التبغ وتداخُلها بحياتهم، فإن كان تاريخ حبّة سكرٍ “هو درسٌ كاملٌ في الاقتصاد السياسي، والسياسة، وكذلك في الأخلاق”، كما يقول “إدوارد واغاليانو” في كتابه “الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية، فإنّ شتلة التبغ مذُ غُرِست لأول مرّةٍ في تراب جبل عامل ولبنان، ولدت معها حكاياتٌ من العذاب والألم والقهر والاستغلال والحُبّ والاجتماع البشري والعلاقات بين القرى والبلدات والمجتمعات.

تختلفُ الروايات حول التاريخ الدقيق لدخول “شتلة التبغ أو “شتلة الهموم” كما يُسمّيها فلاحو جبل عامل ولبنان، والقصّة الأشهر أنّ الشتلة دخلت إلى لبنان في عهد السلطان أحمد الأول في العام 1603، وهو الأمر الذي يؤكّده عارف العارف بالنسبة لفلسطين، ويُبيّن أنّ تدخين التبغ وشرب القهوة حضرا في القدس عام 1633.

عن أجدادهم، يتناقلُ فلاحو جبل عامل أنّ الدخان دخل إلى لبنان عن طريق تجّارٍ كانوا يسافرون إلى أوروبا، وهي نبتةٌ بلغاريةٌ، وهُرِّبت عن طريق عُكّازةٍ أو عصا تمّ ثقبُها ووُضِعت “بزرة” التبغ داخلها، ومن ثمّ أُغلِقت لضمان حمايتها خلال التفتيش.

وجديرٌ بالذكر والألم في الوقت نفسه، والحقيقة التي أُحبُّ أن أظلّ أذكرها، عن العلاقة التي كانت تجمعُ فلسطين وشمالها خاصّةً بجنوب لبنان أو ما يُعرف بـ”جبل عامل”، حيث تشارك الناس في هذه المنطقة التي كانت واحدةً في هموم الحرب والسلام والهجرات والتجارة؛ فكان سوق بنت جبيل ،مثلاً، يجمعُ البلاد من غزة حتى الجليل وإصبعه، وصولاً لسوريا وحوران، وينفتحُ بما قد تُخبّئه جيوب الناس وبيوتهم من “ممنوعاتٍ”، كالدخان العربي أو تبادل البضائع خارج مراكز الجمارك الحدودية”، ويفيض أيضاً “بأوجه الاجتماع واللهجة والجغرافية والحواضر والزعامات والعائلات والأدب والشعر في الجوارين الفلسطيني والسوري”. [1]

يُطلق مسمّى جبل عامل على المنطقة الممتدّة بين البحر الأبيض المتوسط غرباً ومن الشرق نهر الحولة ووادي التيم وبلاد البقاع وقسمٌ من جبل لبنان ومن الشمال نهر الأولي، ومن الجنوب فلسطين المحتلة، وقد ضُمّ إلى لبنان بعد إنشاء ما يُعرف بـ”لبنان الكبير” من قبل الاستعمار الفرنسي في العام 1920.

أمّا في وصف زراعة التبغ، هذه المهنة التي يقول الجنوبيّون إنّها “أكلت من عظام أهلنا وأتلفت بشرة نسائنا وشدّت عود أطفالنا، ورغم المعاناة نتوارثُها مع الأجيال؛ فلا بديلَ عنها ولا غنىً عن معاناتها”، [2] فإنّ قطاف المحصول بحاجةٍ لصبر لفترات طويلة قد تصل ل19 شهراً يتداخل فيها الليل مع النهار، تبدأ بتجريف الأرض وتنعيمها ومن ثم تسميدها لتستقبل بذور التبغ، المرحلة الأولى بعد تجهيز الأرض تبدأ في شهر آذار، فتُزرَعُ فيها المشاتل وتُنثَر بذور التبغ على أرضها، وتُعتّبر من المراحل الصعبة والحسّاسة؛ إذ إنّ نجاح الموسم كلّه يتوقّفُ عليها بدايةً، فيبذُلُ المزارعون كلّ ما بوسعهم من رشّ الأدوية والمنشّطات وتعشيب الأرض من النباتات الضارّة، وتجهيز التربة على شكل أحواضٍ، ومن بعدها تُرشّ بذور التبغ مع الرمل والرماد، ومن ثمّ يُرشّ المشتلُ بالماء.

وبعد ما يقارب من شهرين، حين يبلغ طول الشتلة ربع سم، تُنقل للأرض، وهنا تبدأ المرحلة الأساسية بالزراعة التي تكون في فصل الربيع، ويكون العمل جماعياً يشارك فيه الأطفال والنساء والرجال لتقليل التعب، وبعد شهرين يُصبح الموسم في أوجه وتبدأ مراحل القطاف، وهي ستّة وتسمّى: التكعيبة، وبعد أسبوعين تقريباً تكون قطفة ما يمسى “بفحلة أولى”، ثم بعد مدة مقاربة تكون القطفة الثالثة وهي “فحلة ثانية”، أما القطفة الأخيرة فتكون في نهاية شهر آب/أغسطس.

