تناقش هذه المقالة مسألة النخب التاريخية في القدس، والمواقف السياسية التي حملتها إزاء الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية، إذ لم تكن كلها تسير على خطى واحدة، وكان للتباين في العلاقة مع تلك المكونات انعكاسات سياسية واجتماعية كبيرة.

****

لعبت النخبة الفكرية والسياسية والعائلية التي تشكلت في مدينة القدس خلال الفترة الوسطى والأخيرة من الحكم العثماني في فلسطين، دوراً متقدماً في قيادة المجتمع الفلسطيني، خلال مراحل المواجهة مع الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية، على مستوياتٍ مختلفة انعكست بشكلٍ ما في صورة العمل السياسي والنضالي والنتائج التي ترتّبت عليه. في المقابل، كانت لأوساطٍ منها أدوارٌ في التواطؤ مع الاستعمار والحركة الصهيونية، وساهمت خلافاتها فيما عُرف بعد ذلك بالنكبة الفلسطينية.

اتسمت النخبة الفلسطينية والمقدسية “بالانقسام” على المستويين الفكري والسياسي، وذلك عائد إلى الاختلاف في التنشئة الثقافية والتعليمية لأعضائها، والارتباطات الاقتصادية والسياسية بالحكومات والقوى العربية، بالإضافة “لافتقارها لشخصية مركزية تجمع حولها أغلبية أعضاء هذه النخبة”[1].

حاول الحاج أمين الحسيني طرح نفسه كشخصية جامعة ومسيطرة، لكن مسعاه فشل؛ “لأن مفهومه للقيادة كان يتضمّن إجبار الناس على الولاء له، كما أن خلفياته الفكرية لم تكن تتناسب مع قطاع واسع من النخبة ذات التوجه الحداثي والتحرري”[2]، بالإضافة لتشكيله قطباً في مقابل عائلة النشاشيبي والموالين لها، الذين اتخذوا سياسة متواطئة مع الاستعمار البريطاني.

تركّزت النخبة الفلسطينية أساساً في المدن، وكانت أكثر شخصياتها في عصر الاحتلال البريطاني امتداداً لما تشكل في العهد العثماني. وقد حكم الإطار العائلي بقيمه وعلاقاته شكل هذه النخبة التي كانت تحصل على الوظائف الدينية والحكومية بناءً على ما توزّعه الدولة العثمانية على هذه العائلات، وفقاً “لفرمانات” سلطانية” تعطيها الحق في الوظائف الدينية وجمع الضرائب، ما وفّر لها فرصة السيطرة على قرى ومزارع فلسطينية عديدة أصبحت مصدراً لسلطتها وأموالها. [3]

يمكن تصنيف النخبة الفلسطينية والمقدسية إلى ثلاثة أقسام: أولها من تماشى مع السياسة البريطانية، وربما عارض سياسة إنشاء وطن قومي للحركة الصهيونية في فلسطين، ولكن لم يلجأ للمواجهة وحصل مقابل ذلك على وظائف هامة، وتحالف غالباً مع الأمير عبد الله الذي نصّبه البريطانيون أميراً على شرق الأردن، ومنهم: راغب وفخري النشاشيبي اللذان لعبا دوراً هاماً في إنشاء فصائل السلام التي تحالفت مع بريطانيا في مواجهة الثورة الفلسطينية بعد سنوات ثورة 36، وأمين عبد الهادي، وروحي عبد الهادي، وحسام الدين جار الله، ورشدي الشوا وشقيقه عادل، وسليمان طوقان.

أمّا القسم الثاني من هذه النخب فهو من عارض السياسة البريطانية في العلن، ولكنه هادنها وحاول إقامة علاقات مصالح معها على أساس منع الانجرار نحو الثورة المسلحة، وتوجيه المظاهرات السلمية ضد اليهود فقط مع الاحتفاظ بالحوار مع الحكومة البريطانية للتراجع عن وعد بلفور. من بينهم موسى كاظم الحسيني، والحاج أمين الحسيني “الذي نهَج سياسة المهادنة منذ تعيينه مُفتياً للقدس عام 1921 ورئيساً للمجلس الإسلامي الأعلى عام 1923، وحتى قيام الثورة الفلسطينية الكبرى في العام 1936″، حيث كانت هذه المناصب تحت إشراف بريطانيا”.

