ويعتبر القائد الجزائري الفلاح موسى حج حسين الكبير من قرية تليل أحد أبرز القادة خلال فترة الانتداب البريطاني، والذي يوصف بأنه المنظم البارز للثورة في الجليل الشرقي. في تقرير “الشاي” بتاريخ 4 أيلول 1938 ذُكِرَ: “نجح موسى حاج حسين في حشد المتخاصمين المختلفين والآن كلهم يتجمعون تحت إمرته وكل شيء يجري بعلمه”.

نُشر هذا المقال في مجلة “آفاق في الجغرافيا” الصهيونية، للكاتب مصطفى عباسي، من الكلية الأكاديمية “تلّ حاي”، ويعود كلّ ما في هذا المقال للمصدر.
العنوان بالعبرية: (הקהילה האלג’יראית בגליל משלהי השלטון העות’מני עד שנת 1948./ אופקים בגאוגרפיה, 56-72.)
ترجمة بتصرّف: هنادي قواسمي

مقدمة

خلال منتصف القرن التاسع عشر جاء إلى البلاد [إلى فلسطين] آلاف المهاجرين المسلمين من ثلاث مناطق ريفية في الدولة العثمانية: الجزائر، القوقاز، والبلقان. على الرغم من أن دوافع الهجرة كانت متشابهة في الحالات الثلاث، إذ هاجر هؤلاء نتيجة هزيمة العثمانيين أمام جيوش أوروبا، إلا أنه كانت لكل مجموعةٍ من هؤلاء المهاجرين مميزات خاصة بهم من ناحية عددهم ومن ناحية تأثيرهم على المناطق التي سكنوا فيها. من بين المجموعات المهاجرة الثلاث كانت مجموعة المهاجرين الجزائريين الأكبر عدداً، وقد سكن أفرادها في نقاط متفرقة على مساحات واسعة في محافظات سوريا: حلب وبيروت، بما يشمل كتلتين أساسيتين في منطقة الجليل.

يتحدث هذا المقال عن المهاجرين من الجزائر الذين سكنوا في الجليل ويحاول الإجابة عن عدد من الأسئلة الأساسية:

  1. كيف تم استيعاب هؤلاء المهاجرين وإلى أي درجة نجحت عملية استيعابهم؟
  2. ما الذي ميّز أنماط الملكية على الأرض في القرى التي استوطنوا فيها، ولماذا بيعت أجزاء واسعة من أراضيهم للحركة الصهيونية؟
  3. من قاد الجالية الجزائرية وما هو نوع العلاقات الاجتماعية داخلها؟
  4. ما هي نوعية العلاقات بين الجالية الجزائرية في الجليل مع الجالية المركزية في دمشق؟
  5. ماذا كانت المواقف السياسية التي حملتها الجالية، وإلى أي مدى شاركوا في النشاط السياسي والوطني في البلاد؟
  6. ما طبيعة علاقتهم مع الجزائر؟

منذ منتصف القرن السادس عشر، كانت الجزائر جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، ولكن مع مرور السنوات ضَعُفَ الحكمُ العثمانيُّ في المنطقة وقوّيت مكانة الحكام المحليين. في المقابل، ازدادت عمليات التدخل الأوروبية في أمور الإمبراطورية، ومنها التدخل الفرنسي، إذ أظهرت فرنسا اهتماماً متزايداً في الشرق، وحتى بعد فشل حملة نابليون على مصر في 1798-1802 لم ينطفئ الطموح الفرنسي للتوسع جنوباً باتجاه المناطق العثمانية.

في حزيران 1830 هبطت قوات فرنسية على سواحل الجزائر، واحتلت العاصمة الجزائر العاصمة، وبدأت بالتوسع في بقية مناطق الدولة. بعد ذلك بعامين، بدأت حركة المقاومة المسلحة بقيادة الأمير عبد القادر الجزائري (1807-1883)، واستمر نضالها بالتناوب حتى كانون الأول 1847، عندها استسلم عبد القادر للقوات الفرنسية، ونُقِلَ إلى باريس حيث سُجن حتى  الإفراج عنه في العام 1852. من باريس انتقل الأمير عبد القادر إلى مناطق الدولة العثمانية وبعد أن بقي في مدينة بورصة في الأناضول لمدة ثلاث سنوات، استقر في العام 1855 في دمشق مع عائلته. ولقد أثّر هذا الأمر على ازدياد هجرة الجزائريين إلى المنطقة.

موجات الهجرة الجزائرية لسوريا وفلسطين

شكّل استسلام الأمير عبد القادر الجزائري للفرنسيين في العام 1847 نقطة تحوّل في كل ما يتعلق بهجرة الجزائريين نحو منطقة الشام، وقد وقعت هذه الهجرة على شكل أربع موجات، واستمرت حتى العام 1920، وهو العام الذي احتلت فيه فرنسا سوريا.

موجة الهجرة الأولى 1847- 1860

بدأت هذه الموجة فوراً بعد استسلام الأمير في العام 1847، واستمرّت حتى أحداث دمشق وجبل لبنان في العام 1860. توّجه الشيخ أحمد بن سالم في العام 1847، وهو وريث الأمير عبد القادر، مع عدد من أتباعه، إلى الحاكم الفرنسي في الجزائر، وطلبوا منه أن يسمح لهم بالهجرة من أرضهم. استجاب الفرنسيون لهذا الطلب، وهكذا في نفس العام، خرجت مجموعة المهاجرين الجزائريين الأولى، والتي شملت 560 شخصاً، باتجاه ميناء بيروت ومن هناك انتقلت إلى دمشق.

يرجح الباحث خالدي بأن اختيار دمشق لم يكن صدفةً، وإنما نتيجة لتنسيق مع عدد من وجهاء المدينة، ويدلّ على ذلك الترحيبُ الحارُّ الذي حظي به المهاجرون. ولقد كتب بن سالم ومجموعته للحاكم في دمشق شارحين له دوافعهم في الهجرة، وركّزوا على وفائهم للدولة العثمانية، كما طلبوا الحصول على أراضٍ حتى يستطيعوا تدبير أمورهم مادياً.

رأت السلطات العثمانية بالمهاجرين مواطنين انتقلوا للعيش من جزءٍ إلى جزءٍ آخر من أراضيها، ومنحتهم الدعم الماديّ، وأعفتهم من الخدمة العسكرية لمدة عشرين عاماً، وخصصت لهم أراضٍ من أراضي الدولة، وحتى أن العثمانيين عيّنوا مسؤولاً للعناية والاهتمام بأماكن سكن الجزائريين. ولقد طلبت السلطات العثمانية من المهاجرين الامتناع عن أي علاقة مع فرنسا، والتعهد بعدم طلب أي حماية أو رعاية أجنبية.

