يقدّم خالد عودة الله سيرة مختصرة لمصطفى مراد الدباغ، مُركّزاً على بعدها السياسيّ، ويعرضُ السياق التاريخيّ الذي بدأ خلاله كتابة موسوعته بلادنا فلسطين، كما يُناقش ما قالته دراسات الكتابة التاريخيّة عنها، ويضيء على حال راهن الكتابة التاريخيّة في فلسطين.

إلى” أبي عمر” مصطفى مراد الدباغ،    
وإلى بحر يافا؛ مستودع أحزاننا وهدير أفراحنا القادمة

توطئة:

في 27 تشرين الثاني من العام 2018، أطلقت مؤسسة “الدراسات الفلسطينية” طبعةً جديدةً لموسوعة “بلادنا فلسطين” لمصطفى مراد الدباغ، بمقدمةٍ دبّجها الأستاذ وليد الخالدي، وهي المرّة الأولى التي تصدر فيها الموسوعة بمقدمةٍ زائدةٍ على مقدمة المؤلف. واعتبرت المؤسسة إصدارها الموسوعة في طبعتها الجديدة حدثاً بارزاً، مع تشديدٍ استثنائيٍّ على كونها تصدر بمقدمةٍ للمؤرّخ الكبير وليد الخالدي.

إنّ إصدار الطبعة الجديدة من الموسوعة مُنقحةً ومصححةً ومضافاً إليها كشّافاتٌ بالأسماء والموضوعات، لهوَ جهدٌ مشكورٌ للمؤسسة، إّلا أنّه كان من المتوقع، وبالنظر إلى صدور الطبعة الجديدة عن مؤسسةٍ فلسطينيةٍ بحثيّةٍ عريقةٍ، وبما أنه تقرّر أن تصدر بمقدمةٍ زائدةٍ عن مقدمة المؤلف، أن تكون المقدمة فرصةً لتقديم مادةٍ بحثيّةٍ حول الموسوعة، بصفتها العمل الأهمّ في ثقافتنا الوطنية المكتوبة في حقليْ التاريخ والجغرافيا، والتعريف بكاتبها والسياق التاريخيّ لكتابتها، وألّا تقتصر على تكرار الاحتفاء المعهود بالموسوعة وصاحبها، ووصفٍ لمحتوياتها، والحديث عن العلاقة الشخصية ما بين والديْ صاحب المقدمة وكاتب الموسوعة.

وكان مؤملاً أيضاً أن تُضيء المقدمة للقارئ على راهنيّة الموسوعة في هذه المرحلة الحرجة التي تمرّ بها قضيتنا الوطنيّة. ولكن للأسف، صدرت الموسوعة بمقدمةٍ لا تقول جديداً عن الموسوعة، وبرأيي كانت فائضةً عن الحاجة، ولا تليق بالنصّ الفلسطينيّ الأكثر اقتباساً عنه بين كل النصوص التي كتبها الباحثون الفلسطينيون.

وما زاد الأمر سوءاً احتواءُ المقدمة على خطأ في تفسيرها لضمّ الدباغ لأقضية السلط وإربد وعمّان في شرق الأردن لفلسطين في موسوعته، حيث يرِدُ في تقديم الخالدي بأنّ “هذا الضمّ جاء على اعتبار أنه يجمعهما (أي فلسطين وشرقي الأردن) الخضوع للانتداب البريطاني”، [1] وأمّا الدكتور نظمي الجعبة – يا ليته سكت عندما سُئل، وقال لا أدري وكفانا مشقة الردّ عليه – فقال في حفل إطلاق الطبعة الجديدة، إنّ هذا الضمّ يرجع “إلى كون بعض أجزاء الموسوعة كُتبت في وقت وحدة الضفتين ما بعد النكبة”. ما سنراه لاحقاً أنّ هذا الضمّ يعود عند الدباغ إلى رؤيته لحدود فلسطين مغايرةً للتصوّر الاستعماري البريطانيّ لحدود فلسطين على العكس مما جاء في المقدمة.

بشكلٍ عامٍّ، يمكننا القول إنّ الدباغ وموسوعته لم يحظَيا بالاهتمام البحثيّ اللائق بهما، بعيداً عن المختصرات الاحتفائيّة والتمجيديّة، خاصةً بالنظر إلى فرادة الموسوعة في حقل الجغرافيا التاريخيّة لفلسطين، وموقعها في ثقافتنا الوطنية المكتوبة كمرجعٍ بقيَ مُحافظاً على حيويّته المجتمعية الشعبية وراهنيته البحثيّة معاً، ولم يتحوّل إلى عملٍ تاريخيٍّ آخر لا نصادفه إلا على صفحات الباحثين.

ومن جهةٍ أخرى، تحفّز واقعة إصدار الطبعة الثالثة من الموسوعة بمقدّمتها الهزيلة، مجموعةً من التساؤلات؛ أوّلها: لماذا بقيت موسوعة الدباغ يتيمةً في حقلها، في الجغرافيا التاريخيّة لفلسطين، ونضطرّ إلى إعادة طباعتها؟ وكيف يشكّل إصدار الطبعة الجديدة مناسبةً للتفكير في راهن الكتابة التاريخيّة في فلسطين وعنها؟

في هذه الدراسة المختصرة، سأقدّم سيرةً مختصرةً للدباغ، مُركّزاً على بعدها السياسيّ؛ إذ إنّ هذا البعد المهمّش نتجَ عنه اختزال التراجم المتداولة النظرَ إلى الدباغ إمّا بكونه مربيّاً أو مؤرّخاً فحسب. وبعد تقديم هذه السيرة، سأعرض السياق التاريخيّ الذي بدأ خلاله كتابة موسوعته، وبالتحديد الصراع على تدريس تاريخ فلسطين تحت الاستعمار البريطانيّ، ومن ثمّ سأعرضُ وأناقشُ ما تقوله دراسات الكتابة التاريخيّة حول فلسطين عن الدباغ وموسوعته، وأُنهي بإضاءةٍ على حال راهن الكتابة التاريخيّة في فلسطين، وتحديداً حول كتابة التاريخ الوطنيّ.

مصطفى مراد الدباغ: سيرةٌ شخصيّةٌ -سياسيّةٌ

مصطفى الدباغ ابن أسرةٍ تنتسب للصوفيّ المشهور عبد العزيز الدباغ، وُلد في يافا في ربيع 1898، أتمّ دراسته الابتدائيّة فيها، ومن ثمّ أنهى دراسته الإعداديّة والثانويّة معاً (7 سنوات) في مدرسة “مكتب سلطاني” المرموقة في بيروت، والتي كانت مُعدّةً لإعداد النخبة للوظائف الإداريّة العليا في السلطنة، مُتقناً الإنجليزيّة والتركيّة. في العام 1915، بدأ الخدمة العسكرية كضابط احتياطٍ في الجيش العثمانيّ في معسكرات الجيش في استانبول، وأُرسل مع وحدته إلى الحجاز، حيث نُقِل إلى وظيفةٍ إداريّةٍ هناك لميوله العروبيّة، وانضم بعد هزيمة الجيش العثمانيّ إلى الجيش العربيّ في الحجاز، وخدم فيه ضابطاً لمدّة عامٍ.

  في العام 1919، عاد إلى فلسطين بعد احتلالها من قبل الإنجليز، ليُعيَّن مديراً لمدرسة المنشيّة- يافا، ومن ثمّ مديراً للمدرسة الثانويّة في الخليل، حيث أدخل العديد من التطويرات على المدرسة، ناسجاً علاقاتٍ اجتماعيّةً واسعةً مع أهل الخليل.

وفي الخليل، كان اللقاء بالحاج أمين الحسيني، ومن ثمّ التعاون معه سياسيّاً، [2] ولا نملك تفصيلاً عن طبيعة هذا التعاون، ولكن على ما يبدو أنّ النشاط الاجتماعيّ السياسيّ للدباغ أثناء عمله في الخليل كان الدافع وراء نقله من وظيفةٍ تربويّةٍ لها اتصالٌ مباشرٌ مع الناس إلى وظيفةٍ إداريةٍ لإبعاده عن هذا التواصل اليوميّ مع الناس.

