في ذكرى العملية، نعيد نشر مقاطع من كتاب “مجدٌ صنع في الخليل”، يوثّق بعض تفاصيل عملية زقاق الموت النوعية، والتي وقعت في وادي النصارى في الخليل عام 2002، سارداً تفاصيل الإعداد والتنفيذ، وردود الأفعال حولها، فضلاً عن وصايا الشهداء الثلاثة: ولاء سرور، أكرم الهنيني، وذياب المحتسب.

توطئة

صدر في عام 2019 كتاب بعنوان “مجدٌ صنع في الخليل”، عن مركز تشرين الثقافي في غزة، لمجموعة مؤلفين من بينهم شعبان حسونة؛ كاتب الفصل المعنون بـ “عملية زقاق الموت”. يسرد فيه تفاصيل عملية وادي النصارى، وما سبقها من فعلٍ عسكريٍّ لمواجهة المدّ الاستيطاني في مدينة الخليل، وذلك بالاعتماد على مقابلاتٍ مع  الأسير نور جابر والأسير محمد عمران، ووثائق غير منشورةٍ.

يكشف الكتاب عن دور كلّ من الأسير نور جابر والأسير محمد عمران والشهيد محمد سدر في هندسة العملية التي أسفرت عن مقتل 14 صهيونياً بين جنديٍّ وضابط، ناقلاً وصايا منفّذيها؛ الشهداء ولاء سرور وأكرم الهنيني وذياب المحتسب. كما يرصد ردود الأفعال المختلفة والتغطية الإعلامية للعملية، فضلاً عن الرواية الصهيونية حولها. 

في الذكرى الـ 18 على عملية وادي النصارى، نعيد نشر مقاطع من فصل “عملية زقاق الموت” من الكتاب، وفاءً منّا لشهداء هذه العملية، ورفاق دربهم الذين يقبعون اليوم في سجون العدو. يموضع الفصل العمليّة ضمن سياق الفعل العسكري الفلسطيني بوصفه نموذجاً لحرب العصابات، يراكم ويبني على ما سبقه من عمليّات، سارداً تفاصيل جديدةً وغنيّةً تساعد في فهم منطق الفعل المقاوم خلال الانتفاضة الثانية (الأقصى)، فضلاً عن الأساليب التي استخدمها الفلسطينيّ في إدارة وتنفيذ معاركه.

عملية “فرش الهوى”

سبق معركة زقاق الموت بعض الأعمال العسكريّة المهمة، التي مثّلت أحد الأسباب في اتخاذ القرار لتنفيذ عملية زقاق الموت في ذلك المكان وبذلك العدد، حيث نُفذت عملية في “فرش الهوى” التي أدت إلى استشهاد المجاهد البطل عبد الباسط أبو سنينة والمجاهد البطل أسعد أبو تركي، وإصابة القائد الأسير نور جابر. شكّلت العملية حافزاً أساسياً وملهماً للقائد الأسير نور جابر ليطوي على تنفيذ عمليةٍ كرامةً لرفيقيْه الشهيديْن، وعلى الأرض التي استشهد عليها. وعن تفاصيل عملية “فرش الهوى”، تحدّث القائد نور جابر من عرينه في سجون الاحتلال الصهيوني بتفاصيل دقيقةٍ قمنا بنقلها بتصرفٍ على هذا النحو:

اطمأن المجاهدون (نور جابر، أسعد أبو تركي، عبد الباسط أبو سنينة، ورابع) من جهوزيتهم لتنفيذ العملية في “فرش الهوى” على شارع 60 الاستيطاني، بعد رصد المكان ليومٍ كاملٍ من قبل مجاهدٍ خامس. وللمرة الأخيرة، تفقدوا سلاحهم وعتادهم البسيط، ثمّ استقلوا سيارتهم وانطلقوا بها إلى المكان المستهدَف، وقبل الوصول أدركتهم صلاة العصر، فقال أسعد: “افترضوا استشهدنا، خلينا نصلي أول”.

نظر نور في عينيّ رفيقه ليجتاحه شعورٌ بأنه بحضرة شهيدٍ صدّيق، فتوقفوا بعيداً عن مكانهم مستجيبين لمؤذّن الصلاة ولأسعد. وهناك، وبعد أدائهم صلاة العصر، مرّ بهم مجاهد الرصد ليؤكد لهم قائلاً: “الظرف مهيأ وكل شيء تمام” فرقصت قلوبهم طرباً وانطلقوا خفافاً إلى سيارتهم التي تحركت بهم مسرعة، ولم تتوقف إلّا بأمرهم على بعد عشرات الأمتار من الموقع المحدد لتنفيذ العملية. انتزعوا بنادقهم الأربع قبل ترجلهم من السيارة بصدورهم المليئة بالإيمان والرجولة، واتخذ كلٌّ موقعه المحدد له خلفها، وإذ بالمجاهد يصيح “الله أكبر” وأطلق رصاصةً واحدة، ثم أردف “كمين، كمين”.

تفاجأ المجاهدون بقوةٍ من جيش الاحتلال تطوّقهم من كل الجهات، وأن أعدادهم في ازدياد، وهم يخرجون من خنادق، وأنفاق من تحت الأرض، ويطلقون النار بغزارة قنصاً عشوائياً. أخذ المجاهدون الأرض بسرعة البرق شارعين بمعركتهم بروحٍ استشهاديةٍ عاليةٍ وبسالةٍ منقطعة النظير، وقال نور: “كان أمامنا دبش حجارة جلست على ركبة ونص، وبادلته حبة بحبة وعيني بعينه، أي الضابط الإسرائيلي”.

ومن ميدان المعركة الذي لا تتجاوز مساحته مئتي متر، صاح أسعد منتشياً “أصبت في صدري”، ووجّه بندقيّته للأعلى وأخذ يطلق النار بشكلٍ دائريٍّ محتفلاً، ثمّ أردف فرحاً؛ “كمان اثنتين”، يقصد إصابتين. ثم هوى على ركبتيه وبندقيته لا تزال مرتفعةً تلتصق بذراعه لتشهد وسبّابته الموحدة على زنادها أنّه كان دائماً بها مقبلاً وإلى الله يعجل.

هرع إليه أخواه عبد الباسط ونور، ونامت على جانبه بندقيّته، وسكت الرصاص. ظنّ جنود الاحتلال أنّ الجميع أصيب فتقدموا نحوهم، وكانت تلك إرادة المجاهدين، وعند لحظةٍ معيّنة أطلق عبد الباسط ونور نيران الرشاشيْن تجاه الجنود مع صيحات “الله أكبر”، فأصيب كل من تقدّم من الجنود متساقطين على الأرض ليسكت الرصاص مرةً أخرى، مانحاً فرصةً للمجاهدين بتنفيذ خطة انسحابٍ مرتجلة.

وهنا أراد عبد الباسط إسعاف أسعد، والانسحاب به ولو محمولاً بيد، إلّا أنّه بعد تفقده والمناداة باسمه لأكثر من مرّة أيقن أنه سبقه مفارقاً إلى حياة الشهداء، فالتفت نحو نور، فإذا به مثخنٌ بجراحٍ بالغة، فقال له نور راجياً: “اتركني”، وكان يريده أن يغتنم فرصة انشغال جيش الاحتلال بإصابته والانسحاب. غير أنّ عبد الباسط رفض تلك الفرصة مؤثراً إنقاذه، وقام بسحب نور مع الرصاصة التي في صدره غير المبتعدة عن القلب سوى سنتمتر واحد، والأربع رصاصات الأخريات المستقرّات في الفخذ.