ولقد تم تخصيص الأراضي لهؤلاء المهاجرين بعد نقاشات مستمرة في مجلس محافظة دمشق والباب العالي، وصدر القرار على إثرها بإسكان من أتوا في موجة الهجرة الأولى هذه في قضاء عجلون وفي منطقة حوران، ولذلك لوجود مساحات واسعة وخالية من أراضي الدولة في هذه المناطق، عدا عن بعد تلك المناطق عن الأماكن التي يمكن أن يطالها التدخل أو التأثير الأجنبي.

مع مرور الزمن، وبشكل خاصّ بعد استسلام الأمير عبد القادر، وصل إلى دمشق مهاجرون آخرون، مثل المجموعة التي جاءت في العام 1853 من المدينة دلس. وقد ازداد عدد المهاجرين بعد مجيء الأمير عبد القادر إلى دمشق في العام 1855، وعندها بدأت السلطات العثمانية بتوزيع المهاجرين الجزائريين في مقاطعات أخرى، مثل عكا والجليل.

موجة الهجرة الثانية: 1883-1860

بدأت موجة الهجرة الثانية منذ أحداث دمشق في العام 1860، واستمرت حتى وفاة الأمير عبد القادر في العام 1883. في العام 1860 جاء إلى دمشق والجليل أوائل مهاجري الموجة الثانية، ومهم من أبناء قبائل مثل أولاد سيدي خالد، أولاد سيدي عيسى، وقبيلة عميرات. لا يذكر خالدي في كتابه عددهم في ذلك العام، ولكن حسب (Buzpinar)، وصل عددهم في منطقة طبريا وصفد في العام 1870 إلى ما يقارب 3700 شخصٍ.

يرجح خالدي بأن الارتفاع في عدد الجزائريين في منطقتي صفد وطبريا بوجه الخصوص في ذلك الوقت راجعٌ إلى رغبة الدولة العثمانية بإبعادهم عن دمشق ومحيطها القريب، وذلك بعد تدخل الأمير ومناصريه في الأحداث التي وقعت في دمشق عام 1860. وقد أدّى ذلك التدخل في حينه إلى لفت أنظار السلطات العثمانية للتهديد المتمثل في التركيز الكبير للجزائريين في المدينة وما حولها، ولذلك قرروا توزيعهم جغرافياً.

في العام 1881 ذكر القنصل الفرنسي في دمشق أن العدد الكليّ للمهاجرين الذين أتوا إلى سوريا حتى ذلك الحين وصل إلى 28,500 نفر، من ضمنهم 6,800 سكنوا في قضاء عكا. ومن خلال المقارنة بين هذا الرقم والأرقام التي نقلها (Buzpinar) في العام 1870، يمكن الاستنتاج بأن عدد الجزائريين في قضاء عكا تضاعف خلال 11 عاماً.

موجة الهجرة الثالثة: 1883- 1900

استمرت هذه الموجة من وفاة الأمير عبد القادر حتى العام الذي فرض فيه الفرنسيون الخدمة العسكرية الإجبارية على الجزائريين. شكّلت وفاة الأمير عبد القادر نقطةَ تحوّلٍ في مكانة الجزائريين في المنطقة، وعلى الرغم من أن أبناءه استمروا في قيادة الجالية، إلا أنهم لم يتمتعوا بنفس الإعجاب والتقدير اللذين حظي بهما والدهم من طرف السلطات والسكان على حد سواء.

في هذه السنوات استمرت هجرة مجموعات من الفلاحين من منطقتي سطيف وعنابة. حسب خالدي، فإن كل مهاجري هذه الموجة وصلوا بطريقة قانونية، فقد كانوا يحملون جواز سفر فرنسي بحريّ، ومثل سابقيهم، شدد هؤلاء المهاجرون عند وصولهم إلى منطقة سوريا أنهم مواطنون عثمانيون انقطع اتصالهم مع فرنسا.

في العام 1886، ذُكر أنه وصلت إلى دمشق 37 عائلة، تشمل 169 نفراً، تم إسكانهم في قرية الحسينية جنوب بحيرة الحولة. في العام 1888 ذكرت الصحيفة البيروتية البشير أن 250 مهاجراً جزائرياً وصلوا إلى ميناء عكا، وانضم جزء منهم إلى مهاجري الموجة الأولى الذين سكنوا في خرب قرى الهوشة وبير المكسور بقرب بلدة شفاعمرو، وجزء منهم سكن في غابة في منطقة حيفا. في العام 1889 ذكرت نفس الصحيفة بأن 100 عائلة جزائرية وصلت إلى المنطقة، وقد حصلوا كسابقيهم على الجنسية العثمانية، وتم إعفاؤهم من الخدمة العسكرية لعشرين عاماً.

في العام 1892، تم استيعاب وإسكان 148 مهاجراً جزائرياً في قرية الهوشة، وأغلبهم من قبيلة أولاد سيدي أرغيس، الذين تعود أصولهم إلى ولاية أم البواقي في الجزائر. وكذلك تم استقبال مهاجرين في قرية سمخ المهجرة، ومع مرور الزمن، تحوّلت قرية سمخ إلى واحدة من المناطق الجغرافية الأساسية التي يتركز فيها الجزائريون في تلك المنطقة.

موجة الهجرة الرابعة: 1900-1920

كان الدافع الأساسي للهجرة في هذه الموجة نيّة الفرنسيين في الجزائر فرض التجنيد العسكري الإجباري على سكان الجزائر. وقد فضّل المعارضون لهذا القانون من منطقة تلمسان، وعلى رأسهم الشيخ محمد بن يلس، فضّلوا الهجرة على أن يخدموا في الجيش الفرنسي. تم إسكان أغلب مهاجري هذه الموجة في مناطق حوران وفي حوض دمشق (الغوطة)، وقلّة منهم فقط تم إسكانهم في البلاد [فلسطين].

يمكن أن نلخص ما ذكر سابقاً والقول بأن أوائل المهاجرين الجزائريين وصلوا إلى فلسطين ضمن الموجة الأولى للهجرة، ولكن تَأسُسَ التواجدِ الجزائريِّ وتوَسُعَه في فلسطين بدأ مع الموجة الثانية بشكل خاصّ، وذلك في سنوات الستينات والسبعينات من القرن التاسع عشر.

نقطة أخرى يجب ذكرها، تتعلق بالفرق الكبير بين أعداد المهاجرين الذين وصلوا إلى سواحل فلسطين أو الذين وصلوا إليها عن طريق البرّ عبر سوريا، وبين أعداد أبنائهم الذين استمروا في العيش فيها (أي في فلسطين) بعد ذلك. من خلال مقارنة البيانات الديموغرافية التي بين أيدينا وأرقام المهاجرين في أواخر العهد العثماني، مع أرقام المهاجرين في عهد الانتداب البريطاني، يظهر بأن، كما يبدو، جزءاً قليلاً فقط من الآلاف الذين هاجروا إلى فلسطين بقوا فيها، وإلا فإن عدد الجزائريين في فلسطين في فترة الانتداب البريطاني سيكون أعلى مما كان عليه في الحقيقة. بالإضافة إلى ذلك، كان استقرار الجزائريين في منطقة الجليل مختلفاً عن استقرارهم في ثلاث مناطق أخرى وهي صفد وطبريا وحيفا.