يجمعون ما قطفوه في أكياس تحضيراً للمرحلة الثانية من العمل (علي علوش)
التحضير للمرحلة الثانية من العمل (تصوير علي علّوش)

 

في كتابه عن رحلته ومشاهداته بلبنان، يصفُ الدكتور لويس لورته، عميد كلية الطب في ليون الفرنسية، التبغ الذي يُزرَع في سهل طرابلس، والذي كان يُرسل إلى مصر ويُباع هناك، ويصفُ، كذلك، فلاحي بنت جبيل أنهم “أغنياء بالنسبة لجيرانهم، وأرضهم تغلّ لهم القمح والتبغ”.

خلال حُكم الشيخ ناصيف النصار للمنطقة منذ العام 1755، والذي انتهى بمقتله خلال معركة يارون مع أحمد باشا الجزار بالعام 1780، ازدهرت زراعة التبغ في هضاب جبل عامل، وخاصّةً في ساحل قانا والجبال المجاورة لصور، وكان تبغها يشبه تبغ اللاذقية ويفوقُه أحياناً، وتبغ اللاذقية هذا، يُعرَف أيضاً بـ”أبي ريحة”، كان يُصدّر إلى واد النيل، وقد شهدت المدينة وفقاً لرحالة أوروبيين “نمواً اقتصادياً، اعتباراً من أواخر القرن السابع عشر نتيجة تصديرها للتبغ”. وعن سبب تسميته بأبي الريحة؛ فقد شهد العام 1744 ثورةً في الجبال المحيطة بالمدينة، وتوقّفت الأهالي عن بيع محصول التبغ، فعلّقوه في سقوف بيوتهم، ولما جاء الشتاء أخذوا يوقِدون النار في منازلهم ليتجنّبوا البرد والتصق دُخانها بالتبغ المُعلّق، فاسودّ لونه.

وفي السنة التالية تصالح أهالي القرى المحيطة باللاذقية مع الحكومة وعاد الاتصال مع المدينة، “فاشترى منهم التجار التبغ بثمنٍ بخسٍ لاسوداده وتغيُّر هيئته في التدخين، وأرسلوه كعادتهم إلى دمياط، فوافق طعمه ورائحته ذوق المصريين، وراجت سوقه عندهم وازداد الطلب عليه، ولمّا علم تجار اللاذقية بذلك أشاروا إلى سكان المناطق الجبلية أن يعلّقوا محصول السنة القادمة ويدخّنوه، و”منذ ذلك الحين صاروا يعالجونه بتلك الطريقة، وأُطلق على هذا النوع من التبغ اسم دخان أبو ريحة أو الدخان المدخون”. [3]

التبغ تحت وطأة الدولة والبرجوازية القادمة من بيروت

أقرّت الدولة العثمانية في العام  1864 تنظيماتٍ جديدةً ألحقت جبل عامل بولاية بيروت، الأمر الذي خفّف من الصدامية العسكرية التي كانت تحكم العلاقة بين المنطقتين خلال سنواتٍ طويلةٍ، كما أنّ التنظيمات الجديدة التي كان لها شقٌّ اقتصاديٌّ أدّت لامتداد زراعة التبغ لمناطقَ إضافيةٍ أوسع في جبل عامل والجليل، مثل بلدة الجش، التي عرفت هذه الزراعة للمرة الأولى في تلك الفترة. [4]

“لكنّها اتخذت مساراً جديداً لا يقلُّ استنزافاً وصِداميةً”؛ فقد أصبح جبل عامل وفلاحوه رهائن “للمُرابين القادمين من صوب بيروت وجبل لبنان مثل آل جوهر، وآل غندور، وآل الصلح، وآل فرنسيس، وآل الشمعة، وآل مجدلاني، بالإضافة إلى آل عودة”. [5]

وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، “اتّكأت البرجوازية القادمة من بيروت وجبل لبنان في مدّ سيطرتها بجبل عامل على ازدهار زراعة التبغ فيه”، لكنّ زراعة التبغ شهدت تدهوراً بعد منح الدولة العثمانية احتكاراً بشرائها وبيعها لشركة “الريجي” الفرنسية، حيثُ “أخذت بمصير زراعة التبغ في مناطقَ معينةٍ؛ وذلك ليتسنّى لها حصر الإنتاج في أماكنَ ضيقةٍ تسهل مراقبتها لمكافحة الإنتاج غير القانوني وتهريبه”. [6]

وبهذا كان على الفلاح في جبل عامل، كي يتمكّن من زراعة التبغ، أن يستأجر أرضاً إضافيةً وبأسعارٍ عاليةٍ وأن “يُرضي أصحاب العلاقة ليُقرّروا إن كانت أرضُه صالحةً لزراعة التبغ. أدّى هذا التدهور إلى تجميع الملكيات الصغيرة أو انتقال الملكيات الكبيرة، نتيجة عمليات الربا والرهن، إلى أيدي قلةٍ مُتموّلةٍ من خارج جبل عامل”.

