“إحكيلي عن بلدي”؛ زاويتنا المصوّرة الجديدة على باب الواد، نروي فيها حكايا الناس والأمكنة وسيرة الأشياء في بلادنا فلسطين، في نصوصٍ قصيرةٍ مُعشّقة بالصورٍ، وبلغةٍ مُتقشّفةٍ. وأولُ نصوص هذه الزاوية نصٌّ لأسماء عودة الله تروي لنا فيه حكاية الحدّاد وصانع السكاكين أسعد شاهين، من ترشيحا.

“إحكيلي عن بلدي”؛ زاويتنا المصوّرة الجديدة على باب الواد، نروي فيها حكايا الناس والأمكنة وسيرة الأشياء في بلادنا فلسطين، في نصوصٍ قصيرةٍ مُعشّقةٍ بالصور، وبلغةٍ مُتقشّفةٍ. وأولُ نصوص هذه الزاوية نصُّ لأسماء عودة الله تروي لنا فيه حكاية “أبو عماد”، الحدّاد وصانع السكاكين أسعد شاهين، من قرية ترشيحا.

****

في حارة الحدّادين في بلدة ترشيحا*، لا يزال أسعد شاهين “أبو عماد”، من مواليد 1926، يصنع السكاكين بالطريقة التقليدية التي ورثها عن أبيه منذ سبعين عاماً. “هاي السكاكين من قرن الخروف، وهاد اللون نادر، هذا الشغل ما بتلاقيه، ما عاد حدا بشتغله”، يقول “أبو عماد”.

بفخرٍ ملحوظٍ، بدأ “أبو عماد” بعرض إنتاجه من السكاكين متعدّدة الأشكال والأحجام أمامي، شارحاً لنا أنَّ معظم زبائنه من الفلّاحين ورعاة “المِعزه”، وسارداً برنامجه اليومي: “بقوم الصبح الساعة 5، وبفطر على فنجان زيت زيتون مع شقفة خبز، والساعة سبعة بكون في المشغل”.

( أسعد شاهين في مشغله في حارة الحدادين، ترشيحا، أسماء عودة الله، أيلول 2018)

يروي “أبو عماد” أنّه عمل في نهايات الاستعمار البريطاني في فلسطين في “تجليس” سيارات الجيش الإنجليزي وتصليح “مقصّاتها” في مشاغل الصيانة البريطانية في معسكر “كردانة” البريطاني قرب عكا، مُشيراً إلى أنّ الإنجليز كانوا يرسلون العُمّال في هذه المشاغل إلى مشاغلَ مماثلةٍ في أثيوبيا. ويضيف أنّه حين حان موعد نقله مع الفرقة الثانية، وقعت “مناوشاتٌ” بين العمال العرب واليهود في تلك المشاغل وأُغلقت، وسُلِّمت لليهود فيما بعد.

 (سكاكين أسعد شاهين بمقابض من قرون الخروف، ترشيحا، أسماء عودة الله، أيلول 2018)

” أنا تعذّبت كتير بالاحتلال الإسرائيلي”

بعد احتلال قرية ترشيحا على أيدي العصابات الصهيونية في النكبة عام 1948، يقول “أبو عماد”: “حيّدنا عن الحرب، ورُحِت على لبنان، لجأنا إلى بلدتي رميش وبنت جبيل الحدودية، ومنها إلى إقليم التفاح قضاء صيدا، ومكثنا في قرية الصالحية”.

في حديثه معنا، يمرّ أمام “أبو عماد” شريطُ ذكرياته الطويل، متذكّراً محاولات عودته إلى ترشيحا خلسةً في الليل، وكيف كان الجيش الصهيوني يلاحقهم عبر الحدود.

ويستذكر “أبو عماد”: “أقاموا محكمةً من هيئةٍ من الضباط في القرية للبحث عن الأسلحة، وكانت هناك فرقةٌ لقتل من يكذب ويخفي الأسلحة. حين نادى الضابط باسمي، وقال:

“يا مختار شو في عنده أسعد شاهين؟”
ردّ المختار: “في عنده بارودة طليانية وجفت خلع نمرة 12 بلجيكي”.
قال الضابط: “وين البارودة؟”، ردَّ المختار: “سلَّمها البارودة”.
“جفت الخلع وينه؟”

ويُكمل شاهين حكايته هذه بالقول: “كان قد فُرض علينا في تلك الفترة -قُبيل النكبة- أن يمتلكَ كلُّ شخصٍ بارودةً. وحين سألني الضابط عن “جفت الخلع”، أجبته أنه حين اندلعت الحرب ولجأنا إلى لبنان، مَرِض والدي، فقمت ببيعها مقابل مبلغٍ من المال. ثمّ أرسلوا برفقتي جندياً إلى البيت لإحضار ما أريد حمله معي قبل طردي من ترشيحا”.

(أسعد شاهين في مشغله في حارة الحدادين، ترشيحا، أسماء عودة الله، أيلول 2018)

“يالله، يَمّا قومي”

جلبتُ أمي وأختي التي لم تتجاوز الثالثة من العمر، وكانت الحافلات في انتظارنا في ساحة القرية، حيث تجمّع ما يُقارِب المائة فردٍ من القرية. وتمّ نقلنا إلى قرية اللجون التي كانت تحت سيطرة الجيش الأردني، ثمّ سلَّمها الأردن “لإسرائيل” لاحقاً، مستعيداً “أبو عماد” ذكرياتِ الرحيل القسري عن مسقط رأسه ترشيحا.