سكان قضاء صفد

تأسست في قضاء صفد خمس قرى جزائرية، وهي: ديشوم، عموقه، ماروس، الحسينينة، وتليل. وكان المهاجرون الذين استقروا في هذه القرى يرتبطون بجماعة الشيخ أحمد بن سلم، وكانوا من أبناء قبائل مختلفة. سكن في قريتي عموقه وماروس أبناء قبيلة أولاد بو الوارث الذين تعود أصولهم إلى منطقة مدينة دلس في الجزائر. بينما سكن في قريتي الحسينية وتليل أبناء قبيلة أولاد بو الكبير الذين تعود أصولهم إلى منطقة بليدة، بينما سكن في قرية ديشوم أبناء قبيلة آيت يحيى الذي أتوا من منطقة تقزيرت.

وقد ذكر عدد من  الرحالة الأوروبيين إلى فلسطين في كتبهم ومذكراتهم الوجود الجزائري في هذه القرى وقرى أخرى مثل قرية ميس الجبل، ومنطقة تل حاصور (تل القدح)، وقرية علما، ورأس الأحمر. يمكن الاستنتاج من المعلومات التي بين أيدينا بأن جزءاً من المهاجرين الجزائريين سكنوا في بداية هجرتهم في قرى “مختلطة”، أي سكنوا مع الفلسطينيين، ومن ثم أسسوا القرى الخمس المذكورة أعلاه، والتي كانت قرى جزائرية بكامل سكانها.

بالإضافة إلى ذلك، فقد سكن عدد من المهاجرين الجزائريين في صفد المدينة، والذين أتوا إليها بالأساس خلال موجة الهجرة الأولى، ونسمع عنهم من خلال القراءة عن مرور الأمير عبد القادر بصفد في طريقه إلى القدس.

لا نملك معلومات إحصائية دقيقة عن عدد الجزائريين في مدينة صفد، إلا أن بعض المراجع الأجنبية تذكر أن الكثير من سكان صفد هم من أصول جزائرية، بينما يذكر الباحث شور أن هناك ادعاء رائج بأن نصف سكان صفد المسلمين في القرن التاسع عشر كانوا من الجزائريين.

ويضيف شور بأن الاستقرار الجزائري في صفد أدى إلى “تطرف” في مواقف المجتمع المسلم في المدينة. حسب كلامه، فقد اتصف الجزائريون بعدم تسامحهم مع غير المسلمين، ومما يدلّ على ذلك هو الاعتداء على “كيتشنر وكوندر”[1]. في العاشر من تموز 1875، تمّ “الاعتداء” على وفد برئاسة كيتشنر وكوندر، من قبل جمع غاضب بقيادة علي آغا من قادة الجزائريين في صفد، والذي حاول منع أعمال البحث والقياس ورسم الخرائط في المنطقة. انتهى “الاعتداء” بجرح عدد من أعضاء الوفد البريطاني، من بينهم “كيتشنر”.

من الصعب أن نحدد إذا كان هذا “الاعتداء” دالاً على عدم التسامح لدى الجزائريين اتجاه غير المسلمين، فقد كان يعيش في صفد يهود ومسيحيون، ولم يذكروا أبداً أي اعتداء ضدّهم بسبب دينهم.

حسب رأيي، لم يسكن في صفد أكثر من 200 جزائري في تلك الفترة، نعرف ذلك عن طريق معرفة عدد الجزائريين في صفد في فترة الانتداب البريطاني، إذ تذكر السجلات أنه كانت فيها عائلتان متوسطتان- ديلسي وعربي – وبعض العائلات الصغيرة الأخرى التي سكنت في حارة الاكراد الشرقية. وقد كان قادة هذه الجالية في صفد أبناء عائلة ديلسي، وهما مصطفى ومحمد رشيد، وهما تاجران معروفان أتوا من المدينة الجزائرية دلس.

سكان قضاء طبريا

أسست في قضاء طبريا أربع قرى جزائرية، وهي عولم، مَعْذَر، كفر سبت، وشعارة. بالإضافة إلى ذلك، سكن عدد غير معروف من الجزائريين في قرية سمخ المجاورة وفي مدينة طبريا نفسها. انتمى سكان هذه القرى في طبريا إلى ثلاث قبائل: في معذر سكن أبناء قبيلة أولاد سيدي خالد، وسيدي عمر، الذين هاجروا من مناطق وادي البردي والبويرة.

وفي قرية كفر سبت سكن أبناء قبيلة أولاد سيدي عيسى، والذين هاجروا من ذات المنطقة، وفي قرية عولم سكن أبناء قبيلة أولاد سيدي يونس و أولاد سيدي عيسى، الذين جاؤوا من منطقة عين بسام والبويرة. أما سكان شعارة فقد كانوا جميعاً من أبناء قبيلة سيدي عيسى الذين هاجروا من منطقة المسيلة. لا توجد لدينا معلومات عن المبنى العشائري والقبلي لسكان قرية سمخ، غالباً لأنها كانت قرية مختلطة.

في المسح الذي أجراه كيتشنير وكوندر ذكرت فقط قريتان جزائريتان في طبريا، وهما كفر سبت ومعذر. بحسب كيتشنير وكوندر، فقد تأسست قرية كفر سبت في العام 1870، وكانت بيوتها مبنية من حجر البازلت، ووصل عدد سكانها إلى ما يقارب 300 نسمة، اشتغلوا في الزراعة الموسمية، وقد أعفتهم الحكومة العثمانية من الضرائب لمدة ثماني سنوات. من المثير للاهتمام أن نذكر أنه حسب شهادة الاثنين لم يكن في القرية أشجار.

أما في قرية معذر، فقد ذكر المسح الذي أجراه “كيتشنير وكوندر” بأن بيوتها بنيت كذلك من حجر البازلت، وأن عدد سكانها وصل إلى 250 نسمة، عملوا في زراعة أراضي السهل، وأيضاً في هذه القرية لم تكن هناك أشجار.

أما Victor Guerin الذي زار بلادنا في العام 1875، فقد ذكر قرية عولم وقال بأن مجموعة صغيرة من الجزائريين من مقاتلي الأمير عبد القادر الجزائري سكنت في القرية وزرعت أشجار التين فيها. وفي حديثه عن قرية كفر سبت، وصف فيكتور قرية صغيرة مع مسجد، بنيت على قمة تلة ولم يذكر من كان سكانها، ولكن وفد المسح البريطاني قال بأن سكانها كانوا مهاجرين جزائريين.

