عرف العرب كما كلّ الأمم، الحكيم الشعبيّ؛ وهو شخصيةٌ تجمّعت في حوضها جداولُ الحكمة وروافد التجربة؛ فنطقت بكلامٍ يحكي بلسان الواحد ما خَبِرته الجماعة في معاشها وصراعها في الحياة، مُعبرّةً عن  آلام الناس وآمالهم، وأشواقهم وشكواهم، ومعارفهم وعِرفانهم، تَغرِف من نهر الحياة وتسقي الجموع حكمةً مُحلّاةً ببلاغة الإيجاز وموسيقى الكلمات. وقد تكون هذه الشخصية من لحمٍ ودمٍ عاشت بين الناس في زمانٍ ومكانٍ مُحدّديْن، فقالت ما خَبِرته في حياتها، وروت ما سمعته من حِكايات الأسلاف، وقد تكون شخصيةً أسطوريةً صنعتها مُخيّلة الجماعة البشرية وأنطقتها بلسان المفرد ما تفرّق على ألسنتها. وقد تكون مزيجاً من الحالتين: شخصيةٌ حقيقيةٌ تأمّلت حال الدنيا والمعاش ونطقت بالحكمة، فرأى الناس ذاتهم في مرآتها، وصارت هيَ هُم، فزادوا من عندهم على قولها ونسبوه لها.

يقول علي ولد زايد

يُحدّثنا الشاعر عبد الله البردوني، في كتابه فنون الأدب الشعبيّ في اليمن، عن حكيم اليمن الشعبيّ علي بن زايد، فيقول: “هو كلّ الشعب اليمنيّ، وزمانه كلّ الأزمان وقريته كلّ القرى، وتحدّث بلهجات كلّ الشعب، ولا يتحدّث بلهجات كلّ الشعب إلا كلّ الشعب”.
يقول البعض أنه من قرية منكث؛ بدليل ذكر منكث في شعره وأقواله:
“لا خير إلا بمنكث للجنّ والناس والطير”

ولكن ما نلبث أن نجد لضوران وسحول بن ناجي وصنعاء وغيرها من البلدات اليمنية ذكراً  في أشعاره وأقواله، ممّا يجعل من الصعب الجزمُ بموطنه الأصليّ وزمانه الحقيقيّ. ولكنّ ما نستطيعُ الجزمَ به، مغمورين بدهشة الكشف، أنّنا أمام إرثٍ جليلٍ جميلٍ يُسمّيه أهلنا في اليمن “أعراف علي ولد زايد”، و”أعراف علي ولد زايد” هذه مجموعةٌ متكاثرةٌ من الحكايات والأمثال والحِكم والقوانين والغنائيات، تتنوّع موضوعاتها بتنوّع موضوعات الحياة ونوازع الذات الإنسانية، تبدأ في جُلِّها بلازمة “يقول علي ولد زايد”. ولأعراف علي بن زايد، كما يقول البردوني، “قداسة الشريعة، وسلطة القانون” في يمنِنا الغالي؛ فهي أقرب إلى التعاليم.

سأقدّم في هذه الإطلالة بعضاً من هذه التعاليم، وخاصّةً في قضيّتيْ الأرض والحرب، وهذا التخصيص هو ممّا حكم به التاريخ بتلازُم القضيّتين، وما أمر به الهوى القرويّ الفلسطينيّ. 

حكمة الأرض
يقول علي ولد زايد:
المال خيرٌ من الجاه، والمال في تعاليم ولد زايد هو الأرض:
المال ما يأكُله ذيب
ولا زنينةٌ تضرُّه

والأرض لا تأكلها الوحوش ولا يضرُّها المطر، بل على العكس، فإنّ المطر يُفجّر خيراتها، والموتُ لا مهربَ منه، ولكنّ الجوع يُمكن الهروب منه إلى الأرض الخصبة كمنطقة “سحول بن ناجي”، يقول علي ابن زايد:

إن كنت هارباً من الموت… ما أحداً من الموت ناجـي
وإن كنت هارباً من الجوع … اهرُب صوب “سحول بن ناجي”

ومع ذلك، فكلُّ أرضٍ خصيبةٌ، تجود إذا أجاد فالحُها العمل فيها ولم يُفرّط بها:
المال كلُّه موارك…إذا لقي من يمونه
وإن يصادف ولد ويل… باعه وفالط رهونه

