كلمة خالد عودة الله في إطلاق كتاب “وجدت أجوبتي”: هكذا تكلم الشهيد باسل الأعرج
(في إحياء الذكرى السنوية الأولى للشهيد باسل الأعرج، الولجة 10 آذار 2018)
بِسْم الله الرحمن الرحيم

وجدتَ أجوبتك، ومضيتَ لتولد من جديد، وتركتنا نحدّق في هُوة غيابك.
هل جئناك اليوم لنُحيي ذكراك؟
لا أبداً، بل جئناك لِنَحيا بذكراك، وبذكرى السادة الشهداء؛ كلّ الشهداء، الذين لم تكن قطعاً لترضى بأن يعلو ذكرك على ذكرهم، وأنت العاشق المُتيّم بهم.

الحضور الكريم، أهالي الشهداء الأكرمين، يُشرّفنا أن نضع بين أيديكم الأعمال الكاملة للشهيد باسل الأعرج، موسومةً بـ”وجدتُ أجوبتي”، والعنوانُ مُستَلٌ من وصيته البليغة الفريدة، ومرسومٌ بخطّ يده الشريفة.

يحتوي الكتاب الصادر عن دار رئبال في القدس، على كلّ ما كتبه الشهيد من أبحاث ومقالات وتدوينات، المنشورة منها وغير المنشورة، بالإضافة إلى سيرة شخصية مفصّلة  للشهيد من ميلاده إلى استشهاده، ومختارات مما كُتب عن الشهيد وإليه، تتصدّرها كلمة عائلة الشهيد في ذكراه السنوية الأولى.  

تُشكّل كتابات الشهيد باسل، في مجملها، بياناً سياسياً ثورياّ، يجمع ما بين وضوح الرؤية المبنية على البحث والتحليل وما بين الموقف السياسي والأخلاقي المُتّسق مع هذه الرؤية. إنّ إصدار هذا الكتاب هو بعضٌ من الوفاء لشهيدنا باسل ولشهدائنا العظام، والشهيدُ إلى الشهيد دليلٌ، وهو قيامٌ ببعض الواجب نحو الأجيال القادمة، في حفظ إرث ثقافتنا الوطنية الحقيقية المكتوبة بدم الشهادة وعَرَق التجربة، وذلك في مواجهة تحالف ثقافات الزيف الثلاث: ثقافة السلطة وثقافة الاستعمار وثقافة الارتزاق، لتكون هذه الكتابات مما نتزوّد به في سعينا الواجب في سبيل ترميم وبناء مواقعنا الشعبية النضالية، بعيداً عن الاستسلام لجلد الذات المؤلم والمُريح في الوقت ذاته.  

وهذه شذراتٌ من مقدمة الكتاب موسومة بـ”وجد أجوبته ومضى ليولد من جديد”:

في فجر السادس من آذار، كان باسل متحصّناً في سدّةٍ ضيّقة، وهو الذي عاش اتساع الوطن في التجوال والحكايات، مُبادراً إلى إطلاق النار على العدوّ. في وقائع استشهاده ما يُكثِّفُ رحلة عمره القصير، وحياتَه العريضة، أطلّ في بدايتها من نافذة غرفته في قرية الولجة، على أرضه المنهوبة، وعلى الساحل الفلسطيني حيث تلتقي الأرض بالسماء، “ببحر أكبر من أن يُحاصر” كما هتف يوماً في مظاهرة غاضبة على حصار غزة.

مُروراً بنشاطٍ نضاليٍّ متواصلٍ توّزع على كافة أشكال الممارسة الكفاحية، وصعوداً إلى شهادةٍ صاخبةٍ مدوّية، بجسدٍ مطرّزٍ باثنتين وعشرين رصاصةً وشظية. ليُوارى الثرى في قبر، حَدّدَ سلفاً مقاييسه بالتفصيل، على ربوةٍ تطلّ على ذات المشهد الأول، حيث تلتقي الأرض بالسماء ببحرٍ أكبر من أن يُحاصر.