سكان قضاء حيفا

سكن المهاجرون الجزائريون في قضاء حيفا في خرب الهوشة، والكساير، وبير المكسور. وكان كل المهاجرون في تلك القرى من أبناء قبيلة واحدة، هي أولاد سيدي أرغيس الذين ينحدرون من منطقة أم البواقي. وبما أننا لا نملك شهادات عن استمرار استقرارهم في بير المكسور، إلا أننا نرى أنه في فترة معينة تركز جميعهم في قرية الهوشة.

الأراضي، أنماط ملكية الأراضي، وبيعها للحركة الصهيونية

بهدف التسهيل على المهاجرين الجزائريين، وفرت لهم السلطات العثمانية دعماً مادياً، وأعفوهم من الخدمة العسكرية لعشرين عاماً، كما خصصوا لهم مساحات من الأراضي ليعتاشوا من فلاحتها.

في بداية فترة الانتداب البريطاني وقبل بدء موجة بيع الأراضي لجهات خارجية، كان في ملكية القرى الجزائرية في فلسطين في مقاطعات صفد وطبريا الأراضي الموضحة في الجدول رقم 1، والتي كان إجمالي مساحتها 84,116 دونماً. ويضاف إلى هذا الرقم مساحة أراضٍ في قرية سمخ، والتي وصلت إلى 17,601 دونماً، ولكننا لا نعرف على وجه الدقة كم من هذه المساحة كانت أراضٍ تابعة للفلسطينيين من سكان سمخ، وكم منها كان تابعاً للجزائريين الذين سكنوا سمخ.

الجدول رقم (1): مساحات الأراضي التي كانت بملكية الجزائريين، المصدر: (الأرشيف الصهيوني المركزي، ملف رقم KKL5\17001، قائمة ملكية الأراضي في قضاء صفد وطبريا في تاريخ 31 ديسمبر 1947).

القرية المساحة بالدونمات
ديشوم 23,044
ماروس 3,183
عموقه 2,574
الحسينية وتليل 5,293
كفر سبت 9,818
معذر 11,588
عولم 18,518
شعارة 6,098
الهوشة 4,000

من المهم أن نذكر أن الأراضي التي خصصت للسكان الجزائريين كانت مختلفة من ناحية جودتها وخصوبتها، فأراضي القرى في الجليل الأدنى على سبيل المثال كانت خصبة على وجه الخصوص، بينما كانت أراضي الجبل في قضاء صفد أقل خصوبة وصعبة الفلاحة.

كما أن أنماط ملكية الأراضي التي أعطيت للجزائريين لم تكن واحدة، ويمكن تقسيم هذه الأنماط إلى نوعين:
1- أراضٍ بملكية السكان الجزائريين أنفسهم، مثل أراضي القرى الخمس في صفد وأراضي إحدى القرى الجزائرية في قضاء حيفا.
2- أراضٍ بملكية مشتركة بين الأمراء الجزائريين من دمشق وبين السكان الجزائريين أنفسهم، مثل أراضي القرى الجزائرية في قضاء طبريا.

في هذا السياق، ذكرت صحيفة الكرمل بأن نصف الأراضي في القرى الأربعة [في قضاء طبريا] كانت بملكية الأمير علي، ابن الأمير عبد القادر، الذي حصل عليهم كما تذكر الصحيفة من قبل الفلاحين أنفسهم مقابل الحماية التي وفّرها لهم. من هذا نتعلم أن جزءاً من السكان كانوا “مزارعين مستأجرين” تابعين للأمراء أبناء عبد القادر وأحفاده.

من المثير للاهتمام أن نذكر بأن نوع الملكية على الأراضي أثرّ على العلاقة بين السكان الجزائريين وبين الأرض..فمثلاً في القرى الثلاث في منطقة الجبل في صفد: ديشوم، عموقه، وماروس، والتي كانت فيها الملكية للسكان أنفسهم، كانت العلاقة بين المهاجرين والأراضي قوية ومستقرة، وقد أعطيت لكل عائلة مساحة من الأراضي تتراوح بين 100-200 دونم، وبعض العائلات كانت لديها 400 دونم. يعكس ذلك الأوضاع الاقتصادية الجيدة التي كانت لهؤلاء المهاجرين، وقد كانت عملية بيع الأراضي في هذه القرى هامشية للغاية.

ولكن في القرى التي كانت تحت ملكية مشتركة بين الأمراء والسكان، كان الوضع مختلفاً. وهنا بدأت عملية مكثفة من بيع الأراضي بعيد تصاعد الطلب عليها من قبل الحركة الصهيونية وارتفاع أسعارها.

يجب أن نذكر أن الطلب على الأراضي والمحاولات لشرائها من قبل الحركة الصهيونية في هذه المنطقة بدأ في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وفي هذا السياق برز “حاييم مرجليت كلفريسكي”. بعد ذلك، في نهاية عام 1899، عندما بدأت جمعية “يكا” بتوسيع نشاطها في فلسطين، واهتمت بشراء الأراضي في محيط قرية الشجرة، كان حاييم كلفريسكي هو الشخص الذي جُنّد لهذه المهمة، فقد كان مسؤولاً بين الأعوام 1900-1905 عن مشروع الاستيطان في الجليل الأدنى الشرقي. مع انتهاء عام 1905، وصلت الملكية على الأراضي في الجليل الأدنى الشرقي وفي سواحل طبريا الغربية وفي مدينة طبريا بيد هذه الجمعية الصهيونية إلى ما يقارب 80 ألف دونم.

والمثال الأبرز على بيع الأراضي للحركة الصهيونية كانت قصة بيع أراضي الأمير سعيد، ابن الأمير علي الذي ذكر سابقاً، في قرية شعارة في العام 1927. وكانت قد نُشِرَت في العام 1913 أخبارٌ عن نيّة الأمير بيع أراضيه في جريدة “تنين الاسطنبولي”، وفي العام 1922 نشرت صحيفة الكرمل خبراً عن الموضوع ذكرت فيه مجدداً نية الأمير بيع أراضيه. وقد ناشدت الصحيفة الأمير أن يسلك درب جدّه وأن يمتنع عن بيع أرضه والذي يتعارض مع المصلحة الوطنية، على حدّ تعبير الصحيفة. لم يفد الإعلان في منع الأمير عن بيع أراضيه، وقد اضطر سكان هذه الأراضي الذين يصل عددهم إلى 200 للهجرة مجدداً وتوجهوا إلى حوران، وهناك تم إسكانهم في القرية الجزائرية عابدين.

عملية بيع أخرى، واسعة النطاق، وقعت في قريتي معذر وعولم، حيث كانت كذلك الملكية على نصف أراضي القريتين بيد الأمير علي، ابن الأمير عبد القادر. في العام 1926 باع ورثة الأمير، والذين برز منهم حفيده الأمير عبد الرازق، معظم أراضي القريتين لشركة “جمعية إسرائيل”، وبعضها لشركة “فيكا” (The Palestine Jewish Colonization Association).