لم تكن العائلات المتمكّنة في جبل عامل، قبل سيطرة البرجوازية البيروتية والقادمة من جبل لبنان، مثل دار الأسعد وآل الفضل، قادرةً “على تخطّي أصولها الاجتماعية والدخول في شبكة العلاقات الرأسمالية لتجارة التبغ، بالإضافة للابتزاز الذي كان يفرضُه منطق التبعية الاقتصادية؛ فقد كان أهالي جبل عامل ينهبون كمستهلكين في نفس الوقت الذي كانوا ينهبون فيه كمُنتجين، عن طريق شراء محاصيلهم بأسعارٍ زهيدة”؛ فقد فرضت “الريجي” شروطاً على فلاحي التبغ تزيد مرارته في حلوقهم، فكان مطلوباً منهم الحصول من خلالها على تصريحٍ بالزراعة “ولم يكن كلّ فلاحٍ قادراً نوالَ هذا الإذن؛ فلكي يحصل عليه كان لا بدّ له، وحسب نظامها، من التصرّف بأرضٍ لا تقلّ عن خُمْس الهكتار، وأن تكون مُحاطةً بسياجٍ، وألّا تكون المساحة التي تفصلها عن المدينة بأقلّ من 3 كلم”. [7]

فيما قادت السيطرة الاقتصادية للبرجوازية القادمة من خارج جبل عامل لسيطرةٍ سياسيةٍ جعلت من هذه البرجوازية “المرجعية الأولى في القضايا الحاسمة بالجبل؛ ففي الخلاف الذي نشب في أواخر ستينات القرن التاسع عشر داخل أسرة آل السعد، جاء أحمد باشا الصلح وأجرى صلحاً داخل العائلة”، [8] وكان خلافٌ قد نشب بين ثامر بك السلمان من آل علي الصغير وعلي بك الأسعد “حاكم جبل عامل”، حول أحقّية كلٍّ منهما بالإمارة، فقد احتجّ ثامر أنه أكبر في العمر من علي بك الأسعد، وفي عُرف العشائر يُعطى الأكبرُ الأحقّية في الحكم.

حاول ثامر بك “الاستيلاء على رئاسة البلاد بالقوة والحرب لكنّه فشل، فذهب إلى مصر عام 1862 ومنها إلى الأستانة، وعاد بأمر تعيينه مكان علي بك الأسعد”[9]، الأمر الذي رفضه علي بك الأسعد فنشبت بينهما المعارك، ما دعا الدولة العثمانية لإرسال مبعوثٍ من آل الصلح، فأصلح بينهما وبقي علي بك الأسعد حاكماً على جبل عامل، وثامر بك في مكانه بمقاطعة بنت جبيل. [10]

وفي العام 1864، تجدّد الخلاف بين علي بك الأسعد وثامر بك، فأصدر علي بك قراراً بعزل ثامر بك وتعيين ابن عمه محمد مكانه، الأمر الذي لم يُعجب والي صيدا، فاستدعى علي بك وابن عمه وطلب من علي بك التراجع عن القرار، فرفض الأخير، ما جعل الوالي يحتجزهما، ونُقِلا إلى دمشق وهناك تُوفّيا بالكوليرا. [11]

تبغ لبنان إلى “قرمان” حيفا

على جريدة “الزهور” التي كانت تصدر في حيفا قبل النكبة، نجد الإعلان التالي: “إنّ معمل التّبغ أعظم من حصنٍ عربيٍّ مسلّحٍ بالبنادق والمدافع .. إنّ معمل السّادة قرمان، ديك، وسلطي، هو أكبر مؤسّسةٍ وطنيّةٍ في فلسطين. أصحابه مسلمون ومسيحيّون، مزارعو الدخان الذين يشترون منهم دخانهم مسلمون ومسيحيون، مدخّنو أصنافه مسلمون ومسيحيّون، ما عدا فئةٍ صغيرةٍ لا تستهلك خمسة بالمئة من منتوجاته، هم من اليهود الذين لم يُدخّنوا سجائره من أجل المعاضدة والتشجيع، بل لأنّهم كانوا يفضّلونها على جميع السجائر التي تصدر في فلسطين”.

في العام 1929 مع بداية الاحتلال البريطاني لفلسطين أقيم مصنع لتصنيع التبغ وتصديره، في شارع الناصرة بمدينة حيفا، وقد تأسّس كشركةٍ تعاونيةٍ بين ثلاث عائلاتٍ هي: قرمان من نابلس، والسلطي من صفد، وعائلة الديك من حيفا.

استوعب المصنع إنتاجَ فلاحي فلسطين وقرى صيدا وصور بجنوب لبنان، بالإضافة لعددٍ من العمال السوريين واللبنانين، “وتشير ذاكرة اللاجئين الفلسطينيين في سورية إلى أنّ معظم النساء اللواتي عملن في المصنع غادرن بعد النكبة مع عائلاتهنّ إلى مدينة اللاذقية شمال الساحل السوريِّ، في المنطقة التي أصبحت تُعرف فيما بعد بمخيم الرمل الفلسطيني”. [12]

ومع سقوط حيفا بيد العصابات الصهيونية، أغلق مصنع “قرمان” وهُجّر معظم أصحابه وعمّاله، وفُصِلت فلسطين قسراً عن امتدادها في سوريا ولبنان، ولم يعد التبغ الجنوبي يُصدّر إلى المدينة التي كانت تشهدُ نهضةً صناعيةً كبيرةً قبل النكبة.