والأرضُ منبت الحكمة، فآخر عمر الحكيم أبهج من أوّله عند ولد زايد؛ “لأنّ الأحجار التي تساقطت من بناء العمر شيّدت مداميك التجربة”، كما يقول البردوني، مَثَلُ الزرع وقد أينع وأعطى ثماره:
آخر زماني خِياره
من حين شبّت عيالي
والمال يِدّي ثماره

ويقول علي بن زايد:
ذي ما يصبح بالضميد ماله
تصبح وتمسي في القرى عياله
والذي لا يسري صباحاً إلى أرضه بثورَيْ الحراثة وقد جمعهُما النير (الضمّيد)، يجوعُ ويُذَلّ.

ويُسهب في  العلاقة ما بين العمل في الأرض والكرامة:
ذي ما يسرّح موحلات الأظلاف
ينجح زمانه للعرب تلطّاف

*(ذي تعني الذي في لسان طيّ)

ومن لم يعتنِ بثيران الحراثة، أي أدواتُ الإنتاج، ويُشبِعُها علفاً حتّى تغوصّ أظلافُها في وحل فضلاتها، تُذلّه الحاجة إلى الناس، ويُصبح مُجبَراً على تصنُّع التلطُّف معهم طمعاً فيما بين أيديهم؛ وذلك بعد أن فقد عزّة الاستقلال بالإنتاج الزراعيّ. ومشوار الكدّ في الأرض برفقة ثور الحراثة (صيّر الثور رفيقاً لدرب العزّة) فيدعو له علي ولد زايد  بطول العمر:
يا ثورنا طال عمرك …طول الهلال اليماني
في آخر الشهر شيبة … وأصبح ولد يوم ثاني

ويشكو ولد زايد لثوره تأخُّر زوجته في جلب طعام الغداء؛ إذ يقفُ الحراث وقد وصل آخر  التِلِم (خطّ الحراثة)، على أمل أن يرى زوجته قادمةً من بعيدٍ حاملةً صُرّة الطعام، فإذا لم يرها ردّ التِلِم، أي يشقُّ تِلِماً آخر بالاتجاه المعاكس، شاكياً لثوره:
الرد يا مالي الرد
عاد المره ذي تهرد

أي أنّ زوجته التهت بالتزيُّن بالصِّباغ ونسيت زوجها يلُوك جوعه.

ولا تقف تعاليم ولد زايد عند الأبعاد الأخلاقية  والفلسفية حول الأرض وفلاحتها؛ وإنما تتعدّاها نحو الإرشادات العملية في الزراعة ومواقيتها وعلامات النجوم والأنواء.
يقول علي ولد زايد:
زاب الخريف العوالي
والصيف شرقي هليله

فإذا هبّت الريحُ لأيامٍ من جهة الغرب، فتلك البُشرى بموسمٍ زراعيٍّ مُمطرٍ وخصيبٍ، وكذلك إذا هبّت صيفاً من الشرق. وحدّد مواعيد البذار للشعير والذرة والقمح والعدس:
التسع لازن دفّا
وإلا فهو من حد عشر.

أما إذا لم تَصدُق النجوم بوعودها، ولم يأتِ المطر، فـ”يشلّع” ولد زايد القلبَ وهو يبُثُّ شكواه:
يا نجوم العِلب  يا ناشرات المطمه
الذرة مزغبة واليبيبي بيت أمه

فالذرة في أول إنباتها “كالرّضيع بلا مرضعةٍ، واليبيبي (طائر الهُدهد) لم يُطلق صوت البشير بالمطر” : يُب يُب. 
وهذه العلاقة بالأرض والزراعة تصلُ عند ولد زايد إلى مقام العشق؛ فينطقُ بلسان العاشق الولهان:
جيت أطوف النبات  والشمس قامه بقامه
قلت ما حلى الندى    فوق صــدر الحمامة

ولا ينسى ولد زايد أن يُقدّم إرشاداته للمسافر ليتّقي مهالك السيول والحرّ:
أوصيك يا جمّال لا تسافر
عند مطلع سهيل أو في مغيب الظوافر
يا الله جارك من مغيب الظافر
عنيت أو لما عنيت اللآخر
الليل برد والنهار هواجر 

وإذا هبّت الرياح بما لا تشتهي السفن، فهذا حالُ الدهر:
يقول علي ولد زايد:
الدهر هبّة بهبّة
والعمر ليلة وهربه

