أخذ نفساً عميقاً، عميقاً جداً، ونظر إلى الأفق. تأمّل تلك المنطقة الجبلية الوعرة غرب الخليل، أراضي دولته الخاصة “شِعْب المِلح”، [1] دولة عبد الحليم الجولاني (الجيلاني) الملقّب بـ”الشَلَف”. تأمّل جبالها ووديانها وتعاريجها الطبيعية الخلابة، واستذكر مُغُرها وتقسيمات الثوار فيها؛ مغارة محكمة الثورة، ومغارة السجن، ومُغُر مخازن السلاح، وأخرى لمهاجع مُقاتلي الجيش العربي الجنوبي بقيادته. كانت هذه دولة “الشَلَف”، وكان هو حاكمها المطلق.

– “هون يابا، بتُحفُر قبري هون”. أشار بعصاه إلى الموقع، وقال: “بدي أموت يا ابني وروحي تطُلّ على شِعِب الملح”.

من هنا، أعلن الثورة في الخليل سنة 1936 .. وهنا سيكون قبره!

كان يدرك دنوّ أجله، فلقد اقتربت سِنو عمره من المئة. بكلّ الأحوال، هو نفسه لم يتوقّع أن يحيا إلى هذا العمر المديد. كيف يبقى على قيد الحياة بعد أن قاد ثورتين؟

حسناً، هو معتادٌ على الموت، وواجهه عشرات المرات، حتّى إنّ الجنازة صُلّيَت عليه مرتين، واستقبل أهل الخليل عزاءه مرتين، إذ أُعلِن موته مرّتين آنِفاً. لمقاتلٍ مثله واجه الموت مراتٍ ومراتٍ، يجد استمراره في هذه الدنيا ضرباً من المعيب، بعدما غادرها معظم أصدقائه استشهاداً. تُرى هل كان سيشعر بذات إحساسه بالكآبة والحسرة لو بقي عبد القادر على قيد الحياة إلى هذا اليوم؟!

يستذكر صديقه عبد القادر الحسيني، ترتسم ابتسامةٌ لطيفةٌ على خطوط وجنتيه التي حفرها الزمن؛ فلا زال يذكر تماماً وقع المفاجأة على وجه عبد القادر عندما تسلّل إلى المستشفى العسكريّ الإنجليزيّ في قرية بيت صفافا قرب القدس، وقام بتهريبه منها. جروح عبد القادر التي أُصيب بها في معركة الخضر في السادس من تشرين الأول 1936 لم تقضِ عليه، لكنّ قلبه كاد أن يتوقّف من فرط المفاجأة إزاء رؤيته للشَلَف في المستشفى.

“لوين ماخدني يا شَلَف؟“، سأل عبد القادر.
“إلى الشام يا صديقي، وبعد استرداد صحّتك وعافيتك، راح نرجع لنقضي عليهم“.

يعاود القدر الغريب الكرّة مرةً أخرى، يكرّرها في معركة بني نعيم بالقرب من مدينة الخليل في الرابع من تشرين الأول 1938، بعد حصار الإنجليز لعبد القادر الحسيني وقوّاته. قام عبد الحليم الجولاني بمساندة قوات الجهاد المقدس بفكّ الحصار المضروب على مجموعة عبد القادر المُحاصَرة بكمينٍ أعَدّه الإنجليز بحنكةٍ. وصل “الشَلَف” إلى عبد القادر الجريح، وهرّبه على ظهر جملٍ إلى الخليل. وبعد فترة علاجٍ أوليٍّ، أوصله إلى الأردن، ومنها إلى بيروت. [2]

“رحمة الله عليك يا عبد القادر، سبقتني شهيداً“.

كان الجولاني، الذي لم يدرس أساسيات العلوم العسكرية ولا تكتيك حرب العصابات، عسكرياً بفطرته، وثورياً بطبعه، وداهيةً في رسم الخُطط القتالية، مُدركاً لقواعد الاشتباك الناجح، وتقنيات العمل العسكري لمن يسعى للتحرّر ممن يفوقُه بالإمكانيات والعديد والعُدّة. فقام على مدى شهور طويلة من بدء ثورة 36 بإنهاك قدرات العدو، مُتبنّياً استراتيجيات حرب العصابات؛ فركّز على قطع الطرق ومهاجمة القوافل العسكرية، وإطلاق النار على الدوائر الحكومية البريطانية، وقنص الدوريات الراجلة.

كان قائداً أصيلاً صادقاً. لشخصيته سطوةٌ مؤثّرةٌ، ولرجولته وهجٌ طاغٍ مُهيمنٌ. كما امتلك مقدرةً فذّةً في الخطابة، وقدرةً خياليةً على الإقناع وشدّ الهمم. والأهمّ من كلّ هذا، كان ينبض في صدره قلبٌ وطنيٌ صلبٌ، وايمانٌ صادقٌ بالحرية لا يتزحزح ولا يكلّ.

امتاز “الشَلَف” بخبرةٍ مكتملة الأركان التنظيمية العسكرية والإدارية اكتسبها من عيسى البطاط، قائد الثورة في منطقة الخليل قبل استشهاده. كلّ ذلك جعله قائداً فذَّاً فريداً لا نظيرَ له، استعاد دوره بسرعةٍ مع استعادة الثورة وهجَها سنة 1937، واستطاع في زمنٍ قياسيٍّ بناءَ قواتٍ عسكريةٍ أشبه بجيشٍ نظاميٍّ حقيقيٍّ يفوق عديده 500 مقاتلٍ من أبناء منطقة الخليل، مع إسنادٍ من جيشٍ احتياطيٍّ يفوق الألف، مدّ به نفوذ الثورة إلى كامل منطقة الجنوب الفلسطيني.