وعن القسم الثالث من هذه النخبة، فقد حمّل الاحتلال البريطاني المسؤولية عن تفاقم الأوضاع في فلسطين، وتصاعُد قوة الحركة الصهيونية وتوفير الدعم لها، ودعم الأعمال الثورية والعسكرية ضد الاحتلال. مثّل هذه النخبة الشيخ عز الدين القسام في حيفا، ومن القدس داوود الحسيني الذي كان انضمامه إلى مؤتمر الشباب العربي الفلسطيني الأول -الذي عُقد في العام 1932- أول عمله السياسي، ومن ثم انخرط في ثورة عام 1936 مع رفيقه مصطفى الطاهر من يافا بجمع الأموال لشراء السلاح، وتزويد القائدين عبد الرحيم الحاج محمد وعارف عبد الرازق بالأسلحة والمتفجرات.

وبعد اغتيال حاكم الجليل اللواء أندروز، اضطر الحسيني لمغادرة البلاد مع عشرات الوطنيين الفلسطينيين متنقّلاً بين العراق وسوريا، وتعرّض للملاحقات والاعتقال، ومن ثم عاد لفلسطين وساهم مع الشهيد عبد القادر الحسيني في تأسيس جيش الجهاد المقدّس في العام 1947، وعُين مفتشاً إدارياً عاماً له.[4]

بقي داوود الحسيني مديراً لجيش الجهاد المقدس وناشطاً في الميدان الحربي، إذ سافر في شهر تشرين الثاني عام 1948 إلى القاهرة للاجتماع بالحاج أمين الحسيني الذي كان يوجّه النشاط الحربي من الخارج، وأعطاه رسالةً من المجاهدين، يطالبون فيها بتغيير منير أبو فاضل قائد جيش الجهاد المقدّس في بيت لحم؛ لأنه كان يعمل مع قسم التحقيقات في الشرطة الجنائية البريطانية. ويذكر ذو الكفل عبد اللطيف الذي كان يعمل مع الهيئة العربية العليا في مذكراته أن مسؤول المخابرات البريطانية في مصر هو من فرض عليه أبو فاضل قائداً لمنطقة بيت لحم في جيش الجهاد المقدّس. [5]

الخروج من البلدة القديمة

شهدت نهاية القرن التاسع عشر بداية تشكّل الأحياء الجديدة خارج أسوار القدس القديمة، التي انتقلت إليها العائلات الأكثر غنىً والمُنفتحة على ما يمكن أن نسميها الثقافة العصرية، في مقابل البلدة القديمة المسوّرة بأسواقها ومنازلها ومساجدها وكنائسها، كعلامة على الماضي و”الانغلاق”. وقبل ذلك، كان حي “النبي داود” على جبل صهيون -خارج السور- قد بدأ بالنمو في القرن السابع عشر، مؤسّساً لحي “الداودية”، بالإضافة للزاوية الجراحية في الشيخ جراح.

لم يمنع الهاجس الأمني- الذي شغل الدولة العثمانية لإغلاق أبواب البلدة القديمة ليلاً- مجموعات من السكان من الاستقرار في بلدات الطور، والثوري، وسلوان، والنبي داود، والتي لا تبعد عن أسوار البلدة القديمة سوى دقائق فقط. خلق هذا الخروج تحدياتٍ أمنية ومفاهيم حضارية جديدة لم تعهدها المدينة من قبل.

وفقاً لعدد من الشواهد الجغرافية والتاريخية، فقد بدأت حركة التوسع العمراني في المنطقة التي تقابل باب العامود على الطريق إلى نابلس ودمشق. وأثبتت قصور الأعيان أن لديها قدرة الحفاظ على أمنها، وكان أفخمها حي الحسينية (1860_1870)، الذي فاق بجماله وفخامته باقي القصور رغم تأخره عنها. فيما اتجهت عائلات أخرى غرباً، وأنشأت بيوتاً لها في البقعة والوعرية، مثل عائلات الوعري وعائلات مسلمة ومسيحية أخرى.