ظلّ عبد الباسط وحيداً يناور ويغطي بإطلاق النار بيد، ويسحب مصابه باليد الأخرى، ولا معين له سوى الله الذي سخّر له حجارةً وصخوراً وسلاسل تنتشر في طول الميدان وعرضه، حتى أمّن جريحه المقترب من الإغماء أو الشهادة، في أحد بيوت الأهالي القريبة، ثم ذهب ليواصل معركته وحيداً، على الرغم من أنّ الانسحاب والغنيمة بالسلامة الشخصية كان متاحاً له. وهناك، غير بعيد، تحصّن في بيتٍ قيد الإنشاء وهو ممتلئٌ بشعورٍ يطمئن الروح ويمتع القلب.

ملأ الخوف قلوب أهل البيت الذين ترك لديهم مصابه المُخطِر، ورأوا أنه من الأنسب لأمن عائلتهم سحب المقاتل إلى صندقة حديديّة “كونتينر” غير بعيدةٍ عن البيت، وأودعوه فيها وقد أصابه الإغماء، ودمه النازف يأبى التوقف، وقد جنّ عليه الليل وهو على ذلك الحال، ثم توقفت لديه قواتٌ من جيش الاحتلال غير أنّها لم تجهز عليه ظناً منها أنه قد فارق الدنيا، أو لأنهم آثروا عدم قتله، كي لا ينتبه المتحصن في البيت -غير المكتمل البناء- وهم يتسللون إليه ليباغتوه.

لم تمر على مرورهم بالقائد نور سوى لحظاتٍ ليُسمع أزيز الرصاص مالئاً الأرجاء من جديد، حيث قاتل عبد الباسط مستبسلاً حتى الرصاصة الأخيرة من بندقيّته، ثم واصل القتال بمسدسه حتى الرصاصة الأخيرة أيضاً. لم يستسلم أبداً إلى أن كتب اسمه في سجل الشهداء الأبطال عن جدارة منقطعة النظير، ولم يعثر في بندقيته أو مسدسه أو بين ملابسه على أيّ رصاصة، غير أنّه عثر على خمسةٍ وأربعين رصاصةٍ تسكن جسده الطاهر.

كان المقاتلون الثلاثة لا ينزعون عن أنفسهم الجعب عند تنفيذ العمليات. غير أنه في هذه المعركة لم يرتدِ جعبته سوى القائد نور، والتي كان لها دورٌ في حرف الرصاصة وإبعادها عن قلبه، الذي يعدّه القدر للتخطيط والإعداد لعملية زقاق الموت، ولم يشعر نور كيف انسحب من المكان! وكيف عولج! ودبت الحياة في جسده من جديد. وبعد شهرٍ ونصف أو أكثر قليلاً، عاد إلى منطقة “فرش الهوى” ليبرّ بعهدٍ قطعه للشهداء على نفسه لينفّذ عملية في ذات المكان، ولأنّ جراحه لم تكن قد التأمت حين التنفيذ، فقد جعل مجاهداً آخر يسند ظهره ليقوّي ضرب النار من بندقيّته تجاه المستوطنين المسلحين.

وبعد تماثله للشفاء، وفي زيارةٍ لأهل الشهيد عبد الباسط عزّ عليه أن يرى دمع أبيه، فأقسم لوالديه أن يطيح بعشرة رؤوس من ضباط الاحتلال مقابل كل شهيد (وكان في الحضرة أيضاً والد الشهيد أسعد). أحضرت أم الشهيد عبد الباسط ذهبها وقدّمته لنور من أجل شراء السلاح، فابتسم نور طرباً لذلك الموقف الذي ينمّ عن الروح التي تتسم بها الأم الفلسطينية، وردّ إليها الذهب مع طمأنتها بأنّ المال لا ينقصهم، فأعربت له بذات الروح عن جهوزيتها للعمل الاستشهادي.

التخطيط لعملية الملعب

خبّأ القائد نور جراحه المؤلمة الخطرة تحت عباءة عناد شخصيته المقاتلة، وروحه العاشقة للشهادة، حاثاً الطريق نحوها بمواصلة مشواره الجهادي معاكساً غياب الاستقرار النفسيّ التي تهبّ عاصفةً من مطاردة قوات الاحتلال له، ومن عدم توقف أجهزتها الأمنية والاستخباريّة عن مضايقة أهله، وعدم استكانتها عن مداهمتهم ليلاً ونهاراً، وما كان يزيد من عصفها استشهاد عبد الباسط صديقه وحبل إسناده وشريان وصله بالحركة، ولم يكن يملك المال سوى ما يوفر له أبسط الاحتياجات، ومن السلاح ما لا ينهض بمجموعةٍ لتنفذ عملية معتبرة.

وبعد أن طرق أكثر من باب ليفتح له قناة وصلٍ بقيادة الحركة خارج الأرض المحتلة، جاءه من ينقل له رغبة المجاهد ذياب الشويكي بمقابلته (وكان معروفاً لديه كونه نسيب أخيه)، ومن خلاله تعرّف على المجاهد محمد البطران، ومكث لديهما بضعة أيامٍ خففت عنه وطأة المطاردة المرهقة، وأسعده أن يعرف منه عن عمل المجاهد محمد سِدر في سرايا القدس، إذ أنِسَ بشعور أنه ليس وحيداً، وأنّ هناك أمثاله في نفس الزمان والمكان والعمل والخط والنَفَس الجهادي، وقَبِل بدعوته للقاء المجاهد محمد سدر، غير أنّ الأقدار لم تشأ إتمام ذلك اللقاء، إذ حال دونه اعتقال السلطة الفلسطينية لكلٍ من محمد سدر وذياب الشويكي في شتاء عام 2002.

شرع في تكوين خليته العسكرية التي سيواصل بها عمله العسكريّ من بعد استشهاد عبد الباسط وأسعد، ثم تنفيذه لعددٍ من عمليّات إطلاق النار على المستوطنين المسلّحين على الطرق الالتفافيّة، وقد دعا المجاهد جهاد عبيدو والذي عرّفه الشهيد أسعد به، للانضمام إلى خليّته، وكذلك دعا صديقه القديم جبارة الرازم، ثم التحق بهم المجاهد محمد عمران بدعوةٍ من صديقه جهاد عبيدو.

تمكّنت دعوة ذياب الشويكي القابع في سجون السلطة الفلسطينية من الوصول إليه لدعوته للقائه ولقاء القائد محمد سدر، وألتقى أولاً ذياب الشويكي الذي مهّد بدوره للقائه بمحمد سدر، وقد تم ذلك اللقاء فعلاً في سجون السلطة الفلسطينية، حيث شرح له عن ظروف عمله وظرف مطاردته طالباً منه النصيحة، فأشار عليه القائد محمد سدر بقوله:”لا تتحدث مع القيادة في سوريا لأنّ العيون عليك، وحاوِل أن تتوارى”. وقال طالباً منه” أنا وذياب ربنا يعلم متى نطلع من السجن، وهناك شخص نريدك أن تتواصل معه لتنظمه للجهاز العسكري، وأن تتابع معه”، وقد التقى ذلك الشخص المجاهد، غير أنّ التواصل معه لم يطل إذ أُفرج عن القائدين محمد وذياب ليعود تواصلهما معه من جديد.

أمّن نور بطلبٍ من ذياب المأوى للمفرج عنه من سجون السلطة والمطلوب للسلطات الاسرائيلية محمد سدر، حيث آواه في سكنٍ مستأجر، وفي إحدى مُغر منطقة وادي الجوز، لفترة ليست قصيرة، وكانت تلك الفترة فرصة جيّدة لتعارف القائدين أكثر وتبادلهما للآراء والأفكار.

