تستعيد الباحثة قسم الحاج تجربةً مفصليّةً في تاريخ الثورة الفلسطينية، ألقت بظلالها على صناعة الهويّة الوطنيّة. إنّها إذاعة صوت العاصفة التي ارتحلت من مكانٍ إلى آخر، متمسّكةً بسردية الثورة المسلّحة. قراءة طيّبة.

توطئة

تستعيد هذه المقالة تجربةً مفصليّةً في تاريخ الثورة الفلسطينية، ألقت بظلالها على صناعة الهويّة الوطنيّة. إنّها إذاعة صوت العاصفة التي ارتحلت من مكانٍ إلى آخر، متمسّكةً بسردية الثورة المسلّحة، وشاهدةً على الصدام مع حكوماتٍ عربيّةٍ عدّةٍ.

من جهةٍ، تمثّل استعادتها كشفاً لدورها كرأسمالٍ محكيٍّ في تأجيج المشاعر الوطنيّة في حينها، وتصوّر فلسطين المستقبل. وإذ مثّلت أغاني الإذاعة التحاماً بالحدثين السياسي والعسكري، فإنّ رحلة نبشها من جديدٍ تشكّل استحضار سجلٍ تاريخيٍّ زاخرٍ ينطق بممارسات “فتح” والمنظمة ومواقفهما في حينها.

من جهةٍ أخرى، يمكننا قراءة رحلة استحضارها كأرشيفٍ حيٍّ شاهدٍ على التحوّلات الجذريّة لكلٍّ من “فتح” ومنظمة التحرير، والانقلاب على ما كانت تنضح به تلك الأغاني. استدعى الانفصال عن سردية النضال الثوري وتبنّي أخرى “دولاتيّة” تسير بثقةٍ نحو السلام، إنتاجاً فنياً مغايراً يتّسق مع شعارات “الدولة” على سبيل “ازرع تفاح، ازرع ليمون”.

وبينما يعتبر بعضهم تجربة الإذاعة محض محطّةٍ ماضويّةٍ ومضتْ، ثمّة من يحييها من أصحاب مشروع “الدولة” لتنظيف الحاضر بعين الماضي، كرمزيّةٍ عابرةٍ للسياق والزمن المختلفين. ومع ذلك، لا تزال تشكّل تلك الأغاني عند كثيرين خيالاً مستقبليّاً عن فلسطين بعينها، كوسيلةٍ احتجاجيّةٍ على مآلات التجربة، وكتعبيرٍعن هويّةٍ وطنيّةٍ لا يزالون يعيشون على وقعها.

****

لطالما شكّلت الثقافة الشفاهيّة الأرضيّةَ البكر للثقافات والحضارات القديمة كالحضارة الإغريقيّة وملاحمها الأسطوريّة. فمن مجتمعات الشفاهة، وُجدت اللغة أولاً ووُجد تدوينها، لاحقاً، فانوجدت الكتابة. وإذ تعتمد الثقافة الشفهيّة على الاستماع والأذن، فهي حاسةٌ للزمان والتلقّي، كما يصفها عبد السلام بن عبد العالي، [1] ما يكسبها ملامحها المميّزة لها عن غيرها من أشكال التعبير الثقافي، فالأذن والسماع يوجبان القُرب والحيازة حيثما لا يمكن السماعُ من بعيدٍ.

وبما أنّ الثقافة الشفهيّة ترتبط بشكلٍ أساسيٍّ بموضوع الإرسال والتلقّي، فإنّ لها أبعاداً رمزيّةً عميقةً في صناعة الثقافات والحضارات والأمم، رغم أنّ التساؤل حول موقع الشفاهيّة في صناعة القوميات يبقى مفتوحاً ومثيراً للجدل. ورغم أهمية الموسيقى والأغاني، إلا أنها لا تندرج ضمن رأس المال الطباعيّ، إلا بعد أن تتحوّل إلى ثقافةٍ مدوّنةٍ أو مكتوبةٍ، وذلك تبعاً لـ”بندكت أندرسون” في أطروحته حول الرأسمال الطباعيّ ودوره المركزي في صناعة القوميّات الحديثة.

وعليه، ننطلق من ادعائنا في هذه الدراسة بأنّ الرأسمال الشفهي/المحكيّ، بتعبير زياد فهمي، يحمل أهميّةً كبرى في صناعة الهويات السياسيّة والثقافيّة، والتأثير على سيرورة التاريخ بالمجمل. ذلك أنّ الثقافي لا ينفصل عن السياسي، بل هما توأمان ونظيران لا ينفصلان. بذا، سندرس أغاني الفرقة المركزية، التابعة لإذاعة صوت العاصفة، التابعة بدورها لمنظمة التحرير الفلسطينيّة، وسنبيّن دورها وأهميتها في صناعة تاريخٍ محكيٍّ للثورة الفلسطينيّة والفدائيين الفلسطينيين في الفترة الممتدّة بين 1967-1982.

الأغنية السياسيّة والرأسمال المحكيّ

ينشغل زياد فهمي في تنظيراته حول دور اللغة والموسيقى والأغاني في صناعة الثقافة وخلق هويّةٍ وطنيّةٍ مصريةٍ بُعيْد العام 1908 في الفترة التي تُعتبر الأخيرة في حياة الإمبراطورية العثمانيّة، بأن يضيف إلى أطروحة “أندرسون” حول الرأسمال الطباعي، بالقول إنّ الرأسمال الإعلامي هو الأكثر مناسبةً للتنظير حول صناعة الهويات الجمعيّة. [2] 

يعتبر فهمي أنّه من خلال الرأسمال الإعلامي، لا يمكن إغفال دور “التاريخ الأخرس/الصامت” الذي يعدّ وصفاً لصيقاً بالتأريخ العربي المعاصر. يعاني الأخير، بنظره، من صمته لعدم إيلائه الأهمية الكافية للصوت في عملية التأريخ التي يعدّها عمليةً منقوصةً إذا ما أهملت عنصر الصوت في فهم التجربة الماضية المبحوثة. [3]  يدعم فهمي تنظيره بالمحاججة بأنّه كون اللغة العربية لغةً مزدوجةً بين فصحى وعامية- وهذا امتيازٌ لها عن اللغات الأخرى- فإنّه غالباً ما يجري تجاهل دور الثقافة الشفاهيّة العامية في التنظيرات الحديثة لنشأة القوميات، وتحديداً التنظيرات الغربيّة. [4]

إنّ الثقافة المحكّية صنوٌ وازدواجٌ للغة الفصحى في العربيّة، وهذه الثقافة برأي فهمي تعمل، وبشكلٍ لا يستهان به، على تحفيز إنتاج هويةٍ جماعّية مشتركةٍ بين الناطق والمستمع في الثقافة المحكيّة ذاتها. هذا مدخلٌ مهمٌ لإعادة قراءة فاعليّة الموسيقى ودورها في التأثير على صناعة الهويات لكوْنها قناةً سمعيّةً بأصلها، وهذا يُدخلها في مصاف الحديث عن ازدواج الثقافة الشفاهيّة والكتابّية، معيداً النظر إلى دور الشفاهيّة في التأصيل التاريخي.