يرجع هذا الخروج لأسباب عديدة، منها ازدياد أعداد السكان؛ حيث شهدت البلدة القديمة حركة إعمار واسعة شملت ترميم البيوت وإصلاح المتهدم منها وبناء طوابق إضافية على البيوت القائمة، حتى امتلأت الحواكير والمساحات الخالية في البلدة وأخذت بالاختفاء. كما يُعزى ذلك إلى رغبة الدول الأوروبية في بناء مؤسسات ومجمّعات عمرانية ضخمة لها، بالإضافة إلى رغبة العائلات المقدسية ببناء قصور صيفية لها، ولم يقتصر ذلك على العائلات الغنية بل المتوسطة وأحياناً الفقيرة. [6]

وفّر الخروج من البلدة القديمة إلى الأحياء الجديدة فرصة تحقيق “خصوصية اجتماعية” للبرجوازية الصاعدة، تعزّزت خلال فترة الاحتلال البريطاني ببناء بيوت مستقلة- ذات حدائق- تبعد عن بعضها البعض. سهّل ذلك كله الانخراط في أنشطةٍ اجتماعيةٍ، ربّما لم يكن من السهل القيام بها داخل أسوار البلدة القديمة.

تعكس مذكرات عددٍ من أفراد النخبة المقدسية مثل المحامي عمر الصالح البرغوثي، وخليل السكاكيني، والموسيقي والمؤرخ واصف جوهرية، نمطَ حياةٍ باذخاً اتجهت له هذه النخب من خلال الحفلات الصاخبة والسعي لاقتناء التحف، ما انعكس- كما يؤكد الأستاذ سميح حمودة- على انتهاجها مساراً سياسياً مُعتدلاً في مواجهة السياسة البريطانية والحركة الصهيونية.

من الأمثلة على ذلك الشيخ عبدالقادر الظفر، الذي لعب دوراً هاماً في السياسة العربية بالعهد العثماني، إذ كان مرشداً في الجيش الرابع عندما تولى قيادته جمال باشا، وكان من أكثر الأصوات تشدّداً في المحافظة على الحق التاريخي الفلسطيني خلال الصراع مع السلطات البريطانية، لكن آراءه انقلبت فيما بعد.

وتُبين مصادر منشورة وغير منشورة[7]، أنّ الشيخ انشغل في الثلاثينيات ببناء عمارة له في يافا وفي تنمية ثروته، ودخل في صراع قانوني مع إدارة الأوقاف الإسلامية التي اتّهمته بالسيطرة على أرض وقفية في المدينة، فيما لاحقه التاجر توفيق بسيسو لعدم تسديده ثمن بضائع اشتراها من متجره لبناء عمارته. [8]

ويشير طاهر الفتياني في مذكراته أن المظفر رفض خلال ثورة العام 1936 إيواء شقيقه عبد السلام، الذي كان مُلاحقاً من قبل الإنجليز لنشاطه العسكري، وانضمّ المظفر لمعسكر الأمير عبد الله لاحقاً، وكان من مؤيدي ضم الضفة الغربية للأردن.

في سياقٍ ذي صلة، يُعتبر يوسف ضياء الخالدي (1842-1906) أول أفراد النخبة المقدسية اكتساباً للخبرات السياسية والدبلوماسية، إذ اختير في بداية العام 1877 نائباً عن مُتصرفية القدس في “مجلس المبعوثين” الذي أنشأه السلطان عبد الحميد الثاني عقب إقرار الدستور في السنة السابقة. ومن ثم تبعه ابن شقيقته روحي الخالدي كثاني شخصية تدخل المجلس، بعد انتخابه من قبل الأهالي في العام 1908، ومن ثم أُعيد انتخابه في العام 1912. [9]

كما اكتسب موسى كاظم الحسيني- زعيم الحركة الوطنية الفلسطينية في عشرينيات القرن العشرين- تجربة سياسية مهمة من خلال تولّيه عدداً من المناصب الإدارية في العهد العثماني. برز الحسيني بعد الاحتلال البريطاني خلال مظاهرات القدس الأولى والثانية في مواجهة الإنجليز، وتعرّض على إثرها للضرب.

