يقدّم بهاء جرادات في هذا المقال قراءةً في رسالة ماجستير للباحث عمر صالح بشير، والتي أُنجزت في عام 2014 بعنوان “إسرائيل” وروابط القرى: من نشأتها إلى حلّها” مستعرضاً أبرز ما جاء في الرسالة وما توصّل إليه الباحث حول مراحل تأسيس الروابط وبنيتها التنظيمية، و يتطرّق إلى أبرز الأحداث والشخوص الذين صنعوا تلك المرحلة.

(هذا المقال هو الخامس ضمن ملفٍ بحثيّ ينشره باب الواد حول “روابط القرى” كنموذجٍ للتعاون مع المحتلّ، لقراءة المادّة الأولى؛ الثانية؛ الثالثة؛ الرابعة).

مقدّمة
انطلاقاً من إشكاليّة موضوعة روابط القرى، سواءً على الصعيد الشعبيّ والوجدانيّ الفلسطينيّ، أم على الصعيد المعرفيّ البحثيّ المتمثّل في ندرة الدراسات حول تجربة “روابط القرى”، وكونها تجربةً ما زالت حيّةً ولها مفاعيلها المستمرّة عند كثيرين ممّن كانوا على تماسٍّ معها، سواءً كانوا مساهمين في تأسيسها أو محاربين لها. نستعرض في هذه المقالة مراجعةً لرسالة ماجستير بعنوان: “إسرائيل” وروابط القرى: من نشأتها إلى حلّها، للباحث عمر صالح بشير، والتي أُنجزت في عام 2014 بُغية استكمال متطلّبات الحصول على شهادة الماجستير في برنامج “الدراسات الإسرائيلية” من جامعة القدس. [1]

تبحث الدراسة في الأغراض التي سعت “إسرائيل” إلى تحقيقها عبر إنشاء ودعم مشروع روابط القرى، فضلاً عن جذور تبلور فكرة روابط القرى، كاشفةً عن بنيتها التنظيميّة وأهمّ ممارساتها، وسبل مقاومة الفلسطينيّ لها وتداعيات فشلها. يحدّد الباحث هدف دراسته بالتوصّل إلى طبيعة الأهداف والأغراض التي سعت “إسرائيل” إلى تحقيقها عبر مشروع روابط القرى، وذلك بالاعتماد على كلّ من المنهج التاريخي لتتبّع مشروع روابط القرى، والمنهج الوصفي من خلال تحليل المضمون للواقع المحيط بالروابط، وأفكارها وآلية عملها وعلاقاتها بالسلطات الاستعماريّة.

تُبنى الدراسة على فرضيّةٍ مفادها أنّه تمّ تأسيس روابط القرى لتخدم “كأداة فاعلة” تعمل على تحقيق أغراض وأهدافٍ صهيونيّةٍ سياسيّةٍ وأمنيّة، بالإضافة إلى “ضرب مشروع التحرّر لمنظمة التحرير الفلسطينية، من خلال تشكيل قيادة بديلة”، كما تقع في 211 صفحة وتضمّ ستة فصول، وسنتناول في هذه المقالة أهم القضايا التي تناولها الباحث في كل محور.

الإطار النظري والتوجّه الصهيونيّ بعد حرب عام 1967

تسعى الدراسة في الفصل الأوّل إلى فهم وتحليل الإطار النظريّ المتعلّق بسياسات الاحتلال وإجراءاته في الأراضي المحتلّة عام 1967، وذلك من خلال إلقاء نظرةٍ سريعةٍ على الأسس الاستعمارية والأيديولوجيا الصهيونيّة، ثمّ تتناول السياسات الاستعمارية المطبّقة على الفلسطينيين، من مثل “سياسة التجزئة” وفصل وعزل الفلسطينيين عن اليهود، وتعيين النخب الفلسطينيّة التي يمكنها خدمة الإدارة الاستعمارية وتنفيذ سياساتها، بالإضافة إلى “سياسة الاعتماد” التي تقوم على تعميق تبعيّة الفلسطينيين بالكامل على الصهاينة في الشؤون الإدارية والاقتصادية، والتي تجلّت في سياسات “موشيه ديان”، عبر تبنّي سياسة الجسور المفتوحة بين الأراضي المحتلّة والدول المجاورة.

يتناول الباحث في بداية الفصل السياسة “الإسرائيلية” الجديدة ما بعد حرب 1967 وتوجّهها نحو إيجاد فئاتٍ عميلةٍ متعاونةٍ معها لتحقيق أهدافها الاستعمارية، بالاستفادة من التجارب الاستعمارية الغربية السابقة مثل نموذج حكومة “فيشي” في فرنسا و”كفيشلينغ” في النرويج [2] خلال الحرب العالمية الثانية. كما يلقي الباحث الضوء على استفادة “إسرائيل” من الإرث الاستعماري البريطاني وقوانينه وسياساته في إذكاء الانقسامات ودعم أطرافٍ فلسطينيّةٍ دون أخرى.

تعاين الدراسة إجراءات الحكم العسكري الهادفة إلى خلق تبعيّةٍ اقتصاديّةٍ تربط سكّان الضفة الغربيّة بالاقتصاد الصهيونيّ، كضخّ البضائع “الإسرائيلية” في الأراضي المحتلّة حديثاً، وفرض القيود على تصدير المنتجات الزراعيّة وتقييد عمليات الاستيراد. كما تتطرّق إلى سياسات الحكم العسكريّ في تقييد حريّة الصحافة والتعليم وإغلاق الصحف والجامعات الفلسطينيّة؛ إذ “تمّ إغلاق عدّة صحف ومجلّات مرّات عديدة خلال فترات متقطعة، كصحيفتيْ الفجر والشعب، كما أصدرت عدّة أوامر إغلاق بحق الجامعات الفلسطينيّة، فأغلقت “جامعة بيرزيت” ست مرات خلال أربع سنوات، لفترات وصلت أحياناً ثلاثة أشهر. كما أغلقت “جامعة النجاح الوطنية” مدّة أربعة أشهر”.