بيْدَ أنّه لتحقيق ذاك الدور، فإنّ المسألة تتطلّب انتشاراً وتعميماً يقودان إلى خلق هويّةٍ قوميّةٍ وطنيّةٍ على اختلاف الجغرافيّات. يرى فهمي أنّ أحد أهم الامتيازات التي تحوزها الثقافة المحكيّة واقترانها بأيّ وسيلةٍ تؤدي للانتشار، يتمثّل في صعوبة السيطرة عليها والحدّ من حريتها، بجانب صعوبة التأثير عليها وتغييرها، خلافاً للثقافة المدوّنة التي تتّسم بعملية ضبطٍ وسيطرةٍ أكبر بكثير.

نشأة إذاعة “صوت العاصفة” وتداعياتها

شكّلت فترة الحكم العسكري الصهيوني في الفترة الممتدّة من العام 1967 حتى العام 1982 مرحلةً مهمةً ومضطربةً في القضية الفلسطينية العربيّة. [5] شهدت هذه الفترة عدّة أحداثٍ مفصليّةٍ؛ أهمها هزيمة حزيران في العام 1967، فأيلول الأسود بين الفدائيين الفلسطينييين والجيش الأردني عام 1970، ثمّ خروج منظمة التحرير الفلسطينية إلى لبنان، ومن ثمَّ تونس بعد الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982، ومعركة الصمود الكبرى في بيروت، ومن ثمّ تونس آخر معاقل الفلسطينيين قبل عودتهم إلى البلاد المحتلة عام 1994.

هكذا، شهدت الساحة الفلسطينيّة أحداثاً مهولةً على جميع الأصعدة في مرحلةٍ شكّلت هزيمةً عربيًة كبرى وخيبةً  للأمل في الحلّ العربي الجماعي للقضية الفلسطينية، خاصّةً بعد هزيمة حزيران، إلى أنْ ولدّت معركة الكرامة الأملَ من جديدٍ عام 1968 بظهور الفدائيين الفلسطينيين بشكلٍ رسميٍّ. خلّف ذلك انعكاساً كبير الأثر على الحالة الثقافيّة الفلسطينّية ومضمون الأغاني السياسي المتنوّع.

يمكن تتبّع أثر هذه المرحلة التاريخيّة على صعيد الثقافة الفلسطينيّة في محيطها العربي القومي آنذاك، ذات المركزيّة في مصر والقاعدة في فلسطين، من خلال تقفّي مسار الأغنية السياسيّة الفلسطينيّة في فترة الستينيات، ثم انقلاب مضمونها فيما بعد، خاصةً في فترة السبعينيات التي شهدت ولادة ظاهرةٍ عسكريّةٍ استثنائيةٍ قبل أنْ تكون ثقافيةً، وهي إذاعة صوت الثورة الفلسطينية.

وحيث إنّ “الكلمات مسدساتٌ محشوّةٌ، بحسب تعبير “جان بول سارتر”، فإنَّ للكلمة أيضًا أنْ توجِّه وتقود الأنا وتسيطر على الآخر. ينبع الأمر المميِّز لكلمات الأغنية من كوْنها شفويةً في منبتها، ولا تأخذ خاصيّتها إلّا من خلال عملية النطق، وهذا ما يتجاوز الرأسمال الطباعي إلى ما يسمّى بالرأسمال المحكي/ الإعلامي.

في هذه المرحلة، شكّلت إذاعة “صوت العاصفة” التابعة للفدائيين الفلسطينيين في حركة “فتح” أهمَّ محدَّدات هذه المرحلة السياسية والثقافية، فلم تكن هناك أيّ إذاعةٍ توازيها في متابعة الشأن الفلسطيني ورفع الروح المعنوية للفدائيين ولجمهور المستمعين. لا يعني ذلك أنّ هذه الفرقة هي الوحيدة  التي ساهمت في صنع ثقافة وروح تلك الفترة من خلال الأغاني. إذ كانت هناك بداياتٌ عديدةٌ ومبشّرةٌ في نهاية السبعينيات، وانتشرت بشكلٍ أوسع في الثمانينيّات وفترة الانتفاضة الأولى للعام 1987، لعددٍ من المغنين المنفردين والمشاريع الغنائيّة الجماعيّة الأخرى، مثل أبو عرب، وعبد الله حدّاد، ومصطفى الكرد الذي كان يغنّي من المنفى، وفرقة العاشقين، وفرقة ترشيحا التي أسّسها أبو نسرين.

من القاهرة، ومن البناية رقم 4 في شارع الشريفين الشهير في مصر، شرعت إذاعة العاصفة صوت الثورة الفلسطينية بالقيام بعملها المتواضع كبير التأثير. انطلقت الإذاعة بتاريخ 11 أيار عام 1968، تزامناً مع انتهاء معركة الكرامة. [6] وقد دعم تأسيسها الزعيم القومي العربي آنذاك، الراحل جمال عبد الناصر، الذي لبّى طلباً لحركة “فتح” الراغبة بتأسيس إذاعةٍ خاصةٍ للفدائيين، وذلك بعد أن فشلت إذاعة منظمة التحرير بمضمونها التقليدي في استقطاب الجماهير الفلسطينية والعربية. [7]

كان من بين طاقم الإذاعة في مصر مديرُها ورئيسها فؤاد ياسين، العامل في إذاعة منظمة التحرير الفلسطينية، ومجموعةٌ من الطلاب الفلسطينيين الشباب في مصر، مثل: خالد مسمار، والطيب عبد الرحيم، وعبد الشكور التوتنجي، ويحيى العمرى، وزياد عبد الفتاح، وأحمد عبد الرحمن، وعارف سليم،  ولاحقًا عام 1971  انضمّ لهم نبيل عمرو، وآخرون. [8]

لعبت الإذاعة دوراً رياديّاً في إنتاج أغانٍ ثوريّةٍ نضاليّةٍ تعبويّةٍ كانت تؤديها فرقةٌ غنائيةٌ خاصةٌ تابعةٌ للفدائيين الفلسطينيين، تُدعى الفرقة المركزية التي ساهمت في تعبئة الفدائيين وبثّ روح الحماس الثوري والقتال والطمأنينة في نفوس المستمعين بشكلٍ عامٍ. وكان مهدي سردانة، الفلسطيني خريج جامعة القاهرة، والملحّن المصري عبد العظيم محمد أهم ملحّنَيْن لأغاني/ أناشيد الإذاعة؛ إذ بذلا مع غيرهما من الملحنين جهوداً جبَّارةً  لمناسبة اللحن للأغنية المكتوبة، بغية جعلها سلسلةً للغناء والترداد والتناقل فيما بعد بين الجمهور بخفّةٍ. أمّا صلاح الحسيني (أبو الصادق) ومريد البرغوثي فهما من الكتّاب الملتزمين بكتابة الأغاني، التي كان بعضها وليدَ ليلةٍ واحدةٍ، كتابةً وتلحيناً.