تتضح تفاصيل ذلك في مذكرات شيخ المناضلين بهجت أبو غربية، حيث يتحدث عن قمع السلطات للمشاركين في المظاهرات وطبيعة القيادات التي قادت المرحلة، وانبثقت عن المؤتمرات السبعة التي عقدتها النخبة الفلسطينية استجابةً لحركة الناس وشعورها بالخطر، لكنه يأخذ على عددٍ منهم مصلحيتهم في التعامل مع الإنجليز وإصرارهم على عدم جرّ الأمور لثورة شاملة.

نشأت هذه التحولات الجذرية عن السياسة العثمانية الجديدة في الحكم، من خلال ما يعرف “بالإصلاحات” وإنشاء مجلس المبعوثين، والتي انعكست على طبيعة النخبة الحاكمة في فلسطين والقدس. ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر أدّى مشايخ القرى والنواحي دوراً سياسياً واقتصادياً مهماً، تجاوز- في بعض الأحيان- الريف إلى المدن، ولكن هذا الدور تم القضاء عليه من قبل الدولة بالتعاون مع أعيان المدن، مع بروز نخبة ثقافية جديدة من الأدباء والكتاب والصحفيين من خريجي المدارس التبشيرية والحكومية الحديثة.

ولا يمكن إغفال علاقة النخب المقدسية بأشكالها المختلفة مع القنصليات الأجنبية، التي بدأت تدخل إلى القدس بعد تدخّل الأسطول البريطاني في العام 1840 لصالح العثمانيين ضد احتلال إبراهيم باشا لبلاد الشام، ومساندة بريطانيا وفرنسا لتركيا في حربها ضد روسيا في القرم (1853-1856).

كانت اتفاقية باريس هي ما أعطى هذه الدول امتيازات في الولايات العثمانية ومن بينها فلسطين، بالإضافة أن الديون- التي غرقت فيها الدولة العثمانية وصولاً لإعلان السلطان الإفلاس عام 1857 [10]- لعبت دوراً هاماً في تزايد التدخلات الأجنبية من خلال القروض والمساعدات.

في ظل الاحتلال البريطاني

استمرت الروابط العائلية كونها المُسيطرة على مشهد النخبة الحاكمة في عهد الانتداب البريطاني، بَيْد أن التحول من المرجعية العثمانية للمرجعية البريطانية لم يكن سهلاً؛ إذ إن الحصول على المناصب من حكومة الاحتلال البريطاني كان يقتضي الموافقة العلنية أو الضمنية على مُجمل سياساتها، وخططها بإنشاء وطن قومي لليهود، والامتناع عن اللجوء للحل الثوري، وهو الأمر الذي لم يكن يُرضي الجماهير الفلسطينية. [11]

من خلال الحديث عن حياة أحد أفراد النخبة المقدسية، يمكننا تتبّع تأثير التقسيم العائلي على مسار الأحداث والتحالفات التي شهدتها الفترتان العثمانية والبريطانية.

يمكننا- مثلاً- تناول حياة الشيخ خليل الخالدي الذي ينحدر من عائلة معروفة على مستوى فلسطين بتقلّدها المناصب القضائية. كان كذلك من الشخصيات العلمية الهامة على مستوى الوطن الإسلامي، وله اهتمامات واسعة بالتراث وكتب عدداً من المقالات في مجالات مختلفة، في مواضيع أدبية ودينية وقضائية وشرعية، بالإضافة إلى عضويته في جمعية الاتحاد والترقّي التركية، ومجلس الدروس الحقوقية في فلسطين، والمؤتمر الإسلامي العام للخلافة الإسلامية بمصر.

