في قصة المدفع، كان على سعيد الحمضوني أن يبذل دمه “الجيّد” مرتين؛ الأولى ببيعه لمشفى السلّ في أبو “كبير،” ليجمع ثمن المدفع الرشاش؛ أمل قرية سلمة اليافيّة الأخير لصد الهجوم الصهيوني في عام النكبة، والثانية عندما ثبّت ماسورة المدفع المعطوبة بكفيّه العاريتين في أوج المعركة: “وعلى صوت الطلقات المتقطعة بانتظامٍ وعنفٍ.. أحسّ سعيد الحمضوني بأشياءَ كثيرةٍ .. كأنها ملايين الإبر تدخل في شرايينه، فتسلُبه ما تبقّى من دمِه”.

في بداية القصة، يُحدّثنا الشهيد غسان كنفاني عن سعيد الحمضوني الذي صار “يملأ القرية كلّها” ويحيطُ بتاريخه الغموض. وإن كانت الأقاويل تتهامس عن ماضيه المقاتل في ثورة الـ1936، فإنّ سعيداً لا يتحدث عن الماضي، بل دائماً ما يتحدّث عن المستقبل، حتى صار الصبيان يربطون به “كلّ أحاسيسهم وتخيُّلاتهم التي يرسمونها للرجل الممتاز“. لعلّ سعيد الحمضوني هو بذرة شخصية “العاشق” في رواية كنفاني غير المكتملة التي كانت ستروي ملحمة المقاومة الفلسطينية منذ بدايتها.

أرسل كنفاني الحمضوني إلى شهادةٍ قاسيةٍ مُؤلمةٍ، لا مثيلَ لها في كلّ أدبه، جعل مقدّماتها علاقةً استثنائيةً بين المقاتل والسلاح: الفلسطيني-المدفع، وهذه العلاقة لا مثيلَ لها أيضاً في كلّ أدبه الزاخر بقصص الرجال والبنادق. لقد حوّل دمّ سعيد المدفوع ثمناً للمدفع سعيداً إلى جزءٍ من المدفع: “إن سعيد الحمضوني أصبح الآن ضرورةً مُكمّلةً .. بل أساسية للمدفع، وعندما يتحدّث الناس عن سعيد، كانوا يشعرون أنّه أداةٌ من أدوات المدفع المعقّدة .. شيءٌ كحبل الرصاص، كقائِمتيْ المدفع .. كالماسورة: كلٌّ متماسكٌ لا تنفصل أطرافه عن بعضه“.

لم يمت الحمضوني بطلقةٍ أو انفجارٍ يبدّد جسده وحواسه دفعةً واحدةً، بل كان موتاً بطيئاً ممتدّاً متعدّداً قاسياً أشبه بطقسِ تعذيبٍ، وكي يَعبُر سعيد من بشاعة الموت إلى جمال اختيار القدر، “كم هو بشعٌ الموت .. وكم هو جميلٌ أن يختار الإنسان القدَرَ الذي يريد”، كان عليه أن يُصهر في تنّور سلمة: 

“أغمض عينيه، وحاول جاهداً أن يحرّر نفسه من سجن ذاتِه كي ينسى ألمه .. لكنه لم يستطع .. فأسقط رُكبته على الأرض في ثِقلٍ… ثم شعر بأطرافه جميعها تنكمش كأنّها ورقةٌ جافّةٌ في نهاية الصيف.. وبُجهدٍ شرسٍ حاول أن يرفع رأسه ليشُمّ الحياة، إلا أنه وجد نفسه فجأةً في تنّورٍ من ذلك النوع الذي يكثُر .. في السلمة، والذي عاش إلى جواره فتراتٍ طويلةً من صِباه، وجد نفسه في ذلك التنّور جنباً إلى جنبٍ مع الأرغفة الساخنة تحْمرُّ تحت ألسنة اللهب، ورأى بعينيه فقاقيع العجين المُلتهِبة، تطير عن رغيف المرقوق وتلتصق على شفتيه، وشعر بيدٍ قاسيةٍ تشدُّ رأسه إلى أدنى .. إلى أدنى .. إلى أدنى .. فيسمع لفقرات رقبته صوتاً مُنتظماً ثقيلاً وهي تتكسّر تحت ثِقَل رأسه .. وأحسّ أنه فعلاً لا يريد أن يموت، وأعطته الفكرة دفقةً أخرى من الحياة”.

