يضيء هذا المقال المترجَم على دور الرأسماليّة العالميّة في خلق جوٍّ متراكمٍ من الأوبئة على الأصعدة كافةً. يأخذ الكاتب الماركسيّ “مايك ديفيس” من جائحة كورونا منطلقاً رئيساً في تتبّع خارطة الأوبئة التي فجّرها ظهورها. ترجمة: ياسر المعادات

ترجمة: ياسر المعادات

توطئة:
يضيء هذا المقال المترجَم على دور الرأسماليّة العالميّة في خلق جوٍّ متراكمٍ من الأوبئة على الأصعدة كافةً. يأخذ الكاتب الماركسيّ “مايك ديفيس” من جائحة كورونا منطلقاً رئيساً في تتبّع خارطة الأوبئة التي فجّرها ظهورها، تحديداً على صعيد توسّع الهوّة بين “الإنسانيتيّن”، والعجز عن مجاراة الوباء بعد سنواتٍ طويلةٍ من سياسات الإفقار والتحكّم الرأسماليّ.

(نُشرت المقالة بالإنجليزية في مجلة “العامل الاشتراكي”، للكاتب “مايك ديفيس” بتاريخ 18 نيسان 2020. للاطلاع، من هنا).

****

يجادل المؤلّف الاشتراكي “مايك ديفيس” بأنّنا نعيش في عصر الأوبئة جرّاء التطوّر الرأسمالي. كما يجادل بأنّ الفيروس التاجي (كورونا) كشف عن الفجوة بين نخبةٍ غنيةٍ صغيرةٍ وبقيّتنا، وهو ما يحفّز خلق مساحةٍ لطرح الأفكار الاشتراكيّة.

الوحش الذي دخل من بابنا لا يمكن إلّا أن يكون مألوفًا، لقد عرفنا عنه منذ أكثر من 20 عاماً. على الورق على الأقل، يحذّر المجتمع العلمي كلّ عامٍ تقريباً قادةَ العالم من وجود خطرٍ وشيكٍ يُنذر بحدوث جائحةٍ. كما أُشير مراراً إلى أنّ قطاع صناعة الأدوية الخاصّ لن يتمكّن من توفير مضادات الفيروسات واللقاحات اللازمة.

تشكّل الرأسماليّة تهديداً قاتلاً لبقاء الإنسان بثلاث طرائق:
أوّلاً: لم تعد الرأسمالية تخلق وظائف؛ إذ جعلت مليار شخصٍ أو أكثر فائضاً تماماً عن احتياجات الإنتاج المعولم. يعمل معظم الناس في المناطق الحضريّة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية في القطاع غير الرسمي، وهذا هو أساساً القطاع الوحيد الذي يستوعب الوظائف.

ثانياً: تغيّر المناخ، حيث دفعتنا الرأسماليّة إلى ملحمةٍ جيولوجيّةٍ جديدةٍ تماماً. يحمل تغيّر المناخ تبعاتٍ هائلةً تنعكس تزايداً في ظهور الأمراض. فعلى سبيل المثال، نشهد مع الاحتباس الحراري العالمي تحرّكاً للحشرات الرئيسية لأمراض الملاريا وحمى الضنك وما إلى ذلك باتجاه الشمال. سنُعاصر عودة ظهور الملاريا في أوروبا، وهو أمرٌ لا مناصَ منه تقريباً.

ثالثاً: تهدّد الرأسمالية بقاءنا جرّاء إطلاقها العنان لنوعٍ من الأوبئة التي نعاني وطأتها الآن، حيث تساهم في إنتاجها بشكلٍ مباشرٍ. ليست هذه جائحةً واحدةً فحسب، إنّما نعيش في عصر الأوبئة والأمراض الناشئة. أنتجت العولمة الرأسماليّة هذه الآفات الجديدة، ودمّرت الحدود الطبيعيّة والاجتماعيّة بين البشر والحيوانات البريّة التي كانت منفصلةً في السابق.