اللاجئون الفلسطينيون الذي هُجّروا لتوّهم من قراهم وبلداتهم في الجليل والكرمل على وقع المجازر ورائحة البارود، لم تنته حكايتهم مع جنوب لبنان؛ فعاشت عائلاتٌ فلسطينيةٌ في قرى الجنوب قبل إنشاء المخيّمات الموجودة اليوم، وفي بلدة بنت جبيل خاصّةً، عمل الفلسطينيُّ بجانب أهلها في زراعة التبغ وتشارك معه همومها، وفي الصورة الأوسع كان العمل الفدائي يشهد حراكاً يقوده فلسطينيون يعبرون الحدود التي تشكّلت قسراً، لمهاجمة العصابات الصهيونية، وقد كان جرح النكبة طازجاً يُدمي القلوب والعيون، ولا تزال “صور حسن الفلسطيني، وأبو غالب، ونايف الفلسطيني وعلى أبو دبسة، بكوفياتهم الحمراء والسوداء يلفّونها على رؤوسهم من غير عقال”[13]، تعيش في مخيال من عاش تلك الفترة من أهل بنت جبيل.

على سبيل التقارب بين قوات الثورة الفلسطينية وأهالي جبل عامل، كان يشاركُ مقاتلو المقاومة في قطاف التبغ، كما يروي راشد أبو جيش، أحد قادة القواعد العسكرية للجبهة الشعبية في الجنوب، في مقابلةٍ معه كيف أنّ هذه المشاركة في قطاف التبغ والزيتون وزراعة الشعير جعلت الأهالي يتقبّلون وجودهم بينهم وخلقت علاقاتٍ إيجابيةً في المنطقة بين الطرفين.

في العام 1934 أصدر المندوب السامي الفرنسي قراراً باحتكار إنتاج التبغ في الأراضي التي تقع تحت احتلال فرنسا ومن ضمنها سوريا ولبنان، لمدة 25 سنة، الأمر الذي أثار احتجاجاتٍ واسعةً رفضاً للقرار والمجتمع وعددٍ من قيادته، ربّما كان من أبرزهم أنطون عريضة بطريرك الموارنة، الذي أرسل عرائض للحكومة الفرنسية يرفض القرار، وجاءت أهمّية موقفه نظراً للعلاقة التي كانت تربط فرنسا بالموارنة، ممّا دفع الزعماء القوميين وقادة الحركة الوطنية في لبنان وسوريا لتوثيق علاقاتهم مع البطريرك بعد مواقفه التي أطلقها ضدّ الفرنسيين. [14]

اندفع البطريرك بقوّةٍ لمعارضة القرار لشعوره بالأضرار الكبيرة التي ستلحق بمصالح الكنيسة الاقتصادية، حيث توسّعت في زراعة أملاكها بالتبغ، الأمر الذي يهدّدُه احتكار الشركة الفرنسية لتحديد المساحات المزروعة وشرائه وإعادة إنتاجه وبيعه.

وقد منعت الحكومة اللبنانية التظاهر ضدّ قرار احتكار التبغ، فامتد الإضراب إلى باعة الخضار في بيروت واللحامين في زحلة، فقُمعوا بعنفٍ وسقط منهم قتيلان، واتّهمت الحكومة، الحزبَ الشيوعي اللبنانيِّ – السوريِّ وحزب الاستقلال الجمهوريِّ، بإدارة الإضراب والتحريض عليه. [15]

قبل ذلك ومع بداية الاحتلال الفرنسي لبلاد الشام ،”قرّر المنتدب الفرنسي أن يُنشئ إدارةً اقتصاديةً واحدةً للدولتين في عدّة مجالاتٍ اقتصاديةٍ خاضعةٍ مباشرةً للمُفوّضية السامية في بيروت. وذلك عبر ما سُمّي “المجلس الأعلى للمصالح المشتركة”. كما عملت فرنسا على مسحٍ شاملٍ للأراضي وشجّعت زراعة التبغ، بخاصّةٍ في المناطق غير المروية من لبنان، وربطتها بالاقتصاد الفرنسي، بالإضافة أن شركة “الريجي” التي احتكرت شراء وبيع التبغ كانت تُنفق نسبةً من إنتاجها لمصاريف سلطات الاحتلال الفرنسي. [16]

بينما كانت ثورة العام 1936 تشتعل في فلسطين، إلى جانب الرفض المُتصاعد لأهالي بنت جبيل لفصل لبنان عن سوريا، اندلعت احتجاجاتٌ واسعةٌ كان السبب المباشر لها احتكار شركة “الريجي” لزراعة التبغ، والظلم الذي يستتبعه ذلك على الفلاحين؛ حيثُ كانت بنت جبيل تنتج 40 ألف كيلو من التبغ، يُباع قسمٌ منه في فلسطين، والقسم الآخر يشتريه مصنعٌ محليٌّ لصاحبه إلياس صويا، [17] والذي اشترته شركة “الريجي” منه لاحقاً!