يقول علي ولد زايد:
يا حيرتي من زماني
أمِنتُ من حيث أخافُ
وخِفتُ من حيثُ أماني

حكمة الحرب
يقول ولد زايد:
أوّل الحرب عدامة
ووسطها غرامة
وآخرُها ندامة
وبعدها السلامة 

يرى ولد زايد أنّ الحرب إن بدأت، فلا طريقَ للسلامة من شرورها إلا بخوضها وتحمُّل ثمنها (غرامة)، وما يتبع ذلك من شعورٍ بالندم، ليست المسألة تمجيداً  للحرب؛ وإنّما هي ما خَبِره المُجرّب في كون الصراع بين البشر سنّةً في الوجود الإنسانيّ، ومن لم يختَرْ وقت حربه فُرِضَت عليه بتوقيت عدوّه، يقول علي ابن زايد:
ذي ما يغارم يغرم
له المنايا تشلّه
وما من الموت مهرب

والحرب عند ولد زايد لها قوانينُها التي تُحدِّدُ مسارها وتطوُّرها، فيتحدّثُ عن عزمِ القتال في اتّصاله وانقطاعِه وأثرِ ذلك في سَير الحرب: 
الحرب لا بات ليله
أمست حبالة تناوي
وإن حمي بعدها يوم
أمست حباله تقاوي

وإذا وقعت الحربُ فهي الامتحان الحقيقيُّ للانتماء للجماعة: 
ذي ما يجيب داعي الصوت
يدعي وما حد يجيبه
ومن يغيب ساعة الصدق
يغيب وما حد يردّه

وأما الحروب الأهلية فهي أقسى الحروب، مثل صداع الرأس
يقول علي بن زايد
حربي وحرب ابن عمي
مثل الوجع في الصوابر
أو مثل مقرانة السبع  ما بين بجما وعاصر

ويقول محمد العابد ….

تستدعي شخصية الحكيم علي ولد زايد، شخصيةَ العاشق محمد العابد في التراث الفلسطيني،    والذي تقول الحكايات أنه غنى مواويل الصدِّ والهجران من قبل معشوقته “عتابا”، وقيل “عِتاب”. فصار يُطلق على الفنّ عَتابا  في التراث الشعبيّ. ومحمد العابد مثلَه مثل علي ولد زايد، شخصيةٌ حقيقيةٌ أسطوريةٌ في الوقت ذاته؛ فتنسِبُه بعض الروايات إلى الجليل، وأخرى إلى غزة، وثالثةٌ إلى الخليل. وبغضّ النظر عن زمانه ومكانه الحقيقيّيْن، إلا أنّ المخيال الشعبيّ جعل منه لساناً لشكواه وعتابه للزمان، وما أقسى الزمان على الفلسطينيّ! فنظّم الشعراء الشعبيون بيوت العتابا وقالوها على لسانه، ومثله مثل علي ولد زايد، تُفتَتح أبيات العتابا على لسانه بلازمة “يقول محمد العابد” أو “صاح محمد العابد”:

صاح محمد العابد عريشه   وعلى اللي ساكني في العريشه
أنا لأصير طير وأبني لك عريشه   وأطير بيك لسابع سما

يقول محمد العابد إلى وِين    فتح في ضامري قصر بلواوين
ألا يا زامّين النعش لوين    أقيـــفوا تانودّع هالحْبـاب

ومعظم موضوعات أبيات العتابا المُبتدئة بلازمة “يقول محمد  العابد” أو “صاح محمد العابد”، هي الحبُّ وشكوى الهجران والغزل. وقد عُرف عن الحكيم علي ولد زايد أنه كان ذو صوتٍ شجيٍّ في غناء “المِهيَد”، “والمهيد” من فنون الغناء في يمنِنا الغالي، حزين الإيقاع وقريبٌ من النُّواح، وموضوعاته الأساسية: الفقد والهجران والخوف من عثرات الزمان. وينقُل البردوني أنّ علي ولد زايد صعد على جبلٍ وصاح “بالمهيد” بعد أن ضاقت عليه الدنيا:
يقول أبو (سعد) يا غبنه ثلاثة غبون:
الغبن الأول لمن جارت عليه الديون
وغبن ثاني لمن قلت رجاله يهون
وغبن ثالث لمن فارق كحيل العيون 