تمّ العثور على الفيروسات التاجيّة بشكلٍ رئيسيٍ في الخفافيش. والخفافيش هذه حيواناتٌ منعزلةٌ بشكلٍ لا يصدّق. يتطلّب الأمر الكثير لجعل البشر على اتصالٍ مع الخفافيش، أو الحيوانات المصابة بها. تمثّلت القوة الدافعة لذلك في تدمير الغابات الاستوائيّة من قبل شركات قطع الأشجار متعددة الجنسيّات، على غرار إزالة أعدادٍ هائلةٍ من غابات الأمازون.

بجانب ما سبق، هناك الصناعات الزراعيّة على غرار إنتاج الدواجن والمواشي. ستجد مصانع للدجاج تُعالِج الملايين منه سنويّاً. هذه هي مسرّعات الجسيمات للأمراض الفيروسية. لا يمكنك تصميم آلةٍ أكثر كفاءةً من ذلك على صعيد تحقيق تربيةٍ هجينةٍ جديدةٍ للفيروسات، ومن ثم توزيعها.

والعامل الأكثر أهميةً هو أنّه بالمعنى المناعي، هناك إنسانيّتان: إنسانيةٌ تتغذّى بشكلٍ جيدٍ وتتمتّع بصحةٍ جيدةٍ بشكلٍ عامٍ، وتتمكّن من الحصول على الدواء. فيما الإنسانيّة الثانية تعتمد على الأنظمة الطبيّة التي دُمِّرت إلى حدٍ كبيرٍ في الثمانينيات والتسعينيات. جرى تدمير تلك الأنظمة بفعل الديون والتكيّف الهيكليّ، ودعوة صندوق النقد الدولي البلدانَ إلى تقليل الإنفاق العام أو خصخصة الخدمات العامة.

في جميع أنحاء أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وفي بلدانٍ أخرى أيضاً، يعدّ الصرف الصحيّ المصدر الأكبر للتعرّض للأمراض المعدية. لا يحصل الناس على المياه النظيفة، ويتعذّر عليهم غسل أيديهم بالصابون كلّ ساعةٍ.

نقف الآن على حافة ما يمكن أن تكون مذبحةً حقيقيّةً يتسبّب بها هذا الوباء، منفجراً في الأحياء الفقيرة في جنوب الكرة الأرضيّة. من المستحيل تخيّل هذا الشيء ككويكبٍ قادمٍ لضرب الأرض، إنّها جائحةٌ مُصنّعةٌ. في الماضي، كانت الرأسماليّة، ولا سيّما الرأسماليّة العالميّة، تعتمد على قدرٍ ضئيلٍ من الاستثمار في أنظمة الكشف عن الأمراض والإنذار المبكر. كان هذا بهدف حماية التجارة وحماية صحة الناس في الدول الاستعماريّة الشماليّة.

انبثقت سلسلةٌ كاملةٌ من المؤتمرات الصحيّة الدوليّة من رحم الإمبرياليّة الفيكتوريّة البائدة. تمثّل هدفها الجليّ في السيطرة على الأمراض المعدية بالترتيب، وبالمثل تأسّست منظمة الصحة العالميّة (WHO) عام 1948 من قبل مؤسسة “روكفلر” التي لعبت دوراً رئيساً في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي.

اتّجه اهتمامها بالدرجة الأولى إلى الحفاظ على صحّة العمال في مزارع شركة الفواكه المتّحدة ومناجم النترات الشيلية. ابتغتْ القضاء على المرض نفسه باستخدام اللقاحات. أثبت ذلك نجاحًا هائلاً في القضاء على الجدري، لكنّه بالمقابل أخفق تقريباً في جميع الأمراض الرئيسية الأخرى.

لكنّ هناك تقليداً بديلاً ينظر بدوره إلى المحدّدات الاجتماعية الاقتصادية كالفقر ونقص الصرف الصحي، وما إلى ذلك. لقد انهارت لتوّها جميع البُنى الأساسية الدوليّة للكشف عن الأمراض والاستجابة الدوليّة المنسّقة. كما انهارت منظمة الصحة العالميّة عمليّاً، والتي تلعب بطبيعة الحال دوراً هامشيّاً تماماً. لم تحترم أبداً الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة، التزاماتها تجاه المساهمات التي قالت إنّها ستقدّمها.