وحول ذلك، يسرد فؤاد ياسين إحدى المواقف التي واجهها أبو الصادق حين أجبره الأوّل إجباراً محبّباً على كتابة بعض الأغنيات في ليلةٍ واحدةٍ حتى تكون جاهزةً للبثّ في اليوم الذي يليها، فنتجت أغنية “أنا ابن فتح” في تلك الليلة من شهر أيار عام 1968. تُعتبر الأغنية مثالاً على الأغاني ذات الإيقاع المسترسل والحادّ، والتي يمكن غناؤها دون الحاجة إلى فرقةٍ موسيقيّةٍ مساندةٍ لها. 

أمّا افتتاحية الإذاعة فكانت ناطقةً بما يوحي بمضمون إنتاجها الإذاعي على النحو التالي:

(بسم الله الرحمن الرحيم: “إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً”/ صوت العاصفة/ صوت فتح، صوت الثورة الفلسطينية).

اقترح القائد الأعلى للقوات المسلحة، حينذاك، الراحل ياسر عرفات (أبو عمار)، افتتاحيةً موسيقيّةً تلحينيّةً تكون بصمةً خاصةً بالإذاعة، فكان اقتراحه عبارةً عن مقطوعةٍ ملحّنةٍ مستمدّةٍ من موسيقى البولونيز، [9] وهي من تلحين وتأليف الموسيقيّ “شوبان” كرمزٍ للمقاومة ضد النازية، لما فيها من تضحياتٍ بطوليةٍ كبرى، وقد كانت لحناً فريداً للبرنامج. [10]

أمّا الأغاني التي بثَّتها الإذاعة فكانت بمثابة بيانٍ ثوريٍّ أو تعليقٍ سياسيٍّ على بعض الأحداث، يلقي بعين الانتباه إلى “ملاصقة الحدث العام ومتابعة الحدث الخاص”، [11] مع ضرورة مراعاة قصر مدّة الأغاني، والحرص على جديَّتها وسلاسة نغمها وفكرتها دونما تعقيدٍ أو إثقالٍ في حمولتها الفكريّة والسياسيّة.

يُضاف إلى هذا اعتبارٌ هامٌّ  تمثّل في تأدية الأغاني بصوت الفرقة الجماعي والابتعاد عن الأغاني الفرديّة. وتجدر الإشارة إلى عدم إعلان الإذاعة، حينها، أسماء المغنيين مراعاةً لخصوصية صوت العاصفة، والحيلولة دون رغبةٍ في شهرة أسماء المغنين؛ ذلك أنَّ المشروع الجماعي الذي كانت تحتضنه الإذاعة أعلى وأسمى من أيّ مشاريعَ فرديّةٍ أخرى قد تنشأ على الهامش. [12]

حرصت أغاني العاصفة على مخاطبة جميع أطياف الشعب الفلسطيني في أماكنه المختلفة، مركّزةً على مفاهيم الثورة والمقاومة بطريقةٍ تمكّن الأغنية من أن تكون تعليقاً سياسيّاً مرافقاً للحدث، مبتعدةً بذلك عن إنتاج أغاني الشوق والحنين. [13] تعتبر أغنية  “مش منّا” مثالاً على ذلك؛ إذ إنَّها بمثابة تعليقٍ سياسيٍّ يُجمل موقف حركة “فتح” حينذاك تجاه كلّ التيارات السياسية المعارضة لها على المستوى العربي. [14] يأتي ذلك نتيجةً لخوض منظمة التحرير الفلسطينية عدداً من المواجهات مع الأنظمة العربيّة، وخاصة التي كانت تستضيف المنظمة، مثل مصر وسوريا والأردن ولبنان على وجه التحديد.

تقول الأغنية:

مِشْ مِنّا أَبَدًا مِشْ مِنَّا
اللّي يساوِمْ عَلى مَوْطِنّا
اللّي يفاوِضْ واللّي يصالِحْ
واللّي يطعَنْ ظَهْر مكافِحْ
مِشْ مِنّا

تنسحب الحال نفسها على أغنية “لنسقِط المؤامرة” التي ألمحت إلى المؤامرات التي كانت تحيكها بعض الدول العربية تجاه منظمة التحرير الفلسطينية وقيادة الثورة، وخاصّةً حكومة الأردن التي كانت ترى في نفوذ الفدائيين الفلسطينيين في الأردن تهديداً لأمنها ومدى سلطتها.

لِنُسْقِطَ المؤامَرَةْ
وَلْنَقْطَعَ اليَدَ المُتاجِرَةْ
بِلَحْمِ شَعْبِنا
بِجُرْحِ أَرْضِنا
لِنُسْقِطَ المُؤامَرَةْ

بهذه الطريقة، كانت الأغنية الثورية خطاباً جليّاً يُجمل موقف الحركة الوطنية الفلسطينية، والفدائية تحديداً، وما يمنح هذا الخطاب مُزْيَته تجاوزُه الخطاب السياسي التقليدي إلى خطابٍ جماهيريٍّ أوسع، مع إيقاعٍ قويٍّ ومتماسكٍ يجعل من السهولة بمكان تأثيره على المستمع وتناقله بين الجمهور. يحضر كذلك عاملٌ هامٌ في تقنيات الصوت، حيث يظهر اللحن حاداً وجديّاً يعكس روح التحدي، ونغم الموسيقى الحربية التي تتجلى في أغاني الفرقة المركزية بالجُمل القصيرة، والحاسمة والحازمة في آنٍ معاً.

 يمكن ملاحظة ذلك في أغنية “طوّق يا عدوّ طوّق”، والتي أتت كردٍ غنائيٍّ على تطويق  بلدة دورا في محافظة الخليل لعدّة أشهرٍ، بحثًا عن فدائييْن هما باجس أبو عطوان- أبو شنار، وعلي أبو مليحة. وقد أرهقا العدو في البحث عنهما وهما مطاردان حتى  استشهادهما. [15]

طَوِّقْ يا عَدُّو طَوّقْ .. مَدينِتْنا وقَريِتْنا وِشارِعْنا وِحارِتْنا ..
واسجِنْ أَهِلْنا وشتَّتْ .. يمينَ الله، يمين الله
عَنِ الثَوْرَةْ ما نِتْخَلَّى .. وَلا بِنْحيدْ.. يَمينَ الله

بذا، كانت أغاني العاصفة حينها ردَّ موقف حركة “فتح” السريع والمقتضب على الصعيدين الوطني والسياسي. ولأنَّ الإذاعة تحت إشراف تنظيمٍ فدائيٍ، فلا غرابة في أن تكون بمنطوقها ومواقفها تابعةً لهذا التنظيم وخطابه السياسي. لم يكن جمهور الإذاعة يستمع إلى إذاعةٍ فحسب، بل كان يستمع إلى ثورةٍ، [16] ما تطلّب مجهوداً كبيراً في محاولة إيصال الكلمة المنطوقة إلى مصاف الفعل الفدائي أو الحركي على أرض الواقع، بالاعتماد على ما توفِّرُه خاصية الإذاعة والكلمة المنطوقة من رأس المال المحكيّ.