في تلك الفترة، وإلى جانب تنفيذه بعض عمليات إطلاق النار المحدودة لاستنزاف الجيش “الاسرائيلي” في مدينة الخليل وعدم منحه أي فرصة للاستراحة، كان نور يفكّر بعملٍ كبيرٍ شديد الإيلام والوقع على دولة الاحتلال، وبدا له من خلال مراقبته من أعلى المستوطنة، وبالتحديد في الملعب المتاخم له، أنّ الملعب يتصل بمهبطٍ للطائرات العمودية التي تأتي بشخصياتٍ بارزةٍ من القادة الصهاينة عسكريين ومدنيين. أخذ نور في عملية الرصد ثم التحضير للعملية، ومن خلال ملاحظته للمكان المستهدف تبيّن أنه يعج بمئات المستوطنين ومسانديهم في الأعياد، فتولّدت له الفكرة بإدخال استشهادي عشية عيد الغفران (البيسح)، وينام هناك ليفاجئهم نهار العيد في ساعةٍ من ساعات ذروة نشاطهم.

طلب نور من رفيق مطاردته المجاهد المنتظر للشهادة محمد سدر مجاهد استشهادي لتنفيذ العملية، فأشار إليه بذياب المحتسب، وقَبِل ذياب مجرد الاقتراح عليه مسروراً بذلك الترشيح له، كان هو الآخر مطارداً فأخذه نور للمبيت لدى جبارة الرازم المكلّف بالرصد، حيث مركز الرصد للمكان المستهدف، وقام نور بفتح ثغرةٍ مخفيّةٍ وموّه عليها بتقنيّةٍ معيّنةٍ في السياج لعبور ذياب داخل المستعمرة، غير أنّ الحدس الأمنيّ لديه جعله يستريب من بعض تصرّفات أمن المستوطنة فسارع متصلاً بجبارة طالباً منه بلغة التشفير إحضار “الأبوات” – أي السلاح المخبأ لديه من أجل العملية- وكذلك المجاهد ذياب، وكان اختيار مصطلح “الأبوات” لعدم إثارته الشكوك عند التلفظ به، إذ إنّ جبارة الرازم كان صانعاً للأحذية، فأودع السلاح في مخبأ آخر وأخفى ذياب في بيت أهله.

ولم يكذب حدس نور، إذ أقدمت القوات “الإسرائيلية” بعد ظهيرة اليوم التالي على مداهمة الحارة، ومحاصرة جبارة في محل مصنعه الصغير، واعتقاله وإخضاعه لتحقيقٍ ميدانيٍّ شرسٍ داخل بيته، كما أنّ أهل بيته لم يسلموا من الاستجواب وشراسة ذلك التحقيق أيضاً. وبأساليب مرعبة ووحشية تحت أقبية جهاز الشاباك، انتُزعت من جبارة اعترافاتٌ عن العملية التي يعدّ لها نور في “كريات أربع”، ونشطت قوات الأمن “الإسرائيلية” إثر ذلك في العمل لإحباط تلك العملية المنويّ تنفيذها من قبل أحد الكوادر العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي، فلم تفوّت فرصة مداهمة بيوت نشطاء الحركة المطاردين أصلاً لقواتها.

التخطيط والتنفيذ لمعركة زقاق الموت

دوافع العملية:

نفذت عملية وادي النصارى “زقاق الموت” في سياق طبيعي للفعل الفلسطيني المقاوم للاحتلال الإسرائيلي البغيض، وبتكتيك وإبداع وقوة تتناسب مع تطور انتفاضة الأقصى، إذ اعتبرت تلك العملية ذروتها، وقد تكون الأضخم في ظل الاحتلال، وتم التعجيل بها لتكون رداً على جريمة اغتيال الشهيد القائد إياد صوالحة، وجرائمه التنكيلية الأخرى في حق شعبنا المنتفض، إذ أصدر الأمين العام د.رمضان شلح تعليماته المباشرة بضرورة تنفيذ عمليّة ضخمة عقاباً لدولة الاحتلال على اغتيالها لقائد سرايا القدس في شمال الضفة “إياد صوالحة” وباقي جرائمه بحق الشعب.

التسمية:

أشارت حركة الجهاد الإسلامي إلى العملية البطولية بعملية “وادي النصارى” نسبةً للمكان الذي نفذت فيه، بينما أطلقت عليه دولة الاحتلال وإعلامه “زقاق الموت” لما تجرّعه جنوده من الموت الزؤام داخل زقاق “حارة جابر”، وبعددٍ لم يعتده جيشه في معركة مع مجموعةٍ فدائيةٍ قليلة العدد في منطقة تعتبر مربع أمني مشغول عليه بعناية فائقة، وتأتي التسمية “الاسرائيلية” على ذات إيقاع “زقاق القناص” في القدس في حرب عام 1967. ولهذه التسمية دلالةٌ عميقةٌ على إيلام جيش الاحتلال ودولته، خصوصاً وأنها تأتي كاعتراف من داخله. لذا فإن حركة الجهاد الإسلامي وإعلامها وقيادتها امتطوا صهوتها في أدبياتهم وتصريحاتهم لاختصار المسافات، وصولاً للتعبير عن حجم العملية، وقدر إنجازها في تاريخ مقاومة الشعب الفلسطيني وحركة الجهاد الإسلامي.

الفكرة والتخطيط:

بعد أن تبيّن لنور كشف عملية الملعب للاستخبارات “الإسرائيلية” ألغى تلك العملية، وشرع يفكر بهدفٍ آخر لا تقل حصيلته عن الإيلام الذي كان مُتوقعاً من العملية المُلغاة. شارك في التفكير رفيقه محمد سدر الذي كان يذهب تفكيره لاختيار الهدف في المناطق المحتلة عام 1948، غير أنَ نور -الذي كانت له صلاحيّة اختيار الموقع- كان يميل لفكرة تنفيذها في مستوطنة “كريات أربع” أو محيطها، وتوجيهها ضد الاستيطان المذل على وجه الخصوص، ولذلك لم يغب عن تخوم مغتصبة “كريات أربع” بحثاً عن ذلك الهدف، وكثيراً ما كان يتردد على الزقاق في حارة جابر ( حارة عائلته المتاخمة للمغتصبة أيضاً). كان يدخلها متخفياً عن عيون الاستخبارات “الإسرائيلية” بزيَ عجوزٍ يرتدي زياً تراثياً تقليدياً، مستغلاً أنّ ذلك الزيّ يخفي كثيراً من ملامح وهيئة مَن يلبسه، أو بزيّ امرأةٍ منقّبة، وهناك لاحت للقائد نور فكرة عمليةٍ داخل الزقاق، تكون مصيدة الطرائد فيها الضباط والجنود “الإسرائيليين” القتلة، وساعده في التفكير أحاديث أقاربه عن معاناتهم من المداهمات، والمطاردات التي ينفذها جنود الاحتلال داخل الزقاق بغير سبب، ومع كل الأسباب يترافق هدفٌ خبيثٌ يقوم على إرهاب الأهالي والتنغيص عليهم.

كثّف نور من زيارته للزقاق عاكفاً على دراسة مداخله ومخارجه وانحناءاته، ونقاط الرصد “الإسرائيلية” فيه، وارتفاع بيوته وانخفاضها، وتوزيعها والحدائق داخله والمساحات المشجّرة حوله، والاتساع والضيق على امتداده وإلى أيّ عمقٍ يمكن للعربات المصفحة الدخول عبره، ومستوى الرتب العسكرية التي تدخل الزقاق وأعدادها وكيفية سلوكها في الداخل وعتادها، وتحركات القوات بأنواعها زمنياً ومكانياً. ولما اكتملت الدراسة، ووضع خطته المحكمة متمثلةً بثلاثة من الاستشهاديين، اثنين يتحصنان داخل الزقاق لقنص الجنود وإبادة كل قوةٍ عسكريةٍ تدخل مصيدتهم، وثالثهما خارج الزقاق يناور مقاتلاً لاستجلاب أكبر عددٍ من القوات، وأرفع درجاتٍ ممكنة من ضباط العدو، وإعطائهم الطعم لاقتحام الزقاق، ويسبق ذلك كله -بزمنٍ كافٍ- تنفيذ عمليةٍ للتمويه في المكان تهدف إلى استرخاء قوات الأمن “الاسرائيلية” التي ازدادت يقظتها بعد اعتقال الأخ المجاهد جبارة الرازم، ثم التخلي عما اتخذته من إجراءاتٍ احتياطيةٍ في أعقاب ذلك الاعتقال.

