“هبّت النار والبارود يا فدائي، في الكريسنة الرصاص يلالي”، تروي لنا ماجدة كراجة أحد فصول مقاومة ثوّار قرية صفّا للاستعمار الصهيوني، مُرتحلين معها إلى عام النكبة حيثما معركة الكرسنة وأزيز الرصاص العالي. قراءة طيّبة.

صارت الهجمة ع بيادر لدي
صارت الهجمة يا مدافع ودي
صارت الهجمة ع الكرسنة
ضرب الرصاص زي عفر الكرسنة

تتعالى حناجر النساء الحاشدة للمعركة على وقع أزيز الرصاص وأصوات المدفعيّة التي تزداد كثافةً. فرق الثوّار مستمرةٌ بالتوافد من القرى المحيطة، حاملين بنادقهم ورصاصهم، فيما الفلاحون يخرجون شاحذين أسلحتهم البيضاء. هنا، على أعلى تلة الكرسنة في قرية صفّا قضاء رام الله، سيخوض الثوّار إحدى أكثر معاركهم بسالةً وعنفاً، متّخذين قرارهم باستباق تقدّم العصابات الصهيونية والتصدّي لهم بالرصاص. سيعلن الثوّار انطواء المعركة بانتصارهم، تاركين خلفهم جثثَ الجنود الصهاينة التي لم تجرأ العصابات على الرجوع إليها واستعادتها.

“كنّا زلام ونحمل سلاح”، يرفع يوسف أبو زينة يده غاضباً، متخطّياً اليوم سنواته الأولى بعد التسعين. كان حينها جندياً في الجيش الأردني، يقف ورفاقه يراقبون بناء العصابات الصهيونية لاستحكاماتها، ما ينبئ باستعدادها لهجومٍ قريب على القرى العربية. جاء ذلك بعد أن استفزّهم تصاعد “تسلّل” الثوار إلى الأراضي المحتلة عام ١٩٤٨، بجانب استمرار عودة الفلسطينيين إلى قراهم القريبة؛ مثل البرج وبئر ماعين وبرفيليا قضاء الرملة، [1] التي هَجّرتهم منها الكتيبة الصهيونيّة من لواء “يفتاح”. [2]

بالمقابل، أصدر جلوب باشا أوامره للجيش الأردني في حينها: “لا شيءَ مقلق.. اتركوهم”. تنحبس أنفاس الحاج  أبو زينة، وسرعان ما يتنهّد بالقول: “جلوب باشا وقّفنا نحمي اليهود.. لبسنا البدل العسكرية وحمّلنا سلاح تالف”.

أمام سكون الجيش الأردني مقابل استمرار العصابات الصهيونية بالتقدّم، قرّر الثوار عدمَ الرضوخ لأوامر جلوب باشا، متقدّمين نحو الكرسنة، لتلتحق بهم أيضاً مجموعةٌ من الجيش الأردني، بينهم يوسف أبو زينة الذي هُجّر وعائلته من الرملة، ولجأوا إلى صفّا باعتبارها الأقرب لعودتهم.

“حبوب سنبلةٍ تموت، ستملأ الوادي سنابل”

في أعلى مرج السوس في قرية دير قدّيس، استعدّت المدفعيّة لمساندة تقدّم الثوار من الجهة الشمالية المقابلة لموقع المواجهة. بدأت ساعة الصفر للمعركة بتقدّم الثوار ليلاً، وقد تجمّعوا في حرش جبل “الظهر” المليء بالأشجار. مثّل الحرش مكاناً استراتيجيّاً للتخّفي والمواراة عن أعين الصهاينة، مُجسِّداً بؤرةً معتمةً مقابل انفتاح مدى الحقول الزراعيّة على الأفق.

ظلّ الثوّار متيقّظين حتى بزوغ الفجر. ومع أوّل خيطٍ للصباح انجلى، وصلت الكتيبة الصهيونية بعتادها، قادمةً من طريق وادي الملائكة، لتقع في كمين الثوار، وتنطلق أولى رصاصات المعركة. يختلف أهالي صفّا حول التاريخ الدقيق للمعركة، والتي أُطلق عليها أيضاً معركة وادي الملائكة، إلا أنّ تقديراتهم تشير إلى أنّ المعركة وقعت بين شهري آذار ونيسان ١٩٤٨، حيث كان الزرع قد ارتفع وشكّل غطاءً للثوّار في تقدّمهم. كما وارى الزرع جثثَ الصهاينة التي تساقطت تباعاً، ليجدها أهالي صفّا في شهر تموز في موسم الحصاد.