حادثة أخرى وقعت فيها صفقة تبادل وبيع أراضي كانت في قريتي الحسينية وتليل في سهل الحولة. يجب أن نذكر أن المحاولة السابقة لشراء الأراضي في القرى الجزائرية في سهل الجولة بدأت في نهاية العهد العثماني، حينما حاول حاييم لفينريسكي التقرب من الأمير علي الجزائري بهدف شراء أراضيه، ولكن لم ينجح بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى.

ومن خلال معاينة المراسلات بين يوسف نحماني وبين اللجنة الرئيسية لصندوق القومي اليهودي يظهر بأنه في قريتي معذر وعولم تم التوقيع على صفقات تبادل وبيع أراضٍ بمساحات كبيرة. كانت الصفقة الأولى اتفاق التبادل بين شركة “فيكا” اليهودية وبين أبناء الحاج طاهر، والذي كان واحداً من وجهاء الجزائريين في سهل الحولة. كان بحوزة أبناء الحاج طاهر 841 دونماً من أراضي قرية تليل، وتم توقيع الاتفاق بينهم وبين الشركة في العام 1933. تعهدت وفقاً لهذا الاتفاق شركة “فيكا” بتسليم كل أراضيها في قرية الملاحة بمساحة 791 دونماً مقابل تخلي أبناء الحاج طاهر عن أراضيهم في  تليل، دونماً مقابل دونم، بالإضافة إلى دفع مبلغ معين مقابل البيوت في القرية.

ليس من الواضح ما هي دوافع أبناء الحاج طاهر في هذه الصفقة ولترك قريتهم، وربما كان الدافع هو الرغبة في الابتعاد من منطقة الأراضي الرطبة والبحيرة. على أية حال، أدت هذه الصفقة إلى نقل جزء كبير من أراضي قرية تليل لأيدي اليهود.

بالإضافة إلى الصفقة مع ابناء الحج طاهر، فقد نجحت شركة فيكا في شراء 1200 دونماً من أصحاب الأراضي في القرية، ومن أبرزهم كان موسى حج حسين الكبير، الذي باع 410 دونماً، وعيسى حاج طاهر عيسى الذي باع 347 دونما.في كلتا الحالتين كانت تلك الأراضي محجوزة من قبل شركة “فيكا” لم يتمكن أصحابها من دفع ديونهم لمنع احتجازها.

بعد هذه الصفقات وصفقات صغيرة أخرى لبيع وتبادل الأراضي، انتقلت ملكية 1987 دونماً من أراضي قرية تليل لتصبح ملكية يهودية. يتضح ان شركة فيكا التي قامت بعملية الشراء وجدت صعوبة في دفع كل المبالغ المستحقة عليها لقاء شراء الأراضي، ولم تستمر في عملية تسجيلها ولذلك قامت بيع حقوقها في تلك الأراضي لصندوق القومي اليهودي.

وأيضاً في قرية الحسينية المجاورة لقرية تليل باع عدد من أصحاب الأراضي الكبار مئات الدونمات من أراضيهم لشركة فيكا، وبرز منهم أبناء عائلة عامر – حسين وعلي- وأبناء الحج زيد. في هذه المرة أيضاً كانت تلك الأراضي المبيعة محجوزة من قبل شركة فيكا بسبب ديون وصعوبات مالية واجهت أصحابها. من قائمة الصندوق القومي التي تلخص فيها ملكيتها على الأراضي، والصادرة في 31 كانون الأول 1947، يظهر بأنه في نهاية المطاف، اشترت جهات يهودية ما يقارب 3,000 دونم في قريتي تليل والحسينية.

بالإضافة إلى البيع لجهات يهودية، باع عدد من أبناء القرية أراضٍ بمئات الدونمات لعائلات عربية غنية مثل عائلة خوري وعائلة سعدي من صفد. في نهاية كل عمليات البيع، بقي لأهالي القرية  1,700دونماً والتي كانت بملكية أبناء الحاج موسى حسين الكبير.

في قرية الهوشة في قضاء صفد كانت كل الأراضي بملكية خاصة ولم يكن هناك ملاك أراضي غائبون. وهنا لم نجد أي ذكر لبيع أراضي.

لتلخيص موضوع الأراضي، نرى بأن القسم الأكبر من الأراضي بملكية الأمراء من أبناء وأحفاد الأمير عبد القادر الجزائري كانوا في قرى قضاء طبريا، وقد بيعت أجزاء كبيرة من هذه الأراضي لليهود في الفترة التي تحدثنا عنها. بالإضافة إلى ذلك، رأينا بأن أصحاب الأراضي الكبار من بين السكان الجزائريين أنفسهم باعوا قسماً من أراضيهم في منطقة طبريا والحولة.

من سجلات الصندوق القومي اليهودي لتاريخ 31 كانون الأول 1947 يظهر بأن الجهات اليهودية نجحت في شراء مساحات أراضٍ واسعة من أراضي الجزائريين في قضاء طبريا، حسب التقسيم التالي:

شعارة: 5985 دونماً
عولم: 9633 دونماً
معذر: 7196 دونماً
كفر سبت: 5110 دونمات.

يجري الحديث عن 27,924 دونماً والتي تشكل 60.7% من أراضي الجزائريين في قضاء طبريا.

على الرغم من ذلك، يظهر من تلخيص قائمة الأراضي الواقعة تحت ملكية يهودية في قضاء صفد من تاريخ 31 كانون الأول 1947، بأن عمليات بيع الأراضي هناك (أي في صفد) كانت هامشية جداً، وقد وصلت فقد لـ 3106 دونماً والتي تشكل 9.1% فقط من أراضي الجزائريين في القضاء.

المبنى الديموغرافي في فترة الانتداب البريطاني

على الرغم من عدم الوضوح فيما يخص عدد الجزائريين الذين سكنوا في الجليل في نهاية الفترة العثمانية، إلا أن عددهم في فترة الانتداب البريطاني  ليس محل خلاف، وهو كما يظهر في الجدول رقم 2.
الجدول رقم (2): أعداد السكان في القرى الجزائرية بين السنوات 1922-1945. المصدر: “قائمة القرى العربية”، إحصائيات حكومية من شهر أبريل 1945، مصطفى الدباغ، بلادنا فلسطين.

القرية  في العام 1922 في العام 1931 في العام 1945
ديشوم 479 438 590
تليل 196 474 مع الحسينية 340 مع الحسينية
الحسينية 127
عموقه 114 108 140
ماروس 45 59 80
كساير 222
معذر 347 359 480
عولم 496 555 720
شعارة هجرت القرية بعد بيع أراضيها عام 1927
كفر سبت 247 340 480
الهوشة 165 202 300
المجموع 2,216 2,571 3,352

 

تشير هذه البيانات بشكل عام إلى أن الارتفاع الديموغرافي في عدد أفراد الجالية الجزائرية كان منخفضاً، وأنه في قريتين هما ديشوم وعموقه كان هناك انخفاض بعدد السكان الجزائريين بين الأعوام 1922-1931. في عدد من القرى كان عدد السكان قليل جداً، وبالذات في عموقه، تليل، وماروس.