وفي العام 1926، عُيّن الدباغ أستاذاً للاجتماعيّات في دار المعلّمين في القدس، التابعة لدائرة المعارف الاستعماريّة البريطانيّة، على إثر فصل الأستاذ درويش المقدادي بسبب نشاطه السياسي التحريضي المباشر ضدّ الإنجليز ما بين طلاب الدار. [3] وبعدها بعامٍ، عُيّن الدباغ مساعداً لمفتّش المعارف في لواء نابلس. وعند إنشاء جمعية الشبان المسلمين في فلسطين، كردّة فعلٍ على الرعاية البريطانيّة لجمعية الشبان المسيحيّة التي اعتبرها الفلسطينيون مشروعاً للاختراق الإمبريالي في فلسطين، انضمّ الدباغ للجمعية ذات النزعة الوطنيّة، وكان من مسؤولي فرعها في نابلس. [4]

وما بين عامي 1940- 1945، وأثناء عمله مفتّشاً في نابلس، أنجز الدباغ القسم الأوّل من الجزء الأوّل من موسوعته، حيث استهلّ كتابة التاريخ الجغرافي لبلدنا – بعد المقدمة التاريخيّة والجغرافيّة- بالديار النابلسيّة التي وصفها بـ”بلاد الرجولة الكاملة والخلق المتين”. وأثناء عمله مفتّشاً في نابلس، حدثت واقعة قلنسوة التطبيعيّة، والتي تعطينا فكرةً عن النضال الوطنيّ للدباغ خلال وظيفته كمفتشٍ في دائرة المعارف.

وإليكم تفاصيل واقعة قلنسوة:

في العام 1941، شارك أحد المعلّمين في مدرسة قلنسوة في برنامجٍ لتعميق التفاهم والتعايش ما بين العرب واليهود، مُصطحباً تلاميذه في زيارةٍ لمدرسةٍ في مستوطنة “إيفين يهودا” المجاورة، ليصل خبر هذا النشاط التطبيعيّ لمصطفى مراد الدباغ – مفتش المنطقة آنذاك – فيعاقب المعلّم بنقله إلى منطقةٍ نائيةٍ لا يوجد في محيطها مدارسُ يهوديةٌ، لئلّا يكرر فعلته. [5] وفي العام 1945، عُيّن الدباغ مفتّشاً للواء الجنوب  الذي يشمل يافا والرملة وغزة وبئر السبع.

وبحسب أرشيف “الهاجاناة”، فإنّ وحدة استخبارات الهاجاناة “شاي- شيروت يديعوت” كانت تُتابع نشاط الدباغ السياسيّ والتعليميّ، وقد درجت “الشاي” على التجسّس على المعلّمين الفلسطينيين ونشاطاتهم السياسيّة، خاصةً الأنشطة التي تُمارَس خارج الوظيفة الرسمية، من مثل المحاضرات العامّة، والتي كان يقول فيها المعلمون الفلسطينيون ما لا يستطيعون قوله في الغرف الصفّيّة الخاضعة للرقابة الحكومية. وفي تقريرٍ لـ”الشاي” في 12 حزيران 1946، ورد إنّ الدبّاغ أثناء عمله كمفتشٍ تربويٍّ، دعا  إلى تأسيس روابط سريّةٍ للطلبة والتدريب على الأسلحة. [6]

لا نستطيع التأكّد من دقّة تقارير “الشاي”، ولكن ما نحن متأكدون منه هو أنّ الدباغ كان صاحب فلسفةٍ تربويّةٍ وطنيةٍ ونضاليّةٍ واضحةٍ، حول دور التعليم في الصراع مع المستعمِرين على أرض فلسطين، عبّر عنها في كتابه “مدرسة القرية” (1935) [7] الذي سكب فيه فلسفته التربويّة الوطنيّة في الهامش الضيّق الذي يسمح به العمل في دائرة المعارف الحكوميّة البريطانيّة؛ هذه الدائرة التي كانت لها اعتباراتٌ سياسيّةٌ وراء تقنين التعليم الريفيّ، أهمها تحوّفها من ازدياد الهجرة من الريف إلى المدن، مع ما تحمله هذه الهجرة من مخاطر سياسيّةٍ واقتصاديّةٍ. [8]

وفي الوقت ذاته، لا يمكننا إغفال الصراع على الأرض كخلفيّة لفلسفة الدبّاغ التعليميّة القرويّة؛ إذ فرض هذا الصراع على الفلّاحين خوضهم في سبيلها معركةً مزدوجةً مع الصهاينة والإقطاعيّين العرب الذين سرّبوها للصهاينة. يقول الدباغ في مقدمة “مدرسة القرية”: “غاية التربية القرويّة أن نهيّئ فلّاحاً غنيّاً نشيطاً في قابلتيه للإنتاج، ومُحبّاً للالتصاق  بأرضه”، و”التعليم سبيلاً لوعي الفلاح طبقيّاً لمواجهة “تلوّن المدينة وأساليب خداعها…الفلاح الذي بقيَ لقرونٍ عديدةٍ يروي الأرض بعرق جبينه لينعم بمحصولها أصحاب الثراء”. [9]

في حرب النكبة، بقيَ الدبّاغ صامداً مع المُدافعين عن يافا، وكان مِن أواخر مَن رحلوا عنها في 21 نيسان 1948. ومنذ هذا اليوم، لن تعود موسوعة “بلادنا فلسطين” كتاباً في تاريخ فلسطين فقط، وإنما ستصير فصلاً من فصوله، ورمزاً آخر من رموز النكبة ومقاومتها:

“بعد قصف يافا، اشتدّت الحالة سوءاً، فقُطع النور والماء، ونَفَد ما لديَ من الخـبز … وأخيراً جاءني ابن عمي، وكان قد استأجر مركباً صغيراً من مصر ليافا، لينقل فيه إخوانـه، فلم يدعني حتى نزلتُ على رأيه بالسفر معه، ولم أحمل معي سوى حقيبتي الصغيرة، وبهـا مخطوطـةُ كتابـي عن تاريخ فلسطين وجغرافيتها البالغ عددها أكثر من ٦٠٠٠ صفحة، كتابي الوحيد، نتاج عمري الذي سلختُ أكثر من عشرة أعوامٍ في جمع وثائقه وتبويبه وكتابته … كـان الـبحر هائجاً تتلاطم أمواجه، والرياح فوقه تعصف، والأمطار تهطل بشدّةٍ، وأخذ الماء يدخـل المركـب مـن جميع أطرافه … احتضنتُ حقيبتي التي فيها كتابي، ولكن يد بحّارٍ قويةً تساعده موجةٌ دخلت ظهر السفينة، انتزعت الحقيبة، وقذفتْها إلى الماء، وهكذا ضاع الكتاب وضاع معه مجهود السنوات الطويلة التي قضيتُها في جمعه وتنسيقه”. [10]

وفي سوريا، تنقّل الدباغ بين وظائف تربويةٍ في حلب ودير الزور وصولاً إلى بيروت، حيث عمل مفتّشاً لمدارس المقاصد الخيرية. وفي عام 1950، عاد إلى فلسطين بناءً على دعوةٍ من وزارة التربية والتعليم الأردنيّة، وعُيّن مفتّشاً للمعارف في الضفة الغربية، التي كانت تخضع للحكم الأردني البغيض حينها، ومن ثمّ تقلّد منصب وكيل وزارة المعارف في العام 1954 حتى العام 1958، حين أنهى الإنجليز، عبر رئيس الوزراء الأردني سمير الرفاعي، خدماته وفُصل من وظيفته بسبب تأليفه الكتاب المدرسيّ “تاريخ فلسطين منذ أقدم الأزمنة حتى اليوم”، والذي عدّه الإنجليز منشوراً سياسياً، لا كتاباً مدرسيّاً. [11]

(غلاف كتاب الموجز في تاريخ فلسطين منذ أقدم الأزمنة حتى اليوم، موقع كَون)
(غلاف كتاب الموجز في تاريخ فلسطين منذ أقدم الأزمنة حتى اليوم، موقع كَون)

تسلّل الدباغ هارباً من الأردن بمعاونة أحد معارفه في مطار عمّان، بعد صدور مذكرة اعتقالٍ بحقّه، على خلفيّة “تاريخ فلسطين” الذي لم يعجب الإنجليز. [12]  ومن الأردن انتقل إلى قطر، ليشغل منصب مدير المعارف (1959- 1961). وبعدها عاد إلى بيروت متفرّغاً للبحث والتأليف.

“بلادنا فلسطين”: النوع الكتابي والمحتوى

مع أننا عادةً ما نصنّف الموسوعة كمؤلّفٍ في التاريخ، إلا أنّ الأدقّ وصفها كمؤلّفٍ في الجغرافيا التاريخية، والمقصود بالجغرافيا التاريخيّة باختصارٍ؛ كتابة تاريخ وحدةٍ جغرافيّةٍ ما، من ناحية التحوّلات والأحداث التي أثّرتْ الجغرافيا والمكان فيها (التاريخ وراء الجغرافيا)، وكذلك كيف أثّرتْ أو حدّدتْ الجغرافيا، الموقع والطبوغرافيا، على الأحداث التاريخية فيها (الجغرافيا وراء التاريخ).

