“حدّوتة” من زمن روابط القرى تدور أحداثها في بداية الثمانينيّات مع مجموعةٍ من أهالي قرية بيت حنينا، يسردها لنا خالد عودة الله. قراءة طيّبة.

(هذا النصّ هو السادس ضمن ملفٍ بحثيّ ينشره باب الواد حول “روابط القرى” كنموذجٍ للتعاون مع المحتلّ، لقراءة المادّة الأولى؛ الثانية؛ الثالثة؛ الرابعة؛ الخامسة).

كان ذلك في بداية الثمانينيّات، ذات مساءٍ عاصفٍ ماطر، تكوّرت مجموعة من أهل قريتنا من ضمنهم أنا وأمّي، تحتمي من المطر تحت مظلّة دُكّان “مفيد” المغلق على رأس الطريق في انتظار قدوم سيارةٍ من سيارات البلد تنقلنا إلى بيوتنا. ورأس الطريق هو الاسم الذي يُطلقه أهل قريتنا على حيّ بيت حنينا الجديدة؛ أيّ أول الطريق إلى قرية بيت حنينا. طال انتظارنا ولم تأتِ أيّ سيارةٍ من سيارات القرية، كنتُ أخبئ تحت معطفي تقويماً سنوياً (روزنامة) وزّعه مجمع النقابات العمالية الذي يقع مقرّه في بيت حنينا الجديدة، يحمل صوراً لمذبحة صبرا وشاتيلا.

وبينما أطبَق اليأس والبرد علينا، توقفت مقابلنا سيارة “جيب” لأحد أهالي المنطقة يُدعى غازي، وغازي هذا حفيد رجلٍ تقول عنه حكايات القرية إنّه تعاون مع الإنجليز في قمع ثورة 1936، وذلك بعد أن بدأ طريقه ثائراً ثم تحوّل إلى قاطع طريقٍ في زيّ ثائر. عاقبته الثورة، فانتقم منها بأن صار جاسوساً للإنجليز، والذين أخذوا يصحبونه، وقد ألبسوه كيس خيش على رأسه لإخفاء هويته، ويمرّرون رجال القرية أمامه فيشير بحركةٍ من يده دون أن ينطق دالّاً المستعمِرين على الثائرين ومن يأويهم.

فتح غازي شبّاك سيارة الجيب داعياً “كرة” القرويّين للركوب في سيارته لتوصيلهم إلى بيوتهم بعد أن انقطعت بهم السبل.

تنحنح أحد رجال الكومة المتكوّرة من البرد: “يالله يا جماعة الخير تنركب، الله بعثلنا غازي من عنده”.

تبادل القرويّون النظرات وتهامسوا: “ولكُم هذا غازي بقولوا عنه مع “هذولاك” (جماعة روابط القرى). أعطوه اليهود لمّ شمل وصار معهم”.

وغازي هذا تكرّر اسمه كثيراً في قضية الحصول على “لمّ شمل” بين أهل قريتنا المطعونة بالغربة، وأمّا ما كنتُ شاهداً عليه فهو أنّ أحد أقربائنا توجّه إليه ليتوسّط عند شركة “بيزيك” للحصول على خطّ تلفون.

ردّت إحدى نساء قريتنا: “والله ما أنا راكب مع هالنجس ولو بموت من السقعة وبظل هان للصبح”.

وبعد تهامسٍ وتناوش، حَسَمت الكومة المتكوّرة على ذاتها قرارها، فلم يركب أحد مع غازي بعدما حُسم الجدل بِــ: “اركبوا معه خلّي كلّ أهل البلد يقولوا عنكم جواسيس، لعنة الله عليه وعلى سليلته”.

نزل غازي من سيارة الجيب، وبدأ يحاول إقناع كومة القرويّين بالركوب معه في “هالبرد والمطر”، ولكن دون جدوى… فما كان منه إلا أن طَبق باب سيارة الجيب لاعناً: “الله لا يردّكم ولا يردّ اللي بده يركبكم، موتوا في هالبرد والزمهرير”، وانصرف.

تسلّل الندم بعد مغادرته إلى كومة الفلاحين المتكوّرة من البرد:

     –  كان اركبنا معاه يا جماعة الخير، أنو شايفنا في هالليل والمطر، شعرة من قفا خنزير بركة.
     –  روح إلحقه ملعون أبو شاربك وشاربه، أنو ماسكك.

مرّ الوقت بطيئاً في بردٍ لا يقينا منه سوى دفء الخراريف والقفشات، إلى أن بعث الله لنا “علي البِس” الذي كان يعمل سائق سيارةٍ لتوزيع البسكويت في مصنع “أوسم”، فحمّلنا في سيارة الفورد فوق بعضنا البعض إلى البلد، وفي الطريق فتح علبة بسكويت وأطعمنا.

“والله لوما هالبسكوتات سرقة من اليهود وببلاش، عمرك ما فتحت تنكة هالبسكوت وغرقتنا بكرمك… ها ها ها”.

كانت علب البسكويت كبيرة الحجم من التنك في ذلك الزمان وبحجم نصيّة الزيت.

لا زلتُ أذكر جيّداً وبعد عشرات السنين ملامح وجه غازي، ولفت انتباهي هندامه الأنيق وجزمته الجلديّة وأظافره التي كانت تلمع! والتي ستظلّ محلّ استغرابٍ عندي، وأسال أمّي كلّما رأيته مارّاً من قريتنا: ليش يمّه أظافره بتلمع؟

ولك شو أظافره بتلمع!

طوى الزمان أخبار غازي، وعاد إلى الغربة على إثر ملاحقة الفدائيّة رجال الروابط، واستقرّ اسمه في ذاكرة القرية إلى جانب اسم “جنحو” الذي كان يملك محطةً لتعبئة الغاز قرب قريتنا، ووصلت أخبار مقتله إلى قريتنا، وإلى جانب اسم “زعترة” الذي أُطلقت عليه النار عند الوادي الغربيّ لقريتنا وهو في طريقه إلى قريته النبي صمويل فنجا بأعجوبةٍ وعوقبت قريتنا بالتنكيل ومنع التجول بعدها.

أقول لنفسي : لولا أظافر غازي اللامعة ربما لم تكُن كثير من تفاصيل غازي وزمانه لتعلق في ذهني! أعود أنبش عن أثرٍ للروابط في قريتي فلم أجِد سوى كلمة “هذولاك” التي تستدعيها عبارة ” هظاك المرض” ويستخدمها أهل قريتي في نعت مرض السرطان الذي يخافون من مجرّد ذكر اسمه. وللحقيقة، أحنّ إلى طعم بسكويتات “علي البِس” التي التهمتُها في سيّارته تلك الليلة، وأختلس خرق مقاطعة المنتجات الصهيونيّة في بعض الأحيان بحثاً عنه ولا أجده.

بعد سنواتٍ طويلة، جاءت إلى قريتنا “شخصيّة رسميّة وطنيّة” لمشاركتنا مظاهرةً احتجاجيّةً ضدّ الجدار، كان مهندماً،
وكانت أظافره تلمع…
(ولك شو أظافره بتلمع !)

(خالد عودة الله، القدس المحتلّة، شباط 2021)