على مدار نحو ثماني ساعاتٍ، امتدّت الاشتباكات العنيفة في رحى معركة الكرسنة، استخدم فيها الثوار رشاشات برن وستن، وما في جعبتهم من بنادق إنجليزيةٍ قليلة. وفي ظل شح الأسلحة ونقص الذخيرة، قرر الثوار الثلاثة (خليل إبراهيم أبو حسنة، عبد اللطيف ابراهيم جودة، وعلي محمد الشيخ أحمد “اللولية”) التقدّم وجمع سلاح العدو خلال المعركة. غير أنهم وقعوا في كمين أحد الجنود الصهاينة الذي ادّعى الموت، ليرتقي الثوار الثلاثة شهداء، ويعودوا مُحمّلين على أكتاف رفاقهم الذين استمروا بخوض المعركة لساعاتٍ طويلةٍ. ظلّ هؤلاء يقاتلون بلا هوادة، مستعدّين بذل أرواحهم كرمى الوطن وشهدائه.

وصل الشهداء الثلاث القرية، محمولين على أكتاف رفاقهم، في تشييعٍ مهيْب، ليدفنوا في ثراها على قبالة التلة التي شهدت تلاحمهم مع العدو، في معركةٍ ضاريةٍ سطّرت انتصاراً تحفظه الذاكرة الشعبية لأهالي القرية إلى يومنا هذا.

وبعد ٦٥ عاماً على استشهاد الثوّار الثلاثة، حمل شبان صفا نصباً تذكارياً على أكتافهم وصولاً إلى قبرهم، وخطّوا عليه: “استشهدت هذه المجموعة دفاعاً عن فلسطين في منطقةِ الكريسنة التابعة لأراضي صفا”، ويختم النصب بالبيت الشعري، “حبوب سنبلةٍ تموت، ستملأ الوادي سنابل”.

يُقال إنّ معركة الكرسنة خلّفت من وراء نيرانها سبعة شهداء من الثوّار، بينهم ثلاثةٌ من قرية صفا، واثنان من الجيش الأردني، واثنان آخران من القرى المجاورة التي هبّت للإسناد. فيما تشير التقديرات إلى أنّ قتلى العدو كانت مضاعفةً، إضافةً إلى ما استنزفته المعركة منهم من أسلحةٍ وذخيرة.

“لا تردّون على جلوب باشا”

لعبت المدفعيّة المتمركزة في مرج السوس دوراً مهماً في مساندة الثوار والتغطية عليهم أثناء المعركة، وإنْ جاء تدخّلها متأخراً. كان محمود عبيدات، من بلدة حرثة قضاء محافظة إربد الأردنيّة، أحد جنود المدفعيّة في حينها. لا يزال عبيدات يتحسّس إصابته في رأسه، وكلّما لامسها، أخذَ يروي لمن يحيطه عن معركة الكرسنة وبطولة الثوّار.

يروي محمود عبيدات مجريات المعركة التي خاضها، مخالفاً الأوامرَ العسكريّة: “حدث في ساعات الفجرِ الأولى أن تَقَدّمت القواتُ الصهيونيّة التي تم كَشفها من قِبَل مواطنين من قريةِ صفا، لتخوض الأخيرة أول اشتباكاتها في حينها. تناقلت الأخبار إلى القرى المجاورة فالتمّ الثوار وكثر الحشد”.

يكمل عبيدات: “أمّا الجيش الأردني فلم يتدخل إلا وقت الظهيرة في ذلك اليوم، بعدما اشتدّت وتيرةُ المقاومة. وكان التدخّل آنذاك بقراراتٍ ذاتيّةٍ للجنودِ المتمركزين في مرجِ السوس، مخالفين بذلك أوامرَ القيادة العليا للقوات العربية، بأمرٍ من عبد الله بيك الذي قدّم نفسه قائداً شجاعاً في المعركة، قائلاً ” لا تردّون على جلوب باشا”. [3]

كان لقرارِ مشاركة القوات الأردنيّة المتمركزة في مرج السوس دورٌ بارزٌ في حسم المعركة لصالح الثوّار. على الرغم من ذلك، تجلّت مكافأة عبد الله بيك في إحالته من منصبه، ويُقال إنّ جلوب باشا خلعَ البزّة العسكرية عنه، نظراً لمخالفته الأوامر العليا.