تنتقل الدراسة لاستعراض المبادرات العربيّة والصهيونيّة لطرح تسويةٍ واقتراحاتٍ بعد عام 1967، متتبعةً المرّة الأولى التي برز فيها مفهوم الحكم الذاتي، وذلك في مبادرة السادات حول السعي للوصول إلى عمليّة “سلام” وإنشاء حكمٍ ذاتيّ، وهو ما قوبل برفض منظمة التحرير، وما تلاها من مبادرات “سلامٍ” من شخصياتٍ فلسطينيّة مع “موشيه ديان” في لقاءاتٍ خاصة، مثل حمدي كنعان رئيس بلدية نابلس، وعزيز شحادة أحد محامي رام الله، “دون الوصول إلى نتائج، بسبب وجود عقبات في طبيعة طروحات “موشيه ديان””، ومحمد علي الجعبري، رئيس بلدية الخليل عام 1968، الذي قدّم طلباً للحاكم العسكريّ بتعيينه حاكماً للضفة الغربية بأمرٍ من الحاكم العسكري، إضافةً إلى مبادراتٍ من شخصيّاتٍ صهيونيّة، مثل “ديان”، والتي دعت إلى تطبيق الحكم الذاتيّ من طرفٍ واحد، و”مشروع بيغن للحكم الذاتي” الذي قوبل برفضٍ صهيونيّ.

كما تولي الدراسة أهميةً كبرى لتنامي قوّة منظمة التحرير الفلسطينية في الداخل الفلسطينيّ، وتتناول الصراع على انتخابات البلديّات وما أبرزته من تعزيز مكانة المنظمة، مع تحوّل رؤساء البلديّات إلى قياداتٍ سياسيّةٍ محليّةٍ مدعومةٍ من المنظّمة، وفشل “إسرائيل” في السيطرة على البلديّات ورموزها، وهو ما اعتُبر من الأسباب التي ساهمت في دفع “إسرائيل” نحو محاربة م. ت. ف، وخلق قيادةٍ بديلةٍ لها تتواطأ مع المشاريع السياسيّة للصهاينة.

نشأة روابط القرى والدعم الصهيونيّ لها

يقدّم الباحث في هذا الفصل مدخلاً عاماً للاستشراق الصهيوني وأهمّ مؤسساته التي عُنيت بدراسة العربي، والفلسطيني على وجه الخصوص، مركّزاً على دور معهد “شيلواح” ومعهد “ترومان” بما قدّماه من دراساتٍ تتعلّق بفهم البُنى الاجتماعيّة والسياسيّة للفلسطينيّين وإسهامهما في بلورة فكرة روابط القرى. ويذكر، على سبيل المثال، كتاب “مختار القرية في أرض “إسرائيل”: مكانته ووظيفته”، للمستشرق “جبريال بار”، والذي يبحث فيه “الإطار التاريخيّ للمخترة ووظيفتها، والعلاقة بين المختار والشيخ وعملية انتخابه ووضعه ومهامه”، وكتاب “سياسات العرب الفلسطينيين” لـ “موشيه ماعوز”، وغيرها الكثير من الدراسات والندوات والمقالات الاستشراقيّة التي سعت إلى فهم الواقع والمجتمع الفلسطيني.

كما يتناول الباحث، بصورةٍ عامّةٍ ومكثّفةٍ وبقليلٍ من التفاصيل، سياسات المستشرقين لتفكيك المجتمع الفلسطيني، إذ سعى بعض المستشرقين لدراسة شخصيّاتٍ فلسطينيّةٍ محليّةٍ غير منتميّةٍ لمنظّمة التحرير، وركّزت دراساتهم على “طبيعة منظمة التحرير الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد النجاحات المتوالية لمنظمة التحرير في المناطق وإثبات نفسها كلاعبٍ أساسيّ في انتخابات البلديات عام 1976”. ويُذكر منهم “جبرئيل بن دور”، “الذي تحدّث عن ضرورة إسقاط حق الفيتو من يد المنظّمة، عبر إقامة زعامة بديلة بين سكّان المناطق المحتلة”، و”تسفي البيلغ” الذي انتقد السياسة “الإسرائيلية” وعدم قبولها بالمبادرات العربية والصهيونيّة لإقامة حكمٍ ذاتيّ في الضفة الغربية بقوله “يجب دعم بديل للمنظّمة يُمكن أن يصبح له تأثير يؤدّي إلى “الاعتدال” لدى الفلسطينيين (إيجاد فئات استسلامية متواطئة) ويجب على اسرائيل استغلال ذلك”.

ينتقل الباحث بعدها لتتبّع نشأة روابط القرى. وبحسب الدراسة، فإنّ نشأتها تعود إلى اللحظة التي ذهب فيها مصطفى دودين لـ “مناحيم ميلسون” حاملاً مقترحاً حول ضرورة إنشاء جسمٍ بديلٍ عن منظّمة التحرير الفلسطينيّة، يخضع للسياسات الصهيونيّة. وكما تبيّن الدراسة، لم تكُن تلك فكرةً جديدةً في أروقة القرار الصهيوني، إذ طرحها “كرمون” في مأدبة عشاءٍ أقيمت في منزل محمد علي الجعبري في مدينة الخليل، والتقطها “ميلسون” دارساً لها وللقدرة على تطبيقها.