كان انخراط الشيخ الخالدي في المعارضة، ضدّ الحاج أمين الحسيني وجماعة المجلس الإسلامي الأعلى، على خلفية التنافس العائلي أكثر من كونه عائداً لأسباب سياسية واضحة، ولم يُعرف عنه أنه صرّح بمواقفه السياسية إزاء الإنجليز، وذلك “بحكم مركزه الوظيفي كقاضٍ وتربيته العثمانية” كذلك. [12]

من بين وثائق الشيخ، وُجدت رسالة له بعثها إلى مفتي بيروت بتاريخ 14 أيار 1921، يستفتيه حول “رجل لا يتجاوز السابعة والعشرين من عمره، ولم يسبق له تحصيل علوم الشريعة الغرّاء، ولم يضع العمامة على رأسه إلا قبل 3 شهور، وقد طلب العوام الذين لا يفرّقون بين الجاهل والعالم من الحكومة تعيين المفتي الذي حاله كما ذكرت”. [13]

وكانت الرسالة المذكورة قد خُطّت قبل وفاة المفتي كامل الحسيني، في 21 أيار من العام نفسه، حيث تم تعيين الحاج أمين الحسيني في المنصب بعده، ما يعني أن الصراع على المنصب كان مُحتدماً قبل وفاة كامل، وهو الأمر الذي دفع الشيخ الخالدي للانضمام لمعسكر المعارضة في مواجهة جماعة الحاج أمين، وكانت له امتدادات في مختلف المدن والقرى الفلسطينية. [14]

حي القطمون: تناقض النخبة الفلسطينية

يقع حي القطمون غربي مدينة القدس فوق  منطقة مشرفة على معظم الأحياء العربية واليهودية من القدس الجديدة: “البقعة الفوقا، والبقعة التحتا، ورحافيا، وميكور حاييم، وتل بيوت”، وكان من أول الأحياء في المدن الفلسطينية التي شهدت حركة عمرانية حديثة وذلك في العام 1870، وسكنته عدد من عائلات النخبة الفلسطينية والكتاب والقيادات السياسية.

سعت العصابات الصهيونية بكل قوتها للسيطرة على الحي، نظراً لموقعه الاستراتيجي، فيما اعتبرت القوات العربية والفلسطينية أن السيطرة على القطمون تعني سقوط غربيّ القدس. وكانت أولى الهجمات الصهيونية على الحي في الرابع من شهر كانون الثاني عام 1947، عندما تسللت قوة من الهاغاناة وفجرت فندق “سميراميس”، ما أدى لاستشهاد أكثر من 20 فلسطينياً وفلسطينية.

كان الهجوم، آنذاك، بناءً على تقارير استخباراتية لدى العصابات تفيد أن الفندق يشكل مقراً لحرس الحي الذين اشتبكوا أكثر من مرة مع المستوطنات المجاورة.

شكلت تجربة حي القطمون اختباراً لما يمكن تسميته “تناقض النخبة الفلسطينية”، بين شعاراتها الوطنية وممارستها على الأرض، حيث كانت أول من هاجر من الحي مع بداية المعارك، إلى مصايفها في مصر ولبنان وغيرها. [15]

كانت خصائص ما يمكن تسميتها “بالطبقة الوسطى”، التي شكلت سكان الحي، عائقاً مهماً أمام الاستجابة والتعايش مع التحدي والضغط العسكري الكبير، الذي واجهته خلال الهجوم الصهيوني على الحي. [16]

يروي بهجت أبو غربية في مذكراته، أن هجوم العصابات الصهيونية على القطمون استمر على شكل موجات بين 27-29 نيسان 1948،  إذ دارت في تلك الأيام معارك شديدة استشهد فيها عشرات المناضلين، بشكلٍ خاصّ حول دير مار سمعان.

تمَّ تكليف القائد إبراهيم أبو دية من بلدة صوريف بقيادة المعارك، ولم يتبقَّ من أفراد سريته البالغة 130 رجلاً سوى 15 فقط. تقول هالة السكاكيني- ابنة خليل السكاكيني التي كانت تسكن في الحيّ- في مذكراتها عن أبو دية: “إنه رجل رائع، يتدفّق بالوطنية، يعمل ليل نهار دون كلل غير آبهٍ بطعام أو راحة، إنه ذكيّ، إنه أصيل”.

على الرغم من حماسة أهالي القطمون لقدرات القائد العسكري إبراهيم أبو دية، “إلا أن إسهامهم في المجهود الحربي لمواجهة العصابات الصهيونية بقي سلبياً”[17]، ولا ينفي خليل السكاكيني- في مذكراته- الحساسيات التي كانت سائدة بين الفلاح والمدني، وهو التقسيم الاجتماعي المعروف في فلسطين.