يجب أن نضيف إلى هذه البيانات بضعة مئات من الجزائريين الذين سكنوا في قرية سمخ، والجزائريين المدنيين الذي سكنوا في مدينتي صفد وطبريا، والذي وصل عددهم إلى 300 نسمة. ينتج من ذلك أن العدد الإجمالي للجزائريين القرويين والمدنيين كان عشية حرب عام 1948 ما يقارب 4000 نسمة. من خلال مقارنة هذه البيانات مع بيانات من سنوات السبعينات والثمانينات من القرن التاسع عشر والتي تظهر أن عدد الجزائريين في تلك الفترات كان 6800 نسمة في قضاء عكا، يبدو بوضوح بأنه فقط قسم من هؤلاء الآلاف بقي في منطقة الجليل.

مصادر الاقتصاد والعمل في فترة الانتداب البريطاني

كما رأينا، فإن الوضع الاقتصادي للمهاجرين الجزائريين الأوائل كان صعباً للغاية. لقد أتوا إلى البلاد لا يملكون شيئاً، ولكنهم نجحوا مع مرور الزمن في تأسيس أنفسهم في الأراضي التي خصصت لهم وطوّروا أوضاعهم. لقد اشتغل الجزائريون في الزراعة الموسمية لمزروعات مختلفة، وبشكل خاص في الحبوب، ولقد استمرت الزراعة بكونها مصدر رزقهم الأساسي كذلك في فترة الانتداب البريطاني، على الرغم من بيع قسم من أراضيهم.

أما القطاع الآخر الذي شكّل مصدراً لرزقهم فقد كان تربية الحيوانات، وهو القطاع الذي تطوّر نظراً لأن المناطق التي سكنها الجزائريون كانت غنية بالمراعي. مثلما رأينا، كان كثيرٌ من  الجزائريين من أصل قبلي ويمكن أن نفترض إذن أن المراعي كانت مجال عملهم الأساسي أيضاً قبل هجرتهم لبلادنا.

وتعتبر تقارير “الشاي” (وحدة المخابرات الصهيونية التابعة لعصابات الهاجاناه أسست عام 1940) المصدر الوحيد الذي وصف الوضع الاقتصادي في قرى الجزائريين، ولكنها تطرقت فقط للسنوات المتأخرة من 1942-1943، الأمر الذي يجعل من الصعب فحص الاختلافات والتغييرات التي حصلت مع مرور الزمن. في أحد التقارير عن خربة الكساير [قضاء حيفا] على سبيل المثال، نُقِل بأن أغلب السكان يشتغلون بالزراعة، وبأن شباباً كُثر يعملون كأجيرين، وليس من مسؤولٍ واحدٍ في القرية.

في تقرير مشابه عن قرية الهوشة نجد بأن اثنين فقط من سكانها اشتغلوا في التجارة، وأن قلّة قليلة اشتغلت كسائقين، بينما اشتغل البقية كمزراعين. أما التقارير عن قريتي عولم ومعذر فهي مشابهة ويظهر منها أنه بكل قرية كان هناك محلان وأن أغلب السكان ترزقوا من الزراعة التقليدية وتربية الحيوانات. يمكن التعلم من هذه التقارير بأنه لم تكن في تلك القرى أية آلات زراعية.

في التقرير عن قرية تليل ذكر بأن سكانها عملوا في تربية الحيوانات وفي المحاصيل الحقلية. صورة مشابهة نجدها في بقية القرى، والاستنتاج الرئيس هو أن أغلب أبناء الجالية كانوا مزراعين وحرثوا أراضيهم بطرق تقليدية، وقلة قليلة منهم فقط نجحوا في الاندماج في قطاعات التشغيل المختلفة مثل التجارة والإدارة والخدمات.

نشاطهم السياسي والوطني

على الرغم من عددهم القليل، برز الجزائريون كعامل نشط على المستوى الوطني، وكما سنذكر فقد اتُهِموا بأنهم منذ مجيئهم للبلاد، أظهروا شكوكاً مبالغاً فيها – أكثر من الفلسطينيين – اتجاه الأغراب من غير المسلمين. يبدو أنه كذلك في فترة الانتداب البريطاني استمر الجزائريون باتخاذ نفس الموقف الحذر، وقاموا بدورٍ فعّالٍ في ثورة 1936-1939 وخاصة في منطقة الجليل الأعلى الشرقي.

ويعتبر القائد الجزائري الفلاح موسى حج حسين الكبير من قرية تليل أحد أبرز القادة خلال فترة الانتداب البريطاني، والذي يوصف بأنه المنظم البارز للثورة في الجليل الشرقي. في تقرير “الشاي” بتاريخ 4 أيلول 1938 ذُكِرَ:

“نجح موسى حاج حسين في حشد المتخاصمين المختلفين والآن كلهم يتجمعون تحت إمرته وكل شيء يجري بعلمه”. وفي تقرير آخر عن قرية عموقه ذكر: “السكان مغاربة، أغلبهم من ذووي الفوضى والتمرد، اشترك كل رجال القرية في الثورة وكانوا هم من نظموا و أداروا حركة الثورة في الشمال بقيادة موسى حج حسين المغربي من تليل”.

لقد رأى البريطانيون في موسى الكبير عاملاً مهدداً على الاستقرار والأمن في المنطقة، وقاموا بتفجير بيته وبيوت أخرى في قرية تليل. ولقد نجح الكبير في الهروب لسوريا ومن هناك استمر في إدارة نضاله من منطقة الجولان بواسطة رجاله من القرى، حتى اعتُقِل على يد السلطات الفرنسية. ولقد أدى اعتقاله إلى غليان واسع في صفوف الجالية الجزائرية في البلاد وحتى في سوريا، والذي أدى إلى تدخل الأمراء في دمشق من أجله. يدلّ ذلك على التعاون والتنسيق بين الجاليتين في فلسطين وسوريا.

يظهر كذلك بأنه بعد انتهاء الثورة استمر الكبير في قيادة الجالية في منطقة صفد. يشير تقرير “الشاي” من سنة 1941 إلى أن الكبير يدير حملة دعائية خفية ويحافظ على علاقات مع الأمير صلاح الجزائري. “هناك شعور بوجود حركة ودعاية خفية من قبل موسى حاج حسين.. لديه علاقات مع الوطنيين في دمشق، ويتلقى مرات في الأسبوع أخباراً من الأمير صلاح الجزائري بواسطة أبو عاطف الذي كان من رؤساء الإرهابيين في محيطه.. موسى الحج حسين يلف أكثر من مرة في القرى.. ويقوم بجهود المصالحة بين القرى في خلافات عديد، وفي الفعل يقوم بالدعوة لتنظيم عملية الحصول على السلاح وتنظيم الأمور استعداداً ليوم التحرير الذي سيأتي قريباً”.