كان على منظمة الصحّة العالميّة التحوّل بشكلٍ رئيسيٍ إلى الضغط على الدول الكبرى والاعتماد على المحسنين. يوفّر كلّ هذا معاً حوالي 80 بالمائة من ميزانيتها، ويضعها في موقفٍ يدفعها باستمرارٍ لتملّق الولايات المتحدة والصين والمحسنين والتماس العون منهم. أصبح هذا واضحاً بشكلٍ مثيرٍ للسخرية على مدى الأشهر الأربعة أو الخمسة الماضية.

كما انهار المركز الأمريكي لمكافحة الأمراض (CDC) الذي يلعب دوراً دوليّاً، كونه المسؤول عن اكتشاف الكثير من الأمراض الناشئة. قرّر المركز عدم استخدام مجموعات الاختبار التي طوّرتها شركة أدويةٍ ألمانية، ويستخدمها الجميع في العالم. عوضاً عن ذلك، طوّر المركز أدوات الاختبار الخاصة به، والتي كانت معيبةً وذات نتائجَ خاطئةٍ.

يموّل مركز السيطرة على الأمراض مسيحيٌّ أصوليٌّ يمينيٌّ، وتمّ تخفيض ميزانيته بوحشيةٍ من قبل دونالد ترامب، وهو أحد أعماله الأولى كرئيس. منذ لحظة تنصيبه، باشرَ في تفكيك المنظّمات وعاكس السياسات التي أُقرّت خصيصاً للتعامل مع الأوبئة.
يقول ترامب إنّ هذه هي الدولة الأكثر تقدماً على الصعيدين التقني والعلمي في العالم، فيما تطبع في ذات اليوم مجلة “نيويورك تايمز” تعليماتٍ حول كيفية خياطة القناع الجراحيّ الخاصّ بك.

على ذات الشاكلة، تخبّط المركز الأوروبي لمكافحة الأمراض، ووقعتْ فكرة الاتحاد الأوروبي بأكملها في أزمةٍ عميقةٍ. على سبيل المثال، توقّعت إيطاليا بأنّ إخوتها الأوروبيين سيهبّون لمساعدتها، بينما في الواقع حظرت ألمانيا والنمسا وفرنسا تصدير الإمدادات والمواد الأساسية.

بالمقابل، تتمتّع الصين بنفوذٍ اقتصاديٍ هائلٍ غيّر من شكل الاقتصاد العالمي على مدى السنوات العشرين الماضية. لكن ما تفتقر إليه الصين وتسعى إليه بشدّة هو القوة الناعمة والهيبة السياسيّة. تنازل ترامب تماماً عن أيّ مفهومٍ للقيادة الأخلاقيّة الأمريكيّة أو الاستجابة الإنسانيّة، ما جعل الإيطاليين يتحوّلون إلى بكين التي كانت في طليعة من قدّم المساعدة الحاسمة. جلبت الصين معها قدراتٍ هائلةً لتوفير الإمدادات الطبية الرئيسية. تتواجد الصين في كل مكانٍ على الأرض حيثما تُفتقَد أوروبا والولايات المتحدة.

في طاعون القرن السابع عشر، لا سيّما في إيطاليا، تسارعَ الانتقال من الاقتصاد المتمركز حول البحر الأبيض المتوسط إلى الاقتصاد المتمركز حول شمال الأطلسي. لذا، يتوجّب علينا السؤال ما إنْ كان كوفيد-19 سيبدأ في تسريع التحوّل من الهيمنة الأمريكيّة إلى نظيرتها الصينيّة.

كانت الاستجابة لتفشّي المرض وطنيةً منغلقةً تماماً، لدرجة أنّها فاجأت معظم قادة العالم والقوميين أنفسهم، حيث انهار التعاون الدولي. يعتمد أيّ انتعاشٍ للإنتاج المعولم على جهودٍ جديدةٍ ضخمةٍ لإنشاء بنيةٍ تحتيةٍ دوليّةٍ للأمراض. يمكن أن يؤدّي هذا إلى مهاجمة العامل المُمرض مقابل تجاهل الظروف الاجتماعية التي تجعل الناس عرضةً للخطر، والتي تعدّ في بعض الأحيان الأسباب النهائية للمرض.