وعبر التاريخ، ارتبطتْ الجغرافيا التاريخيّة ارتباطاً وثيقاً بالصراع على الأمكنة، من سيطرةٍ ومقاومةٍ، خاصةً في السياق الاستعماري، حيث التحوّلات عنيفةٌ على الجغرافيا. وبذلك كانت كتابة الجغرافيا التاريخيّة للأمكنة مكوّناً أساسيّاً في بناء الهويّة الوطنيّة بعلاقتها بالأرض.

وفي فلسطين، مهجة القلب، ترافقتْ عملية كتابة جغرافيّتها التاريخيّة مع استعمارها، بلّ يمكننا القول إنّه لم يعرف بلدٌ في العالم ما عرفته فلسطين من كثافة التخييل الجغرافيّ التاريخيّ. وصلت كتابة الجغرافيا التاريخية لفلسطين ذروتها في عمل “صندوق استكشاف فلسطين”، ولا تزال إلى اليوم تشكّل أبحاث الصندوق وخرائطه مصدراً أساسيّاً لمعرفة الأمكنة وأسمائها ما قبل الخريطة الاستعمارية الصهيونية.

فلسطينيّاً، تُعتبر موسوعة الدباغ العملَ الموسوعيَّ، الأوّل والأخير، في الجغرافيا التاريخيّة المُطعّمة بمعرفة أهل البلاد، وذلك بعد حوالي 72 عاماً من بداية صدورها، دون أن يعني ذلك عدم وجود محاولاتٍ متواضعةٍ هنا وهناك في هذا الحقل؛ ربّما أهمّها كتاب “الجغرافيا التاريخيّة لفلسطين”، لكمال عبد الفتاح وهَتيرروث. [13]

صدر الجزء الأول من الموسوعة بصورتها الحالية، عام 1961 عن “دار الطليعة” في بيروت، ويحوي القسم الأوّل مقدّمةً جغرافيةً تاريخيّةً عامّةً لفلسطين، تلاه تباعاً الجزء الثاني حول الديار الغزيّة، والثالث والرابع حول الديار النابلسية، والخامس عن الديار اليّافيّة، والسادس عن ديار الخليل، والسابع والثامن عن ديار الجليل، وصولاً إلى الأجزاء الثلاثة الأخيرة حول الديار المقدسيّة، آخرها في العام 1976.

تحتوي الموسوعة على معلوماتٍ جغرافيّةٍ أوّليّةٍ حول القرى والبلدات وتنظيمها الإداريّ، وتاريخ المكان بالاستناد إلى الكتابات التاريخيّة العربيّة والإفرنجيّة والحفريات الأثريّة، وإحصاءاتٍ حول مساحات الأراضي لكلّ وحدةٍ، والإنتاج الزراعيّ، والقطاع التعليميّ، والشخصيات المشهورة، وصولاً إلى النشاط الاستيطانيّ الصهيونيّ، وتاريخ المقاومة الفلسطينية في الثورات والهبّات الشعبية،  ثورة 1921 وثورة البراق، وثورة 1936، وصولاً إلى حرب النكبة، جامعاً ما بين المصادر المكتوبة المتنوّعة التراثيّة والحديثة، العربيّة والإفرنجيّة، والتاريخ الشفويّ ومشاهداته الميدانيّة من خلال الرحلات التي كان يقوم بها في ديار فلسطين خلال عمله كمفتّش للمعارف.

ويجدر الإشارة إلى أنّ الدباغ يقول في مقدّمته لكتابه “فلسطينيات (1): القبائل العربيّة وسلائلها في بلادنا فلسطين”، إنّ هذا الكتاب والذي يليه، كتاب “فلسطينيات (2): الموجز في تاريخ الدول العربيّة وعهودها في بلادنا فلسطين”، “يُمكن اعتبارهما مُتمّمَيْن لمجلداتنا: بلادنا فلسطين”. [14]

(غلاف الجزء الأول من بلادنا فلسطين الصادر في يافا في العام 1947، مكتبة خالد عودة الله)
(غلاف الجزء الأول من بلادنا فلسطين الصادر في يافا في العام 1947، مكتبة خالد عودة الله)

“بلادنا فلسطين”: الصراع على كتابة تاريخنا الوطني

مهما قيل في قضيّة الموضوعيّة في الكتابة التاريخيّة، تبقى كتابة التاريخ ممارسةً سياسيّةً بامتيازٍ، ولهذا علينا إعادة صياغة السؤال الساذج: هل يمكن أن يتجنّب الكاتب التحيّز، وأن يكون موضوعياً في كتابته للتاريخ؟ إلى ما هو السياق السياسيّ الذي عمل فيه المؤرّخ؟ وما هو موقعه في هذا السياق؟ وما هو موقفه منه ما بين قطبي الانصياع والمقاومة، وما بينهما من هامشٍ للمناورة قد يضيق ويتّسع؟

صَدَر الجزء الأول من القسم الأول من “بلادنا فلسطين” في العام 1947 عن مكتبة الطاهر اخوان في يافا، وكان الدباغ قد أنجز هذا القسم قبل الموعد بأربع سنواتٍ على الأقل، ولكن يبدو أنّه وزّعه بتداولٍ محدودٍ؛ بسبب الرقابة المشدّدة التي فرضها الإنجليز على طباعة الكتب، وخاصةً التاريخية، من قبل العاملين في سلك المعارف الحكومي. [15] ودليلنا على ذلك أنّ عارف العارف يثبّت كتاب “بلادنا فلسطين” للدباغ في قائمة مراجع كتابه “تاريخ غزة”، الصادر في العام 1943 عن مطبعة “دار الأيتام الاسلامية” في القدس. [16] ويُمكننا الاستنتاج من مقدّمة الطبعة الأولى خارج فلسطين، الصادرة عن “دار الطليعة” في بيروت 1961، أنّ الدباغ بدأ بكتابة موسوعته ما بين عامي 1936-1938؛ أيّ في أوج أحداث ثورتنا الفلسطينية الكبرى؛ لحظة النضج الأقصى لهويتنا الوطنيّة حتى ذلك التاريخ. 

عادةً ما يتمّ اختزال الحديث عن عمل الدباغ مفتّشاً في دائرة المعارف الحكوميّة، بالقول إنّ هذه الوظيفة سمحت له بالتنقل بين مختلف ألوية الوطن والتعرّف الميداني الدقيق على قرى فلسطين وأهلها، ومن ثمّ منحته الفرصة من خلال المقابلات مع أهل هذه القرى والبلدات أن يُغني مصادر موسوعته ويُطعّمها بالتاريخ الشفويّ.

تتبدّى مشكلة هذا الاختزال الأساسيّة في إغفالها الصراع المركّب الذي كان يخوضه الدباغ، ومجايلوه من المؤرّخين الفلسطينيين. فمن جهةٍ، كان الصراع مع السلطة السياسيّة والمعرفيّة للاستعمار الإنجليزيّ في حقل التربية والتعليم، وهو ما أثّر على طبيعة الكتابة التاريخيّة التي بدأت أوّل ما بدأت في فلسطين الانتدابيّة، في مجال كتابة الكتب التعليميّة. ومن جهةٍ أخرى، الصراع مع العدوّ الصهيونيّ، الذي كان قد بنى نظاماً تعليمياً مستقلّاً برعايةٍ إنجليزيةٍ يقع في القلب منه منهاجٌ لتعليم التاريخ كأيديولوجيا استيطانيّةٍ، وبناءٍ للشخصيّة “القومية” الصهيونيّة الاستيطانيّة، فجاءتْ كتابة موسوعة الدباغ ضمن محاولة المؤرّخين الفلسطينيّين كتابة تاريخ(نا) كردٍّ على النسخة الاستعماريّة لتاريخ فلسطين، ولهذا حملت الموسوعة اسماً نضاليّاً حادّاً: “بلادنا فلسطين”، يقول الدباغ في مقدّمة الجزء الأول الصادر عام 1947:

“هذه البلاد عربيّةٌ منذ آلاف السنين، وأوّل من عُرف من سكانها الموجات العربية الأولى التي نزلتها منذ بدء التاريخ … فنظراً لأهميّتها التاريخيّة والجغرافيّة، ولقلّة ما لدينا من الكتب التي تبحث بتفصيلٍ وافٍ عن معالمها وآثارها ومقدّساتها العربية، إذ إنّ كلّ ما كُتب بهذا الموضوع كان مختصراً أو لمؤلفين أجانب لم يبحثوا الناحية التي تهمّ معرفتها أهل البلاد، أو كتبوا شيئاً عنها بروح الأجنبيّ الغريب، اجتهدتُ لإخراج هذا الكتاب في أجزاءٍ عدّةٍ”.

تحدّد هذه المقدّمة الاشتباك الذي كان يخوضُه الدباغ من خلال الكتابة، ضدّ الكتابة التاريخية الأجنبيّة والفلسطينيّة المكتوبة بـ”روح الأجنبيّ الغريب”، وضدّ تغييب أهل البلاد عن الجغرافيا في الجغرافيا التاريخيّة التوراتيّة؛ ولهذا كتب التاريخ من خلال الجغرافيا بما يتّسق مع ما يُهم أهل البلاد، في ظلّ الهيمنة المعرفيّة الإمبرياليّة، التي كان الدبّاغ يجاهدُ للتحرّر من سلطتها.