مع كلّ هذا، لا يُشعرنا غسّان أننا في حضرة الإنسان- المدفع، أمام بطلٍ خارقٍ، من غير طينة البشر، قادمٍ من الأساطير، كان عليه أن يموت مصهوراً بنار السلاح الذي اشتراه بدمه، فمنذ البداية يقول لنا غسان: إن سعيداً “الرجلُ الجبّارُ … الهادئُ … الثائرُ” هو “وليدُ المغامرة القاسية“. لعلّ مُسمّى “المغامرة” يُحيل إلى ثورة الـ1936 بآمالها السعيدة ومآلاتها الحزينة، في شخصية الحمضوني ما يغوي بالقول بالبطل الفلسطيني المُطلق في حياته وموته.

ما تبقى من سعيد الحمضوني في زمن الخيانة

يُحدّثنا كنفاني، في دراسته عن أدب المقاومة في الأرض المحتلة: “مَنْ الذي يهتمّ بالمقاييس الباردة والنظرية (للنقد الأدبي) في وقت تدخُل فيه الحكاية كقطعة لحمٍ في المعركة الراهنة؟“. تقول العبارة بالحكاية الحيّة من لحمٍ ودمٍ، تدخل المعركة الحيّة من لحمٍ ودمٍ. تتأسّى الكثير من الكتابات حول أدب غسان، بكونه أدباً انتهى زمانُه بانتهاء المعركة الواضحة والفدائيّ الذاهب إلى الانتصار. وتحتفل به كتاباتٌ أخرى أدباً تحريضيّاً بمقولاتٍ مُختزلةٍ، لا تزيد إلا الشعور بالاغتراب والانفصام عن زمانٍ بائسٍ تجاوز التّيه إلى تسيُّد الخونة عليه.

يأخذ نص كنفاني راهنيّته الدائمة من ديمومة الجحيم الفلسطيني تحت الاستعمار. يُغلق كنفاني بكلّ قسوةٍ كلَّ الأبواب أمام الفلسطيني للتحايل على هذا الجحيم، ويُعرّي كل ألاعيبه النفسية للتعايش معه، فيقول في إحدى رسائله: “الاحتيال يتهاوى… ونستطيع أن نخدع كلّ شيءٍ ما عدا أقدامنا“.

ولا أعني بالجحيم الفلسطيني، الفلسطينيَّ كضحيةٍ لهذا الاستعمار، وإنما الاستعمار الصهيوني كاختبارٍ قاسٍ :المواجهة أو السقوط في العار؛ أن تكون فلسطينياً أو لا تكون!

لا يَخفى المنحى الوجوديُّ في أدب غسان، ولكنه منحىً تاريخيٌّ، يحكُم خياراتِه الواقعُ الحيُّ، حيث الإرادةُ ذاتُ تاريخٍ تصنعُه الاختبارات المُتتالية، وليست تمرّداً بلا عنوانٍ وضدّ قوىً غيبيةٍ كالقدر والزمان. ولأنّ غياب السلاح هو في الحقيقة غيابُ إرادة السلاح، قاتل سعيدٌ من أجل أن يُقاتِل؛ من أجل أن يصنع ظروف قتاله، ونزف ليموت مصهوراً، وكأنّ مأساة فلسطين صنعت من الفلسطيني نوعاً خاصّاً من البشر، تتساوى هويّته مع مصيره في مواجهة عدوّه. يقول الناقد الفلسطيني الراحل يوسف سامي اليوسف مُعلّقاً على نهاية “رجالٌ في الشمس” في الصهريج: “مصيرُكَ هويّتكَ، وهويّتكَ مصيرُكَ“، وقال سعيد الحمضوني: “إمّا المدفع .. وإمّا جهنم“.