إلى جانب موسى الكبير نشط عدد من الجزائريين في قضاء صفد، ومن بينهم برز الأخوان محمد سليم الصلاح ومحمود سليم الصلاح أبو عاطف من قرية عموقه شمالي صفد. كان أبو عاطف الذي لُقّبَ بالمجاهد الصغير واحداً من القادة الميدانيين وشارك بشكل نشط وفعال في الثورة في سنوات 1936-1939.

ولقد تمت ملاحقته كذلك على يد البريطانيين ومن ثم هرب إلى سوريا وتم السماح له بالرجوع إلى فلسطين فقط بعد انتهاء الثورة. في تقرير “الشاي” ذُكِرَ بإنه على الرغم من أن عدد سكان القرية قليل جداً إلا أن لهم تأثير واسع على القرى المحيطة، وذلك لأن مدير حركة الثورة في الشمال موسى الحاج حسين هو قائدهم. إلى جانب أبو عاطف برز قائد جزائري آخر هو الشيخ سعيد عمر من قرية ماروس.

على العكس من الجزائريين الذين عملوا في قضاء صفد، يبدو أن الجزائريين في قضاء طبريا كانوا أقل نشاطاً في صفوف الحركة الوطنية. كان القائد القروي البارز في كفر سبت طيب حاج رابح الكبير شخصاً يحمل آراءً معتدلةً وبعيداً عن السياسة. وكذلك كان رئيس عائلة عيسى السعيد، الذي كان تاجراً للحبوب. تشير تقارير “الشاي” التي تتحدث عن هذه القرى إلى ذلك بشكل واضح، هكذا مثلاً يذكر التقرير عن قرية كفر سبت: “تقع هذه القرية بين مستوطنات يهودية وبالقرب منها، لذلك لا يُعرَف عن هذه القرية انها اشتركت في النشاطات خلال الأحداث”.

كما نجد شهادة مشابهة على قريتي معذر وعولم، ويُذكَر بشكل واضح أنه لم يشارك أي شخص من سكانها في الأحداث، أو يعتقل أو يقتل.

على الرغم من ذلك، من المعروف أنه في قرية الهوشة –الكساير في قضاء حيفا كانت هناك مشاركة واضحة وبارزة للسكان الجزائريين في أحداث الثورة. وفي تقرير “الشاي” عن الكساير تُذكَر أسماء 15 ناشطاً من أبناء القرية، برز من بينهم عبد السلام عبد الرحمن والذي كان قائداً على فصيل من الثوار. كما يذكر في التقرير أن أربعة من سكان القرية قُتِلوا في مصادمات مع الجيش البريطاني، بالإضافة إلى ذلك نفي إلى معسكرات الاحتجاز 19 آخرين.

في التقرير عن قرية الهوشة ذكر أن 13 شخصاً من أبناء القرية كانوا نشيطين في أيام الثورة، منهم 11 شخصاً تم إرسالهم إلى معسكرات الاحتجاز، وواحد منهم قتل. وقد كان على سلامة الشخص الأبرز في هذه القرية.

لا يوجد تفسير واضح وقطعي لمشاركة الجزائريين النشطة في الأحداث في مقاطعتي صفد وحيفا، ولعدم مشاركة أولئك القاطنين في قضاء طبريا. يمكن أن نفترض بأن قرب تلك القرى إلى مدينتي حيفا وصفد واللتين كانتا نشيطتين أكثر من طبريا في الحركة الوطنية الفلسطينية، كان السبب المؤثر على سلوك سكان تلك القرى.

حياة المجتمع، الحفاظ على الهوية والعلاقة مع أرض الوطن

لم تكن الجالية الجزائرية في الجليل متجانسة من حيث تركيبها الإثني واللغوي: فقد كان سكان قريتي معذر وشعارة من أصل بربري أمازيغي، وكانوا مختلفين عن الآخرين من ناحية بناهم الجسدية، وجلدهم الفاتح اللون، وعيونهم الزرقاء، ولهجتهم المميزة.

مع ذلك، أظهر هؤلاء الأمازيغ تضامناً وتكاتفاً، وحافظوا دائماً على هويتهم  كجزائريين. وقد انعكس هذا الأمر في لهجتهم  الشمال إفريقية، وفي لباس النساء والذي يختلف عن لباس القرويات المحليات [الفلسطينيات]، فقد لبست الجزائريات الحجاب بشكل دائم. كما حافظوا على الزواج داخل الجالية، وحافظوا على أكلهم الجزائري المميز.

كان معظم الجزائريين محافظين دينياً، وكان من بينهم من أتباع الطريقة الصوفية القادرية، والتي ترأسها قائدهم عبد القادر الجزائري. وقد برز في قضاء صفد الشيخ محمد الوناس من قرية ديشوم، والموصوف بأن لديه القدرة على التنبؤ بالمستقبل وصاحب قدرات خارقة.

من خلال النظر في تقارير “الشاي” تظهر لنا صورة لمستوى التعليم في الجالية الجزائرية، خاصة في القرى. في قرى عموقه وماروس ومعذر وعولم والحسينية وتليل، لم تكن هناك أية مدرسة، وعدد الذين يعرفون القراءة والكتابة كان منخفضاً جداً. في القرى الأكبر، مثل الهوشة، وكفر سبت ويشوم، كانت هناك مدارس تصل إلى الصف الرابع، وكان المعلمون في الغالب هم رجال الدين المحليين. أما في قرية سمخ فقد كانت هناك مدرسة ابتدائية.

نجد شهادة أخرى على رغبة أبناء الجالية في الحفاظ على هويتهم وتميزهم في إقامة جمعية المقاصد الخيرية المغاربية في صفد. أسست هذه الجمعية في 10 كانون الثاني 1947 بمبادرة الجزائريين في صفد ومقاطعتها، ولكنها شملت كذلك الجاليات الجزائرية في طبريا والناصرة وحيفا وسمخ ومقاطعاتها.

كانت أهداف الجمعية:
1- الحفاظ على الثقافة والتقاليد، وتشجيع التعاون بين أبناء الجالية.
2-تقديم المساعدة للفقراء من الجزائر وللطلاب الذين لا قدرة لهم.
3- تشجيع التطور الاقتصادي والاجتماعي بين أبناء الجالية.

وقد كان عشرة من بين المؤسسين العشرين للجمعية من صفد. كان السكرتير محمد ديلسي وكان رئيس الجمعية الحاج سعيد عمر مختار قرية ماروس والذي كان من قادة الجزائريين في الشمال. كانت الجمعية التنظيم الوحيد الذي أقامه الجزائريون في قضاء صفد، ولقد حاولت هذه الجمعية الحصول على دعم وتشجيع قادة المدينة – صفد – واعتادت أن تدعوهم مراراً لحضور اجتماعاتها المهمة. في العام 1947 دعت الجمعية القائد التونسي حبيب بورقيبة لزيارة المدينة.