أبلغ نور رفيق مطاردته القائد محمد سدر بأنه بصدد تنفيذ عمليةٍ كبيرةٍ وبحاجةٍ إلى مجاهدين اثنين ليكونا استشهاديّين بالإضافة إلى ذياب المحتسب، وحينها لم يتأخر القائد الشهيد محمد سدر بإحضار البطلين ولاء سرور وأكرم الهنيني.

كان المجاهد محمد عمران من الرجال الذين تمّت الاستعانة بهم في عملية دراسة الموقع مستثمراً قدراته التمثيلية في تقمص الشخصيات وتشكيل اللهجة، وقام محمد عمران بمسح ورصد المساحات المفتوحة والحرشية في تخوم المستوطنة، ومحيط حارة جابر وحارة أبو سنينة، متقمصاً شخصيّة عجوزٍ بدويٍَ يمتهن الطب البديل (التداوي بالأعشاب) ويجول الجبال والوديان والأحراش بحثاً عن النباتات الطبية لوصفاته المفترضة، وما كان يزيد من صعوبة وخطورة مهمة محمد ومثله نور، الذي كان يقوم بمهام مماثلة أيضاً، فرض القوات “الإسرائيلية” لحظر التجول على الفلسطينيين في المنطقة منذ اعتقال المجاهد جبارة، ذلك الحظر لم يكن يُرفع إلا في أوقاتٍ قليلةٍ تتراوح بين ساعتين أو ثلاث يومياً.

كانت قدرات محمد عمران على التنقل بالمنطقة أكبر من قدرات نور، إذ أنه لم يكن مطارداً بعد، وبإمكانه الوصول إلى أماكن لا يستطيع نور الوصول لها بشكله وهيئته المعروفتين لضباط الجيش وأمن المستوطنة. استطاع محمد في عمليات رصده التصوير والوصول إلى نقاطٍ حساسةٍ جداً، ومتابعة حركة الجنود وأماكن تمركزهم الثابتة، وأزمنة تمركزاتهم المتحركة، كما رصد المكان من منطقة أبو سنينة التي تكشف من علوّها المساحات المستهدفة بنظرةٍ عامة.

كوّنت عمليات الرصد التي استمرّت لما يقارب الثلاثة أشهر تقديراتٍ دقيقةً جداً لحركة الدوريات والمستوطنين، وأوقات استبدال الطواقم المناوبة في النقاط العسكرية الثابتة، وأعداد الجنود وما لديهم من عتاد، والزمن المستغرق لوصول القوات المساندة، وأوقات التيقظ والتشديد، وأوقات الاسترخاء لتلك القوات، وسلوكهم عند وقوع شُبهة حدثٍ أمنيٍّ يستهدفهم.

وعلى ضوء كافة المعلومات لدى المجموعة، تم حسم إلغاء تنفيذ العملية في الملعب داخل المستوطنة والتأكيد على تنفيذها في الزقاق ووضع الرتوش الأخيرة على الخطة التي تصوّرها نور.

إعداد الميدان:

في أعقاب كشف مخطط عملية الملعب، بعد اعتقال المجاهد جبارة الرازم، اعتمد الجيش “الاسرائيلي” رزمةً من الاحتياطات الأمنية، والإجراءات التنكيلية، وأهمها: التضييق على حركة الأهالي بفرض نظام حظرٍ للتجول يومياً لساعاتٍ طويلة، ومداهمة بيوتهم في الليل والنهار، وزرع نقاط رصدٍ إضافيةٍ فوق بعض بيوتهم، وإقامة الحواجز الترابية على طرقهم، ونشر حواجز أمنية استفزازية ثابتة وطيارة، وكذلك دوريّات جوالة محمولة في عرباتٍ مصفحة. 

استطاع نور الاستفادة من بعض تلك الاحتياطات وتسخيرها لخدمة خطته، كفرض حظر التجوّل الذي منحه ميداناً قتالياً خالياً من المدنيين الفلسطينيين/ الذين طالما اتخذهم العدو في عملياته وحروبه دروعاً بشريّة، وكانتشار القوات المعادية في أكثر من موضع، الأمر الذي يجعل من تلك القوات أهدافاً وفيرة في مرمى نيران المجاهد، غير أنّ بعض نقاط الانتشار تلك كانت كفيلةً بإفشال الخطة أو إضعاف إنجازاتها، ولذلك كان لا بدّ من تحريكها وخصوصاً نقطة الرصد المتمكنة من مراقبة غالبية امتداد الزقاق ونواحيه والحاجز المقابل للزقاق. فكانت الفكرة تنفيذ عمليةٍ تكتيكيةٍ تستهدف نقاط العدو بضعف تحصينها ولا يكون هناك مجال أمامه سوى تحريكها بما أنه لا يستطيع تحصينها. كما كان على هذه العملية تحقيق هدفٍ آخر وهو إشعار العدو أن العملية التي ينوي الجهاد الإسلامي تنفيذها في المنطقة قد نُفّذت بالفعل، وعلى ذلك يبني عدم الحاجة للتيقظ الأمني الصارم المعتمد منذ علمه بخطة عملية الملعب.

اختار نور أن يشاركه ذياب المحتسب في تلك العملية التكتيكية لتزيد خبرته القتالية الميدانية في ذات الميدان الذي ستنفّذ فيها العملية التي لا تزال قيد الإعداد. اختار نور ذات التوقيت بعد الغروب في ظل حظر التجول المفروض، غير أنه اختار التنكر بزيّ الجنود “الإسرائيليين” وإخفاء ملامحهما بخوذتين “إسرائيليتين” أيضاً، وكذلك السلاح من النوع الذي تسلّح به الجنود “الإسرائيليين” من نوع عوزي وM16. شارك معه مجاهدٌ ثالثٌ بمهمة الاستطلاع، واستعانا بسيارةٍ مغنومةٍ من المستوطنين، حملتهما إلى مقربةٍ من الهدف، حيث ترجّلا منها تسللاً إلى الزقاق.

لم يثِر تحرّكهما داخل الزقاق بالزي العسكري “الإسرائيلي” حفيظة العيون “الإسرائيلية” الراصدة فوق البيوت الفلسطينية. وعلى مرأى من تلك العيون، فتحا نيران بندقيتهما صوب القوات “الإسرائيلية”، عندما أصبحوا على مسافة ثلاثين متراً منها تقريباً، وكانت تتمركز قريباً من مدخل الزقاق.

العيون الراصدة حارت في تحليل الحدث وشٌلّت أيديها، والقوات المتمركزة التي يقف بجانبها جيب مصفّح أبيض تابع لما يسمى بقوة حرس الحدود التي أخذتها المفاجأة، وأربكتها رؤية الدماء ممن أصيب لديهم. انسحب البطلان، بعد تأكدهما من ضرب الهدف، إلى السيارة التي أحضرتهما إلى المكان. غير أنها في الانسحاب تعطّلت وأبت التحوّل، فتركاها واستعارا سيارةً أخرى قريبةً دون موافقة صاحبها الذي أبلغوه عن مكان تركها له وضرورة استعارتها، وتحرّكا بها على أصوات سيارات الإسعاف “الإسرائيلية” المتوجهة إلى موقع المصابين لإخلائهم.