قبل منح “الريجي” احتكار شراء التبغ وبيعه، كانت مصانع الدخان منتشرةً في جبل عامل والبترون، وكانت هذه المصانع تشتري التبغ من الفلاحين بأسعارٍ رخيصةٍ، وبعد دخول “الريجي” إلى المشهد زادت مخاوف المزارعين من احتمالية انخفاض الأسعار، حتّى عن ما كانت عليه سابقاً. [18]

وعلى إثر هذه المظاهرات والاحتجاجات اعتقلت سلطات الاحتلال عدداً من وجهاء وقادة البلدة والمنطقة، بينهم الحاج علي بيضون، والوزير السابق علي بزي، والشاعر موسى الزين شرارة، وأنيس الإيراني.

لم تخرج قيادة انتفاضة بنت جبيل عن العائلتين الرئيسيتين بيضون وبزي، ويليهم آل شامي وآل شرارة وهم حلفاءٌ لهم وأقرباء، وكانت آل بزي يسيطرون على أملاكٍ واسعةٍ وأراضٍ تمتدّ إلى قرى القدس والمالكية في فلسطين، وفي بيت ليف وحداثا ومارون، بينما مارس آل بيضون تجارة الأغنام والخيول بين الشام والعراق. [19]

دفعت الاعتقالات الأهالي لنقل الاحتجاجات أمام “مقرّ السرايا” الذي كانت تحتله القوات الفرنسية، التي فتحت النار على المُحتجّين، ما أدّى إلى استشهاد مصطفى العشي من بنت جبيل ومحمد الجمال وعقيل دعبول من بلدة عيناتا، وعلى إثر ذلك اقتحم المتظاهرون مقر السرايا وحطموا باب السجن وأنزلوا العلم الفرنسي.

“يومها هبّ الجنوب كاملاً وراء بنت جبيل ثمّ هبّت مناطقُ من لبنان وسوريا في إضراباتٍ ومظاهراتٍ لأسابيع، دفاعاً عن بنت جبيل، بلدةً وشبيبةً ومزارعي التبغ”. وقد زاوجت أحداث بنت جبيل بين المشاعر القومية في نفوس أهالي المنطقة وصِلات عددٍ من شُبّانها مع قادة الثورة الفلسطينية مثل “أبو إبراهيم الكبير، وأبو إبراهيم الصغير”، من خلال نقل السلاح لهم وإخفاء المطاردين وحتّى القتال المباشر. [20]

خلال انتفاضة التبغ في بنت جبيل برزت شاعرةٌ شعبيةٌ، وكانت تُعرَف بـ”العدرة”، وتقود المظاهرات، واشتهرت قصيدتها التي قالتها على نمط “المحوربة” وهو أحد أنواع الغناء الشعبي:

بدنا حلو و بدنا مرّ وبدنا تفاح بلودان
وبدنا نكسر باب الحبس وبدنا نطلّع بو عدنان
بدنا حلو و بدنا مرّ وبدنا حامض لفاني
وبدنا نكسر باب الحبس وبدنا نطلع بو هاني*

*أبو عدنان: موسى الزين شرارة
أبو هاني: علي بزي

(تبغ مجفف في جبل عامل. تصوير:علي علّوش)
(تبغ مجفف في جبل عامل. تصوير: علي علّوش)

انتفاضة عيترون

في عيترون، كحال بلدات وقرى ولبنان، كان المزارع يعيش حرباً يوميةً، يُدافع بها عن نفسه تضييقات شركة “الريجي”، التي كانت قد فرضت نفوذها حتّى على نقابة الفلاحين، في ظلّ الصراع الذي كانت تشهده النقابة بين آل الزين وآل الأسعد للسيطرة عليها، بالإضافة إلى تصاعد دور الحركة الوطنية اللبنانية والشيوعيين وتبنّيهم قضية الدفاع عن المزارعين.

كانت الشركة تمنح غالبية رخص زراعة الأراضي بالتبغ للإقطاعيين ورجال السلطة المقرّبين منها لتأجيرها للمزارعين، وفي الغالب لا تؤجّر المساحة الكافية للفلاح بحيث يحقّقُ من الموسم كفايته مع عائلته ويسدّد ديونه التي تتراكم عليه، قبل البدء في الموسم حيث يستدين ليشتري المواد والبذور وغيرها.

“غياب الدولة اللبنانية” عن الوقوف بجانب الفلاحين رغم الوفود التي نظمها الأهالي للقاء المسؤولين من بينهم رئيس الدولة فؤاد شهاب ورئيس الحكومة رشيد كرامي وشرح قضيتهم، دفع عدداً منهم لزراعة التبغ في مساحات إضافية غير مرخصة، “حتى أصبحت الزراعة من دون ترخيص توازي الزراعة المرخص لها”، وسط تهديدات من الشركة و”المحسوبين عليها في القرى والدرك” بإتلاف كل الزائد. [21]

في ال19 من تموز في العام 1968، يومٌ يختلف عن سابقه كما يقول أهالي عيترون حمل معه أحداث ثورة انفجر فيها الأهالي دفعةً واحدةً بكل ما اختمر في قلوبهم من معاناة طوال سنوات، فمع ساعات الصباح تقدم “رتلٌ من آليات الجيش اللبناني بداخله أكثر من 100 عسكري وخلفهم عدة تراكتورات و سيارات لموظفي “الريجي” والعشرات من العمال”، نحو البلدة من أجل تخريب المحاصيل غير المرخصة. [22]