يتحدث السكاكيني عن بطولات أبو دية، تحديداً في معركة صوريف التي أبيدت خلالها وحدة صهيونية، قائلاً: “لو كان هذا الفتى- يقصد أبو دية- من أبناء المدن ومن أسرة كذا وكذا لأقيمت له حفلات … وإني لأخشى أن ينتبه لذلك أو ينبّهه أحد إليه، ونعود لنغمة فلاح ومدني”.

بالإضافة لذلك، فإن عدداً من وجهاء الحي رفضوا عمليات المقاومة والدفاع، التي شنّها عناصر من جيش الدفاع المقدّس وأغلبهم من الفلاحين والمتطوعين العرب، ونظروا لهم “كغرباء ومن خلفيات اجتماعية متخلّفة بعادات قروية”. وكتب  سكرتير لجنة الحي أنطون ألبينا إلى مفوض المنطقة البريطانية: “نحن قلقون للغاية، إنه لا ينبغي الاعتداء على أيّ شخصٍ من كان من قبل عناصر غير مسؤولة، وهم غرباء عن المكان، ولا يكترثون لنتيجة أعمالهم”. [18]

وفي إطارٍ آخر، يروي السكاكيني أن فخري جوهرية شقيق المؤرخ والموسيقي واصف جوهرية، أراد أن يرحل من القطمون إلى بيت جالا، فمنعه الحراس من أخذ أثاثه، فغضب وقال: “لم يبقَ إلا أن نخضع للفلاحين”، فسمعه مختار قرية رافات أبو عطا الذي كان أحد المدافعين عن الحي، فأرسل إليه اثنين من المناضلين وحصلت مشادة بينهم.

ويعلق السكاكيني- الذي كان آخر من خرج من الحي وشكّل منزله موقعاً لاجتماع الثوار- على ذلك: “إنني أعذر هؤلاء المناضلين، يحملون أرواحهم في أكفّهم … ولا يستريحون .. فإذا غضبوا جئنا نلومهم “.

يمكن الإشارة إلى أن الفرق بين تجربة الفلاح وتجربة ابن المدينة، ومن بينها القدس بطبيعة الحال، في المواجهة مع الحركة الصهيونية كانت “الفرق الزمني بين انتفاضات الطرفين”؛ حيث كانت المواجهة الأولى للفلاحين الفلسطينيين مع المشروع الصهيوني في 29 آذار 1886 في مستعمرة “بتاح تكفا”، إذ أتلفوا المحاصيل وأصابوا خمسة يهود، إضافةً إلى أن المكوّن الأساسي للثورات الفلسطينية آنذاك هم الفلاحون وبخاصة في الثورة العربية الكبرى (1936-1939) التي سُمّيت بثورة “الريف الفلسطيني”، فيما يمكن القول أن “أزمة المشروع الوطني الفلسطيني”، كانت طوال الوقت هي أزمة النخبة الفلسطينية.  [19]

بعد استشهاد القائد عبد القادر الحسيني في معركة القسطل غرب القدس المحتلة، كان القائد إبراهيم أبو دية هو صاحب الحظ الأوفر؛ لما يملك من قدرات عسكرية لتولّي قيادة جيش الجهاد المقدس، لكن الاختيار وقع على خالد الحسيني للقيادة رغم أنه لا يملك خبرات كافية لذلك، كما يؤكد شيخ المناضلين بهجت أبو غربية في مذكراته. وهنا، تم تفضيل خالد لانتمائه لعائلة الحسيني، وهو ما يمكن اعتباره من الشواهد على حجم سطوة العائلات على العمل السياسي والعسكري الفلسطيني.

في سياق متّصل، يمكن اعتبار عبد القادر الحسيني خروجاً عن صورة النخبة التي جاء منها، حيث أصبح رمزاً شعبياً فلسطينياً بقي إلى الآن يعيش في الذاكرة الجمعية، كرجلٍ قاتل مع الناس وجُرح في معركة الخضر في 4 أكتوبر 1936، التي اعتقل خلالها، ومن ثم تمكّن من الفرار إلى دمشق وعاد في العام 1938، وقاد الثوار في منطقة القدس.