(حصّة التاريخ، مدرسة المطران في القدس في العام 1938، المؤسّسة العربية للصورة)
(حصّة التاريخ، مدرسة المطران في القدس في العام 1938، المؤسّسة العربية للصورة)

تعليم التاريخ في مدارس الإمبراطوريّة في فلسطين

كان للهيمنة المعرفية الإمبريالية في مجال التاريخ، أساساً، سياقٌ مؤسساتيٌّ محدّدٌ تمثّل في النظام التعليميّ الانتدابيّ في فلسطين. كُنّا قد قلنا إنّ مشروع الدباغ وُلد في سياق الصراع على كتابة تاريخنا في مواجهة نسخة الإمبراطوريّة من تاريخنا في النظام التعليميّ الانتدابيّ الذي خبره الدباغ عن قربٍ. ولأجل فهمٍ أعمق لهذا السياق المحدّد، دعونا نُبسّط القول حول تعليم التاريخ في المدارس الانتدابيّة الاستعماريّة في فلسطين.

خلافاً للمألوف في السياسة التعليميّة التي اعتمدها الإنجليز في مستعمراتهم، والتي كانت تقوم على رؤيةٍ عامّةٍ بدون الاعتناء بتفاصيل النظام التعليميّ، على عكس حال النموذج الاستعماريّ الفرنسيّ في التعليم، شكّلت فلسطين حالةً شاذّةً في هذا الخصوص، إذ خضع نظام التعليم الاستعماريّ فيها إلى بيروقراطيةٍ مركزيّةٍ حرصت على العناية بأدقّ تفاصيل المناهج، خاصّةً في منهاج دراسة التاريخ، نظراً لخصوصيّة فلسطين التاريخيّة.

ويمكننا الاستنتاج أنّ الإنجليز لم يكونوا معنيّين فقط بضبط تدريس التاريخ كأحد آليات الضبط السياسيّ من ناحية خلوّه من نزعةٍ وطنيةٍ نضاليّةٍ أساساً، فلم تكن طريقهم إلى هذه الغاية الرقابة والقمع، والتي عادةً ما تؤدّي إلى أثرٍ عكسيٍّ فحسب، وإنّما طوّروا أيضاً نسخةً بديلةً للهويّة الفلسطينيّة تتوسّل الانتماء القوميّ العروبيّ في مقابل الهوية الوطنيّة المتمحورة حول الصراع على الأرض.

ومن هنا، يمكننا فهم احتواء الكتب الدراسيّة الحكوميّة على ما يُشير إلى تمايز فلسطين كقطرٍ له هويته المستقلّة، لكنّها تنتمي بالمجمل إلى الهوية العربيّة الكبرى. ولهذا كانت شكوى معلّمي التاريخ الدائمة حول غياب تاريخٍ لفلسطين، وحضور كتب التاريخ العامّ للشرق في الكتب الدراسيّة المعتمدة. وفي هذه النقطة تحديداً، كان لكتاب “العصور القديمة” لـ”جيمس برستد”، “المقرّر الإلزاميّ في مادة التاريخ في مدارس الانتداب”، أثرٌ واضحٌ في مقولة الأصل العربيّ للكنعانيين، والتي تبنّاها المؤرّخون الفلسطينيّون في تلك الفترة، ومن ضمنهم الدباغ، [17] وقد جيء بمعظم الكتب المدرسيّة، ومن ضمنها كتب التاريخ، من مصر التي كانت تخضع للاحتلال الإنجليزيّ.

للتدليل على الأهمية التي أولاها الإنجليز لتعليم التاريخ في مشروعهم الاستعماريّ، نشير هنا إلى أنّ مادة التاريخ اعتُبرت مادةً إلزاميةً في امتحان “الماتريك” في فلسطين إلى جانب الحساب، وإحدى اللغات الرسمية الثلاث، العربية والإنجليزية والعبرية، بينما كان التاريخ مادةً اختياريّةً في امتحان “الماتريك” في بريطانيا ذاتها. وقد وصل الحدّ بباحثٍ إفرنجيٍّ معاصرٍ، أنجز رسالة دكتوراة مؤخراً في لندن حول تعليم التاريخ في ظلّ الانتداب في فلسطين، أنّ يدّعي ضمنيّاً في أطروحته بأنّ الإنجليز صنعوا هويتنا الفلسطينية بناءً على ما احتوته مناهج التاريخ والجغرافيا الانتدابيّة حول استقلالية القطر الفلسطيني وعروبته. وهذا القول من جهالة المؤرّخين بالتاريخ الفعليّ للشعوب، ومن بقايا الروح الاستعمارية الإنجليزية ووقاحتها، وفيه أثرٌ من مبالغات “أندرسون” في “جماعاته المتخيّلة”، والقول يطول ولكن هذا مقام الإيجاز. [18]

وفي مقابل النظام التعليميّ الإنجليزيّ الحكوميّ للعرب، سمح الإنجليز للصهاينة بإنشاء نظامٍ تعليميٍّ مستقلٍّ للمدارس اليهودية، مبنيّاً على فلسفةٍ صهيونيةٍ استيطانيةٍ واضحةٍ. وقد تنبّه الوطنيون الفلسطينيون إلى خطورته وكفاءته، مقارنةً بنظام التعليم الحكوميّ للعرب، فوَرَدَ في ردّ حزب الاستقلال على بيان المندوب السامي 1933:

“إنّ إدارة المدارس [الحكومية الانتدابيّة] هي إدارةٌ شديدة الوطأة، إرهابية المسلك، تكاد تحرم أيّ تعليمٍ قوميٍّ وأيّ روحٍ وطنيّةٍ”، في مقابل المدارس اليهودية الحرّة في إدارتها ومناهجها، والتي يصفها البيان بالقول : ” لهم فيها مجالٌ واسعٌ للتهذيب القوميّ”. [19]

سيشكّل الردّ على النظام التعليميّ الصهيونيّ، في موضوع تاريخ فلسطين، الأجندة البحثيّة لكتابة التاريخ الفلسطينيّ، وستتكثّف هذه الأجندة في معالجة مسألة الوجود اليهوديّ في تاريخ فلسطين القديم. اضطلع المؤرّخون الفلسطينيون الأوائل بما يمكن تسميته “فلسطنة تاريخ فلسطين”، كما حال الكثيرين من مؤرّخي المستعمرات في تلك الفترة، دون أن يكون باستطاعة هذه الكتابة الطازجة للتاريخ أن تُحدثَ قطيعةً كاملةً مع المعرفة التاريخية الاستعماريّة، والتي استندتْ إلى بعضها كمراجع لسرديّتها الوطنية كما في حالة “بريستيد”، أو من ناحية استخدام مصطلحاتها مع إعادة تأويلٍ لهذه المصطلحات.

وهنا، يمكننا الاستدلال بمصطلحيْ “فلسطين الشرقيّة” و”فلسطين الغربيّة” ذوَيْ الأصول الاستعماريّة عند الدبّاغ، [20] واللذيْن استخدمهما الدباغ في توصيف حدود فلسطين كوحدةٍ جغرافيّةٍ تضمّ جنوبيّ بلاد الشام، وتشمل جندَيْ فلسطين والأردن بحسب التسمية العربيّة الإسلاميّة، كما يقول الدبّاغ في الموجز في تاريخ الدول العربية وعهودها في بلادنا فلسطين. وبالتالي، فإنّ فلسطين تتوزّع على قسمين: فلسطين الشرقيّة والغربيّة، اللذين ارتبطا ببعضهما بحكم الجغرافيا والعلاقات الاجتماعية من نسبٍ وعلاقاتٍ قرابيّةٍ، إضافةً إلى المشترك القومي والعادات والانتماء والاقتصاد، ولم يفترقا عبر التاريخ إلّا خلال الحكم الاستعماري البريطاني. [21] وهنا، يمكننا فهم الدافع وراء إلحاق الدباغ محافظتيْ السلط وإربد بالديار النابلسية، وعمّان بالديار اليافيّة، والذي يتمثّل في رؤيةٍ مغايرةٍ للرؤية الاستعماريّة لحدود فلسطين، لا بسبب أنّ ما يجمعهما الخضوعُ للانتداب البريطاني، كما أورده الخالدي في مقدّمته للطبعة الجديدة.