مع وصول القافلة إلى المدخل الجنوبي للبلدة بدأت المعركة مع الأهالي الذين تمكّنوا من “شاحنة وجيب، فيهن حوالي الأربعين دركي، وركّعوهن قدّام بيت بو إلياس وشلحوهن أسلحتهن”. وكانت الأسلحة التي تحملها الرجال والنساء دفاعاً عن “شقى عمرهم”، كما يقولون هو العصي والأحذية. [23]

بعد ساعات، تمكّن الأهالي من أسرِ مسؤول القوة التي حاولت اقتحام البلدة وعددٍ من الدرك، وتمّ تسليمهم للجيش اللبناني بعد مفاوضات، مقابل عدم إتلاف محاصيل التبغ.

انتفاضة التبغ في النبطية

يُخبرنا التاريخ الكثير عن الأحداث الاجتماعية الكبرى وعن كونها لا تولد فجأةً، فإنّ ذات المظالم التي اشتكى منها فلاحو جبل عامل خلال سنوات الاحتلال الفرنسي والحكم العثماني، بقيت وتطوّرت وأخذت أشكالاً جديدةً، فبقيت الدولة وشركة “الريجي” على انحيازها لكبار الفلاحين ومالكي الأراضي في منحهم الرخص على حساب صغار الفلاحين.

كما أنّ ما يقارب الـ 30% من المزارعين الصغار كانوا يخرجون من الموسم دون أيّة ليرةٍ إضافيةٍ بعد سداد للبنك، وجاءت التنظيمات الجديدة لتُكرّس واقع الظلم الواقع عليهم، فكان على المزارع، عندما يسلّم التبغ، أن يدفع ضريبة “التالف” التي تتراوح نسبتها بين 4 لتصل إلى 10% ، حتى وإن كان كلّ الدخان صالحاً ولا عيوبَ فيه. وكان مطلوباً من الخبير تصنيف التبغ وإعطائه علامةً معينةً، فيفتح الطرد ويفحصه من الجهات الأربعة، فإن كانوا متطابقين مع المعايير يصنّف الكلّ تصنيف “X” مثلاً، وإن لم يجد تطابقاً يلجأ إلى تصنيفاتٍ متعدّدةٍ داخل الطرد أو حتى تصنيفاتٍ لمحصول الموسم. وهذا ما أوقع المزارع تحت رحمة الخبير وضرائب التالف ونفوذ المتنفذين.

على وقع ذلك، انطلقت المظاهرات في 22 من كانون أول 1973 صوب مقرّ شركة “الريجي” في النبطية. وبعد تكسير المقر، دخل عددٌ من المعتصمين الذين أتوا من خلفياتٍ متنوعةٍ “يساريين وبعثيين وإسلاميين”، ووسط حصارٍ من الأجهزة الأمنية للمعتصمين، خرجت مظاهرةٌ للمطالبة بفكّ الحصار، وحدثت اشتباكاتٌ سقط خلالها المزارعان نعيم نعمة درويش من بلدة حبوش، وحسن أحمد حايك من بلدة “كفر تبنيت”، ومن ثمّ اقتحام مقر الشركة واعتقال المعتصمين لتمتدّ المظاهرات والاعتصامات، على إثر ذلك، في عددٍ من قرى جنوب لبنان والعاصمة بيروت.

العدو الصهيوني: العمالة مقابل تسويق التبغ

كانت الأعوام 1975 ،1976، 1977 “قاسيةً وثقيلةً” على صدور فلاحي الجنوب، بعد أن توقفت شركة “ريجي” عن استلام طرود التبغ، بحجّة أنّها “طلبت من وزارة المالية فتح اعتماداتٍ ماليةٍ توفّر السيولة، وهذا ما لم يحصل”.

عاش الفلاحون، الذين اعتمدوا في غالب معاشهم أو كلّه على ما كان يأتي به موسم التبغ، بقلقٍ وخوفٍ يوميين على كيفية تدبير أمر حياتهم وطريقة حماية المحصول المتكدّس من المطر والتلف وقذائف الاحتلال التي كان يقصفُ بها خارج القرى القريبة من حدود فلسطين المحتلة، يُضاف إليه أصحاب المحلات التجارية والدكاكين الذين كانوا يتأثّرون بنجاح موسم التبغ وفشله؛ لارتباطهم بالفلاحين بيعاً وشراءً.

لم تنجح كلُّ الوساطة في إقناع شركة “الريجي” بشراء الطرود، حتى تدخّلت ليبيا والعراق وقرّرتا شراءه مقابل مبلغ 41 مليون ليرة لبنانية، وهو الأمر الذي لم يحصل بسهولةٍ بفعل الفوضى في توزيع لجان استلام المحصول من قرى الجنوب، ودخول الواجهات والواسطة لتفضيل قريةٍ دون الأخرى في إخراج المحصول أولاً، بالإضافة لما كان يدور من أحاديثٍ بين الجنوبيين عن وجود صفقاتٍ وسرقاتٍ، دفعت أحمد الخطيب، “قائد جيش لبنان العربي” الذي انشقّ عن الجيش اللبناني، للتدخُّل ونفي ما قيل عن أحد ضُبّاطه من التدخُّل في قضية تسليم التبغ للّجان التي شُكّلت تمهيداً لبيعه لليبيا والعراق.