تتناول الدراسة مراحل تأسيس روابط القرى، إذ أسّس دودين أوّل رابطة قرى في الخليل متسترّاً بحجة أنّها جمعيّة زراعيّة لمساعدة الفلّاحين وتطويرهم، ومسوّقاً لها على أنّها تهدف إلى تقديم خدماتٍ إداريةٍ واجتماعيةٍ للفلسطينيّين، وذلك بعد صراعاتٍ عديدةٍ داخل المؤسّسة الصهيونية حول نجاعة تأسيس روابط القرى، التي انتهت بنجاح “ميلسون” بتمرير مقترحه.

إضافةً لذلك، تبيّن الدراسة السياسة التي تمّ اتّباعها لإضفاء شرعيّةٍ قانونيّةٍ على تشكيل رابطة قرى الخليل، من خلال إحداث تعديلٍ على قانون إدارة القرى الأردني رقم (5)؛ إذ تمّ تعديله بإدخال فقرتين على المادة رقم (32) منه، نصّتا على ما يلي : “1) يخوّل قائد المنطقة صلاحية السماح بتأسيس جمعيّات تهدف إلى زيادة التعاون والصلات بين مجالس القرى في المنطقة في المسائل التي يتناولها القانون. شرط أن يكون مقتنعاً بأنّ المسألة ضرورية لتنفيذ أهداف القانون، وشرط ألّا تخلّ بالنظام والأمن العامين في المنطقة. 2) ستكون الجمعية التي يجري تأسيسها بمقتضى شخصية قانونية أمام النظام، أمّا تأليفها وإدارتها وعملها وحلّها فسوف تحدّدها القوانين اللاحقة”.

كما تبيّن الدراسة السياسات التي اتّبعها مصطفى دودين من أجل كسب مزيدٍ من التأييد، من خلال ادّعاءاتٍ حول تحسين الظروف المعيشية للقرى، والترويج لخطاب “أنّ المدن استأثرت بكل الإمكانيّات والدعم المقدّم من الخارج”، مستغلّاً بعض الخلافات العشائريّة لكسب أطرافٍ لصالحه.

أمّا المرحلة الثانية لانتشار روابط القرى، فيُرجعها الباحث إلى زيادة نفوذ مصطفى دودين ورابطة قرى الخليل بعد زيادة عدد المنضمّين إليها، وهو ما جعله يباشر – في بداية عام 1980 – بالتواصل مع العديد من المخاتير لاستنساخ التجربة في قرىً مختلفة، مع تزويد الحكم العسكريّ الصهيوني دودين بمساعداتٍ مباشرةٍ وغير مباشرةٍ لتسهيل مهمته. إذ، على سبيل المثال، “أبلغ الحاكم العسكري لمنطقة رام الله رؤساء البلديات والمجالس القروية، بعدم قبول أو تنفيذ أيّ مشروع يُقدَّم للحكم العسكريّ، إلّا عبر قناة رابطة قرى تنشأ في منطقة رام الله، وأنّ أية مساعدات وقروض خارجيّة، لن تدخل المناطق إلا عبر الرابطة فقط”.

كما يعتبر الباحث نجاح مصطفى دودين بإقناع يوسف الخطيب (مختار بلدة نعلين) وبشارة قمصيّة (بيت ساحور) بترؤس كلٍّ من رابطة قرى رام الله ورابطة قرى بيت لحم امتداداً للمرحلة الثانية من انتشار روابط القرى. وهو ما تزامن مع نشأة “الإدارة المدنية الإسرائيلية” التي ترأسها “مناحيم ميلسون”، والتي يعاين الباحث أيضاً صلاحيّاتها وبنيتها الداخلية، متناولاً دورها في تثبيت جذور الروابط ، إذ ” كانت سياسة الاحتلال الإسرائيلي تفرض على المواطنين قنوات اتصال رسمية معها، عبر الإدارة المدنية “الإسرائيلية” وروابط القرى فقط”.

وحول دور “الإدارة المدنية الإسرائيلية” في بناء المرحلة الثالثة لتوسّع روابط القرى، تفيد الدراسة بأنّ “ميلسون” اعتبر أنّ مهَمّته تكمن في تعزيز دور روابط القرى المشكّلة، وتشجيع إقامة روابط جديدة”. ومن أجل تحقيق ذلك، وبوصفه رئيس الإدارة المدنية، عمل “ميلسون” على توفير موازناتٍ ماليّةٍ ضخمةٍ تحت تصرّف الروابط الفاعلة التي تمّ تشكيلها، كما دفع دودين للتوجّه إلى مدن شمال الضفة الغربية للبحث عن شخصياتٍ تقوم بتشكيل روابط قرىً جديدة.