بشّرت الثورة الفلسطينية المُعاصرة بولادة الفلسطيني المُقاتل المُتحرّر من عاره وعُقدة الذنب، الذاهب إلى استرداد أرضٍ خانتها الأنظمة العربية، وانتهت – هذه الثورة – إلى خيانةٍ مُضاعفةٍ للوعد والأرض وإلى عارٍ جديد. وإذا كان على الفلسطيني أن يواجه “أنظمةً شقيقةً” ليصل أرضه مُقاتِلاً، فإن عليه اليوم أن يقاتِل ليُحافظ على جلده رقيقاً حسّاساً لا يستمْرِئُ الخيانة والتعاون مع العدو؛ أن يُقاتِل ليُحافظ على إحساسه المرير بعُقدة ذنبه وعارِه!… لا يُشبه مدفع سعيد الحمضوني شيئاً مثل “الكارلو”، ولا يشبه سعيد الحمضوني أحداً مثل شهداء الهبّة الشعبية المُعلّقين على حافّة التراب في أبو كبير.           

(عودةٌ إلى “أبو كبير”، حيثُ باع سعيدٌ دمَه ثمناً للمدفع)

يُحدّثنا تاريخ “أبو كبير” أنّ عُمّالاً وفلاحين مصريين قَدِموا من بلدة التل الكبير المصرية، في عهد إبراهيم باشا، ليسكنوا يافا  وأسموْا مستقرّهم الجديد في يافا بـ”أبو كبير”،  نسبةً إلى مسقط رأسهم بلدة التل الكبير.

ويُخبرنا تاريخ بلدة التل الكبير عن بطلٍ مُقاتلٍ اسمه محمد عبيد، بقي صامداً مُقاتلاً عندما انسحب الجميع، مُحتضِناً مدفَعه، حتى صَهرت حرارةُ المدفع جسدَه، ولم يُعثر له على جثّةٍ. حدث ذلك في معركة التل الكبير 1882، حيث سحق الإنجليز جيش الثورة العُرابية بفعل الخيانة.

خلّدت الذاكرة الشعبية البطل محمد عبيد، وليّاً من أولياء الله الصالحين، وصار اسمه مولانا محمد عبيد، وقيل إنه بعد تناثُر جسده، يتنقّل لمقاتلة الإنجليز في كلّ مكانٍ وزمانٍ. يحدثنا الروائي بهاء طاهر عن قصّة مولانا محمد عبيد، المطعون بالخيانة، في رواية “واحة الغروب”:   

“أسأل نفسي طوال الوقت عن الخيانة. سألت نفسي كثيراً: لماذا خان الباشوات الكبار الذين يملكون كلَّ شيءٍ؟ ولماذا يدفع الصغار دائماً الثمن؛ يموتون في الحرب ويُسجنون في الهزيمة، بينما يظلّ الكبار أحراراً وكباراً؟ وسألت نفسي: ولماذا يخون الصغار أيضاً؟ لماذا خان الضابط يوسف خنفس جيش بلاده في التل الكبير، وقاد الإنجليز ليغْدُروا به ويفتِكوا به ليلاً؟ كيف كان يفكّر وهو يرى مدافع الإنجليز تحصُد إخوانه ورِفاق سلاحه الذين كان يأكلُ معهم وينامُ معهم ويضحكُ معهم؟ وهل وقعت عيناه على زميله  الضابط محمد عبيد، وهو رابضٌ على مدفعه وسط الفوضى والهزيمة، يطلق النار على الإنجليز حتى صهرته حرارة مدفعه كما سمعنا؟ كم أحبَبْتُه وكم أَحبّه الناس! لم يُصدّقوا أنه مات.  يقولون بأنه غاب فقط . يسمونه الشيخ عبيد، ويقولون إنه شوهِد في الشام، ومرّةً في الصعيد. ينتظرون رجْعتهُ ليواصل الحرب ضدّ الإنجليز! لكنّه يظلّ حُلُماً، أما يوسف خنفس فهو الحقيقة الباقية. لماذا يرحل عبيد في عُنفوانه مثل طيرٍ يمرُق في السماء بسُرعةٍ، ويعيش خنفس دهراً كأنّه لن يموت أبداً؟ لماذا خان ولماذا نخون؟ ويقول الدليل إن الصحراء تغدُر لمجرّد عاصفةٍ أتتْ في غير أوانها! تعالّ أحدّثك كيف يكون الغدر!”