الدباغ عند دارسي الكتابات التاريخية الفلسطينية

أولاً، عند الباحثين العرب والفرنجة:
بالرغم من أهمية موسوعة الدباغ بصفتها مرجعاً وطنياً أساسيّاً، إلا أنها لم تُخَص وصاحبها بالدراسة والبحث، وإنّما جرت العادة أن يتمّ ذكرهما باقتضابٍ في سياق التأريخ لكتابة التاريخ في فلسطين، وفي تراجم ما أُطلق عليهم رواد الفكر والثقافة في فلسطين. أُقدّم هنا مراجعةً لما كُتب حول الدباغ وموسوعته في سبيل التعرف على موقعهما في الكتابة الأكاديميّة.

يُصنّف بشارة دوماني عمل الدباغ في موسوعة بلادنا فلسطين ضمن ما أسمّاها الكتابة التاريخية الهادفة إلى “إثبات الهويّة العربيّة لفلسطين” عند المؤرّخين الفلسطينيّين الأوائل، [22] جنباً إلى جنبٍ مع خليل طوطح وعمر البرغوثي وإحسان النمر وعارف العارف، وغيرهم من مؤلّفي هذا الصنف من الكتابة التاريخية بحسب دوماني، والذي يتقوّم بالسعي إلى حشد أكبر عددٍ ممكنٍ من الوثائق والشواهد لإثبات عروبة فلسطين، مع الاعتماد على تنوعٍ في المصادر، وخاصةً التاريخ الشفويّ، وذلك لمواجهة إنكار الرواية الاستعماريّة لهذه الهويّة.

وبحسب دوماني، بدأ يظهر أهل البلاد من عامة الناس بفئاتهم المختلفة للمرة الأولى في هذا الصنف من الكتابة التاريخيّة. وبهذا، فإنّ هذا الصنف الكتابيّ أسّس، وبالنظر إلى غنى وتعدّد أوجه الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والحياة اليومّية التي يتضمنها، لإعادة النظر لاحقاً في التاريخ الفلسطيني الذي تُهيمن عليه الأحداث السياسية وسِيَر الشخصيات الهامّة، في مقابل هذا الدور الإيجابي في تطوّر الكتابة التاريخية.

ويُسجّل دوماني نقده لهذا الصنف، وبالتحديد لموسوعة الدباغ، لسعيه إلى تحقيق الشموليّة الموسوعيّة بالتاريخ وجغرافيا فلسطين، وما يُسمّيها “صنميّة الوثيقة”؛ أيّ سعي الكاتب إلى حشد أكبر عددٍ ممكنٍ من الشواهد والإحصائيات دون الإشارة إلى السياق التاريخيّ للأحداث والوقائع التي تزدحم بها الموسوعة. ويُردف دوماني بأنّ هذا الصنف من الكتابة، مع أهميته التاريخيّة للباحثين والطلاب، إلا أنّه استنفد دوره التاريخيّ؛ إذ لم يعُد التحدّي الماثل أمام المؤرّخ الفلسطيني اليوم هو إثبات هويته وعدالة قضيته، وإنّما التحدي أمام المؤرخ فهو فهم هذا التاريخ وتحليله.

وعلى ذات المنوال، يُورد ماهر الشريف في كتابه “فلسطين في الكتابة التاريخية العربية” ذكر موسوعة الدباغ في تأريخِه لبدايات الكتابة التاريخية في فلسطين تحت الانتداب، [23] ضمن ما سمّاه “إبراز شخصية فلسطين العربية عبر العصور”، وهو تعبيرٌ مرادفٌ لما قاله دوماني كما أوردنا. ويقدّم الشريف وصفاً للموسوعة، مُقتبِساً من مقدّمة الدباغ الهدف من تأليفها، والذي يتلخّص في “دحض دعوى اليهود في الحقّ التاريخي في فلسطين”، ويكرّر الشريف ما هو متداولٌ في التراجم المختصرة للدباغ بكون عمله كمفتّشٍ متجوّلٍ في سلك التعليم قد ساعده على جمع البيانات الميدانية لتأليف موسوعته.

من جهتها، تقدّم بيان نويهض الحوت في مقالها “المؤرّخون الفلسطينيون والنكبة” الدباغ بصفته مؤرّخاً للنكبة، [24] إلى جانب كلٍّ من دروزة والعارف والخالدي، واصفةً الدباغ بـ”مؤرّخ الحجر والبشر”، ومُشيرةً إلى أصالة الدباغ في تأريخه للنكبة ورواية أحداثها جغرافيّاً كفصلٍ أخيرٍ من فصول تاريخ القرى والبلدات والمدن الفلسطينية. ومع التنويه لأهمية ملاحظة الحوت الأخيرة، ولكنّها تختزل مغزاها في البعد العاطفي، حيث تقول ” هكذا تتبدّى النكبة…. على حقيقتها البشعة أكثر مما تبدو في أيّ مصدرٍ آخر”.

على الجهة الأخرى من النهر، يشنُّ جورجي كنعان في كتابه “خطيئة الفلسطينيين” هجوماً قاسياً على المؤرّخين الفلسطينيين، ومن ضمنهم الدباغ، متّهماً إياهم بالمساهمة في عملية اختلاق مملكةٍ إسرائيليةٍ على أرض فلسطين أثناء كتابتهم لتاريخها. [25] فحسب كنعان، قبِل الدباغ ما يُسمّيها “الخزعبلات التواراتيّة” التي تمّ تلفيقها في سبيل اختراع رابطةٍ تاريخيةٍ لليهود بأرض فلسطين، كأيديولوجيا استيطانيةٍ صهيونيةٍ، وفي سبيل فرض الهيمنة الأوروبية على فلسطين أيضاً، ويستشهد بعدّة مواقع من موسوعته للتدليل على هذه “الجريمة التاريخية” التي لا تُغتفر بحسب أقواله، خاصّةً من مؤرّخٍ يصفه بـ”ابن الأرض”. [26]

وفي دراستها لـ 112 كتاباً من الكتب التذكاريّة للقرى المهجّرة، وهي الكتب التي ألّفها أهل القرى المهجّرة حول تاريخ قراهم والحياة فيها قبل النكبة في سبيل حفظ الذاكرة الجماعية ونقلها للأجيال القادمة، تقول الباحثة الأمريكية “روشيل ديفيس” إنّ “بلادنا فلسطين” هو المصدر الأوّل لهذه الكتابات، يليه “الموسوعة الفلسطينية” وكتاب “كيّ لا ننسى” لوليد الخالدي، ونحن نعرف أنّ “الموسوعة الفلسطينية” و”كي لا ننسى” للخالدي اعتمدا بشكلٍ شبه كليٍّ على موسوعة الدباغ.

وتردف “ديفيس” بالقول إنّ مؤلّفي الكتب التذكاريّة للقرى المهجّرة عادةً ما يرجعون للدباغ في موضعين في الفقرات الافتتاحية لكتبهم؛ عند تقديمهم وصفاً جغرافياً وطبوغرافياً عامّاً للقرية، وفي تاريخ القرية القديم الذي يقع خارج التجربة المعاشة والذاكرة الجماعية لأهل القرية. وبهذا، يعمل دائماً هذا الرجوع لموسوعة الدباغ، بحسب “ديفيس”، على خلق رابطٍ ما بين القرى المختلفة بهويةٍ جغرافيةٍ تاريخيةٍ موحّدةٍ. [27]

وفي معرض سِجالها مع رشيد الخالدي في توصيفه للكتابة التاريخية الفلسطينية التقليديّة بكونها كتابةً لا تتعامل مع الحقائق التاريخية بأسلوبٍ نقديٍّ، تقول الباحثة نفيسة نجيب بأنّه ولولا الكتابات التقليديّة من مثل كتابات الدباغ، لم يكن بإمكان الخالدي ولا غيره من المؤرّخين الجدد إعادة كتابة التاريخ نقديّاً، وتفكيك السرديّات الوطنيّة التقليديّة للنخبة الفلسطينيّة. [28]

وبالاستئناس بمحاججة نجيب الآنفة، يُمكننا مناقشة قصور بعض القراءات السابقة الناقدة لعمل الدباغ من ناحية كونها، وللمفارقة، لاتاريخيّةً، بمعنى أنّها تغفل الظرف التاريخيّ للمؤرّخ؛ فالمؤرّخ لا يعمل ضمن ظروفٍ مخبريّةٍ معقّمةٍ ومثاليةٍ، وإنّما يعمل دائماً تحت ضغط الواقع وأسئلته وتحدّياته. فقد كان على الدباغ أن يسعى وحيداً للكتابة الشموليّة الموسوعيّة لمواجهة مشاريع معرفيةٍ استعماريةٍ شموليةٍ وموسوعيةٍ مُمأسسةٍ، وفي ظلّ حرمان الفلسطينيين من بناء مؤسساتهم المعرفية لتضطلع بهذه المهمة. ومن المؤكّد في هذه الحالة أنّ عمل المؤرّخ الفرد الذي يدفعه الشعور بواجب الدفاع عن وطنه لا يمكن إلّا أن يعتريه القصور، فيلجأ إلى حشد الشواهد والاقتباسات كتعويضٍ عن الجهد الجماعيّ المتعذّر، أو الذي لا يُشاركه غيره الشعور بضرورته.