ولشدَّة ما كانت الإذاعة ناطقةً بحماسٍ متقّدٍ بحال الفدائيين الفلسطينيين، وقريبةً من الأرض المحتلة، حتى غلب الاعتقاد أنّها تبثّ من داخل فلسطين ومن أحد الخنادق؛ إذ لم يتوقّع كثيرون أن يكون بثّ الإذاعة من أشْهَر شارعٍ في القاهرة؛ شارع الشريفين القريب من الشارع الذي يضمّ المسرح الذي كانت تغني على خشبته أم كلثوم أغانيها وأشجانها. [17]

الإذاعة والحكومات العربية: الإذاعة المهاجرة

إلى حدٍّ ما، كانت إذاعة صوت العاصفة مستقلَّةً بقراراها وموادها الإذاعية، بعيداً عن تدخّل الدول العربية المستضيفة لها، لكن ذلك لم يطُل كثيراً حتى أغلق الرئيس المصري الراحل “جمال عبد الناصر” الإذاعة من القاهرة عام 1970. مثّل هذا الإغلاق بدايةً لتشتّت كوادر الثورة الفلسطينيّة في بقاع العالم العربي والعالم بالمجمل، فما إنْ يستقر الفدائيون في مكانٍ حتى يرتحلوا قسراً إلى مكانٍ آخر، بسبب اختلافٍ في الرؤية السياسية بينهم وبين الحكومات العربيّة الديكتاتوريّة المستضيفة لهم.

تفرّق كادر الإذاعة بعد الخروج من القاهرة إلى عدَّة دولٍ عربيّةٍ؛ منها الأردن، وسوريا، ولبنان التي مثّلت المحطَّة الأطول والأقسى في تاريخ الثورة الفلسطينية، والتي وصفها الشاعر الراحل محمود درويش ذات مرّةٍ بأنّها بوصلة المحارب. [18]

وقد وُصفت الإذاعة الفلسطينية حينذاك بـ”الإذاعة المهاجرة”؛ إذ كان الفلسطيني مهاجراً ومرتحلاً بكلّ معنى. خرجت القيادة الفلسطينيّة من عمان إلى درعا وبيروت بعد أحداث أيلول الأسود في العام 1970، ونقلت إذاعتها من حي الأشرفية وموقع زمزم 105، إلى درعا (عاصمة حوران)، إلى أن قامت القوات السوريَّة، وبإيعازٍ من الرئيس السوري حينها حافظ الأسد، بتدمير الإذاعة في درعا عام 1973.

ورغم أنَّ الإذاعة كانت متنقلةً، ووجودها في الأراضي العربية المستضيفة مرهونٌ برضى الحكومات، إلّا أنّ طاقم الإذاعة عمل جاهداً على أن يكون عمله مستقلاً عن أيّ تدخلٍ، و”بإرادةٍ فلسطينيّةٍ حرَّةٍ خالصةٍ في إطار برامج الثورة ومبادئها وأدبياتها ومنطلقاتها الأساسية التي نبعت من أعماق الحسّ الجماهيري، وانطلقت من جوف التراب الوطني”. [19]

وكان لصوت العاصفة امتدادُها في البلاد العربيّة والعالم مثل الجزائر؛ إذ كان إرسالها قوياً يغطّي مساحةً واسعةً من أوروبا والأمريكيتين وغرب أفريقيا، علاوةً على إذاعة العاصفة التي كانت تبثّ من صنعاء وعدن وبغداد. [20] في الواقع، لم تكن هذه الإذاعات ذات استقلالٍ تامٍّ، بل كانت الإذاعات الرئيسيّة في كلٍّ من هذه الدول تمنح إذاعة العاصفة مدَّةً معينةً من الوقت كلّ يومٍ لبثّ موادّها من خلالها، وكانت تبثّ أغاني الإذاعة المسجّلة وبعض البرامج التي كانت تنتجها الإذاعة في الدول المضيفة. [21]

مشروع “روجرز” ومحاربة الصوت: الإذاعة خارج القاهرة

أغلق عبد الناصر الإذاعة في القاهرة، على إثر معارضة الفلسطينيين لمشروع “روجرز” الثاني في العام  1970، والذي كان قد قبله هو. [22] ردَّ الفلسطينيون على ذلك بشنّهم هجوماً في الإذاعة على عبد الناصر لقبوله بهذا المشروع الهادف الى إيجاد سلامٍ دائمٍ بين العرب ودولة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، مستنداً في ذلك إلى قرار مجلس الأمن 242. من أهمّ بنود المشروع “أن توافق كلٌّ من إسرائيل والجمهورية العربية المتحدة على العودة إلى وقف إطلاق النار ولفترةٍ محدّدةٍ (90) يوماً”. حينها أوعز الشهيد كمال عدوان، مفوّض الإعلام في حركة فتح آنذاك، للإذاعة بفتح النار على مشروع “روجرز” ومن وقَّع عليه.

ربما لم يكن هذا سبباً كافياً لإغلاق الإذاعة التي افتتُحت بالأساس بدعمٍ من الرئيس المصري نفسه، لكنّ قيام مجموعةٍ فلسطينيّةٍ من الجبهة الديمقراطية بتسيير حمارٍ في شوارع عمان، يحمل صورة عبد الناصر، خلق استياءً لديه، معتبراً ذاك التعبير محض إهانةٍ له، ليسارع بالردّ بإغلاق إذاعة صوت العاصفة في القاهرة. [23]

وأورد محمد حسنين هيكل أنَّ عبد الناصر قال عن هذه الحادثة “لو كنتُ فلسطينياً، لرفضتُ مشروع روجرز، لكن ليس بهذه الطريقة”. [24] ومن الأغاني ذات الطابع الهجومي التي انتشرت في ذلك الوقت تعقيباً على مشروع “روجرز” وموقف عبد الناصر منه:

هذا الموقف مِشْ تكتيكي           هذا المَوْقِفْ صَنْع أَمريكي

تعبّر هذه الأغنية بإيجازٍ عن موقف الفلسطينيين من توقيع الاتفاق والموافقة عليه. بعد وفاة عبد الناصر لاحقاً عام 1970 واستلام أنور السادات سدّة الحكم، أقرَّ الأخير عودة البث الإذاعي لصوت العاصفة من القاهرة عام 1971. أُقرّ حينها إنشاء جهاز الإعلام الموحّد الذي وحَّدَ الإذاعتين الفلسطينيتين في القاهرة: صوت العاصفة: صوت فتح؛ صوت الثورة الفلسطينية، وإذاعة صوت فلسطين: صوت منظمة التحرير، ليصبح اسم الإذاعة الجديدة “صوت فلسطين: صوت الثورة الفلسطينية” التي عادت فيما بعد للتوقّف عن البثّ من القاهرة نتيجةً لخلافاتٍ مع القيادة المصريّة. [25]

من عمّان: إذاعة زمزم 105 وأيلول الأسود

أُنشئ فرعٌ لإذاعة صوت العاصفة في عمان بعد إغلاقها في القاهرة، وقبل إعادة افتتاحها باسم “صوت فلسطين”. سُميت الإذاعة من عمان باسم “زمزم 105” نسبةً إلى اسم موقع اللاسلكي التابع للقائد الفلسطيني الراحل خليل الوزير، وأطلقت الإذاعة بثّها من حي الأشرفية في عمان. [26] وبغرض تقوية بثّها، ساهمت الحكومة العراقيّة في افتتاح فرعٍ لإذاعة العاصفة في بغداد، وأرسلت هناك مجموعة من العاملين في الإذاعة لمتابعة عملها. [27]