مضى الوقت الذي استغرق “الاسرائيليين” الصحو من مفاجأتهم، والتأكد من أمان المكان بالنسبة لقواتهم ليدخلوا إلى الزقاق، ويعملوا على تمشيطه، وتفتيش بيوته وإرهاب أهله والتحقيق معهم، وقد أخبر الفلسطينيون المدنيون أثناء التحقيق معهم أنّ مطلقي النار كانوا جنود جيشكم.

 أدخلت هذه العملية التكتيكية المستوطنين في حالة من الهوس، إذ  كان لديهم بعد يومين منها عيداً، وكما هي عادتهم في الأعياد يذهبون لتدنيس واغتصاب المسجد الإبراهيمي، وأثناء عودتهم منه فتحوا النار على جنودٍ من جيشهم يتمركزون في نقطةٍ على الطريق المقامة لتوفير الأمن والحماية لهم، وقد أوقعوا فيهم إصاباتٍ حسب الراديو “الإسرائيلي”. وعلى إثر تلك العملية التكتيكية، تحركت النقطة العسكرية والجيب المصفّح من مكان تموضعها إلى مكانٍ آخر قريب، وبالتالي أُخليت نقطة المراقبة من فوق ذلك البيت، إذ كانت مهمتها الأولى الرصد لتلك النقطة العسكرية، وبذلك أصبح الميدان أكثر مواءمةً للفدائيين أثناء وصولهم المعركة.

وفي عملية مواءمةٍ آخرى للميدان، عمل القائد نور على فتح ثغراتٍ في جدران بعض البيوت الخالية من أهاليها؛ ليتمكن المقاتلون الاستشهاديون من التنقل عبرها من بيتٍ إلى بيت، لمفاجأة العدو وإيهامه بكثرة عدد المقاتلين، وكذلك ألقى حجارةً ضخمةً عشيّة يوم التنفيذ على مواضع محددةٍ من الزقاق لتكون متاريس تتوقف عندها السيارات المصفحة وتتعرقل حركتها.

تدريب المجاهدين:

اختار القائد نور منطقة “عين دير بحة” مكاناً لإجراء التدريبات والمناورات اللازمة في تجهيز المجاهدين البواسل للعملية “المعركة” في وادي النصارى، وذلك للتشابه الطوبوغرافي بين المكانين. لم يكن يعوز الأبطال -وعلى الأخص ذياب- التدريب على الرماية والقنص، فقد اكتسب ذلك -وإلى حدٍ ما زميليه- لدى القائد محمد سدر قبل جعلهم في إمرة القائد نور، ولكن كان يعوزهم التدريب على العملية المرتقبة تحديداً وكيفية التعامل مع المكان، وطبيعة المواجهة مع القوات المعادية فيها، والتعارف في ما بينهم على لغةٍ قتاليةٍ واحدةٍ لا تقبل كلماتها وإشاراتها أيّ جملة أو حرف التباس.

كان التدريب يسير بخطىً مترويّة حتى جاءتهم الإشارة من الأمين العام ساعة استشهاد القائد إياد صوالحة في جنين “المطلوب رد قاسٍ وسريع”، لم يهمل نور الإشارة لحظةً واحدة، وقرر تكثيف التدريب في بضعة أيامٍ وتوديع الاستشهاديين لأمهاتهم وآبائهم وأقربائهم ومحبيهم الكثر، بحجة أنهم سيغيبون في الخروج مع “جماعة الدعوة” لمدة أسبوع.

وأقاموا في الشقة المستأجرة لهم في مدينة الخليل، والتي شرّفوها بأنفاسهم الطاهرة، وأناروها بأورادهم وقيامهم لتلك الليالي الرمضانية البدرية، ما وصفهم ملائكة الرحمن، وكالشمس كانوا يشرقون على “عين دير بحة” مع القائد نور للتدريب، وبعدها يغيبون عنها إلى رهبانيتهم في الشقة المشرفة بهم. أكثر ما تدربوا عليه كان المراوغة، والمناورة المباغتة، والتمويه على العدو، والتنقل من مكانٍ إلى مكان عند وجود الانتقال، والكمون عند لزوم الكمون، وضرب النار بمقدار ما تقتضيه الحالة والظرف، لا إسراف ولا تقتير في حبات الرصاص، فالذخيرة التي سيحملونها تكفي لعملية خاطفة لبضع دقائق، وما يحتاجونه في الحقيقة منها ما يكفي لمعركة ستستمر ساعاتٍ طويلة. وقال القائد نور لأبطال العملية:”لو معاك 100 مشط رصاص بإمكانك ضربه بنصف ساعة، ولو معاك عشرة بإمكانك الاستمرار بها في عملية لساعات، المسألة حسن استخدام الرصاص بالشكل المناسب وبحكمة”.

أخذ أكرم في منتصف أيام التدريب المكثف إلى ميدان المعركة المرتقب للتعرف عليه، وأما ذياب فكان يتقنه جيداً، بينما ولاء فلا حاجة به للمعرفة إذ مكانه ودوره في الخطة خارج الزقاق في منطقة لا تختلف كثيراً عن ميدان التدريب، وهذه المرة الأولى التي عرف بها الاستشهاديون الثلاثة مكان تنفيذهم للعملية التي يتجهزون لها.

وقبل ثلاثة أيامٍ من التنفيذ، عرض نور تفاصيل خطته على الاستشهاديين وتحديد موقع كلٍّ منهم، أكرم وذياب داخل الزقاق، وولاء خارجه في المنطقة المشجّرة لأنه أثقل منهما وزناً، وليس لديه لياقتهما البدنية، ولا كفاءتهما القتالية في القنص، والقتال خارج الزقاق يعتمد على الكثافة النارية، بينما داخله يعتمد على الكر والفر والتسلق، والانسلال من أضيق الثغرات والفتحات. كما عرض عليهم تقديرات تصرّف القوات المعادية والمنافذ المتوقع الدخول منها إلى الزقاق، وكيفية التعامل مع كل تقديرٍ واحتمال، وفي ذلك اليوم أيضاً صوّر الاستشهاديون بحضور القائد محمد سدر إلى جانب القائد نور وصاياهم الذاهبة إلى منتهى الروحانية وحب الله والإيمان بصدق وعده للشهداء.

خاتمة التدريب كانت مناورةً شاملةً تُحاكي تنفيذ العملية المرتقبة بما تحمله من سيناريوهاتٍ متعددةٍ توقعها المخطط، ويحدّد أحدها أو آخر ما يقرّره الجانب المعادي بكيفيّة تعامله مع نيران الجهاد الإسلامي المبادرة في هذه العملية.

وفي انتظار لحظة الصفر من تنفيذ العملية، عكف الأبطال الثلاثة على ذكر الحبيب – صلى الله عليه وسلم- والتهجد له في شقتهم التي -على ضيقها- أصبحت بأرواحهم وقلوبهم ترحب بكل المستضعفين والمظلومين والمكلومين والمؤمنين في زمن علوّ “بني إسرائيل” الثاني والأخير، حيث كانوا يسكنون تلك القلوب، وهمّهم لا يغيب عن تلك الأرواح.
 