عاش باسل حياته موّزعةً على عالمين؛ عالم الواقع وعالم الحكاية، ولعلّ عالم الحكايات كان هو عالمه الحقيقي، الذي زرع بذور التمرد في شخصيته على واقعٍ يحياه ولا يعترف بواقعيته، فالحقيقة هناك في عالمه الذي نشأ فيه منذ الصغر، عالمٌ جميلٌ موجِع، منسوجٌ من قصص الثائرين ورجال الهمّة العالية المُقاتلين.

كَبُر باسل وكبرت حكاياتُه معه، يَقُصّها كشاهدٍ لا كسامع، كأنّه كان هناك في كلّ زمانٍ ومكان، يجمع الحكايات، يُلملِمها ويَرحل في طلبها، من مصادرها الأولى ممّن عايش وعاين، يقصّ أثر وطنٍ مسلوبٍ ومقاومةٍ ملحمية، ولعلّ هذا ما جعله يحتفي بالملموس وينفر من المجرّد، متخففاً من الأيديولوجيات، باحثاً عن حكمة الحياة في الحياة، يلاحقها بهمّة المأسور بهوى فلسطين وأبطالها.

في نصّه الموسوم “لماذا نذهب إلى الحرب؟”، وهو نصٌّ شفيفٌ رهيفٌ، يقطُر صدقاً وصراحةً، يبوح باسل بأنّ رومانسية الحرب هي ما يجعل الذهاب إليها أمراً مرغوباً وجميلاً، حيث البطولة التي ترفض ما تُمليه الشروطُ الموضوعيةُ من خياراتٍ، بل وقادرةٌ على توهين هذه الشروط والتمرد عليها، والإيمان بالسرديات البطولية سلاحاً فاعلاً في أيدي المغلوبين في مواجهة مستعمريهم؛ سلاحاً قادراً على توليد “الأسلحة”، وتَوالُد المقاومين.

لا تفعل الثقافة فعلاً سياسياً مقاوماً، إلا إذا كانت مُشتقّة من ممارسة كفاحية، ومُعبّرة عنها. تتوزّع الممارسة الثقافية  في سيرة باسل وشخصيته المتعددة، على انكبابٍ على دراسة التاريخ الفلسطيني، خاصّةً تاريخ المقاومة والمقاومين، والاطلاع على التجارب الثورية العالمية ومنظّريها وممارسة الكتابة السياسية الناقدة، بنَفَسٍ ساخرٍ لاذع في أحيانٍ كثيرةٍ، بالإضافة إلى الكتابة البحثية التاريخية المهمومة بإيقاظ الذاكرة الجمعية الكفاحية.

مع كلّ هذا الانغماس في الثقافة وعمل المثقف، إلّا أن باسل كان يتطيّر من مسمّى “مثقف”، والحديث عن وظيفةٍ له عنوانها الاختصاص. يمكن القول بأن الثقافة عند باسل تتحدد بوظيفتها الوطنية بمعناها المباشر والصريح، مضافاً إليها وظيفة صياغة الذات ثورياً بالتخلّق بالقيم الوطنية المُتعرَّف عليها في سير الشهداء والمناضلين.

لم تكن مقولة “المقاومة جدوى مستمرة” مجرّد شعارٍ عاطفيٍّ، وإنما استنتاجٌ متأمِّل لتاريخ المقاومة في فلسطين، تتّجه هذه العبارة كَسهمٍ إلى قلب فلسفة القمع الصهيونية، والتي تُكثِفُها مقولة “الجدار الحديدي”، والتي تُحيل إلى قوة الأمر الواقع والقمع الصهيوني التي “ستساعد” الفلسطيني على الوصول إلى قناعةٍ ذاتيةٍ بلا جدوى من المقاومة.

تَصدُرُ هذه المقولة عن وعي تاريخي بحالة مستمرة من المقاومة، وإن كانت لم تحقق الانتصار على المشروع الصهيوني، فإنها على الأقل عَطّلت، وتعطل، وصوله إلى حسم الصراع منذ أكثر من مئة عام. كما تَصدُر، عن إيمانٍ بدور البطل المقاوم في هذا التاريخ؛ البطل الناجي مِن خراب الزمان، والمتمرد على الزمن الخَرِب.