توضح الدراسة أنّ المرحلة الثالثة لتوسّع روابط القرى بدأت بمحاولات إقامة رابطةٍ قرويةٍ جديدةٍ في نابلس، وبدعمٍ من الحاكم العسكري الذي عقد اجتماعاتٍ فرديّة مع مخاتير ورؤساء مجالس قرى (عورتا وبيت دجن وسالم وعزموط) محاولاً تقديم إغراءاتٍ مالية لهم. وبعد محاولاتٍ عديدة، تمّ تشكيل رابطة قرى نابلس برئاسة جودت صوالحة من بلدة عصيرة الشمالية. تلاها، إنشاء رابطة قرى في جنين على يد يونس حنتولي رئيس مجلس قروي سيلة الظهر، ثمّ رابطة قرى قلقيلية على يد إسماعيل مرزوق عودة من قرية حبلة، كما تبعها تشكيل رابطة قرى قباطية برئاسة محمد رجب. وبدورهما، “شارك “ميلسون” ودودين باحتفالات افتتاح كافة مواقع روابط القرى التي تشكّلت في مختلف المناطق. فكان “ميلسون” الأب الروحي لمشروع الروابط، ودودين الأداة الفاعلة في تنفيذ وتمرير المشروع”.

تتابع الدراسة باستعراض أهمّ السياسات التي اعتمدها الصهاينة لدعم روابط القرى، وذلك من خلال تقديم الدعم السياسيّ والإعلاميّ لها؛ إذ قدّم الإعلام “الإسرائيلي” أعضاء الروابط كقيادةٍ معتدلةٍ يُمكن التحاور معها وساهم بتقديمهم للعالم، ليصبح “حضور روابط القرى أمراً مألوفاً في الفعاليات “الإسرائيلية” منذ حضور مصطفى دودين حفلاً في السفارة المصرية في “تل أبيب” عام 1981، مصطحباً معه عدداً من أعضاء رابطتي بيت لحم والخليل”. هذا بالإضافة إلى توفير الحماية لأعضاء الروابط، وذلك على إثر التهديدات التي تلقّتها شخصيات الروابط من الأردن؛ إذ وجه “شارون” تهديداتٍ للمملكة الأردنية “بأنّ “إسرائيل” لن تقف مكتوفة الأيدي في حال نفّذت الأردن تهديداتها، وستصادر أملاك بعض الزعماء الأردنيين من ضمنها أملاك خاصة بالملك حسين بن طلال”.

لم تقتصر أشكال الدعم على ذلك، كما توضّح الدراسة، بل امتدّت لتشمل الدعم الماديّ لروابط القرى؛ فقامت سلطات العدوّ بدعمهم بمبالغ طائلةٍ على فتراتٍ مختلفةٍ ضمن سياسة عملٍ منظمةٍ وممنهجةٍ لتطوير الروابط وزيادة ارتباط الناس فيها؛ “خلال الفترة الواقعة ما بين أعوام 1979-1981، حصلت روابط القرى على ما مجموعه 17 مليون دولار”، فضلاً عن “تسهيلات اقتصادية بمنح روابط القرى عقوداً تسويقيّةً للمنتجات الزراعيّة في الأسواق “الإسرائيلية” بإشراف مصطفى دودين والحاكم العسكريّ”.

شمل الدعم الصهيونيّ للروابط الجانب العسكريّ أيضاً، وتضمّن تسليحها بما يوفّر لها الحماية ويرهب الناس والمحاربين لها، كما تمّ إمدادها بأنواع عديدةٍ من الأسلحة. ففي 29 تشرين الثاني 1981، اتُخذ قرارٌ صهيونيّ رسميّ بتسليم روابط القرى 100 قطعة سلاح، وتمّ تدريب أفرادها على استخدام الأسلحة الرشّاشة، وقد “كانت تدريبات روابط القرى تتمّ في معسكر “بيت إيل” بشكلٍ يوميّ لكافة أعضاء الروابط من مختلف مناطق الضفة الغربية”.

وإضافةً إلى ما سبق، تبيّن الدراسة تمكين ودعم سلطات العدوّ للروابط من خلال زيادة صلاحياتها والتضييق على رؤساء البلديات والمجالس القروية الذين رفضوا الإدارة المدنية وتصدّوا لها. على أنّ هذا التضييق شمل أشكالاً عدّة، ابتداءً بإقالة الرؤساء والأعضاء، مثل إقالة رئيس بلدية البيرة إبراهيم الطويل ورئيس مجلس قروي الظاهرية علي ياسين المخارزة، مروراً بالإبعاد السياسيّ لعدّة شخصيات، مثل فهد القواسمي رئيس بلدية الخليل ومحمد حسن ملحم رئيس بلدية حلحول، و ليس انتهاءً بمحاولات الاغتيال لعدّة شخصيات، مثل بسّام الشكعة رئيس بلدية نابلس، وكريم خلف رئيس بلدية رام الله. إضافةً إلى العديد من الأساليب التي تنوّعت ما بين السجن والإقامة الجبريّة والملاحقات والمضايقات ومنع السفر والممارسات القمعيّة، سواءً للأفراد أو المؤسّسات والنقابات.

البنية التنظيميّة لروابط القرى وأهمّ ممارساتها

يشكّل هذا الفصل أهمّ ما تمكّنت الدراسة من إنجازه؛ إذ توصّل الباحث ببراعةٍ ومسؤوليةٍ إلى فهم البنية التنظيميّة لروابط القرى من خلال تتبّعه لأهمّ الشخصيّات التي أسّست الروابط. فينطلق من فهم التاريخ السياسيّ والاجتماعيّ لمصطفى دودين في كلٍّ من الأردن وفلسطين بوصفه الرجل الذي اقترح فكرة “روابط القرى” والذي اعتمدت عليه “إسرائيل” في تشكيلها وتطويرها، ويتتبّع الدور السياسيّ والاجتماعيّ الذي مارسه محمد دودين في كلٍّ من فلسطين والأردن، باعتباره الرجل الثاني الذي رافق مصطفى دودين في تشكيله روابط القرى.