تنفيذ العملية:

بينما كان المجاهد القائد نور جابر يسابق الأرقام في العد التنازليّ لانطلاق العملية، كان اللواء “درور فاينبرغ” يتابع من مكتبه عمله كقائدٍ عسكريٍّ لمنطقة الخليل في جيش الاحتلال، وكانت مجموعة من مستوطني “كريات أربع” المسلحين يغتصبون الحرم الإبراهيمي بصلواتهم عشيّة سبتهم. كما كان قائد كتيبة حرس الحدود الصهيونيّ “سميح سويدان” في سيارة القيادة مع مجموعة من جنوده رديفاً أمنياً لمجموعةٍ من المستوطنين أثناء ذهابهم وإيابهم بين “كريات أربع” والحرم الإبراهيمي، وكانت وحدةٌ عسكريةٌ من ستة جنودٍ مشاةٍ من لواء “الناحال” رديفاً آخر لتلك المجموعة المسلحة المجرمة، فيما كان الاستشهاديون الثلاثة ذياب المحتسب وأكرم الهنيني وولاء سرور يمضون آخر أوقاتهم في شقةٍ مستأجرةٍ لهم وسط الخليل، قرب “مربعة سبتة” منتظرين اقتراب لحظة الصفر لإطلاق رصاصة البدء بالعملية.

كان يوماً رمضانياً قصيراً قضاه الاستشهاديون الثلاثة في تلك الشقة مع القرآن الكريم والأذكار، والدعاء بتسديد رميهم وقبولهم شهداء بتوهجٍ روحيّ شديد، وقبل موعد الإفطار بخمسة دقائق نزل ثلاثتهم بكل حبور، خفافاً كأنهم يطيرون بأجنحة روحانيّة سامية، كانوا يلبسون سراويل الجينز وقمصان من فوقها سترات بدون أكمام، غير واحدٍ كان يرتدي بلوزة سوداء، وفي يد كلٍّ منهم كيسٌ يحتوي على بندقيةٍ طويلةٍ من طراز M16، وجعبةٍ وعشرة مخازن وثلاث قنابل، والتقوا في الأسفل بالأسير القائد محمد عمران الذي كان ينتظرهم بالسيارة المخصصة للتشرف بحملهم نحو الهدف. كان يقودها القائد نور جابر متخفياً بلباسٍ تقليديّ، وقبل الانطلاق اشتروا ثلاث ربطات خبزٍ للتمويه وعصير، شربوا العصير لينهوا به يوم صيامهم سوى “ولاء” الذي فضّل ملاقاة ربّه بجوع صيامه.

وصلت بهم السيارة إلى الشارع الرئيس المؤدي إلى “كريات أربع”، غير أنّ حاجزاً ترابياً واجههم واضطرهم لسلوك طريقٍ آخر غير معبّد، ويطيل المسافة نحو الهدف بنصف كيلو تقريباً. كان عليهم السير تحت وطأة حظر التجوّل المفروض “إسرائيلياً”، بيد أنّ تلك الوطأة تسقط عن شعورهم بما يسكنهم من طمأنينة الايمان الذي يحرّك ألسنتهم بالذكر وتلاوة “وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يُبصرون” (سورة يس-آية 9). مضت بهم السيارة في “جبل جوهر” حتى توقفت بهم لدى حاجزٍ ترابيٍّ يبعد عن الموقع الهدف بضع مئاتٍ من الأمتار.

وهناك في المسجد الإبراهيمي، والليل عسعس، توقف فوج المستوطنين المسلحين عن فعلهم المغتصب وبدؤوا يدخلون بوابة الحرم التاريخية المحافظة على طبعها وهويتها الإسلامية، واتخذوا طريقهم آيبين إلى المستوطنة بمنتهى العنجهية تتقدمهم دوريةٌ من مشاة “الناحال” وتتأخر عنهم دوريةٌ أخرى، وفي مغتصبة “كريات أربع” فوجٌ آخر من المستوطنين يتفقدون سلاحهم ويستعدون للذهاب إلى المسجد الإبراهيمي ليؤدوا ذات الفعل الاغتصابي.

ترجّل المجاهدون من السيارة، ذياب، وأكرم ومعهم نور، متوجهين إلى مواقعهم المعروفة لهم داخل الزقاق الذي تدرّبوا على مداخله ومخارجه وممراته وخباياه، وحتى بيوته التي حين وصلوها كان قد انتهى أهاليها الصائمون من طعام إفطارهم قبل قليل. فتوجه أكرم إلى الجهة الأقرب من المستوطنة، وذياب إلى الجهة المقابلة الأقرب من الحرم الإبراهيمي، وكان عليهما ونور التسلل إلى مواقعهم متجاوزين نقاط المراقبة “الإسرائيلية” التي يقيمونها فوق البيوت، لتكشف الزقاق المضاء نسبياً، بالقفز في بعض النقاط من بيتٍ إلى بيت أو من خلال فتحاتٍ سبق لهم نقبها بين بيتٍ وآخر. أما ولاء سرور، ذهب في إيصاله محمد عمران العارف جيداً بالمنطقة إلى مقربةٍ من بوابة المستوطنة الجنوبية، وعلى بعد سبع دقائق من السير في ستار العتمة، توقف محمد عمران برفيقه على بعد خمسة عشر متراً من نقطةٍ أمنيةٍ فيها قوةٌ لجيش الاحتلال، وبعضٌ من رجال أمن المستوطنة، وعلى مقربةٍ منها تتمركز سيارة جيبٍ عسكريٍّ لقوات ما يعرف بحرس الحدود تعمل كخط دفاعٍ أول لبوابة المستوطنة وتلك النقطة الأمنية. أكمل ولاء سيره منحنياً إلى النقطة التي أشار إليها محمد عمران في أرضٍ تنخفض عن رصيف الشارع بمتر ونصف المتر، وتنتشر فيها أشجار الزيتون، ولمّا أصبح أسفل الجيب تماماً كَمُنَ هناك متصلاً مع الله بالدعاء والذكر، منتظراً الرقم صفر في العد التنازلي لانطلاق العملية.

قافلة المستوطنين تسير مطمئنةً نسبياً لسلاحها، وما حولها من جنودٍ وعتادٍ موفورٍ لحمايتها، وعند وصول اللحظة المرتقبة وتلقيه الإشارة، أطلق ولاء أول رصاصةٍ وقنبلةٍ معلناً بداية المعركة، وكان الوقت يقترب من أذان العشاء، وكان أكرم وذياب لا يكلّ كل واحدٍ منهما في موقعه المحدّد له في الخطة، مرتدياً جعبته التي يعلّق بها ما بحوزته من قنابل وأمشاط ذخيرة، وممتشقاً لبندقيّته، في انتظار لحظة انطلاقه وفق الخطة. أذهلت مفاجأة هجوم “ولاء” الجريء الجنود المدججين بالسلاح، وجعلت منهم من يتهاوى، ومن ينبطح على الأرض بفعل الإصابات أو طلباً للسواتر، وأخذوا يطلقون الرصاص بغزارة صوب حقل الزيتون السابح في الظلمة وسط صراخ وعويل المصابين منهم ونباح الكلاب، والقوات الرديفة لهم في حماية مسيرات المستوطنين من قوات حرس الحدود وغيرها المنتشرة على الطريق بين المستوطنة والمسجد الإبراهيمي، دخلوا في حيرة اتخاذ القرار المناسب.

أخذ ولاء بالتراجع صوب الزقاق ووميض رصاصه يشي للجنود بمكانه، ويخبرهم كما هو مقررٌ له في الخطة، بأن مطلقه سيلجأ إلى الزقاق ويختبئ فيه، ثمّ ليأتوا بكبار ضباطهم وقيادتهم للبحث عنه وعن أمجادٍ يحققونها بالاستقواء على العزّل المستضعفين من الفلسطينيين نساءً وأطفالاً وشيوخاً.