أمّا بخصوص قبول الرواية التوراتيّة والمساهمة في اختلاق مملكةٍ إسرائيليةٍ في فلسطين، والتي أشار لها كنعان، فيمكننا المحاججة بأنّ تعامل الدباغ مع الرواية التوراتيّة قد تمّ بالأدوات المعرفيّة التي توافرت له في ذلك العصر، كان في جوهره اجتهاداً تحليليّاً، وليس موقفاً أيديولوجيّاً من تلك الرواية؛ إذ يستوجب على المؤرّخ أن يسأل  لماذا وكيف وصل إلى استنتاجه هذا. ومع كلّ ذلك، لم يُقرّ الدباغ بالوجود اليهودي في فلسطين، بلّ أقرّ بالوجود اليهوديّ الطارئ، ووضعه في سلسلة الغزوات التي عرفتها فلسطين، وتصدّى لها أهلها عبر التاريخ.

ثانياً، عند الصهاينة: من أين أتيتم؟
للدباغ وموسوعته حضورٌ لا تُخطئِهُ العين في كثيرٍ من الأدبيّات التاريخيّة والجغرافيّة الصهيونيّة، وهذه الأدبيات صنفان؛ الأوّل: الدراسات التاريخيّة، حيث يرجع الصهاينة إلى ما كتبه الدباغ كمصدرٍ لتاريخ الأمكنة والأحداث السياسيّة العسكريّة. وأمّا الصنف الثاني، وهو الذي يهمّنا هنا، فيتمحور حول دراسة الصهاينة للكتابة التاريخيّة الفلسطينيّة، من حيث علاقتِها بالصراع على أرض فلسطين، والسِجال مع الرواية التاريخيّة الفلسطينيّة فيما يتعلق أساساً بموقع اليهود في التاريخ الفلسطينيّ عند المؤرّخين العرب.

سأُناقشُ هنا رسالة ماجستير للمستوطن الباحث “إيلي أشوروف”، في العام 2015، [29] تحت إشراف المستوطن المؤرّخ “هليل كوهين”، من الجامعة العبريّة، باعتبارها لا تكتفي فقط بالدراسة، وإنّما تستحوذ على المعرفة الفلسطينيّة، وتضمّنُها في مشروعها الاستعماريّ كما سنرى لاحقاً. و نقاشي لهذا المنتوج المعرفيّ الاستعماريّ هنا من باب “اعرف عدوّك”، وليس للدخول في سِجالٍ معها.

اقرأ/ي أيضاً: اعرف عدوّك: ملاحظاتٌ سياسيّةٌ ومنهجيّةٌ في معرفة “إسرائيل”

ينطلق “أوشوروف” من أُطروحة المفكّر البنغالي المابعد كولونيالي، “شكرابرتي” في كتابه المرجع الموسوم بـ (Provincializing Europe) – ويُمكننا ترجمته “مَحلَنَة أوروبا”- [30] ليقول إنّ الكتابة التاريخيّة الحديثة في الشرق الأوسط لم تكن استمراراً لإرثٍ محليٍّ في كتابة التاريخ، وإنّما كانت تبنّياً محلّيّاً لتقليدٍ وممارسةٍ أوروبيةٍ حداثيّةٍ في الكتابة التاريخيّة، بُنيت على فكرة “التاريخانيّة”، (Historicism)، المشتقّة من فكرة التقدّم؛ أيّ الامتثال لرؤيةٍ خطيّةٍ لحركة الزمن من الماضي إلى الحاضر كتعبيرٍ عن التقدّم والتطوّر.

وبحسب “شكرابرتي”، المرجع النظريّ لـ”أشوروف”، مكنّت “التاريخانيّة” الغرب من رؤية ذاته كوجودٍ متقدّمٍ/متطوّرٍ مقارنةً مع الشرق. ومن هنا، وبحسب “أشوروف”، بدأ المؤرّخون الفلسطينيّون تحت الانتداب، بصفتهم رعايا للإمبراطوريّة البريطانيّة، بإدخال فلسطين في التاريخ عند كتابتهم لتاريخها بواسطة علمٍ استعماريٍّ. وبالتالي، فإنّ الوقائع والتجارب الحيّة للشعوب المستعمَرة في هذه الكتابة التاريخية، أهل فلسطين في حالتنا، سيتمّ النظر إليها وتعريفها ومن ثمّ تفسيرها باستخدام مفاهيم كونيّةٍ (أوروبيّةٍ)، مع أنّ هذه الوقائع والتجارب الحيّة نشأت في واقعٍ وحيثيّاتٍ مغايرةٍ للتجربة الأوروبيّة المحلّيّة، والتي صارت كونيّةً في ظلّ الاستعمار الأوروبي، والبريطاني في حالتنا.

لم يبدأ المؤرّخ الفلسطينيّ بكتابة تاريخ فلسطين من الصفر، وإنّما كان عليه أن يبدأ مشواره، متأثّراً بكتابة المستعمِرين لتاريخ “الأرض المقدّسة”، والتي كانت قد بدأت منذ بداية القرن التاسع عشر عن طريق المُستكشِفين وعلماء الآثار وجواسيس الإمبراطورية وعلماء الجغرافيا والأنثروبولوجيا. تميّزت هذه الكتابة، التي انطلقتْ من الكتاب المقدّس والعهد القديم تحديداً، أساساً بتغييب أهل البلاد عن تاريخها. وتزداد هذه المهمة تعقيداً بالنظر إلى أنّ العديد من النخبة المثقّفة التي تصدّت لهذه المهمة كان من خرّيجي المدارس التبشيريّة الأوروبيّة، ومن داخل المؤسّسة الأكاديميّة الاستعماريّة؛ دار المعلمين في القدس تحديداً.

يقارن “أشوروف” بين الجزء الأوّل من كتاب “بلادنا فلسطين” الذي صدر في العام 1947 من جهةٍ، وبين كتابيْ “تاريخ فلسطين” (1923) لخليل طوطح وعمر صالح البرغوثي، وكتاب “تاريخ غزة” (1943) لعارف العارف من جهةٍ أخرى، من زاوية موقع الرواية التوراتيّة في الكتب الثلاثة، ويخرج بنتيجةٍ بأنّ طوطح والبرغوثي والعارف يعتمدون على العهد القديم كمصدرٍ أساسيٍّ لفهم تاريخ فلسطين القديم، بينما بدأ الدباغ كتابه بفصلٍ مُعنونٍ بـ “فلسطين في القرآن الكريم والأحاديث النبويّة”. وبهذا، فإنّ الدباغ يقدّم إطاراً زمنيّاً مُغايراً للتحقيب المسيحيّ والصهيونيّ لفهم تاريخ فلسطين.

وبالاتّساق مع مقدّمة كتابه المذكورة أعلاه، والتي يُعلن فيها بأنّ كتابه جاء كردٍّ على شيوع الكتابة التاريخيّة ذات الروح الأجنبية والبعيدة عن معرفة أهل البلاد بها، يطرحُ الدباغ جغرافيا تاريخيّةً لفلسطين، إسلاميّة الهويّة ، يحضُر فيها أهل البلاد الحاليون الذين غيّبتهم الجغرافيا التاريخيّة الأجنبية المبنيّة على الكتاب المقدّس. وأمّا الوجود اليهودي في فلسطين، فيتعامل معه الدباغ من خلال النصوص القرآنية التي تذكر اليهود كمتمرّدين على إرادة الربّ وجبناء، بينما كان وجودهم في بلادنا عابراً كما كلّ الغزاة، بحسب الدباغ.

ويُنهي “أشوروف” دراسته للتيّارات التاريخيّة في العهد الانتدابيّ، بالقول إنّها وفي تعاملها مع الوجود اليهوديّ في تاريخ فلسطين، انتقلتْ من رؤيةٍ لليهود كمكوّنٍ “أصيلٍ” من مكوّنات تاريخ فلسطين، لينعكس هذا على تسامحها مع الحركة الصهيونيّة في بداياتها، إلى رؤيةٍ أكثر “راديكاليةٍ” تعاملت مع هذا الوجود كطارئٍ وغريبٍ عن تاريخ فلسطين. ويُرجع هذه النقلة، كما عند الدباغ، إلى تأثير ثورة 1936 على المؤرّخين الفلسطينيّين؛ فتحوّلت كتابة التاريخ إلى كتابةٍ أكثر نضاليةٍ تنظُر إلى اليهود ككيانٍ غريبٍ عن تاريخ فلسطين بعدما كانت تراه مكوّناً داخليّاً في هذا التاريخ.