“إسرائيل” لم تكن بعيدةً عن المشهد؛ فبتوازٍ مع أخبار تدريبها لمجموعاتٍ مُسلحةٍ في قرىً مسيحيةٍ جنوبيةٍ، كان مسلّحو بلدة رميش الذين فتحوا اتصالاتٍ سابقةٍ معها، يحتجّون على وجود حاجزٍ مُسلّحٍ من القوى الوطنية على مدخل بلدة بنت جبيل، يمنعهم من إيصال محصولهم رغم أنّ الواقع كان يقول بعكس ذلك؛ حيثُ بقيت الطريق التي تصل القرى المسيحية بالناقورة وصولاً إلى صور، حيث  أحد مراكز تسليم التبغ، سالكةً حتى وقتٍ متأخّرٍ من العام 1977، كما أنّ حاجز بنت جبيل لم يكن سوى نقطة مراقبةٍ ولم يعترض أحداً. [24]

ما كان مجرّد “وسوساتٍ” في صدور المتعاونين مع “إسرائيل”، ولم يكن يلقَ قبولاً جماهيرياً، صار حقيقةً في حين وصلت أول دفعةٍ من تبغ رميش إلى فلسطين المحتلة، لكنّ دولة العدو كعادتها لم تفِ بوعودها التي قطعها وزير جيشها آنذاك “شمعون بيريز” بأن تتولّى تسويق تبغ الذين قبلوا بالتعاون معها، وقد برّرت هذا التراجع بعدم توفّر الأموال لدى الشركة الصهيونية للدفع مقابل المحصول؛ إذ إنّها تنتظر الدفع بعد البيع.

لكن يُشار إلى أنّ عدداً من مزارعي رميش أبقوا تبغهم أمانةً لدى أهالي قرية بيت ليف الشيعية، ممّا يعكس العلاقة القوية بين أهالي القريتين التي تجعل فلاحي رميش يستأمنون على تبغهم هناك. [25]
في الواقع، لم يكن موقف مسلّحي رميش من توكيل دولة الاحتلال بتسويق تبغهم احتجاجاً على كلّ الظروف التي كانت واقعاً يُثقِل صدر الفلاحين، لقد قاد هذا الموقف لأن يصبح هؤلاء المسلحون الهامشيون حتى ذلك الحين، طرفاً محورياً في الجنوب وتفتيته، وأصبحت قراهم تعيش في غربةٍ كاملةٍ عن جوارها الحقيقي. [26]

ومع اندلاع نار الحرب الأهلية التي عمّت لبنان، اكتوى التبغ بها أيضاً، فاختفت زراعتها تقريباً من لبنان، وبقيت في الجنوب الذي شهد انحساراً، لكنها سرعان ما استعادت ذروتها في قرى الجنوب؛ ففي العام 1981 زاد محصول التبغ بـ500 ألف كلغم مقارنةً بالسنوات السابقة، لكن سيف التقصير من قبل مؤسّسات الدولة الذي يعرفه أهالي المنطقة جيداً، عاد ليفتِكَ بالفلاحين؛ إذ تخلّفت إدارة “حصر التبغ والتنباك “عن تسلُّم محصول العام 1983 حتى أيار من العام 1984، ثمّ لم تتقدّم لاستلام محصول سنوات 1984 و1985 و1986، وأيضاً لم تكن “إسرائيل” بعيدةً عن المشهد؛ فحاولت استغلال الظروف التي خلّفها تكدُّس التبغ وإقفال معابر الشريط المحتل مع باقي لبنان، لتوقِع من خلال جيش العميل لحد بمن تستطيع في شِباك التعامل معها.

وبالنزول إلى تفاصيل القُرى الجنوبية زمن الاحتلال، يمكن أخذ “مكتب عين إبل” كمثالٍ على تراجع زراعة التبغ، لأسبابٍ عديدةٍ من بينها اقتطاع “إسرائيل” لصفوة الأراضي الزراعية في نواحي الناقورة، وعلما الشعب، ويارين وهي التي تشكّل عمدة الزراعة في قرى المنطقة، بالإضافة لتزايد أعداد النازحين وتفضيل الأهالي العمل مع القوات الدولية، على مشاقِّ هذه الزراعة التي تستغرق أوقاتهم طوال العام.