تزامنت هذه الأحداث مع تعمّق التوتّرات والخلافات بين الفدائيين الفلسطينيين في الأردن والحكومة الأردنية عام  1970. [33] كانت الإذاعة الفلسطينية في حينها إحدى جبهات القتال؛ إذ لعبت دوراً كبيراً في تشجيع المقاتلين وتناقل أخبار جبهات القتال ساعةً بساعةٍ، لدرجة أنَّ حلول فترات التهدئة كان ينعكس على الإذاعة بتحفيف خطابها الحادّ. [28]

إنّ لأزمة أيلول نصيباً من أغاني فرقة العاصفة، مثل أغنية “فلسطين.. ضيّعوك البياعين”. عكست هذه الأغنية عمق الأزمة بين الطرفين الفلسطيني والأردني والمواجهات الدامية بينهما، لدرجة اتهام النظام الأردني بالتواطؤ مع الحكومة الأمريكيّة.

فلسطينْ.. فلسطينْ     ضيّعوكِ البيّاعينْ
وِوْثِقْنـا فيهـم يا دار     فيهم طلعوا جزّارينْ
اسألوا عنهم عمّـانْ ..
تركوا النَهر لِعِدانـا    نَهْرْ دِمانـا عليهمْ هـانْ
يِشهدْ الله جِراحْنـا    مِنْ جِراحِكْ يا عمّـانْ

تتوضّح الحمولة الأيديولوجيّة في هذه الأغنية من خلال معرفة سياقها، وهو ما توضحه الأغنية عبْر إعطائها إلماحاتٍ سريعةً عن سياق الظرف الزمني والحدثي الذي تصفه الأغنية. وبما أنَّها كُتبت وأُنشدت وأُذيعت تحت تغطيةٍ وحمايةٍ من حركة “فتح”، فإنها تروي وجهة نظر الفلسطينيين، و”فتح” خاصّةً، وليس وجهة نظر الحكومة الأردنية، وهنا يتجلى مضمون هذه الأغنية الأيديولوجيّ ودورها السياسي في استكمال المواجهة مع الحكومة الأردنية.

إلى بيروت: إذاعة صوت فلسطين؛ صوت الثورة الفلسطينيّة

ذهب الفلسطينيون إلى بيروت بعد إخراجهم من الأردن عام 1971، وقد ضمنت اتفاقية القاهرة الموقّعة عام 1969 مكاناً للفدائيين في بيروت؛ إذ عملت على إعادة تنظيم وجود الفدائيين فيها، وسمحت بوجود نقاطٍ للكفاح الفلسطيني المسلَّح في المخيمات بشرط تعاونها مع اللجان المحلّية. [29] تطوّر هذا الوجود الفلسطيني لاحقاً إلى وجودٍ فلسطينيٍّ مسلَّحٍ في الجنوب اللبناني فيما عرف باسم “فتح لاند”.

لعبت إذاعة “صوت فلسطين” دوراً ملحوظاً في مواكبة أحداث القضية الفلسطينيّة، حيث طوّرت من عملها الإذاعي بإجراء لقاءاتٍ ميدانيّةٍ تُبَّث على الإذاعة ذاتها مع الفدائيين الفلسطينيين في أماكن قتالهم، الأمر الذي جعلها متحدّثةً من قلب الحدث، غير معقّبةٍ عليه فحسب. وكان يوسف القزاز رائد هذا العمل ومنفّذه. [30]

شهدت تلك الفترة ولادة عددٍ كبيرٍ من الأغاني الفدائية والثورية التي هدفت إلى تعبئة الجماهير، عاكسةً الوضع السياسي السائد بين كلّ فترةٍ وأخرى. ما ميّز أغاني هذه الفترة أنَّ بعضها كان يُسجَّل ويُغنَّى من قلب القواعد الفدائيّة وتحت القصف وأصوات القنابل. كانت صاحبة هذه الفكرة المذيعة الجنوب لبنانية، نِعم فارس، التي أخذت على عاتقها اصطحاب الفنانَيْن المصريَيْن عدلي فخري وزين العابدين فؤاد إلى مواقع الفدائيين لتسجيل هذه الأغاني، ومنها: “من صبرا للمنارة” و”لسّا السلاح يما معي” و”على بوابات بيروت”. [31] تقول أغنية لسّا السلاح يمّا معي: [32]

                                  لسَّا السِلاح يمّا معي  وليشْ أَخافْ مِنِ الحِصارْ
                                 هيَّ قَلْبي طَلْقَة بِمَدْفَعي   وَعَظْمي حَرْبَةْ ودَمَّي نارْ
                                رِفْقاتي سَبْعَةْ بالكَمينْ     صَرْخَتهُمْ تْزَلْزِلْ جَبَلْ
                                ولَوْ صِحِتْ يَمّا الغَزُو وين      يلبّي صوتِكْ ميةْ بَطَلْ

ولقربها من ميدان القتال، عاشت إذاعة صوت فلسطين: صوت الثورة الفلسطينية ظروف الحرب في لبنان ساعةً بساعةٍ، وكانت هدفاً لطائرات الجو الصهيونية التي دمَّرت موقعها أكثر من مرةٍ في حيّ الفاكهاني، تحديداً في الموقع المسمّى “الـ95”. في مثل هذه الظروف، ظهرت أغنية “طلّ سلاحي من جراحي”، كنتيجةٍ من نتائج الحصار والقصف المدفعي. كُتبت ولُحّنت الأغنية في ظروفٍ مثّل فيها البقاء على قيد الحياة محض صدفةٍ.

وربما تشتمل مقولة محمود درويش على أغاني إذاعة صوت الثورة الفلسطينية في حرب بيروت عام 1982، إذ يقول: “ماذا أفعل لو لم أجد أحدًا أتحدث اليه؟ لمن أنقل كلامي ومن يشاطرني صمتي؟ سأصفر لحنًا.. مطلع أغنية من أغاني بيروت المتفجّرة من هذه الحرب”. [33]

كانت غالبية أغاني الإذاعة ابنةً للظرف السياسي والحدثيّ الآنيّ، معبّرةً عن السمة العامة للمرحلة السياسية الفلسطينية والعربية في وقتٍ محدّدٍ، مثل أغاني: “كلاشينكوف” و”جرّ المدفع فدائي”  و”أنا يا أخي ودقيت الكعب”، وغيرها. يستحضر الفضاء الصوتي لمثل هذه الأغاني ذات الايقاع الجماعي العسكري والسريع التجربةَ الجماعيّة الفلسطينيّة في الشتات العربي، وهي تجربة حربٍ وصدامٍ دمويٍّ، لا يخفيه الإيقاع الموسيقيّ في الأغاني.