نظر الجولاني إلى السماء الصافية، وتأمّل الأفق. كانت تلك العيون الثاقبة كعيون الصقر كفيلةً بإسقاط الطائرات رغم أسلحته الرشاشة الخفيفة. تذكّر معركة “جورة بُحْلُص” في مدينة الخليل شهر أيلول سنة 1938، وتذكّر إسقاطه ثلاثَ طائراتٍ بريطانيةٍ، تذكّر الغنائم المهُولة وجُثث الجنود الإنجليز. كان يعُدّ كلَّ جثةٍ بتروٍّ شديدٍ كولدٍ صغيرٍ يتعلم العدّ، وعندما يصل إلى السبعين، يبدأ العدّ من جديد!

استذكر التحرير الكامل لمدن الخليل وبئر السبع من الإنجليز. استذكر، أيضاً، تحرير كامل مستعمرات “غوش عتصيون” بين بيت لحم والخليل، وإذلاله للعصابات الصهيونية وطلبها الاستسلام. استذكر المحاكم الثورية في مقرّه العام في “شِعْب الِملح”، وقراراتها الثورية الصادرة بمقاطعة محاكم الانتداب، والاحتكام فقط إلى محاكم الثورة.

لم تفُضّ قراراتها النزاعات بين السكان وحسب، وانّما امتدّت كتمثيلٍ قانونيٍّ إلزاميٍّ لعموم الشعب الفلسطينيّ، كإلزامية لبس الكوفية والعقال، لتُمكِّن المقاومين من التخفّي عبْر توحيد ملابس السكان في المدن والأرياف، بجانب إلزامية الامتناع عن حمل الوثائق وجوازات السفر الصادرة عن بريطانيا إلا لمن تأذن له الثورة بذلك. [3]

لم تفقد حكومة “الشَلَف” الثورية بريقَها حتى بعد إنهاء وجودها في معركة “شِعْب المِلح” الأخيرة في أيار من عام 1939، في معركةٍ بطوليةٍ حشدت فيها بريطانيا جيشاً جرّاراً، وإسناداً بالطائرات الحربية. قاتل خلالها “الشَلَف” وقواته بشراسةٍ، وخرج منها مصاباً بجروحٍ لم تكسر عزيمته.

لم ينكسر عبد الحليم الجولاني رغم تواريه في مصر، إلا أنّه أبى الاستقرار خارج فلسطين، عائداً إليها بعد خمس سنواتٍ؛ إلى مدينته التي يُحبّ، الخليل، عام 1944. كان رجوعه مشروطاً بعدم القيام بأي عملٍ ضدّ سلطات الانتداب، لكن أنّى يسري شرط الاستكانة على المجاهد؟!

“شو يعني اشتراط بعدم العمل ضدّ سلطات الانتداب؟! مجرّد حبر على ورق، المهم أرجع على فلسطين ونبدأ من أول وجديد …”

استذكر لقاءه الأول مع صديق عمره عبد القادر الحسيني بعد إيابه إلى الوطن:

“إسمع يا عبد القادر، أنا بعرف إنه هذا الوضع مؤقت، وحربنا مع العدو جاية”.

وإذ إنّه يدرك قرب المواجهة، تولّى مسؤولياتٍ مُختلفةً ضمن منظّمة الفتوة الشبابية التابعة للمفتي أمين الحسيني؛ فقام بحشد الشباب وتحضيرهم عسكرياً وذهنياً للحرب القادمة.
” الحربُ قادمةٌ يا شباب ..”

كان مع صديقه عبد القادر الحسيني عندما أعلن في قرية صوريف، قضاء الخليل، عن إعادة تشكيل قوات الجيش المقدس في عام 1947، كما تولى “الشَلَف” قيادة منطقة الجنوب وخاض عدّة معاركَ مهمّةٍ، أبرزها معركة القسطل، والفالوجة، والدهيشة، وجبل المكبر، وغيرها.

وتذكّر وتذكّر، وتذكّر، ثمّ تنهّد..

السكون في “شِعْب المِلح” يقطعه أزيزُ الرصاص، والاشتباكات المتقطّعة بين المقاومين والجيش الصهيونيّ تشقّ ستار الصمت على فتراتٍ. إنّه عام 2002؛ عام اجتياح الضفة الغربية في عملية “السور الواقي”. ينظر عبد الحليم “الشَلَف” إلى مكان القبر، ويواصل سماع أزيز الرصاص!

(قبر الحاج عبد الحليم محمد الجولاني، والذي يطلّ على شِعْب الملح)

الهوامش: 

[1] منطقة في وادي عزيز، غرب مدينة الخليل، تُعرف بوعورتها وكثرة التعاريج الطبيعية فيها. والشِعْب، (أو الشِعِب في اللهجة الفلّاحية) هي المنطقة التي تقع في بطن الجبل.
[2][3] من حديث باسل الأعرج عن القائد عبد الحليم الجولاني، خلال جولةٍ لدائرة سليمان الحلبي في الخليل عام 2015. حملت الجولة اسم: “وثلاثة: جولةٌ في تاريخ المقاومة الفلسطينية”، للمشاهدة من هنا.