هذا ما أحاطت به الدراسة، ليس فيما يتعلق بتاريخ كلٍّ من مصطفى ومحمد دودين فحسب، بل امتدّت لتشمل دراسة العديد من قيادات روابط القرى في الضفة الغربية مثل جميل العملة، ويوسف الخطيب وابنه كاظم، ومحمد السويطي، وبشارة قمصيّة ونجله سمير، وإبراهيم فلنة وغيرهم، مقدمةً سِيَراً مختصرةً حول خلفيّاتهم الاجتماعيّة والسياسيّة، ومصيرهم بعد إفشال الروابط، والذي تراوح بين القتل والهجرة إلى الحصول على الهوية “الإسرائيليّة”.

كما تبيّن الدراسة المراحل التنظيمية المختلفة التي مرّت بها الروابط خلال تطوّرها؛ إذ ابتدأت في المرحلة الأولى بتأسيس رابطة قرى الخليل، ثمّ امتدّت الفكرة في المرحلة الثانية ليتمّ تشكيل روابط قرويّة في مناطق مختلفة في الأراضي المحتلّة عام 1967، وكان آخرها تشكيل اتّحاد روابط القرى، والذي “أُعلن رسميّاً عن [إقامته] يوم 30-8-1982، بعد اجتماع لرؤساء الروابط في مدينة بيت لحم، وتمّ توزيع المناصب الإداريّة بشكل مؤقت”.

توضّح الدراسة هذه المراحل بشكلٍ تفصيليّ، وتمكّن الباحث من بناء مخططٍّ هيكليٍّ يوضّح البنية التنظيميّة للروابط، مستنداً بذلك على النظام التأسيسيّ الداخليّ لروابط القرى، ومهام الأعضاء، وآليّة التفاعل بينهم وتحديد صلاحياتهم، كما ركّز في كلّ مرحلةٍ على الدور الذي لعبته روابط القرى، وكيف تطوّر هذا الدور بتطوّر وتعميم التجربة على المناطق المختلفة، وكيف تشكّل اتحادٌ في نهاية المطاف يضمّ جميع الروابط.

وبحسب الباحث، اتّسم النظام الداخلي بالضبابيّة والعبارات الفضفاضة والمفتوحة، مثلما ورد في البنود المتعلّقة بإيرادات الروابط، والذي يُرجعه الباحث إلى “تقنين صبغ الشرعية على الدعم المالي الإسرائيلي”. كذلك الأمر في البنود المتعلّقة بالانتساب، والتي تنطوي على خطورةٍ تهدف إلى توسيع قاعدة الروابط من جهة، وتشير إلى تزوير وتضخيم حجمها وعدد المنضمّين إليها من جهةٍ أخرى، وذلك من خلال “اعتبار أعضاء الجمعيات أعضاء عاملين في الروابط بمجرّد تقديم طلب انضمام من الممثلين عن هذه الجمعيات … مع احتمال أن يكون بعض منتسبي هذه الجمعيات ضدّ فكرة الانضمام للرابطة”.

ومن خلال عقد مقارنةٍ بين النظام التأسيسيّ الداخليّ لرابطة قرى الخليل والنظام التأسيسيّ الداخليّ لاتّحاد الروابط، تبيّن الدراسة أنّ روابط القرى أصبحت أكثر وضوحاً من حيث الأهداف بعد تشكيل الاتحاد؛ ففي حين قدّمت نفسها كجمعياتٍ وتعاونياتٍ تحمل أهدافاً اجتماعيّة في البداية، كشف النظام التأسيسيّ لاتّحاد الروابط عن الغايات السياسيّة لتشكيلها، ليصبح جليّاً أنّ الهدف من ورائها يرمي إلى “شطب أيّ عمل سياسي عدا ما يخدم مصلحتها ومصلحة إسرائيل”. ويتّضح ذلك، على سبيل المثال، في البنود المتعلّقة بالتدخّل في السياسات التعليميّة والوقائيّة، والتي تدلّ على مساعي اتحاد الروابط في استبدال الفكر الوطنيّ التحرّري بالفكر الانهزاميّ الاستسلاميّ.

بعد توضيح آلية تشكيل اتحاد روابط القرى، تذهب الدراسة لتوضيح ممارسات الروابط. إذ أصبحت الأخيرة أكثر تنظيماً، وأنشأت جهازاً إعلاميّاً خاصّاً بها، تمثّل بصحيفة أمّ القرى. قدّمت هذه الصحيفة نفسها كنموذجٍ إعلاميٍّ عصريٍّ محايد، واهتمت ببثّ أفكارٍ سياسيّةٍ تتمحور حول التعايش والسلام والدعوة إلى التفاوض، كما هاجمت منظمة التحرير الفلسطينية والأنظمة العربية، بينما كان جميع كتّابها من روابط القرى ويكتبون إمّا بأسمائهم أو بأسماءٍ مستعارة. أمّا بعد تشكيل اتحاد الروابط، فقد طرأ تغييرٌ على الصحيفة من حيث المحتوى وحجم تغطية الأخبار المحليّة والدوليّة، وتغيّر اسمها لتصبح صحيفة المرآة، والتي بدورها طرحت نفسها كصحيفة اجتماعية- سياسية.