وصل شاهين خربةَ المنسيّ قضاء الناصرة، إذ كانت مدمَّرةً على يد عصابة “البالماخ”، عدا بيتٍ واحدٍ كبيرٍ بات فيه مع باقي أفراد قريته. ويضيف “أبو عماد”: “في صباح اليوم التالي، استكملنا رحلة لجوئِنا، حتى وصلنا طريق وادي عارة الواقع تحت سيطرة الجيش العراقي. وتمّ نقلنا في اليوم التالي إلى النادي الإسلامي في جنين، ومن ثمّ إلى مخيم بلاطة في نابلس. ما قدرت أتحمل عيشة المخيم… موت”.

في أوائل عام 1949، ذهب “أبو عماد” لمقابلة قائد الجيش العراقي في نابلس، وأخبره أنّه يريد الذهاب إلى لبنان من أجل جمع شمل العائلة، فقد كان والده لا يزال في لبنان، ولم يَعُدْ معهم.

“أصدر لي الضابط حينها “هويةً” وقال لي “الله معاك”. سافرتُ إلى الزرقاء في الأردن، حيث علمتُ بوجود لاجئين من ترشيحا، استضافتنا عائلةٌ من جيراننا من البقيعة. ومن الزرقاء، عدتُ إلى عمان، وقابلتُ القنصل اللبناني الذي كان ردّه: “معنا أوامر مُشدّدةٌ.. ممنوع أي واحد فلسطيني يفوت على لبنان”.

آنذاك، استطاع صديقه الحيفاويّ، زكي الجدع، التوسّط لـ”أبو عماد” عند المطران “ميخائيل عساف” في جبل اللويبدة، وكان مُقرَّباً من الحكومة الأردنية، فأصدر له بطاقةَ مغادرةٍ من خلال الصليب الأحمر. قطع أبو عماد الحدود السورية الأردنية عند بلدة الرمثا الحدودية، متوجِّهاً إلى درعا، ومنها إلى ساحة المرجة في دمشق، لينام ليلتين في فندقٍ اسمه “أوتيل الروضة”.

(حارة الحدّادين، ترشيحا، أسماء عودة الله، أيلول 2018)

يُكمِل “أبو عماد” قائلاً: “طلعنا الساعة 8 الصبح من دمشق، وصلنا الساعة 8 المسا بيروت”، كانت ثلوج كانون تكسو جبال الشام، وتُغلق الطرقات الواصلة بين دمشق وبيروت.

ويروي “أبو عماد” كيف اضطرّوا إلى السفر شمالاً إلى حمص وحماة، والرجوع إلى بيروت، مروراً بطرابلس: “قضينا تلك الليلة في ساحة البرج التي تُسمَّى اليوم ساحة الشهداء، ونمنا في أوتيل الشرق الكبير”، مضيفاً: “في صباح اليوم التالي، انطلقنا إلى بلدة الصالحية في صيدا، حيث اجتمعنا بوالدي الذي كان يحسِبُنا في عداد الأموات… تنقّلتُ بعد ذلك في لبنان بين الصالحية وحي الأشرفية والمية ومية، لا شغل ولا مصاري، فقلت بدي أرجع على ترشيحا”.

(أسعد شاهين -أبو عماد- على باب مشغله في حارة الحدّادين، ترشيحا، أسماء عودة الله، أيلول 2018)

“عدتُ إلى فلسطين سرّاً، مشياً على الأقدام في الوعر، كلّما شعرنا بتعقّب الجيش الصهيوني لنا، اختبأنا. وبعد ذلك، كفِلنا مطرانٌ من حيفا يُدعى حكيم بيطار. ولدى عودتنا إلى ترشيحا، منحتنا سلطة الحكم العسكري هوياتٍ حمراءَ اللون، وقالوا لي أنت غائبٌ حاضرٌ، قلت :
“شو غايب حاضر، فش غير الله غايب حاضر… وهَينا”…

****

*ترشيحا، أيّ جبلُ الشيح، والشيح نباتٌ شجريٌّ عطريٌّ. وقيل إنّ أصل الإسم “طارَ شيحا” نسبةً إلى “شيحا جمال الدين”؛ وهو قائدٌ في جيش صلاح الدين الأيوبي. حين استشهد، طارت رأسه من أعلى جبل المجاهد وهبطت، حيث تقوم ترشيحا، فقال الناس “طار شيحا”.

وترشيحا بلدةٌ جبليةٌ تقع في الشمال الشرقي من عكا على بعد 27 كم منها، بارتفاع 500 مترٍ عن سطح البحر. وتحدُّها قرى معليا وسحماتا. في الثورة العربية الكبرى (1936)، وقعت معركة ترشيحا في صباح التاسع من أيلول 1936، وأدّت إلى مقتل العشرات من الجنود الإنجليز، وتبعتها معركةٌ أخرى في كانون الأول 1937، إضافةً إلى عدّة عملياتٍ أخرى ضدّ مقار الجيش الإنجليزي في العام 1938.

احتلّ الصهاينة ترشيحا في 30 تشرين الأول 1948، بعد أن شكلت كابوساً للقوات الصهيونية خلال معارك النكبة في جدين والكابري وتين أبو شريتح، وأقام الصهاينة على أراضيها مستوطنات “معونا، معلوت، كفار فرديم، وعين يعقوب”. وشهدت ترشيحا واحدًة من أكثر العمليات الفدائية في شمال فلسطين بسالةً؛ وهي “عملية ترشحيا” في 15 أيار 1974 في الذكرى السادسة والعشرين للنكبة، والتي أدّت إلى مقتل 24 صهيونياً، تبعتها عمليةُ ترشيحا الثانية في العام 1979.