يخترق هذا الفضاء الصوتي فضاءٌ آخر، هو الفضاء المكاني الذي يجري فيه الحدث، أكان في خندق القتال من قواعد الفدائيين، أو في استوديو الإذاعة، أو في أحد المخابئ. وإِنْ كان هذا لا يتجلّى في الأغنية بشكلٍ مباشرٍ ولا يمكن تحديده كفيزياء، لكن يمكن تخيله كمكانٍ ذهنيٍّ بمعرفة السياق التاريخي الذي تشير إليه الأغاني. [34]

تقول أغنية دقّيت الكعب:

دقّيتِ الكَعْبْ
دَقّيتِ الكَعْبْ وشقّيتِ الطَريقِ
ما عِنْدي صَعْبْ والِسلاحْ رَفيقي
عَ طولِ الدَرْب يِتْصاعَدْ كِفاحي
والموتْ إنْ هَلّ
صاحي أنا صاحي

تتجلّى هالة الأغنية ومقصدها بما تستثيره من نوازعَ ذاتيّةٍ واندفاعيّةٍ من قِبل المستمع إلى استحضار التجربة الفدائيّة الموصوفة في الأغنية، وهنا يتمثل الفضاء الفكري بما ينطوي عليه من مشاعر وأفكارٍ تخصُّ هذه التجربة التي تمثّلها الأغنية بالذات. ورغم أنّ أغاني إذاعة صوت الثورة موجّهةٌ للفدائيين بالدرجة الأولى، إلَّا أنها أيضاً تحوَّلت لأداةٍ يتلقّاها ويردُّدها الجمهور بشكلٍ عامٍ، متخيّلاً دور الفدائي لقدرة الصوت المهولة على إعادة تمثيل التجربة أو استحضارها للمستمِع.

عسكرة الأغنية: من الإذاعة إلى ميدان القتال

“لقد أردنا في -النشيد- من إذاعة العاصفة، صوت فلسطين أن يقوم بوظيفةٍ حسيّةٍ عميقةٍ تتوازى في قيمتها وأثرها وتأثيرها مع وظيفته السياسّية والنضالية التعبوية، وهو فيما نعتقد الواجب الأوجب في مهمة إذاعة الثورة، مثل صوت فلسطين، تحمل على عاتقها قدراً من الفعل الثوري لدى الجماهير يقع بين تنظيمها وتسليحها وهو واجب “تعبئتها”، [35] يقول فؤاد ياسين. بذا، تتضح مهمة الأغاني التي كانت تصدرها فرقة العاصفة وتبثّها إذاعتها، حيث التعبئة الجماهيرية والحماسية هي وظيفتها الأولى، مثل أغاني:

“باسم الله .. باسم الفتح”؛ “طلّ سلاحي من جراحي”؛  يا “جماهير الأرض المحتلة”؛ “أنا يا أخي”؛ “شدّوا الطوق”؛ نشيد “يا فدائي”، وغيرها الكثير. [36] اتّخذت هذه الأغاني من الوتد الوطني والثوري خيمةً لها، فكانت مهمتها نقل المشاعر التي تسبق الذهاب الى أرض المعركة، من ميدان المقاتل إلى الميدان الأوسع: الأثير العام. وهذا هو عيْن ما نظّر له زياد فهمي حول دور الرأسمال الإعلامي في صناعة الهويات الجماعيّة؛ إذ نحتاج إلى وسيطٍ لنقل الثقافة المحكّية، والإذاعة التي كانت تبثّ الأغاني باستمرار مثّلت الوسيط الذي ساهم في تعميم مضمون الثقافة الشفهيّة/ المحكيّة.

تنطلق الأغنية الثوريّة من صوت فلسطين: صوت الثورة الفلسطينية بخطابها السياسي المباشر، وهو خطاب منظمة التحرير الفلسطينية وميثاقها الوطني للعام 1968، والذي يتبنّى الكفاح المسلح مباشرةً وبوضوح، خاصةً في المادتين التاسعة والعاشرة، حيث تعكس أغنية فضّوا المجالس هاتين المادتيْن؛ إذ تقول:

وِاحْنا انطلَقْنا عالعَدُو تَ نْحَّرِّركْ يا بلادِنا.. يا بلادِنا
مَ/حْمِيّة يا ثورةِ بِجَماهير شَعْبِنا
مُ/ستمرّة بِ دَمِّنا وِرْصاصِنا
الشعب قالها وهيَّ كلمة واحِدَةْ:
ثَوْ/رِتنْا ما تِقْبَلْ وِصايَةْ مِنْ حَدَه

ثمّ في أغنية أخرى باسم “بإيدي رشاشي”، يعلن  الفدائي وسيلته لتحقيق هدف الفداء والتحرير، فيقول:

بإيدي رشاشي.. بدّي أَضَلّني ماشي
وأَرْضِنا المحتلةْ ما بْتِرْجَعْ بَلاشي
وبدّي أضلّي ماشي، وطول ما حْنا سويِّةْ
عُمُرنا ما نخافي

توقن أغاني العاصفة في هذا السياق أنَّ القضية الفلسطينية هي قضية العرب الأولى، على الأقلّ في ذلك الوقت، وفي ظلّ مشروعٍ قوميٍّ عربيٍّ كان يلفظ أنفاسه في أواخر ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، إلا أنها لم تتخلَ عن المشروع القومي العربي لتحرير فلسطين. تقول أغنية “حنّا ثوارك يا بلادي”:

حِنّا ثوارِكْ يا بلادي، والإيدْ عَلى الزِنادي
العَرَبي أخويا وِمُعيني  وِرْصاصِنا ضِدِّ الصُهيوني
ولا قُوَّةْ تِفَرِّقْ لُبناني عن أًردُني وفَلَسْطيني.. وحِنّا ثوار

وهي بهذا تتوافق مع المادة 11 من الميثاق الوطني الفلسطيني، والتي تنصّ على أن يكون للفلسطينيين ثلاثةُ شعاراتٍ: الوحدة الوطنيّة، والتعبئة القوميّة، والتحرير. وهي بهذا المعنى لا تكتمل إلّا بمشاركة الشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده، خاصةً في المخيمات الفلسطينية؛ إذ كان الاعتقاد السائد في تلك الفترة أنّ تحرير الأرض المحتلة سينطلق من قواعد الفدائيين في الشتات العربي، ومن المخيمات بشكلٍ خاصٍّ. 

ولأنَّ أغاني الفرقة المركزية ناطقةٌ أيضًا من الميدان وباسمه، خاصةً في مرحلة بيروت، فإنَّ حمولتها الفكرية والمعنوية تطوف حول عدّة مفاهيم ذات علاقة بالحرب، مثل: ساحة القتال، والميدان، والدم، والانتصار، والسلاح الذي تنوّع بين الثقيل والخفيف، مثل: الديكتيريوف والكلاشينكوف والمدفع والرشاش والهاون والبارودة، ثمّ الرصاص والقنبلة والبندقية والباوزكا. تكشف مفردات الأغاني عن بنيةٍ سياسيّةٍ عميقةٍ يمكن الاستدلال بها للتوصل إلى خطٍّ حكائيٍّ يكشف عن بعض الجوانب ذات العلاقة بالقضية الفلسطينية ومسارها العربي والعالمي.