أصيب الحسيني ثانيةً في المعارك وغادر إلى خارج فلسطين، ليعود مجدداً بعد اكتسابه خبرات في تصنيع المتفجرات من ألمانيا لقيادة جيش الجهاد المقدّس، ويخوض عدداً من المعارك في منطقة القدس كادت أن تطيح بالمشروع الصهيوني، خاصةً بعد فصل مستعمرات القدس عن الساحل، إلى أن استشهد وهو يحاول استعادة القسطل من العصابات الصهيونية.

صفد: امتداد لاشتباك نُخب القدس

امتدّت تأثيرات النخبة المقدسية على طول مدن وقرى فلسطين، وانقسمت نُخب هذه المناطق بين معسكري الحسيني والنشاشيبي في الغالب، ولم يكن وضع مدينة صفد مختلفاً عنها، علماً أن المدينة شهدت ظهور حركة وطنية قوية. كانت من أهم إفرازاتها الاشتباكات مع اليهود خلال ثورة البراق في العام 1929، والمعارك مع الحركة الصهيونية خلال حرب النكبة؛ إذ تم تهجير كامل أهالي المدينة وتحويلهم للاجئين، ولم تبقَ فيها أية عائلة عربية.

في العام 1921 برز الشيخ أسعد قدورة كرئيس للجنة العربية التي تأسست في المدينة، حيث توحّد حولها عرب المدينة حتى العام 1925. ويُذكر أن الشيخ أسعد أنهى دراسته الدينية في الأزهر عام 1906، وعُيّن قاضياً لصفد في بداية الاحتلال البريطاني، كما اتّسم بالحنكة والرزانة وصفات الزعامة.
تمحور نشاط الشيخ خلال هذه الفترة مع عدد من الوجهاء والزعماء حول “تعميق وعي الناس حول الأخطار الناجمة عن السياسة البريطانية ووعد بلفور لتمكين الحركة الصهيونية في فلسطين”. [20]

منذ العام 1923 ظهر ميل الشيخ أسعد نحو معسكر النشاشيبي، وربّما يرجع ذلك إلى التعيينات التي قام بها الحاج أمين الحسيني بوصفه رئيساً للمجلس الإسلامي الأعلى، حيث عَيّن الشيخ أحمد النحوي قاضياً شرعياً في الناصرة، ليكسب في صفّه عائلة النحوي وهي إحدى العائلات الكبيرة في صفد، فيما استثنى الشيخ أسعد من كل هذه التعيينات، وبقي في منصب إفتاء صفد الذي كان بدون راتب. [21]

نظر الشيخ أسعد بريبة لعلاقة الحاج أمين الحسيني مع أفراد عائلة النحوي المنافسين المركزيين لعائلته تاريخياً في صفد، كما أنه “لا يمكن التغاضي عن اعتبارات الوجاهة؛ لأن الشيخ أسعد وعائلته كانوا العامل البارز والقوي في صفد والجليل الأعلى الشرقي طوال سنوات، ويصعب عليهم قبول سيطرة عائلة مقدسية بعيدة جداً عن صفد”. [22]

أضعفت كل هذه العوامل العمل السياسي في صفد، في الفترة بين العامين 1924-1925، ولكن الخطوة التي زادت من هذا المأزق كانت انضمام الشيخ أسعد قدورة إلى صفوف المعارضة النشاشيبية، ومشاركته في المؤتمر الذي عُقد بتاريخ 17 شباط 1926 في المؤتمر المعارض لسياسة الحُسينيين، ما دفع صبحي الخضراء- أحد رموز الحركة الوطنية في صفد- للتدخل لحل الأزمة بين الشيخ أسعد والمفتي، فقبل قدورة بمنصب قاضي الناصرة بعد تردّد؛ إذ كان يطمح لمنصب قاضي حيفا لأن راتبه أعلى.

لم تقتصر الانقسامات في النخب الصفدية بين معسكري الحسيني والنشاشيبي على المدينة، بل امتدت للقرى. فبعد فترة تعاون بين قادة الحركة الوطنية في المدينة وزعماء القرى والقبائل في منطقة الحولة وطبريا- امتدت من العام 1920 حتى 1936- تفكّكت هذه العلاقات تدريجياً، كما يبين الدكتور العباسي في دراسته، حيث اتّهم قادة صفد كامل الحسين زعيم منطقة الحولة بالميل للبريطانيين والحركة الصهيونية ومعسكر النشاشيببي.