يستفيض الباحث بالحديث عن دور الجهاز الإعلاميّ والأفكار السياسيّة التي قدّمتها صحيفة المرآة، إذ أضافت “أركاناً جديدة في طيّات صفحاتها، كزاوية “سؤال وجواب”، وزاوية “مشكلة وحل””، والتي هدفت إلى تلميع روابط القرى وتقديمها كتيارٍ وطنيّ يحمل هموم الفلسطينيين ويرغب بحلّ مشاكله، بالإضافة إلى الترويج للمفاوضات المباشرة للسلام والتعايش السلمي مع الصهاينة،ـ والتغزّل بشخص “ميلسون”، وتقديم التهاني بمناسبة الأعياد والمناسبات اليهودية، والترويج لجيش الاحتلال خلال حرب لبنان عام 1982، فضلاً عن توجيه الاتّهامات لمنظّمة التحرير الفلسطينية والعرب بالمسؤولية عن قتل الآلاف، مثل شهداء مجزرة صبرا وشاتيلا.

تتنقل الدراسة للحديث عن الحزب السياسيّ الذي شكّلته روابط القرى في الضفّة الغربيّة فيما بعد، والذي أطلقت عليه اسم “الحركة الوطنيّة للسلام”، وهدف إلى “تشكيل مؤسّسات وأطر نقابيّة بديلة عبر إنشاء فروع تتعلّق بالعمّال والأعمال البلدية والأندية الرياضية”. وفي 17 آب 1983، أصدرت الروابط وثيقةً عبر صحيفة “المرآة” وصحيفة الأنباء “الإسرائيليّة” الناطقة بالعربية، حملت اسم “الميثاق الفلسطينيّ للسلام”، وتطرح في 35 مادّةٍ رؤيتها للسلام بين الفلسطينيين والصهاينة، وتسليم الفلسطينيين سلطةً إداريةً على أراضي الضفة الغربية وغزة، معتبرةً هذا الميثاق دستوراً مُلزِماً لكلّ فلسطينيّ في الأراضي المحتلّة عام 1967.

(صحيفة المرآة، (الميثاق الفلسطيني للسلام)، العدد 63 ، صدرت بتاريخ 17 /آب/ 1983. عمر صالح بشير)

يعرّج الباحث بعدها على ممارسات روابط القرى المتعلّقة بالقدس والمسجد الأقصى وبسط نفوذ السلطات الصهيونيّة عليها، والتي اتّخذت أشكالاً عدّة من أجل الضغط على المقدسيّين للقبول بالتقسيم، وذلك من خلال توجيه تهديداتٍ مباشرةٍ بالتصفيّة الجسديّة لشخصياتٍ تعمل في الأوقاف مثل الشيخ حسن طهبوب مدير الأوقاف العام، والأستاذ حسني الأشهب وغيرهم، فضلاً عن الافتراء والتشهير بالشخصيّات الوطنيّة وتوجيه اتهاماتٍ لها بقضايا اختلاسٍ وتزوير عبر صحيفة المرآة.

وبالإضافة إلى ابتزاز الفلسطينيين مالياً أو عبر الاستيلاء على أوراقهم الرسميّة ومساومتهم عليها مقابل العمل معهم، تنوّعت الممارسات القمعيّة واعتداءات ميليشيات الروابط على أهالي القرى والمؤسّسات الوطنية ما بين الضرب بالهراوات واعتراض المركبات وإحراقها إلى إطلاق النار والملاحقات ووصولاً إلى القتل المباشر. تورد الدراسة عدداً من هذه الحوادث، نذكر منها:

“كانت روابط القرى تردّ على أيّ ضرب حجارة، حتى لو كان صادراً عن طفل، بتخريب ممتلكات المواطنين وتحطيم منازلهم. كما حصل في قرية الجانية بعد إلقاء حجارة من قبل مجموعة أطفال على سيارة المدعو “راغب توفيق سمحان”، حيث داهمت ميليشيات روابط القرى منازل أهالي الأطفال، وحطموا محتوياتها، وأطلقوا النار بداخلها، مع العلم أن هناك مجموعة من مستوطني مستعمرة “نيلي” ساندتهم في هذه العملية. وفي بلدة حبلة، قام أعضاء من روابط القرى بحرق منزل المواطن عز الدين عبد الرحيم الجدع، بعد إلقاء حجارة عليهم. وكانت عمليات إطلاق النار تشمل تصفية الحسابات الشخصية لأعضاء الروابط”.

وكما تبيّن الدراسة، امتدّت هذه الممارسات لتشمل اغتيال قياداتٍ محليّةٍ ومواطنين مثل الشهيد محمد عفاني من قرية تل قضاء نابلس، والشهيد داوود محمد العطاونة من قرية بيت كاحل قضاء الخليل، إضافةً لسمسرة الأراضي والعقارات وتسريبها للصهاينة. كما عكفت الروابط على إنشاء علاقاتٍ مع المنظّمات والحركات الاستيطانيّة الصهيونية في “الكيبوتسات”، ومن الأمثلة التي توردها الدراسة الاجتماع الذي أجرته شخصيّات الروابط “مع مجموعات من كيبوتسات: “بيت هشيطا، بيسان، كفار سولم، والناصرة” يوم 19-2-1983 في كيبوتس “هاشيطا” اشترك فيه 15 عضواً من الروابط، وقد أثاروا فيه قضية التمثيل الفلسطيني، وأنّهم القادة الحقيقيون للسكان في الضفة الغربية”. هذا بالإضافة إلى تقديم الروابط المساعدة لجيش الاحتلال، بوصفها أداةً تنفيذيةً له، مثل ما فعلتْ في بلدة عزون، حيث تمّ “تسليم شابين لقوات الاحتلال قاما بخطّ شعارات وطنية داخل البلدة بمناسبة ذكرى “وعد بلفور المشؤوم” ليلة 2/11/1983″.