وفي خاتم رسالته، يُنهي “أورشوف” بالقول إنّ الكتابة التاريخيّة الفلسطينيّة، بصفتها تاريخاً لفلسطين، لا للشعب الفلسطينيّ في بدايتها، قادرةٌ على التأسيس لرؤيةٍ متمحورةٍ حول وجودٍ أكثر تعدديةً على هذه الأرض بين المتنازِعين عليها، ويُمكنها أيضاً أن تشكّل موقعاً لرؤية محدوديّة وإشكاليات الفكر الصهيونيّ، من حيث التناقض التأسيسيّ (حداثيّ – دينيّ) الذي يحملُه في داخله، والتي تكثّفها مقولة “الله غير موجودٍ، ولكنّه أعطانا وعداً بأرض إسرائيل”. وبعد هذه المرافعة “المثيرة”، يصل إلى القول في السطور الأخيرة من الرسالة:

“في هذا الوقت، أكتفي بالقول إنّ الكتابة التاريخيّة الفلسطينيّة المتقدّمة تحتوي على نافذةٍ للاعتراف بشكلٍ من الوجود اليهوديّ ( في فلسطين) غير صهيونيٍّ، ومع ذلك قوميٌّ “، عودٌ على بدء!

تأملاتٌ  في راهن كتابة تاريخنا الوطنيّ

(1)

يحفّز الحديث عن الدباغ وموسوعته الذهن على تأمّل حال كتابة التاريخ الفلسطينيّ في زمننا هذا، وتحديداً في قضية كتابة التاريخ الوطنيّ، وإشكاليات هذه الكتابة، النابعة من فرادة الحالة الفلسطينيّة بكونها حالةً من الصراع المستمرّ منذ أكثر من 100 عامٍ، ما بين المشروع الصهيوني وأهل البلاد، الذي لم يُحسم بعد.

فمن جهةٍ، لا يمنح هذا الصراع التاريخيّ الممتدّ، الذي هو صراعٌ في التاريخ وصراعٌ على التاريخ في آنٍ واحدٍ، مَن يتصدّى لتأريخه رفاهيةَ الإطلال عليه (التاريخ) كماضٍ تحرّرت الذاكرة من هيمنته وآن الأوان أن يتحوّل إلى تاريخٍ ويُرفع على الرفّ. وليس هذا فحسب، وإنّما على المؤرّخ الفلسطينيّ تحت الاستعمار أن يتعامل مع حركةٍ سريعةٍ للزمن -الزمن الاستعماريّ المتسارع دائماً- تجعل هذا الماضي الذي لا يمضي حاضراً مُحتشداً وفائضاً بهذا الماضي. ومن جهةٍ أخرى، يشكّل هذا الصراع المؤرّخَ ذاته، من ناحية موقعِه فيه وموقفِه منه، متدخّلاً في تفاصيل عمله من قدرته من الوصول إلى الوثيقة إلى التبعات السياسية لمنتوجه المعرفي.

(2)

في النقاشات/المراجعات المتداولة حول كتابة التاريخ في فلسطين، تطغى مسألة المنهجيّة في البحث التاريخيّ؛ مدارس كتابة التاريخ، وأسئلة المنهج (كلّيّ/ماكرو)، و(جزئيّ/مايكرو)، والمصادر والتحقيب الزمنيّ إلخ … وعادةً ما تُفضي مسألة المنهجيّة هذه إلى رفع شعار “تفكيك الأساطير والسرديّات الوطنية”، و”إعادة الاكتشاف”. ومع الاعتراف بأهمية المراجعة والنقد، إلا أنّها تبدو في اتجاهٍ واحدٍ يتمثّل في التصالح مع العدوّ. فعلى سبيل المثال، هل من المصادفة أنّ معظم رافعي شعار إعادة الاعتبار للفترة العثمانية المتأخّرة والتجديد المنهجيّ في المصادر من المؤرّخين في فلسطين، هُم من عتاة المطبّعين بالمعنى الصلب للكلمة، والمشتغلين على بناء سرديّةٍ “وطنيّةٍ” جاسرةٍ عابرةٍ ما بين الفلسطينيّة والصهيونيّة؟ [31] هل هذه المسألة سياسةٌ عبّرت عن ذاتها منهجيّاً، أم أنّ المقدمات المنهجيّة أدّت إلى نتائجَ سياسيّةٍ؟ والأهمّ لماذا تبقى المراجعات حبيسة قضايا المنهجيّة، ولا تصل إلى مراجعة الدور السياسيّ للمؤرّخ؟ أو ما يمكن التعبير توصيفه بنهاية المؤرخ صاحب القضيّة.

(3)

من المعروف أنّ كتابة التاريخ ارتبطت بصناعة الهوية الوطنيّة؛ إذ لا وجود لهويةٍ بدون دراما تاريخيّةٍ يسردها المؤّرخ الوطني، مؤرّخ الجماعة الوطنية، تحكي قصة نضال وتضحيات أبطال الجماعة ومآسيها، فتشكّل هذه الدراما ذاكرةً جماعيّةً للأفراد، وقد بيّن دارسو الهويّات القوميّة أنّ هذا التاريخ تاريخٌ مُخترَعٌ أو مصنوعٌ؛ بمعنى أنّ المؤرخين الوطنيّين يصوغونه من الأحداث التاريخية بعد إخضاعها لـ “مونتاجٍ” وإبرازٍ وتهميشٍ في سبيل بناء هويّةٍ جماعيّةٍ.

وعادةً، بحسب هؤلاء الدارسين، تكون هذه الهوية من صنع نخبةٍ تمّ تعميمها من خلال النظام التعليميّ والمتاحف والخرائط وغيرها. ومن هنا بدأ المؤرّخون النقديون إعادة النظر في هذا التاريخ الذي صنعه المؤرّخون الوطنيون بصفته أساطيرَ يجب تفكيكها، لتصبح قيمة الكتابة التاريخية في التأريخ النقدي مأخوذةً من قيمة ما يهدمه من رواياتٍ وسردياتٍ مُتعارَفٍ عليها. وهذه عمليةٌ لا يمكننا التقليل من أهميتها في مسعانا الدائم نحو الحقيقة، وبصفة التاريخ دائماً هو إعادة كتابةٍ للتاريخ، لكن في المقابل تحتاج الجماعات إلى حكايةٍ تنتمي إليها وتعطيها معنىً لوجودها. وهنا تنشأ المعضلة، وخاصةً في حالةٍ مثل الحالة الفلسطينية، والتي يمكننا التعبير عنها بالسؤال التالي: كيف نكتب تاريخاً وطنيّاً نقديّاً؟

(4)

بعد أن أنهى مؤرّخٌ فلسطينيٌّ نقديٌّ عرض ورقةٍ بحثيّةٍ عن إعادة كتابة تاريخ فلسطينيّي 1948، توجّهتُ له بالسؤال: لماذا لم يُكتب تاريخ العمل الفدائيّ المسلّح في فلسطين المحتلّة عام 1948 بعد النكبة؟
أجاب: “مش وقته “. 

المؤرّخون النقديون لهم أيضاً أساطيرهم التي يحافظون عليها.

(5)

إنّ معظم الإنتاج المعرفيّ التاريخيّ “الجادّ” في فلسطين أكاديميٌّ محدود التداول، وكثيرٌ منه يُكتب باللغة الإنجليزيّة؛ أيّ أنّ مجاله التداوليّ الرئيس ينحصر في أهل الاختصاص. في المقابل، ثمّة غيابٌ تامٌّ لـ”التاريخ الشعبيّ” كنوعٍ كتابيٍّ، ولا يُقصد بالتاريخ الشعبيّ هنا السرد التراثيّ الفلكلوريّ، وإنما المقصود به الكتابة التاريخيّة الرصينة التي تلتزم بمعايير البحث، لكنّها في الآن ذاته تُكتب بلغةٍ متحرّرةٍ إلى حدٍّ ما من المعجم الاصطلاحيّ للعلوم الاجتماعيّة، وتُنشر وتُوزّع شعبيّاً، بحيث تصل إلى أكثر عددٍ ممكنٍ من الناس. وهنا يمكننا الإشارة إلى النجاح الباهر للدراما التاريخيّة “التغريبة الفلسطينية” لوليد سيف كأحد النماذج المهمة في هذا السياق.

خاتمة

بدأتْ علاقتي بموسوعة “بلادنا فلسطين” في بداية الانتفاضة الأولى، كان اكتشافها بالنسبة لي، حينها، مفاجأةً لا يذوب أثرها. منحتني الموسوعة الإحساس بتملُّك فلسطين وإدراكها بشكلٍ كليٍّ، وقعتُ في أسْر لغة الدباغ التي تقطُرُ عشقاً لفلسطين، ومن حينها صرتُ لا أثق بمؤرّخٍ فلسطينيٍّ لا تفيض العاطفة من كلماته. شاهدتُ مرّةً مقابلةً مع مؤرّخٍ فلسطيني، ورأيتُ الدمعة تقفز من عينيه، وهو يتحدث عن مطار اللدّ، كان هذا كافياً بالنسبة لي لأنْ أقرأ كلّ ما كتب.

