للقضاء العشائري في بلادنا فلسطين تاريخٌ طويلٌ، وإن كان الحيّز الجغرافي لهذا القضاء يتركز في جنوب فلسطين أساساً، ويمثّل أحد الأجهزة الاجتماعية الأكثر تنظيماً وفاعليةً في مجتمعنا الفلسطيني، لا سيّما في مجال حلّ الخلافات والحدّ من تفاقمها، دون أن يعني ذلك غياب الجوانب السلبيّة عنه، واستخدام وجهاء العشائر من قبل السلطات الاستعمارية وامتداداتها في تاريخنا الفلسطيني.

وللأسف، لا تعرفُ الفئات الشابة في معظمها شيئاً عن أصول هذا القضاء، ومع شيوع خطاب سيادة القانون وبناء المؤسسات، شاعت نظرةٌ سلبيةٌ عنه، شجعها الميل للنظر إلى القضاء العشائري بصفته ممارسةً تقليديةً “متخلفةً” مكانها كتب الفلكلور والتراث.

يستندُ القضاء العشائري إلى المأثور الاجتماعي من الأعراف والقوانين. وأهمّ ما يميز هذا النمط، في مجال حلّ النزاعات، هو الاستناد إلى الانتماء الجماعي للأفراد في ضبط السلوك والوقاية من وقوع الخلاف. كما يضمن هذا الشكل القضائي حقوق الجماعات والأفراد بتعريفٍ أوسع للحقوق التي يتمتع بها القضاء الحالي. إذ يُزيد القضاء العشائري في حقوق الناس، على الحقوق الماديّة، اعتباراتٍ أخرى مهمةً لم توضحها القوانين “الحديثة”، ويتعامل مع مفاهيم الكرامة وردّ الاعتبار بشكلٍ يتجاوز العقوبة الماديّة (كالحبس والغرامة المالية).

ومن أهم ما يميّز القضاء العشائري هو السعي إلى الإصلاح، بعد معاقبة المدانين من الأطراف المتخاصمة، بحيث تُزال كلّ أسباب الخصومة بين الجماعات بما يضمن التماسك الاجتماعي. يغيب هذا الأمر في التقاضي الحديث ويُغيَّب مفهوم التماسك والتنظيم الاجتماعي لحساب ما تسميه الدولة الأمن والسيادة.

ساهم استغلال الأجهزة الاستعماريّة، الأصيلة والوكيلة، للقضاء العشائريّ في تشويه شكله وصورته عبر استغلال القضاة ووجهاء العشائر في تمرير الخطط الاستعماريّة وإلحاق الظلم بالمجتمع. ويتمّ ذلك بطريقتين؛ الأولى من خلال زجّ القضاء العشائري في تفرُّعات قضاء النظام الاستعماري واستخدامه لتمرير سياسات الدول الاستعمارية، من باب الادّعاء بمراعاة التعاملات الاجتماعية (مع الأقليات) في المجتمع. والطريقة الثانية في إظهار نموذجٍ مشوّهٍ من القضاة والمُمارسات البعيدة عن روح القضاء العشائري المأثور، الأمر الذي ساهم في استياءٍ اجتماعي عامٍ مبنيّ على المشاهد الحاليّة من النماذج العشائريّة.

نقدّم لكم في باب الواد دراسة (الصلح العشائري وحلّ النزاعات)، لمؤلفها د. محمد إدريس جرادات، مساهمةً منّا في تعريف الأجيال الشابّة بالقضاء العشائري، في سياق معرفة مجتمعنا، إضافةً إلى إعادة الاعتبار لقِيَم التقاضي، ضمن المعرفة المحليّة والمأثور التاريخي، والتي صاغت قِيَم المجتمع قبل وصول “نموذج الدولة الحديثة” على دبابةٍ استعماريةٍ.

كما نشير إلى كتاب المؤرخ الفلسطيني عارف العارف (القضاء عند البدو، 1933م)، وهو من أهمّ الكتب في هذا المجال، اعتمد فيها المؤلف على تجربته، ومعاصرته لعددٍ من القضايا، فضلاً عن جمع مقابلات مع قضاة، في وقتٍ كان يعدّ فيه القضاء العشائري الفصل بين الناس.

لقراءة دراسة “الصلح العشائري وحلّ النزاعات” من هنا.

***

ملاحظة: حقوق النشر محفوظة لجامعة النجاح الوطنية.