في رحلته النضالية، اجتمعت على باسل مظلومياتٌ عدة، حيّاً وميتاً؛ قمع تبعه تعذيبٌ خسيسٌ من قبل سلطةٍ لا سلطةَ لها، لم تكتفِ بكشفه للعدو وتعذيبه، بل تمادت إلى البطش بأهله وأصدقائه ضرباً وتشهيراً، وانتهاءً بتسجيل سابقة تاريخية بمحاكمة شهيد على وقائع استشهاده، وصولاً إلى إرهاب فرق الموت الصهيونية وتجميد جسده الشريف في أبو كبير، وهمزٍ ولمزٍ من نفوس سوداء مريضة، قعيدة لا تنهض إلا لنهش النفوس العالية الحليمة. مع كل هذا وذاك، انتصر باسل في معاركه كلّها، حيّاً وميتاً، وعاد؛ عاد ليجيء دوماً، في الـ17 من آذار مع تفتح شقائق النعمان، مرفوعاً على الأكتاف، عالياً، تعلو به هامات مشيعيه، مُستقبَلاً بتحية عسكرية، من أبٍ مكلوم كتوم، أعادت للتحية العسكرية شرفَها المنتهك.

ترك لنا باسل وصيةً غير مألوفة، بسيطةً متخففةً من مفردات الخطابة الوطنية المعهودة، ولا تخلو من تأمل فلسفي، في معنى الحياة والوجود، والكدح في سبيل البحث عن الحقيقة والحريّة، حيث الوطن هو موطن المعنى.
ختم باسل وصيتَه بـ “فلتبحثوا أنتم”. لا تُحيل الجملة الطلبية إلى “تلغيز”، بقدر ما تحضّ على الفعل والاستئناف، فقيمة فعل الشهيد لا تتحدد فقط بما أنجزه، وإنما أيضا بما أراد أن ينجزه.

كأن باسل يقول لنا: قد قمتُ بما آمنتُ به،  فبحثتُ وحكيتُ وكتبتُ وتجولتُ وخططتُ ونظّمتُ واشتريتُ السلاح وتجهّزتُ واعتقلتُ وأضربتُ عن الطعام، فتحررتُ وطوردتُ وبادرتُ بالاشتباك واستشهدتُ. هذه بعض أجوبتي، فابحثوا أنتم لتستمر الملحمة، ولتستمر الحكاية…

وفي الختام،

  الشكرُ موصولٌ لكلّ المتطوعين، الجنود المجهولين، في الوطن والشتات، الذين ساهموا في إخراج هذا العمل إلى النور، جمْعاً وتنسيقاً وتصميماً وبحثاً وطباعةً وتوزيعاً.

وسلامٌ على السادة الشهداء كلّ الشهداء،
وسلامٌ على الجثامين الشريفة المُعلّقة على حافة التراب في أبو كبير،
وسلامٌ على أهالي الشهداء؛ كلّ الشهداء،
وسلامٌ على أهالي الولجة الأكرمين،
وسلامٌ على “أبو خليل” في ذكراه الأربعين،   
وسلامٌ عليك يا باسل.. وبالمناسبة؛ قل لي يا باسل:
كيف للموت أن يكون مُترعاً بكلّ هذه الحياة؟!
وكيف امتلأت خوابينا حِنطةً بنَدَى صباح السادس من آذار؟
وقل لي: كيف غازلتَ زهور القندول فصارت مناديلَ تلوٰحُ للقادمين إليك، تُعَطِّر الدرب وَتَشُكُّ القلب، 
وقل لي يا باسل، كما ناح يوماً شاعرٌ عراقيُّ مفجوعٌ برفيقه:
” إشلون أخذت الموعد المرسوم بالدمعة الحزينة وريحة اللوز
إشلون سَهّرت السَهر ؟
إشلون وإنت الأنحل من الناي يا عيني… مَلّيت الدنيا كُلها والدهر؟”

والسلام عليكم،
خالد عودة الله
10آذار 2018