تعود أصول عائلة كامل الحسين إلى أم الفحم، وقد قدم جده للمنطقة في القرن التاسع عشر على الأرجح، واستقر في أطراف نهر الحولة في منطقة المستنقعات، إذ كانت تُقيم قبيلة عرب الغوارنة، وهي خليط من المصريين والسودانيين، واستطاع جده توحيدها لتصبح أكبر قبائل المنطقة، إذ بلغ عدد قراها 13 قرية.

استغل بعض المشايخ والزعماء الخلاف بين المدنيين والفلاحين، لتوطيد علاقتهم مع الحركة الصهيونية- كما تُبيّن وثائق استخبارات الهاغاناة- من بينهم الشيخ حسن العلي زعيم عرب الهيب، الذي كان يبعث رسائل لقادة الحركة الوطنية بصفد ويهددهم بأنه بات في صف الصهاينة. لم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، بل شارك عدد من شباب القبيلة في معارك فلسطين، وشكّلوا كتيبةً منهم في العصابات الصهيونية هجّرت عدداً من القرى الفلسطينية، وشاركت في عمليات خلف الخطوط السورية واللبنانية.

استغلت السلطات البريطانية كل هذه الخلافات؛ فبادر قائمقام صفد موسى ناصر لإقامة “لجنة تحسين القرية العربية في قضاء صفد والحولة”، وعين كامل الحسين رئيساً لها، وبدأ الحسين بضرب الصفديين في أكثر المجالات حيوية لهم، وهو المجال الاقتصادي، فأقام مراكز تجارية خاصة لإمداد الفلاحين بالبضائع مباشرة دون الحاجة للشراء من صفد. فيما تمثلت الخطوة الأخرى في إقامة سوق الصفصاف في نفس يوم انعقاد سوق صفد، ما زاد من المرارة بنفوس تجار صفد، وزاد التوتر بين الطرفين حتى خفّف من ذلك ازدياد خطر الاستيطان الصهيوني في المنطقة. [23]

خلاصة

لم تكن الهزيمة الفلسطينية “النكبة” في العام 1948 وليدة اللحظة التي دمّرت فيها العصابات الصهيونية القرى والمدن الفلسطينية، وطردت أكثر من 700 ألف فلسطيني منها، بل سبقها تاريخ طويل من الصراعات والتداخلات والعمل السياسي والعسكري المثمر أحياناً والعقيم أحياناً أخرى، إذ لعبت النخبة وبخاصة المقدسية دوراً بالغ الأهمية فيه، سواء المتواطئة منها أو التي انخرطت بالنضال الفلسطيني انطلاقاً من خلفياتها الثقافية والفكرية، أو استجابةً لضغوط الجماهير التي شكّل الفلاحون الجزء الأكبر منها.

كانت الهوية العائلية والانتماء العشائري هما العنصران الأساسيان- في الغالب- في بناء النخبة المقدسية. اكتسبت هذه النخبة، في أحيان كثيرة، مناصبها ومواقعها وراثياً بعد أن حصلت عليها خلال العهد الأوسط والأخير من الحكم العثماني، وتبع ذلك خلافاتٍ وصلت في بعض الأحيان للاغتيالات التي كانت خلفية قسم منها وطنيةً، وأخرى متعلقة بتورّط شخصيات مثل فخري النشاشيبي بالتعاون مع الإنجليز ضد الثورة، ولكن عدداً من الكتابات التاريخية تُحمّل المفتي أمين الحسيني مسؤولية تطور العلاقة بين هذه الشخصيات والاحتلال جرّاء سياسته “الإقصائية”. [24]

تجدر الإشارة هنا إلى أن النخبة المقدسية لم تتوقف بعد النكبة عن لعب دور في العمل السياسي، خلال الحكم الأردني ومن ثم الاحتلال الصهيوني للمدينة، وبعضهم تم إبعاده وتوفّي في المنافي، وانخرط عددٌ منهم في العمل مع المنظمات الفدائية الفلسطينية ومنظمة التحرير.