بئرٌ من الدماء

بعد أشهرٍ من المعركة، عاد الفلاحون إلى أراضيهم لحصد محاصيلهم، ليتعثّروا بين سنابل القمح بآثار المعركة وبطولة ثوّارها. لا تزال جثث الجنود الصهاينة في مكانها، كما أسلحتهم وذخائرهم. تروي زهية “أم زهير”، زوجة محمد يوسف أحد ثوّار المعركة، وقد كانا في حينها عروسين حديثين: “ظليّنا بعد بسنة تقريباً، وكنا نلاقي القتيل مثل ما هو في بدلته العسكرية وبحاله، في منطقة الكريسنة واللوطة الشامية وخربة الدالية اللي كانت منعوفة من كثر اليهود المقتولين”.

يتناقل أهل القرية أنّ البئر الواقع على أرضِ مرج “برغال” القريب من الكريسنة، استحالت آنذاك بئراً من الدماء، تضجّ بقتلى العدو الصهيوني. وتضيف زهية أنّ العصابات الصهيونيّة كانت تعرض الأموال مقابل استعادة جثث قتلاها ورفاتهم، وبقيت تخشى العودة إلى المكان، رغم تدخّل الصليب الأحمر وإخلائه بعضَ الجثث. ويبدو أن بعض القرويين امتهن ذلك، متّجهين إلى جمع جثث القتلى الصهاينة وملابسهم وذخائرهم، لبيعها إلى الصهاينة.

صفّا على خطّ النار

بعد سقوط اللد والرملة، باتت قرية صفّا على خط النار، بوصفها إحدى القرى التالية المستهدفة في الجزء الثاني من عملية “داني” التي نفّذتها ألوية “يفتاح”، بغرض الاستحواذ عليها نظراً لموقعها الاستراتيجيّ الهام. تقع صفّا مباشرةً على خط طريق رام الله – اللطرون، ليتوجّه المرء جنوباً نحو عمواس و باب الواد، حيثما واجهت العصابات الصهيونيّة معاركَ أخرى حاميةً شكلت ضربةً قاصمةً لها، كمعركة اللطرون والمعركة الأهم في باب الواد.

ظلّت صفّا على المدى البعيد وبعد النكبة تواجه هجمات الصهاينة، نظراً لوقوعها على خط الهدنة “الخط الأخضر” الذي أكل جزءاً من أراضيها. دفع هذا أهالي القرية إلى تشكيل لجان حراسةٍ لحمايتها وأراضيها، وتأمين الفلاحين من عمليات تسلّل العصابات الصهيونية. استُشهد على إثر ذلك، بتاريخ ٣/٣/١٩٥١، ثلاثة أقمار من القرية، وهم: الشهيد حمودة محمود عبد الرحمن كراجة، الشهيد سليم عبدالله حميدي كراجة، والشهيد محمود علي شحادة. ويُذكر لصفّا من بعدها باعٌ طويلٌ في مقاومة الاستعمار، أهمّها العمليّات التي أشعلت حافلات المستوطنين في الانتفاضتين. جادتْ القرية بقائمةٍ طويلةٍ من خيرة شهدائها الذين عمّدوا بدمائهم درب التحرير.

وفي أفراح صفّا، لا يزال يعلو الغناء مسترجعاً بطولة ثوار القرية في معركة الكرسنة:
هبّت النار في راس كريسنة
صار الرصاص يعفر عفر الكريسنة
هبت النار والبارود يا فدائي
في الكريسنة الرصاص يلالي

بقيت حكاية معركة الكرسنة راسخةً في وجدان الأجيال المتلاحقة، وحاضرةً معهم، لتذكّرهم بنضالهم الجماعي من أجل الوطن والأرض. ويبقى وادي الكريسنة شاهداً على دماء شهداء رووه دفاعاً عن قراهِ المحيطة.

كلّ تحايا المجد إلى شهداء قرية صفا منذ عام ١٩٤٨: الشهيد حسين عبدالله الشيخ أحمد كراجة، الشهيد خالد علي الناجي نصر كراجة، الشهيد محمد يوسف أبو أسعد فلنة، الشهيد خليل إبراهيم أبو حسنة نصر كراجة، الشهيد محمد احمد الشيخ احمد كراجة، الشهيد عبد اللطيف إبراهيم حسين ناصر كراجة، الشهيد صالح داوود أحمد عثمان، الشهيد محمود مصطفى ضيف الله، الشهيد حمودة عبد الرحمن نصر كراجة، الشهيد سليم عبد الله الحميدي منصور كراجة، الشهيد محمود علي شحادة، الشهيد أسعد نمر أبو أسعد فلنة، الشهيد مصطفى سعيد أبو أسعد فلنة، الشهيد محمد مصطفى معالي، الشهيد جمال حسين الحاج نصر كراجة، الشهيد حازم رضوان علي شحادة، الشهيد شعبان رجب ناصر كراجة، الشهيد محمد عيسى موسى غانم، الشهيد وائل فخري نصر كراجة.