إنّه لمن المُفرح أن نُعيد طباعة موسوعة “بلادنا فلسطين”، بعد أكثر من 72 عاماً على بداية إصدارها، لكنّه من المحزن أيضاً أننا نعيد طباعتها، ولم نُصدر موسوعةً جغرافيّةً تاريخيّةً لبلادنا فلسطين، تكون فيها موسوعة “بلادنا فلسطين” للدباغ أحد مراجعها.

في 7 أيلول 1989، رحل مصطفى مراد الدباغ تاركاً لنا “بلادنا فلسطين”، نُناجي روحه المعذّبة بالغربة كلّما لجأنا إليها، نتلمسُ اليقين في تِيه المسمّيات والخرائط. وإلى وقتٍ قريبٍ، كنتُ مطمئناً إلى أنّ الدباغ قد أعاد كتابة أوراقه التي أغرقتها النكبة في بحر يافا، حسبما يذكر في مقدّمة الطبعة الأولى لموسوعتِه خارج فلسطين، إلا أنّني وأثناء البحث لكتابة هذه الدراسة، وقعتُ على مقابلةٍ لابنه صلاح الدين الدباغ في صحيفة “السفير” اللبنانيّة في العام 2015، يقول فيها:

“وكان في حقيبة والدي التي ابتلعها البحر، بالإضافة إلى ثيابه، مخطوطةُ كتابٍ كان يعمل على تأليفه بعنوان “بلادنا فلسطين”، وهو يتحدّث عن تاريخ فلسطين منذ القدم. ظلّ والدي حتى آخر يومٍ في حياته حزيناً على عدم تمكّنه من إنجاز هذا العمل الذي كان سيُضيف معلوماتٍ قيّمةً إلى تاريخنا الفلسطيني”.

بعد قراءتي لهذه المقابلة، زال اطمئناني بأنّ الدباغ رحل عنّا راضياً بعد أن أعاد  كتابة موسوعته في الغربة، وهبَط على قلبي الأسى …

بعد كلّ ما كتبه الدباغ عن فلسطين ولَهَا، هل بقيتْ حسرةُ فقدان مخطوطة “بلادنا فلسطين” الأولى عام النكبة تنهشُ قلب الدباغ حتى آخر أيامه!

لقراءة وتحميل هذا المقال بصيغة (pdf)، من هنا

****

المصادر:

[1] اُنظر مقدمة الخالدي ص XXII: الدباغ، مصطفى مراد. (2016). “بلادنا فلسطين”. (الطبعة الثالثة. الجزء الاول، القسم الاول). بيروت:مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
[2] شبيب، سميح. (2018) من رواد الثقافة والتنوير في فلسطين.مركز الأبحاث- منظمة التحرير الفلسطينية.
[3] حول ظروف تعيين الدباغ في دار المعلمين وطرد درويش المقدادي، اُنظر شهادة الأستاذ محمود العبادي في: ‫ نجم، محمد يوسف، (2007) “دار المعلمين والكلية العربية في بيت المقدس”. بيروت : دار صادر،  صـ 61
[4]  Furas, Jonathan. “In Need of a New Story, Writing, Teaching and Learning History in Mandatory Palestine”. University of Oxford, 2015. P: 84.
[5] Matthews, Weldon. “Confronting an Empire, Constructing a Nation: Arab Nationalists and Popular Politics in Mandate Palestine”. Vol. 10. IB Tauris, 2006, P : 57 .
[6] بحسب وثيقةٍ في أرشيف “الهاجاناة” أشار إليها المؤرخ الصهيونيّ “هليل كوهين”، اُنظر:
כהן, הלל. (2013). תרפ”ט : שנת האפס בסכסוך היהודי-ערבי. ירושלים: כתר. 31
[7] الدباغ، مصطفى مراد، (1935). “مدرسة القرية”، القدس: مطبعة العرب، صـ 5-6.
[8] كاتز، كيمبرلي.ت، ابتسام خضرا، (2017). “يوميات شابٍ فلسطينيٍّ: حياة سامي عمرو 1941-1945”. ص 81. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
[9] الدباغ، مصطفى مراد،  (1935). “مدرسة القرية”، القدس: مطبعة العرب، صـ 5-6.
[10] الدبـاغ ، مصـطفى مراد، (1947). “بلادنا فلسطين” ، جـ١. يافا، مكتبة الطاهر اخوان، صـ 7-8. 
[11] اُنظر: أباظة، نزار، المالح، محمد رياض، (1999) “إتمام الأعلام : ذيلٌ لكتاب الأعلام لخير الدين الزركلي”. بيروت: دار صادر، صـ 288 .
[12] حول النظام التعليمي في الأردن في الخمسينيات وتصميم الإنجليز لهذا النظام لبناء الهوية الأردنية الاستعماريّة، اُنظر: Massad, Joseph A. “Colonial effects: The making of national identity in Jordan”. Columbia University Press, 2001.
[13] Hütteroth, Wolf Dieter, and Kamal Abdulfattah. “Historical geography of Palestine, Transjordan and Southern Syria in the late 16th [sixteenth] century”. Vol. 5. Fränkische Geographische Ges., 1977.
[14] الدباغ، مصطفى مراد، (1986).  “فلسطينيات (1): القبائل العربية وسلائلها في بلادنا فلسطين. بيروت”: المؤسسة العربية للدراسات والنشر،  صـ7.
[15] حول التعليم تحت الانتداب البريطاني في فلسطين أنظر: Tibawi, Abdul Latif. Arab Education in Mandatory Palestine: A study of Three Decades of British Administration. Luzac, 1956.
[16] اُنظر: العارف، عارف، (1943). ” تاريخ غزة”. القدس: مطبعة دار الايتام الاسلامية، صـ 4.
[17] للمزيد، اُنظر:Harte, John. Contesting the Past In Mandate Palestine: History Teaching for Palestinian Arabs under British Rule, 1917-1948.2009  رسالة دكتوراة غير منشورة قسم التاريخ في (SOAS)، الفصل الرابع.
[18]  السابق، 233-239
[19] كيالي، عبد الوهاب، (1968). وثائق المقاومة الفلسطينية العربية ضد الاحتلال البريطاني والصهيونية (١٩١٨-١٩٣٩) (سلسلة الوثائق العامة – ١). بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، صـ 293.
[20] يعودان إلى خريطة فلسطين بحسب العهد القديم التي أنجزها صندوق استكشاف فلسطين في العام 1890.
[21] الدباغ، مصطفى مراد، (1980).  “الموجز في تاريخ الدول العربية وعهودها في بلادنا فلسطين”، بيروت: دار الطليعة، صـ 339-340. .
[22]  Doumani, Beshara B. “Rediscovering Ottoman Palestine: Writing Palestinians into History.” Journal of Palestine Studies 21, no. 2 (1992): 5-28.
[23]  الشريف، ماهر، (2016 ). “فلسطين في الكتابة التاريخية العربية”. بيروت: دار الفاربي، صـ 53.
[24] الحوت، بيان نويهض، (2012). “المؤرخون الفلسطينيون والنكبة”، مجلة الدراسات الفلسطينية، صـ 89.
[25] للمزيد حول مدرسة  اختلاق التاريخ التوراتي  في تاريخ لفلسطين، اُنظر أعمال فاضل الربيعي وكمال صليبي.
[26] كنعان، جورجي، (2007). “خطيئة الفلسطينيين”. بيروت: دار الطليعة، صـ 217-218.
[27] اُنظر: الفصل الخامس من كتاب روشيل ديفيس:Davis, Rochelle.” Palestinian Village Histories: Geographies of the Displaced”. Stanford University Press, 2010.
[28]  اُنظر: Naguib, Nefissa. “Women, Water and Memory: Recasting Lives in Palestine”. Vol. 6. Brill, 2009 , 59
[29]  אושרוב، אלי. מאין באתם? : תולדות עם ישראל בהיסטוריוגרפיה הפלסטינית המוקדמת (1948-1920). 2015. رسالة ماجستير غير منشورةٍ في قسم دراسات الإسلام والشرق الأوسط في الجامعة العبريّة.
[30]  Chakrabarty, Dipesh. Provincializing Europe: Postcolonial Thought and Historical Difference-New Edition. Princeton University Press, 2009.
[31]  للمزيد حول بناء سردية تجمع السردية الفلسطينية والصهيونية اُنظر: Pappé, Ilan, ed. Across the wall: Narratives of Israeli-Palestinian history. Vol. 88. IB Tauris, 2010.