كان فوج المستوطنين المسلحين العائد من الحرم الإبراهيمي لا يزال قريباً خلف بوابة المستوطنة، ولعله كان الفوج الأخير، ولعلّ فوجاً آخر كان يستعد للذهاب فأتاه صوت المعركة من خارج البوابة، ليزيد فيهم اشتعال الحقد والخوف والغضب، ثم ضجّت في آذانهم أصوات مكبّرات الصوت تنادي فيهم لدخول حصونهم، ومن منهم خارج المستوطنة أن يعود إليها سريعاً.  تناهى الصوت إلى المجاهدين الثلاثة ليضيف طمأنينةً إلى طمأنينتهم، وإلى الأهالي قرب المستوطنة خشيةً إلى خشيتهم من عربدةٍ وتنكيلٍ إضافيٍّ عليهم من المستوطنين وليشفي شيئاً من غيظهم، وإلى جنود الاستطلاع المتمركزين على أسطح بيوت الفلسطينيين ارتباكاً واضطراباً على قلقهم، وإلى نور جابر القريب من المكان ليريحه أنّ سهم العملية قد انطلق من قوسه، وإلى “درور فاينبرغ” ليثقل شعوره أنّ عمليّةً إضافيّةً في الخليل ستسيء سجلّه.

ولعلّ قائد دوريّة “الناحال” الذي أصيب هو الآخر بنيران ولاء، قد أعطى أمره لجنوده للنزول من مرصدهم لمساندتهم في قتال ولاء، ويكون بذلك قد ابتلع الطعم حتى النهاية، وترك ميدان المعركة الحقيقيّ المرتقب من قبل معدّ ومهندس الخطة مكشوفاً تماماً لرصاص أكرم وذياب المنتظران طرائد الصيد بفارغ الصبر.

كان اللواء “فاينبرغ” في تلك اللحظات لا يزال جالساً في مقر قيادته على طرف مدينة الخليل، وتحترق أعصابه بصوت الرصاص الذي أصبح يشي بأنه صادرٌ عن معركة، وليس عمليّة إطلاق نارٍ اعتياديّة محدودة، فقرر -وعقارب ساعته تشير إلى السابعة والربع- الهرع صوب مصدر الصوت متخذاً الطريق الأبعد الملتف حول مستوطنة “كريات أربع”، إذ كانت قواته تسدّ الطريق المختصر بالتلال الرملية.

قام مجاهدٌ من داخل الزقاق بإطلاق رصاصةٍ أو بضع رصاصاتٍ من داخل الزقاق لتتدحرج المعركة إلى ميدانها المعدّ بدقّة وحرفيّة عالية داخل الزقاق. كما آن لنور جابر مغادرة المكان والمتابعة عن بعد، وبدأت دورية حرس الحدود المكونة من ثلاثة جنودٍ أو أكثر، والمحمولة في جيبٍ مصفّحٍ تعقّب مصدر النار داخل الزقاق.

سمح المجاهدون أكرم وذياب للجيب بالولوج في الزقاق حتى عمقٍ يناسب هجومها، وانقض عليه أحدهما من قلب المجهول بقلب أسد، وفتح عليهم الباب المصفّح ورماهم بالهول من بندقيّته عن بعد مترٍ واحدٍ أو أقل لترديهم جميعاً، سوى واحد أبقاه القدر مصاباً لحكمةٍ يعلمها “وليروي ما حدث بعد ذلك”.

أصيب المغوار ولاء بالرصاص المنهمر عليه من أعلى الشارع، والذي يُرى وميضه المتجه إليه بسرعةٍ لا تشبه إلا ذاتها، وواصل قتاله بكل بسالةٍ متعالياً على أوجاع الرصاص في جسده، وحاملاً تصميمه إتمام تنفيذ دوره في الخطة حتى النهاية، ولم يسكت رصاص البطل إلا بسكوت أنفاسه، وارتقاء روحه إلى ربّها وهو على جوع صيامه كما وعد أوفى.

بعد أن أجهز المجاهدان على قوّة حرس الحدود التي تعتبرها “اسرائيل” من أكثر قواها الرادعة في الأرض المحتلة بذلك الشكل المهين، عاد البطلان إلى مكمنهما في انتظار طرائد أخرى تدخل مصيدتهم، ولم يطل انتظارهم طويلاً حيث ولج جيبٌ مصفّحٌ آخر لذات الوحدة العسكريّة، وكان يحمل ضابط العمليات لحرس الحدود “سميح سويدان” وجندياً آخر، ويبدو أنه وجد المكان ساكناً إلّا من صراخ جنديه المصاب في الجيب الأول، فاستدار بجيبه جاعلاً مصابيحه الكاشفة تبهر أبصار من يقدم إلى الزقاق، ولعله كان ينوي إخلاء جنديه المصاب، ونزل من جيبه المصفّح لتعالجه رصاصة مجاهد، وكذلك مرافقه، تاركين جهازهم اللاسلكيّ دون أيّ أجوبةٍ أو ردود.

حينما وصل “فاينبرغ” كان أزيز الرصاص قد سكت، ولم يجد من ضباطه وجنوده من يستوضحه الأمر. فاتخذ سيارة جيب مصفّح ليحمله إلى داخل الزقاق، ويفاجأ هناك بجنوده عالقين في جيبٍ آخر، ولا يسمع صوت إلا أصوات صراخهم، فشجّعه غياب صوت الرصاص ليترجّل من مركبته المصفّحة نحو العويل الصارخ لتسكن قلبه رصاصة مجاهدٍ يستتر بالقرب منه، فتسقطه أرضاً ولم يستطع مرافقه أو مسعفي كيانه أن يستنقذوه منها.

بدأت الأخبار الأوليّة تنتشر في وسائل الإعلام المحليّة، والدوليّة العبريّة منها والعربية وغير ذلك. وعلى تلك الأخبار الصحيحة، وغير الصحيحة، انكبّ الصحافيون والمحللون ينسجون حكايتهم، وتحاليلهم المعيبة، والمخطئة، عن نوايا حسنة وأخرى سيئة، وأسوأها ما أشاعته الجهات “الإسرائيلية” عن قيام المقاومة الفلسطينية بمذبحة في المدنيين اليهود والمصلين، تلك الإشاعة التي دفعت على إثرها “كوفي عنان” أمين عام الأمم المتحدة إلى إدانتها، ثم استدرك الإدانة بعد انجلاء الأمر للعالم بأنها كانت معركةٌ بين طرفين غير متكافئين، التفوق فيها في العدة والعتاد كان للطرف “الاسرائيلي”.

ضابط أمن المستوطنة “يتسحاق بوينش” الذي فرغ ومن معه من جنود الاحتلال من قتال ولاء سرور الذي أثخن فيهم الجراح ثم أصبح في ضيافة الرحمن بين الصديقين الشهداء، قرر اقتحام الزقاق بقوةٍ من جنوده وبمن وصل من قوات الإسناد، وزاد من شعوره بالمهانة والغضب أن وصله خبر إصابة قائد اللواء “درور فاينبرغ” برصاص فلسطينيين لم يتخرجوا من أيّ كلياتٍ عسكرية، ولا يملكون أيّ مقوماتٍ قتاليّة غير بنادقهم، وإيمانهم وشجاعتهم وذكائهم، واختار الاقتحام بحماية سيارة عسكريّة مصفحة ذهبت إلى جانبه.

لم يستطع “بوينش” وجنوده النظر عبر الزقاق، فالمصابيح الباهرة لجيب “درور” تعجز عيونهم عن الإبصار، فأطلق النار صوب المصابيح على مرأى ومسمع من الاستشهادييْن ذياب وأكرم، ورغم ذلك تقدم أعمى بما فيه من عنجهيةٍ وحقدٍ وعربدةٍ اعتادها كإخوته المستوطنين في مدينة الخليل.