لكنّ ذلك يتعذّر عليه توفير اللّقاح ومضادّات الفيروسات؛ إذ يبدو القطاع الخاص عقبةً هائلةً أمام تحويل التقنيات الجديدة. تم حظر إمكانات التصميم البيولوجي والتطوير العلمي؛ ذلك أنّ صناعة الأدوية لم تعد تنتج أدوية شريان الحياة التي كان إنتاجها في الماضي مبرّراً لموقفها الاحتكاريّ.

إنهم لا يصنعون مضادّات الفيروسات، والجزء الأكبر لا يصنع اللّقاحات، ولا ينتج الجيل الجديد من المضادّات الحيويّة لمواجهة الأزمة العالمية. تقوم احتكاريّات صناعة الأدوية بشكلٍ أساسيٍ بصيد براءات الاختراع، وتنفق على الإعلان أكثر ممّا تنفق على البحث والتطوير.

لم تعد تلك الشركات مجرد ضابطٍ للثورتين الطبيّة والعلميّة، بل انخرطت أيضاًً في التلاعب بالأسعار والضغط السياسي الهائل ضد الأدوية الجينيّة. هل يمكن للرأسمالية العالميّة التغلّب على التشظي القومي الحالي، وخلق بنيةٍ تحتيةٍ للتعامل مع اهتماماته الرئيسة وضمان تدفّق الأرباح والإنتاج المعولم؟

يتوجّب عليها أيضاً تلبية الاحتياجات الصحيّة لسكان دولها، لأن هذا كسادٌ عالميٌّ لا تعود جذوره إلى المرض نفسه، بيْدَ أنّ الأخير فجّره فحسب. تعتقد الدول الرأسمالية الكبرى أنّها تستطيع حماية نفسها من خلال التجارة العالميّة، عبر التطوير المتسارع للقاحات وبعض الأشكال الجديدة للصحة العامة دوليّاً. بالمقابل، لا تعتقد بوجوب أيّ اهتمامٍ بالتعامل مع ما يشكّل على الدوام موضوع الطبّ الاجتماعي: البؤس والفقر على المستوى العالمي.

هل ستكون اللقاحات متاحةً لجميع سكان أفريقيا وجنوب آسيا؟ من الصعب توقّع ذلك، وإنْ حصل وتوفّرت اللّقاحات، فستصل إلى هناك بعد سنواتٍ. بإمكاننا هنا ملاحظة دور الرأسماليّة العالميّة في زيادة تعميق وتوسيع الهوّة بين الإنسانيّتين. ينسحب هذا على البلدان الأخرى أيضاً، حيث يتشابك المرض مع إرث العنصرية والفقر.

يمكن القول إنّ هناك فرصةً استثنائيةً، على الأقل في الولايات المتحدة، ليس فقط لتطوير أجندةٍ تقدميةٍ، على سبيل أنّ الرعاية الصحيّة حقٌّ من حقوق الإنسان، ووجوب التغطية الشاملة على النمط الأوروبي، إنما أيضاً لطرح المطالب الاشتراكية في الأساس، مثل القضاء على احتكاريّات الصناعات الدوائيّة وتأميم الإنتاج الكبير للدواء.

وبينما تظهر “أمازون” كأكبر احتكارٍ في تاريخ العالم، يجادل بعضهم بأنّ الاستجابة التدريجيةّ لذلك تتمثّل في تفكيكها أو فرض ضرائب عليها. لكنّ هذا يخلق مجالًا يمكننا من خلاله تكريس الطلب الاشتراكيّ التقليديّ “جعلها منفعةً عامةً”، حيث يجب أن يسيطر عليها المجتمع ويملكها ديمقراطيّاً. تقدّم هذه الأزمة فرصاً جديدةً لتجاوز الإصلاحيّة اليساريّة وعودة الأفكار والمطالب الاشتراكيّة.