مقاومة روابط القرى وانهيار المشروع

يختم الباحث دراسته في تسليط الضوء على المقاومة التي شهدتها روابط القرى ودورها في إسقاط هذا المشروع، فضلاً عن التغيّرات السياسيّة الصهيونيّة التي قادت إلى إهمال القيادة الصهيونيّة روابط القرى في نهاية المطاف، وذلك بعد إثبات فشلها في تحقيق الهدف المرجوّ منها.

يستعرض الباحث في بداية الفصل السادس أشكال ووسائل المقاومة المختلفة التي اتّخذها الفلسطينيّون في سبيل مقاومة روابط القرى ووأدها، سواءً على مستوى الفعاليّات الوطنيّة والتنظيم والمقاومة الشعبية، أو من خلال العمل التنظيميّ المسلّح، محاججاً أنّ هذا الشكل من النضال لم يكُن موجّهاً ضد الروابط كجسمٍ مستقلّ، إنّما اعتُبر جزءٌ لا يتجزأ من النضال ضدّ الاحتلال الصهيوني، باعتبار الروابط القرويّة مشروعاً منبثقاً عنه.

نفّذت الأجنحة العسكرية المسلّحة للفصائل الفلسطينيّة العديد من العمليات الفدائيّة ونصب الكمائن ومحاولات الاغتيال لقادة روابط القرى، وهو ما تبيّنه الدراسة عبر سردها لعددٍ منها، مثل اغتيال يوسف الخطيب وابنه كاظم من رام الله، إضافةً إلى اغتيال قَتَلة الشهيد الحاج محمد عفاني؛ “ففي كمين في أحد مطاعم مدينة قلقيلية، تمّت تصفية أحمد عودة من بلدة حبلة بطلقة بالرأس وسحب مسدسه. ووضع كمين لفايق عرار في منطقة “راس عطية” غرب مدينة قلقيلية، فتمّ قتله وسحب سلاح من نوع “عوزي إسرائيلي” منه. أمّا حافظ أبو هنية، فتمّت تصفيته بالقرب من بلدة “كفر ثلث” الواقعة جنوب شرق قلقيلية”. كما تورد الدراسة المزيد من عمليات الاغتيال التي حدثت في مناطق متفرقة في الضفة الغربية لأعضاء الروابط، باختلاف طرق الاغتيال، سواءً طعناً بالسكين أو بإطلاق النار، إضافةً إلى العديد من عمليات إطلاق النار على منازل ومركبات أعضاء الروابط، أو حرق مركباتهم.

أمّا على صعيد القيادات المحليّة، لعبت البلديات دوراً بارزاً في مقاومة مشروع روابط القرى وعدم الانصياع للإدارة المدنية ومقاطعتها مثل دور بسام الشكعة في مواجهة روابط القرى في نابلس، وأصدرت بياناتٍ عديدةً من بينها بيانٌ صدر بتاريخ 5-5-1982، أكدت فيه أنّها بعثت بمذكرةٍ لوزير الحرب الصهيونيّ “طالبت فيه بإلغاء الإدارة المدنية “الإسرائيلية” ووقف كافة الممارسات التعسّفية، وإعادة كافة الأعضاء ورؤساء البلديات المفصولين”، وهو ما ترتّب عليه تعليق جميع أعمال البلديّات وتحميل المسؤولية للاحتلال لعدم حصولهم على ردٍّ على البيان.

وعلاوةً على ذلك، تسلّط الدراسة الضوء على الدور المحوريّ الذي لعبته الجامعات والمدارس في تنظيم المظاهرات الشعبية والمشاركة فيها؛ ما أدى إلى إغلاقها مرّاتٍ عديدة، إضافةً إلى الدور الذي ساهمت فيه لجان العمل التطوعي والجمعيّات التي تمّ تشكيلها. كما يوضّح الباحث الدور الكبير لأهالي القرى في محاربة روابط القرى ومشاريعها، إذ أبدى أهالي القرى – بدعم لجنة التوجيه الوطني- في كثيرٍ من الأحيان ممانعةً للمشاريع المتأتيّة من روابط القرى، مثل مشاريع مدّ شبكة الكهرباء والماء. كما شهدت الأراضي المحتلّة العديد من الفعاليات والمظاهرات الوطنيّة الرافضة علناً لمشروع الروابط، وتورد الدراسة عدداً من الأمثلة حول هذه التحرّكات الشعبيّة، من بينها:

“نظمت مظاهرة في مدينة نابلس ضد حفل لتأسيس “رابطة قرى نابلس”، اعتقلت قوات الاحتلال “الإسرائيلي” حينها، خلال الفترة الواقعة بين 4-9/7/1982، (600) مواطن ونيف ممّن تظاهروا ضدّ المشروع، وفرضت منع التجول على بلدة “عصيرة الشمالية” مركز رابطة قرى نابلس. وفي يوم 25/7/1982، نشبت مواجهات بين أهالي بلدة رأس كركر غرب رام الله، مع رابطة قرى رام الله. حيث منع أهالي البلدة أعضاء الروابط من دخولها. ونشبت مواجهات عنيفة أسفرت عن جرح ستة مواطنين. وبنفس اليوم في بلدة “سعير” قضاء الخليل، هاجم أهالي البلدة أحد قادة روابط القرى في المنطقة بالحجارة، وتدخّل جيش الاحتلال “الإسرائيلي” وحظر التجول على البلدة. وفي “بيت كاحل”، الصغيرة بعدد سكانها ولكنّها كبيرة بفعلها، لا ينفك أهالي البلدة يتصدون لأعضاء روابط القرى بصورة باتت روتينية ، لكثرة الاعتداءات التي نفذتها رابطة قرى الخليل في البلدة، عدا عن الاعتقالات المستمرّة لأبنائها بشكل متكرّر، خاصة بعد استشهاد العطاونة”.