فبتوظيف الأغاني أسماءَ الأسلحة الروسية، مثل: “الكلاشينكوف” في أغنية “كلاشينكوف” و”الديكتيريوف” و”الآر بي جي” في أغنية “لوّحنا على القواعد”– وهي أسلحةٌ روسيةٌ كان يستخدمها المقاتلون في ثورتهم ضدّ العدو الصهيوني- استبطانٌ لتاريخٍ طويلٍ من علاقة الاتحاد السوفيتي ودعمه، لمصالحه الخاصة، لحركات التحرر العالميّة، ومنها حركة التحرر الفلسطينية دون أن تذكر الأغنية أيّ تفاصيل ومعلوماتٍ.

الشيفرات الحربيّة في الأغاني

لم يتوقّف دور الأغنية التحريضيّة الثوريّة في أغاني العاصفة على التعبئة والقتال، إنما جرى توظيفها لاحقاً في تنظيم العمليات العسكرية وضبط إيقاع العملية وميقاتها على موعد بثَّ الأغنية من الإذاعة. وفي توضيحٍ أكثر، ففي فيديو يعرض تخطيط الشهيد خليل الوزير لاقتحام وزارة الحرب الصهيونية عام 1985، متحدّثاً مع المجموعة التي كانت تنتوي تنفيذ العملية التي لم تنجح وتكتمل، يتّضح اتفاقه مع المجموعة على الانطلاق عند سماع أغنية “يا مشاوير الكرامة” من إذاعة “صوت الثورة الفلسطينية” التي كان تبثّ حينها من بغداد في ساعةٍ محدّدةٍ ومعروفةٍ من كلّ يومٍ.

تشير هذه الشيفرات الحربيّة التي ألغمها الفدائيون في أغاني الإذاعة إلى طريقة تطويع الفدائيين الفلسطينيين للأغاني الوطنية وتجنيدها معهم في الثورة. وإنْ أمكن عقد مقارنةٍ بسيطةٍ بين دور أغاني “صوت فلسطين”، والأغاني الوطنية عند حركات التحرر في مختلف البلدان، كالمغرب والجزائر مثلًا، لسَهُل التوصل إلى أنَّ الاغنية الوطنية لدى مختلف البلدان التي خضعت للاستعمار، مارست دوراً شبيهاً، تمثّل في ملاصقة الحدث ومزامنته؛ إذ امتازت بعض الأغاني بالطبيعة التسجيليّة التي ساهمت في تحويل الأغنية إلى ما يقرب من الوثيقة التاريخّية. [37]

ففي المغرب، ظهرت الأغاني الوطنية مع ظهور الحركة الاستعماريّة كمظهرٍ من مظاهر الاحتجاج عليها، ثم استمرّت هذه الأغاني لتعبّر عن ثورات الشعب ومواقفه النضاليّة من الاستعمار، كمواكبة الأغاني التعبيريةّ والتعبويّة لثورة الريف في المغرب، التي قادها عبد الكريم الخطابي. [38]

وعليه، يمكننا طرح تساؤلٍ حول ما الذي يسبق أولًا، الأغنية أم الحدث؟ ولمحاولة الإجابة عن ذلك، وموضعتها في سياق أغاني الإذاعة، فإنَّه بإمكاننا تقسيمها إلى ثلاثة أدوارٍ؛ أوّلها دور الأغنية في التعقيب على الحدث، وهنا يمكن لمس عملية تسجيلٍ تاريخيٍّ في الأغنية، مثل أغنية أيلول الأسود، السابق ذكرها. وثانيها: دورها في إعلان موقفٍ رسميٍّ لمنظمة التحرير، وحركة “فتح” تحديداً، مثل أغنية “هذا هوَّ الردّ ثورتنا.. هذا هوَّ الردّ“. تقول الأغنية:

هذا هوَّ الردّْ.. يا ثورتْنا هذا هُوَّ الردّْ
قنبلة تتفجَّرْ.. هذا هُوَّ الردّْ
وعَصايِةْ وخنْجَرْ.. هذا هُوَّ الردّْ
وعبوة تنسف.. ورصاص يدوّي، والثورة..
الثورة طريقنا لْكُلَّ الأرض.. لْكُلَّ الأَرْضْ

وثالثها: دورها في تعميم الثورة الشعبية والعمل على التعبئة والتحريض، بالاستناد إلى استذكار فعل العدو ضدّ الذات الفلسطينيّة، وواجبها في الرد على ذاك الفعل والدفاع  عن نفسها، مثل أغنية “جرّ المدفع فدائي”. تقول الأغنية:

جُرَّ المِدْفَعْ فِدائي.. لا تِسْتَنّى سّيارَةْ
جرّت علينا صهيون أكثر من ميت طيّارة
جُرَّ الدوشكا يا رْفيقي بِدَمّي بَحْفُر طَريقي
دَمِّ الشُهَدا يا بْلادي والله ما يْروحِ خِسارَةْ

بعد خروج الفدائيين الفلسطينيين من لبنان عام 1982، توقّفت إذاعة صوت فلسطين: صوت الثورة الفلسطينية عن البثّ من بيروت. وقبل أن تتوزّع الإذاعة على الشتات العربي دون مركزٍ لها، ظهرت فرقةٌ غنائيةٌ وطنيةٌ أخرى وازت فرقة العاصفة في مضمون أغانيها وهدفها، وهي فرقة أغاني العاشقين. انطلقت الأخيرة من قلب مخيم اليرموك في سوريا، المكان نفسه الذي توقّف صوت فلسطين عن الغناء والبث فيه لاعتباراتٍ سياسيةٍ محضة من قبِل الحكومة السورية تجاه منظمة التحرير، خاصةً أنَّ سوريا كانت تعمل على مصالحةٍ مع النظام الأردني بعد أحداث أيلول الأسود. [39]

كلمة أخيرة

ختاماً، يمكننا القول إنّ إذاعة صوت فلسطين: صوت الثورة الفلسطينية جزءٌ من مشروعٍ فلسطينيٍّ سياسيٍّ وثقافيٍّ وهوياتيٍّ، لا يكتمل إلّا بتعريف نقيضه وهو المشروع الصهيوني. يكمن دور الأغنية الفدائية، كرأسمالٍ محكيٍّ، في كونها ابنةً للظرف التاريخي والسياسي حينها، ووسيلةً لإعادة تصوّر فلسطين، والقضية الفلسطينية، وقضية الفدائيين تحديداً في صراعهم مع الحكومات العربيّة من جهةٍ، والعدو الصهيونيّ من جهةٍ أخرى.

أبرزت الأغاني التي أنتجتها الإذاعة ملمحاً هامّاً من ملامح الهوية الفلسطينيّة التي أصبح الكفاح المسلح بعد النكبة إحدى ركائز تعريفها لذاتها وتعريف الآخر لها. عكست الأغاني حالة التعافي الجزئي الذي ألحقته انطلاقة الثورة الفلسطينية ومجموعة الفدائيين بالحالة الفلسطينية بُعيد الهزيمة العربية الكبرى عام 1967.