التبغ: حلماً وعلاجاً وخيطاً سحرياً

“يا سعدا خيرها بغيرها
الحظ الهيئة معاندنا
خمّنا الغلة بتكفي
اتأملنا و تواعدنا
كل ما بشكّ بهالدخان
بقول يللا منحكي بكرا
صار الموسم بيخنق موسم
لا احكينا و لا اتزوجنا
ياما انطرنا نفرح فيك
بتفرح يا زرع منا”

تعكس هذه المُغنّاة الجنوبية التي أنشدها مارسيل خليفة، شيئاً من لوعات الجنوبيِّ المُختَزَنة في صدره ويتوارثه من أجداده مع كلِّ موسمٍ للتبغ، منذ غُرست لأول مرّةٍ في أرض جبل عامل، وحين يقول:

“عم فكر سافر بكرا
بركي السفرة بتسعفنا
و قلبي بيبقى محبس عندك
محبس الدي بضيعتنا”

فكأنّه يحكي باختصارٍ قصّة الجنوبيِّ مع الهجرات؛ فقد فرغت قراه مراتٍ عديدةً من غالب أهلها، كان الفقر والإهمال سببها الأساسي بالإضافة للحروب الأهلية، ومع الاحتلال الإسرائيلي بدت قرى وبلداتٌ كاملةٌ كأنّها خاويةٌ على عروشها سوى من بعض عجائز، تركهم أبناؤهم هرباً من بطش ميلشيات العملاء التي أطلقها العدو كي تحوّل حياة الناس إلى الجحيم.

“واحنا حد منا ما لاقينا إلا شتلة الخير النحيلة
كل ما بعرس فلاح التقينا
ميلي يا عروس الحقل ميلي
ويديك إن تعبت بتاخد يدينا
يا زارع الشتلة الأصيلة” [27]

(تصوير علي علّوش)

لم يزرع الجنوبي يوماً التبغ إلا كأنه يطلبُ من خلاله ما يريحه من هذه المهنة الصعبة، وكان هذا الحلم مشتركاً بين كلّ سكان قرى الجنوب، وكان التبغ كما “الخيطُ السحريُّ الذي يربط بين القرى المسيحية وجوارها من المسلمين”، والدواء الذي يعالج بعضاً من الجراحات التي تركتها سنوات الحروب الأهلية والنزاعات الداخلية، وخيرُ مثالٍ على ذلك الأحداث التي أدّت لمقتل العشرات من أهالي قرية عين إبل بعد هجومٍ تعرّضت له من بنت جبيل، على إثر رفض غالبية مسلمي لبنان لمشروع “لبنان الكبير” الذي دعمته فرنسا من أجل فصل لبنان عن سوريا، بينما دعمه المسيحيون وقسمٌ من أهالي عين إبل منهم، وفي ظلّ اختلاف الروايات عن عدد القتلى بين الطرفين وحدوث مجازر، إلا أنّ هموم التبغ المشتركة بين البلدتين كان بمثابة مُسكّنٍ لآثار تلك الأحداث.

تماهت شتلة التبغ مع حياة الجنوبي؛ فـ”القذيفة الإسرائيلية تنالُ منها على الدوام، سواءً أصابت الأرض التي تُزرع فيها أو أصابت زارعها، والموقف من الدولة ومن قيادات السياسة ومن أحزابها يتحدّدُ عبر التبغ: أسعارٌ رضيّةٌ إلا تكون إلا في دولةٍ رضيةٍ هنيّةٍ”، كما أن الحديث في همّ الجنوبي كان يُرجَع دائماً للحديث عن هموم التبغ، والحديث في حرمانه حديثٌ عن قلة مردود التبغ. [28]

***

قائمة المراجع:

[1] محمود، جابر (2006) بنت جبيل بين محمودين، جريدة السفير.
[2] وثائقي: زراعة التبغ في عيترون، شاهد هنا 
[3] صالح اللاذقاني، إلياس. مجلة التراث العربي (2013) آثار الحقب في لاذقية العرب، ص 60
[4] العباسي، مصطفى (2010) الجش: تاريخ قرية جليلية، ص 102
[5] جابر، منذر (1972) الكيان السياسي لجبل عامل قبل العام 1920
[6] مرجع سابق
[7] مرجع سابق
[8] مرجع سابق
[9] الفقيه، تقي (1982) تاريخ جبل عامل، ص438،439،440
[10] مرجع سابق
[11] مرجع سابق
[12] الساحوري، رزق (2012) من معالم حيفا الصناعيّة: فبركة الدخان – معمل التبغ الفلسطين، حيفا.نت
[13] جابر، محمود (2006) بنت جبيل بين محمودين، جريدة السفير.
[14] الصلح، رغيد (2006) لبنان والعروبة: الهوية الوطنية وتكوين الدولة، دار الساقي، ص100.
[15] بيضون، أحمد (2011)  رياض الصلح في زمانه، دار الساقي، ص128
[16] لبكي، بطرس (2014)  الأوضاع الإقتصادية في لبنان خلال الحرب العالمية الثانية. مجلة الدفاع الوطني، 88
[17]  بزي، عباس (1969) بنت جبيل: الانتفاضة والإقطاع. مجلة دراسات عربية، 11: 72-88
[18] مرجع سابق
[19] مرجع سابق
[20] جابر، محمود (2006)
[21] بعلبكي، حسين (2015) من نضال مزارعي التبغ في الجنوب، مجلة بدايات
[22] مرجع سابق
[23] مرجع سابق
[24] جابر، منذر (1999) الشريط اللبناني المحتل، مؤسسة الدراسات الفلسطينية
[25] مرجع سابق
[26] مرجع سابق
[27] طليع حمدان
[28] جابر، منذر (1999) ص367-368