يبدو المهيد كأنّه النظير اليَمني لعتابا فلسطين، وإن غَلَبت على أعراف علي ولد زايد الحكمةُ والمعارفُ الزراعية، إلا إنّه يظهر في بعض أعرافه عاشقاً هيماناً مثل رفيقه في العشق محمد العابد الفلسطينيّ، يقول علي ولد زايد:
يا جارية يا سعادة
ردّي لي الطير رديّه
إن كان ذا الطير جايع
بالبر والسمن نحقيه
وإن كان ذا الطير حافي
من جلد سعدان نحذيه
وإن كان ذا الطير عاطش
من صافي الخمر نسقيه

في طفولتي، سألتُ أمّي: “مِن وين إحنا أصلنا؟”
فقالت: “كان سيدك دايماً يقول إحنا أصلنا من اليمن”، تُغوي هذه المحادثة المتشبّثة بالذاكرة  في تخيّل لقاءٍ بين علي ولد زايد ومحمد العابد (ولولد زايد ولدٌ اسمه محمد، يتكرّر ذكره في أعرافه)، يوصيه وقد ضاقت الدنيا في وجهه:
عِز القبيلي بلاده  ولو تجرع وباها
يِشد منها بلا ريش  ولكتسى ريش جاها

استدراك: بما أنّ الشيء بالشيء يُذكَر

تُهَيْمن على الاهتمام التراثيّ في فلسطين نزعةٌ فلكلوريةٌ تتأرجحُ ما بين التعامل مع التراث كمادةٍ غرائبيةٍ للتسلية، وما بين التعامل معه كموضوعٍ للدراسة والبحث. ومع أن مُفتَتح الكلام عن التراث يبدأ بلازمة أهمّية التراث في المحافظة على الهوية الوطنية، لكنّ السؤال: عن أيّ هويةٍ وطنيةٍ نتحدّثُ في وقتٍ نعيش فيه صراعاً على تشكيل الهوية الوطنية الفلسطينية؟ هذا الصراع  هو امتدادٌ للصّراع السياسيّ داخل المجتمع الفلسطينيّ ما بين قوى المقاومة وقوى التواطؤ مع العدو.

لنقُل بشكلٍ أوضح؛ لا يمكننا اختزالُ الاهتمام بالتراث وحِفظِه في سياق الصراع مع المشروع الصهيونيِّ كتهديدٍ وسلبٍ لهويتنا الوطنية، وإنما علينا الانتباهُ إلى استخدام التراث من قِبَل النُّخب السياسية والاقتصادية -تحديداً السلطة- كوسيلةٍ للهيمنة الاجتماعية وشرعنة وجودها ودورها عبر تسويقها لذاتها كحاميةٍ للهوية التراثية والأصالة من خلال رعايتها للأنشطة التراثية؛ سواءً في المناهج الدراسية أو الاحتفالات الثقافية التراثية.

باختصارٍ، ما نُسمّيه اهتماماً بالتراث والفلكلور ما هو إلا في الحقيقة استخدامٌ للتراث والفلكلور لأغراضٍ سياسيةٍ؛ إمّا للهيمنة أو مقاومتها؛ فالصِّراع في حقيقته هو “ما بين مُهيمِنٍ ومُهيمَنٍ عليه، لا بين حديثٍ وتقليديٍّ”.

وهنا تبرُزُ مسألة تهميش البُعد العربيّ في دراسات التراث الفلسطينية؛ من حيثُ مقارنة التراث الفلسطينيّ بتراث الشعوب العربية واتّصاله وتواشُجِه معه؛ فالتركيز على الهوية التراثية المُستقلّة كان في بدايته ردّة فعلٍ مُتفهّمةٌ على إنكار المشروع الصهيونيّ لوجود شعبٍ فلسطينيٍّ مُستقلٍّ، ولكنّه تحوّل مع الوقت إلى صناعة هويةٍ فلسطينيةٍ “محليّةٍ” على مقاس مشروع منظّمة التحرير المهووسة بالقرار المستقلّ وبما يخدم مسعاها في مشروع التسوية مع العدو.

هذه المنظمة، وقد صارت تُسمّى السلطة الفلسطينية، اصطفّت رسمياً مع قوى العدوان على الشعب اليمنيِّ. ومن هنا فإنّ اختياري للكتابة عن الشخصية التراثية اليمنية، الحكيم علي ولد زايد، هو اتكاءٌ على التراث في معركة الشعوب الواحدة: في مواجهة سُلطاتها ومُستعمِريها.