برز لهم المغوار ذياب، فصرخ “بوينش”: “إنه إلى يميننا” وتوجهوا جميعاً بكثافة نيرانهم الهوجاء إلى اليمين؛ فقاتلهم المغوار بالقنابل والنار في ذات اللحظة التي أتتهم فيها زخاخ الرصاص، وجحيم القنابل من اليسار من البطل المجاهد أكرم. لم تسعفهم صرخات الاستنجاد التي أطلقوها من حناجر لطالما صرخت في إهانة الفلسطينيين، وجعلت من عيشهم مستحيلاً في مدينتهم وبيوتهم، وسبقت رصاصهم إلى من قتلهم من ضعفاء المدينة المنكوبة بهم، وتحقق البطلان إبادتهم جميعاً وسيارتهم المصفحة لا تحرك ساكناً بالقرب منهم، بل ومنحت البطلان نقطةً محصنةً إضافيةً داخل الزقاق توفر لهم مزيداً من مرونة الحركة على جانب الزقاق.

اقتربت الساعة من السابعة وخمسة وأربعين دقيقة، ولم يأت أحدٌ لملاقاتهما من جنود واحدٍ من أعتى وأظلم جيوش العالم، فذهبا يتخيّران من الغنيمة ما يعوّضهما من سلاحٍ وذخيرةٍ قد نفذت، واحتفظ أرشيف ذلك الجيش الذي يقولون بأنه لا يقهر، بأصوات ضباطه وهم يصرخون عبر الأجهزة اللاسلكيّة، طالبين الغوث والنجدة لإنقاذ كرامتهم، ودمهم المسفوك في زقاق موتهم.

وفي تلك الأثناء، كان ضابط الأمن في التجمع الاستيطاني العبري داخل المدينة العربية يحاول تنظيم قوةٍ جديدة، ويذهب بها لمواجهة رجال الجهاد الإسلامي في الزقاق، وفي النهاية اختار المناورة بدخول الزقاق بسيّارته المصفحة منفرداً عن القوة التي جمعها بصعوبة، فاستقبله المجاهدان بالنيران، غير القادرة على اختراق تصفيح سيارته، ورغم ذلك عجز عن قتالهما ووقع في قلبه أن يواجه جيشاً من الرماة المهرة، فهرب من الزقاق ليضع تقريره بين يديّ قيادة جيشه المذهولة، والتي لم تستطع ملئ الفراغ الذي تركه “فاينبرغ”، لا سيّما وأنّ عدداً من الضباط تهرّب من المسؤولية. ولذلك، سُرّح ثلاثةٌ منهم بناءً على توصيات التحقيق الذي نشره ما يوصف بقائد المنطقة الوسطى “موشيه كابلانسكي” كما ورد في صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية.

وتداعت قيادات من كبار ضباط الجيش، وكانت الساعة تقترب من الثامنة مساءً حينما وصل المكان نائب كتيبة “الناحال”، ونائب كتيبة المدرعات وقادة كتائب الاحتياط، وكان الفلسطينيون في أغلبهم يأكلون حلوى القطائف الرمضانية، ويلتقطون شذراتٍ عن أخبار المعركة من هذه القناة أو تلك، وقلوبهم لا زالت تلهج بالدعاء للمجاهدين في الخليل منذ انتهائهم من صلاة التراويح. كان المجاهدان داخل الزقاق ينتظرون ملاقاة ربهم بشوق، وألسنتهم تلهج بحمد الله والثناء على نبيّه، والدعاء بالإثخان في العدو وإشفاء صدورٍ مؤمنة، مما احتقن فيها من أفعال المستوطنين وجنودهم.

تحصّن أولئك الضباط بالمصفحات، واقتحموا بها الزقاق ولم يعلموا أنّ كفّ الحق يمكنها مواجهة مخرز الباطل، ولم يتوقف المجاهدان عن التصويب نحوها من اليمين ومن اليسار، ومن الأعلى ومن قلب السيارات المصفحة الهالك أصحابها، إلا بانسحاب تلك المصفحات تجر أذيال الخيبة والعار. وتجد في انتظارها -والساعة تجاوزت الثامنة والثلث- نائب قائد اللواء “كابلانسكي” وقائد كتيبة “الناحال” وقادة من كتيبة “لافيه”، وعلى رأسهم قائد الكتيبة “يهودا” ونائبه، ثم وصل إلى المكان قائد كتيبة “يهودا” “عاموس بن ابراهام”، وقائد لواء “ناحال” والعقيد “نوعام تيفون” الذي تسلّم القيادة ويكون قد ملأ الفراغ الذي تركه “فاينبرغ”.

وعكف “تيفون”، ومن معه من جنرالات -متجاوزين الساعة- على وضع خطةٍ عسكريّةٍ محكمةٍ تليق بسادس أقوى جيشٍ في العالم، لمواجهة بطليْ سرايا القدس في الزقاق، ولم يتركوا لحظةً إلا واستغلوها في إيصال التعزيزات العسكريّة المهولة إلى المكان، وكأنهم يتجهزون لمعركةٍ يواجهون فيها مئات المقاتلين الشرسين.

وبعد أن طال انتظار الاستشهاديين المتعجلين، وقد فعلوا كل ما يمكنهم فعله من جمع الذخيرة، والتجهيز من السلاح المغنوم، وإذكاء روحهم الاستشهادية بالدعاء والذكر، حرّك نائب كتيبة “لافيه” -وعقارب الساعة تشير إلى التاسعة والنصف- مصفّحتين لترابطان قبالة الزقاق وتحدقان بمدفعيهما عبره على أضواء القنابل الضوئية التي بثوها في السماء لتنير الزقاق وما حوله. كانت تلك القنابل الضوئية هدية غباءٍ يقدمونها لعدوهم الذي يحتاج لرؤيتهم من مكامنه بوضوحٍ أكثر، ليسهل للمجاهدين قنصهم وكأنهم في حقلٍ للرماية، وكان صوت تحرك الدبابتين يختلط مع أصوات الطائرات المروحيّة “الهليكوبتر” المقاتلة والأرض من تحتهما تهتز.

سكت صوت حركة الدبابتين دون أصوات الطائرات العمودية، ولاحت صورة المدفعين الحديديين المنتظرين في الزقاق، فتحرك البطلان بقلبين من حديد ليأخذا موضعهما القتاليّ حسبما تطلب مستجدات الميدان. ظهر أحدهما لقائد كتيبة “الناحال” الذي -من داخل مصفحته أو حصنه الحديديّ المتحرك- أطلق النار صوبه، ومقاتل السرايا تزداد روحه الاستشهادية توهجاً وإقداماً وحكمة، وظنّ خائباً قائد كتيبة “الناحال” أن مدافع الدبابات والطائرات الحاجبة للسماء قد أرعبت مقاتلي السرايا وأفقدتهم توازنهم. فطلّ برأسه من المصفحة، ليحرّر تصويبه نحو البطل من قيود المصفحة التي تمنعه من امتلاك كل الاتجاهات، غير أنّ بندقيّة الاستشهاديّ الآخر كانت مصوّبةً في انتظار ذلك الرأس لتودع فيه رصاصة، وتصبّ فيه الموت الزؤام، وتصب الألم والفزع في نفوس “يعلون” الذي كان طول الوقت على الخط الهاتفيّ متابعاً لسير العملية. وبغطاء كثافةٍ ناريّةٍ مهولةٍ تنصب من السماء، تقدّم من المصفحتيْن قائد كتيبة “لافيه” وقائد كتيبة “ناحال”، ومعهم من معهم من الضبّاط وهم يلقون ما بحوزتهم من قنابل بكل اتجاه، وفي كل ثغرةٍ تلوح لهم بين البيوت وصوب كل شبهةٍ يشتبهونها بهوسهم.