ولقد حافظ أبناء الجالية في بلادنا على علاقة مع أرض الوطن – أي الجزائر-، ويظهر من شهاداتهم أنهم كانوا يتراسلون بشكل دائم أحياناً وبشكل متقطع أحياناً أخرى مع أبناء عائلاتهم في الجزائر. ولقد عملت الجمعيات التي أسسوها في فلسطين ودمشق على الحفاظ على هذا التواصل وتطويره. وكذلك أبناء وأحفاد الأمير عبد القادر استمروا في الحفاظ على العلاقة مع أرض الوطن  بكل وسيلة ممكنة.

بعد حرب عام 1948 وتدمير كل القرى الجزائرية انتقلت الغالبية العظمى من أبناء الجالية الجزائرية إلى سوريا أو لبنان، وقد اعتنت ببعضهم السفارة الفرنسية في دمشق، وعندما حصلت الجزائر على الاستقلال، حصل كثيرٌ منهم على الجنسية الجزائرية وبعضهم عاد للعيش في الجزائر. في فلسطين تبقى فقط 400 من أبناء الجالية الجزائرية، وأغلبهم يسكنون كلاجئين في شفاعمرو وقليلون يسكنون في قرية دير حنا.

ملخّص

وضع هذا المقال له هدفاً الإجابة على ست أسئلة أساسية ذات علاقة بالتغيرات التي مرّت بها الجالية الجزائرية في البلاد، وهذه هي الاستنتاجات:

1-على الرغم من الصعوبات الاقتصادية التي مرّت بها الحكومة العثمانية، إلا أنها نجحت في استيعاب وإسكان الآلاف من المهاجرين الجزائريين الذين وصلوا إلى أراضيها، وقامت بمساندتهم مادياً ومنحهم مساحات واسعة من الأراضي وإعفائهم من الخدمة العسكرية. وبهذا يمكن القول أن المرحلة الأصعب في حياة المهاجرين، المرحلة الأولى، قد مرّت بنجاح.

2-فيما يتعلق بأنماط الملكية على الأراضي، أظهر المقال أنه على الرغم من أن هذه الأراضي أعطيت للمهاجرين أنفسهم، إلا أن ذرية عبد القادر استطاعوا السيطرة على أجزاء واسعة منها وتحوّلوا إلى شركاء في الملكية عليها. استغل هؤلاء الأمراء ارتباط المهاجرين بهم في المراحل الأولى لهجرتهم ونجحوا في نزعهم جزءاً من أراضيهم. ولقد برزت هذه الظاهرة في فترة الانتداب البريطاني عندما ازداد الطلب من طرف الحركة الصهيونية على الأراضي وارتفعت أسعارها، حينها باع الأمراء حصتهم في هذه الأراضي وأضرّوا بهذا بشكل كبير في المهاجرين، بل أنهم أدّوا إلى تهجير قرية بأكملها في العام 1927، قرية شعارة.

3-فيما يتعلق بسؤال القيادة والعلاقات الاجتماعية، أظهر المقال بأن هناك قيادة محلية نمت وسط الجالية الجزائرية، خاصة في أوساط سكان قضاء صفد الذين كانوا أقل ارتباطاً بالأمراء في قضية ملكية الأراضي. ولقد كان موسى حاج حسين الكبير من قرية تليل القائد القوي في فترة الانتداب. ولقد برز بشكل خاص بفضل نشاطه السياسي ومشاركته في الثورة عام 1936-1939.

أظهر الجزائريون بشكل عام تضامناً داخلياً، وتعاونوا فيما بينهم، وحافظوا على عاداتهم وزيّهم والزواج من بعضهم البعض. على مشارف نهاية فترة الانتداب البريطاني أقام الجزائريون جمعية المقاصد المغاربية والتي وحدّت إلى درجة معينة أبناء الجالية.

4- يمكن وصف علاقات الجالية مع الأمراء في دمشق بأنها علاقات معقدة. في المراحل الأولى كانت تلك العلاقات معتدلة، واحتاج المهاجرون لرعاية ووساطة الأمراء من أجل تحسين أوضاعهم أمام السلطات العثمانية. في فترة الانتداب، ضعفت تلك العلاقات إلى حدٍّ ما، بعد أن تم الفصل بين فلسطين وسوريا إلى وحدتين سياسيتين مختلفتين، كما أن بيع الأراضي كدر من صفو العلاقات بين الطرفين.

5- فيما يتعلق بسؤال الموقف السياسي، أظهر المقال بأنه بالنسبة لعددهم، شارك الجزائريون بشكلٍ فعّالٍ في المواجهات ضدّ الحركة الصهيونية، وذلك بالذات في مقاطعتي صفد وحيفا، وبشكل أقل في قضاء طبريا.  وقد أدّى فقدانهم لقسم كبير من أراضيهم لصالح الحركة الصهيونية إلى تصاعد غضبهم وخيبة أملهم.

6-فيما يتعلق بسؤال العلاقة مع أرض الوطن – الجزائر، أظهر المقال بأن العلاقات مع الجزائر مرّت بتحوّلات ولم تكن واحدة على مدار الزمن. في المراحل الأولى كانت هناك علاقة فضفاضة لأن المهاجرين كانوا منشغلين في تأسيس أوضاعهم وبناء قراهم. فيما بعد قويت هذه العلاقات وعُرِفَ عن مراسلات وكذلك زيارات للجزائر. يجب أن نضيف أن أبناء الجالية الجزائرية استمروا في استيعاب واستقبال مهاجرين جدد حتى نهاية الحكم العثماني.

بعد حرب عام 1948 بدأت مرحلة جديدة مع أرض الوطن، وقد سعى المهاجرون الذين تحوّلوا إلى لاجئين في سوريا ولبنان والأردن للحصول على الجنسية الجزائرية من جديد. وبعد حصول بلادهم على الاستقلال في العام 1962 عاد كثيرٌ منهم إليها.

*****

[1] إضافة المترجم: كيتشنر هو اللورد البريطاني هوراشيو هربرت كتشنر، وقد شارك في العام 1874 من قبل صندوق استكشاف فلسطين برسم خرائط لها، وقد شاركه في ذلك كلود كوندر، وهو جندي بريطاني وعالم بالجغرافيا الأثرية. كانت هذه البعثة ذات دور كبير في تقديم تقارير مفصلة عن شكل الحياة في فلسطين وتفاصيل قراها وسكانها، وهو ما استفادت منه لاحقاً الحركة الصهيونية في استيطانها في فلسطين. وبعكس ما يُدعى، فإن هذا الحدث دالٌّ إذن على انتباهة ووعي، وليس على “تطرف”.