كما عكست الأغاني حالة الصراع الداخلي بين منظمة التحرير والحكومات العربية، لنعتبرها بذلك سجلاً تاريخيّاً محكيّاً يوثّق مرحلةً مفصليّةً من محطات التاريخ الفلسطيني، ليس على صعيد المضمون فحسب، بل وعلى صعيد مواكبة الأغنية بشكل آنٍ وسريعٍ للظرف التاريخي والسياسي، ما يجعلها تقول ما لا يمكن قوله إنْ تمّت روايتها أو غناؤها لاحقاً.

****

الهوامش:

[1] عبد السلام بن عبد العالي، ثقافة الأذن وثقافة العين (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 1994)، 7.
[2] Ziad Fahmy, “MEDIA-CAPITALISM: COLLOQUIAL MASS CULTURE AND NATIONALISM IN EGYPT,1908–18,” Int. J. Middle East Stud. 42 (2010): 83–103
[3] Ziad Fahmy, ‘‘Coming to our Senses: Historicizing Sound and Noise in the Middle East,” History Compass 11/4 (2013): 305–315
[4] باعتقادي أنه في أحسن الحالات وُصفت بكونها ثقافةً شعبيةً، وغالبا ما يتم التعامل معها بأنها أقلّ من الثقافة الرسمية/ الفصحى.
[5] هذه الحقبة من الاستعمار الصهيوني ليست الأولى، بل سبقتها مرحلةٌ استعماريّةٌ امتدت من العام 1948 حتى العام 1966. لكنّ هذا الفصل يبتدئ بالحديث عن هذه الحقبة باعتبارها فترة حكمٍ عسكريٍّ بعد الهزيمة العربية الكبرى عام 1967 واحتلال الضفة الغربية وقطاع غزّة.
[6] خالد مسمار وآخرون، الكلمة البندقية: صوت الثورة الفلسطينية.. صوت العاصفة.. صوت فتح (رام الله: وزارة الإعلام واتحاد الكتاب الفلسطينيين، 2014)، 25.
[7] المصدر السابق، 77.
[8]المصدر السابق، 82-83.
[9] لم تجد الباحثة هذه الافتتاحية الموسيقيّة، وأغلب الظن أنها فُقدت مع أرشيف إذاعة صوت العاصفة المضمّن في أرشيف منظمة التحرير، والذي دمّره العدو الصهيوني في اجتياح بيروت عام 1982.
[10] الكلمة البندقية، مصدر سابق، 85-86.
[11] المصدر السابق، 100.
[12] المصدر السابق، 100.
[13] نبيل عمرو، صوت العاصفة: سيرة إذاعات الثورة الفلسطينية في المنفى (رام الله: مواطن- المؤسسة الفلسطينية لدرسة الديموقراطية، 2013)، 30-31.
[14] الكلمة البندقية، مصدر سابق، 102.
[15] انظر أيضاً: معين بسيسو، مات البطل عاش البطل (بيروت: دار الفارابي، 2014، ط2).
[16] سيرة إذاعات صوت الثورة، مصدر سابق، 29.
[17] الكلمة البندقية، مصدر سابق، 97.
[18] المصدر السابق، 149.
[19] المصدر السابق، 107.
[20] المصدر السابق، 112.
[21] المصدر السابق.
[22] مشروع “روجرز” الثاني هو مشروعٌ أقرّه وزير الخارجية الأميركي “ويليام روجرز” عام 1970، متقدّماً فيه بمقترحات سلامٍ جديدةٍ للأطراف المتنازعة في الوطن العربي. ويقوم اقتراحه على مبدأ وقف إطلاق النار، والبدء في الحوار بين الأطراف المتصارعة، وتنفيذ قرار مجلس الأمن 242 بكل أجزائه، وذلك تحت إشراف “يارنغ”؛ مبعوث السكرتير العام للأمم المتحدّة.
يُنظر أيضاً، وثائق فلسطين: مائتان وثمانون وثيقةً مختارةً، 1839_1987 (تونس: منظمة التحرير الفلسطينية، دائرة الثقافة، 1987)، 191-193.
[23] الكلمة البندقية، مصدر سابق، 30-31.
[24] سيرة إذاعات، مصدر سابق، 48.
[25] الكلمة البندقية، مصدر سابق، 130.
[26] المصدر السابق، 33.
[27] سيرة إذاعات، مصدر سابق، 46
[28] سيرة إذاعات، مصدر سابق، 45.
[29] جورج خوري نصر الله، الوثائق الفلسطينية العربية لعام 1969 (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، الجامعة اللبنانية 1971)، 456-457.
[30] سيرة إذاعات، مصدر سابق، 53-54.
[31]  المصدر السابق، 89.
[32] المصدر السابق، 90. ملاحظة: لم تجد الباحثة تسجيلاً صوتياً لأغنية “لسا السلاح يما معي”، وأغلب الظنّ أنّها من الأرشيف الذي فقدته إذاعة صوت الثورة الفلسطينية. وقد ورد توثيقها في كتاب نبيل عمرو عن سيرة إذاعات صوت الثورة الفلسطينية.
[33] محمود درويش، ذاكرةٌ للنسيان (رام الله: وزارة الثقافة الفلسطينية، دار الناشر، 1997)، 48.
[34] Eckehard Pistreck and cyril Isnart, “Landscapes, Soundscapes, mindscapes: Introduction,” Etnografica vol 13, n.7  (2013): 503-512
[35] الكلمة البندقية، مصدر سابق، 99.                                            
[36] من الضرورة الإشارة إلى أنَّ أرشيف أغاني صوت فلسطين: صوت الثورة الفلسطينية فُقد جزءٌ كبيرٌ منه، نظراً  لظروف الإذاعة الحربيّة وتنقلها الدائم، كما فُقد جزءٌ هائلٌ منه نتيجة تدمير أرشيف منظمة التحرير في حرب بيروت عام 1982. هناك مبادرةٌ قائمة حالياً تُدعى “مشروع إحياء التراث الفلسطيني الفلكلوري المكتوب والمسموع والمرئي”_ الأرشيف الوطني”؛ لتدوين وتسجيل الإرث الفلسطيني الفلكلوري وحفظه من الضياع. ترعاه اللجنة الوطنية الفلسطينية للتربية والثقافة والعلوم، وتشرف عليه المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، بإشراف رئيس اللجنة الوطنية المذكورة، واتحاد الكتاب الفلسطينيين: مراد السوداني، ومدير المبادرة التنفيذي حسين نازك. وقد حصلت الباحثة على هذه المعلومات من خلال مقابلةٍ شخصيةٍ مع السيد رائد عصبة من كادر اللجنة الوطنية الفلسطينية للتربية والثقافة والعلوم، في مقرّ اللجنة نفسها، ( يوم الخميس، بتاريخ 3 آذار، 2016).

[37] عبد العزيز بن عبد الجليل، الأناشيد الوطنية المغربية ودورها في حركة التحرير (الرباط: أكاديمية المملكة المغربية: سلسلة التراث، 2005)، 20.
[38] المصدر السابق، 56.
[39] سيرة إذاعات، مصدر سابق، 46.