في نهاية الدراسة، يعرّج الكاتب على التغيّرات داخل المؤسسة الصهيونيّة التي دفعت نحو حلّ روابط القرى بشكلٍ نهائيّ، متزامنةً مع استمرار المقاومة العنيفة التي واجهت التجربة. ففي عام 1983، قدّم ” شارون” استقالته ليتمّ تعيين “موشي آرنز” في منصب وزير “الدفاع” الصهيوني، ثمّ استقال “مناحيم بيغن” من رئاسة الوزراء، ليتمّ تعيين “اسحق شامير” خلفاً له. حيث رفض كلاهما (شامير وآرنز) تجربة روابط القرى، باعتبارها فاشلةً ولا يُمكن لها تحقيق مساعي “إسرائيل”. وعلى إثر ذلك، تمّ عقد عدّة اجتماعاتٍ مع شخصياتٍ فلسطينيّةٍ في سبيل تفكيك روابط القرى، وبدأت المحاكم بالتعامل مع القضايا المرفوعة ضدّ الروابط بعد أن كانت تحجب النظر عنها، وهو ما أظهر الخلافات بين الروابط وأضعفها، ليبدأ سحب الصلاحيات منها رويداً رويداً، وذلك إلى أن تمّ الإعلان عن إنهاء التجربة وفشلها بشكلٍ رسميّ في 10 آذار 1984.

تعليق ختاميّ

انطلقت الدراسة من فرضيةٍ مفادها أنّ السلطات الاستعمارية الصهيونيّة باشرت في تأسيس روابط القرى لتخدم في الضفة الغربية “كأداة فاعلة لها لتحقيق أغراض وأهداف سياسية وأمنية، وضرب مشروع التحرر لمنظمة التحرير الفلسطينية، من خلال تشكيل قيادة بديلة”. وبغية مساءلة هذه الفرضية، اهتمّ الباحث بفهم البنية التنظيميّة لروابط القرى وأهمّ سياساتها وممارساتها، فضلاً عن أبرز السياسات الصهيونيّة لدعم الروابط، مستخدماً المنهج التاريخي في تتبّع سير شخصيات الروابط البارزة وممارساتها وأسباب فشلها، والمنهج الوصفيّ لتحليل المضمون لدراسة الأنظمة التأسيسيّة الداخليّة للروابط التي ساعدت الباحث في الكشف عن تطوّر دور الروابط بتطوّر مراحل نشأتها.

تفرّدت الدراسة في تحليل نظام تأسيس روابط القرى، وفهم بنيتها التنظيميّة التي يوضّحها الباحث على شكل مخطّطٍ هيكليٍّ قام هو بإعداده، خلافاً للعديد من الدراسات السابقة، التي تناولت روابط القرى ضمن بحثها عن تلك الفترة بشكلٍ أكثر عموميةً عبر السرد التاريخيّ للمرحلة بشكلٍ مقتضب.

وفي محاججته، اعتمد الباحث على مصادر أوليّةٍ من مقابلاتٍ مع أفراد فلسطينيّين عاصروا فترة روابط القرى، وكتاباتٍ متعلّقةٍ بالروابط، بالإضافة إلى العديد من الصحف المرتبطة بشكلٍ مباشرٍ بروابط القرى وقراراتها وبياناتها. غير أنّ المقابلات التي أعدّها الباحث لم تكن ذات إضافةٍ بحثيّةٍ ومعرفيّةٍ جديدة إلا بحدود مساهمتها في فهم البنية التنظيمية لروابط القرى.

وعلى الرغم من عدم استخدام الباحث لمصادر وأدبياتٍ تتعلّق بدراسات التعاون مع المحتلّ بمفهومها الواسع والعام، وعدم تناوله لهذه المفاهيم كمنطلقاتٍ لفهم الظاهرة؛ ما يعكس قصوراً في قدرة الدراسة على فهم الظاهرة وتحليلها، إلّا إنّ الأهميّة المعرفيّة للدراسة تأتي في كونها مساهمةً في دراسة تاريخ العمالة في فلسطين. إذ تبرز أهميّة الدراسة في قدرتها على رصد سِيَر مختصرةٍ لأهم المؤسّسين لروابط القرى، وتتّبّع تطوّرها المرحليّ، ورصد أهم ممارساتها التي ساهمت جميعها في التأكيد على فرضيّة الباحث حول الهدف من تشكيل روابط القرى.

*****

الهوامش:

[1] بشير، عمر صالح. (2014) “إسرائيل” وروابط القرى: من نشأتها إلى حلها. رسالة ماجستير، معهد الدراسات الإقليمية، جامعة القدس. للاطّلاع على الرسالة  من هنا
[2] ينسب هذا النموذج إلى “فيدكون كفيشلينغ” وهو ضابط نرويجي تميّز بعلاقته مع بريطانيا، لكنّه سرعان ما انقلب عليها وعرض خدماته على الألمان وجنّد العديد من الضباط العسكريين لصالحه، مقنعاً الألمان باحتلال النرويج بسبب الخطر البريطاني. سهّل كفيشلينغ والمتعاونين معه احتلال ألمانيا النازية لبلادهم والتي اعتبرها الألمان طريقا آمناً للأسطول البحري الألماني.