يتتبّع مهند عناتي قصّة استهداف جيب عسكريّ بريطانيّ لعاملين بسيطيْن من اللد، وهما أيمن شكوكاني والعبد سمحا، في فترة الاحتلال البريطاني للبلاد، وصراع أهل الشهيد سمحا، مستعيناً بالوثائق والملفات البريطانيّة المتوفّرة في الأرشيف الصهيوني، ليدوّن قصّةً منسيّةً.

*الصورة الرئيسية: شهداء مجزرة عيون قارة، والتي راح ضحيّتها 7 عمّال في 20 أيار 1990. 

في 20 حزيران 1946، وفي تمام الساعة الحادية عشرة والنصف صباحاً، كان العبد سمحا، وأمين شكوكاني- وهما عاملان بسيطان من سكان مدينة اللد- يعملان في تعبيد الشارع الذي يربط ما بين مدينة اللد ومستوطنة “ولهلما”، التي تبعد عن اللد شمالاً قرابة سبعة كيلومتراتٍ، حيث كانت تتمّ توسعته آنذاك.

في تلك اللحظة، انشغل الاثنان بنقل عربة “زفتة”، لتظهرَ فجأةً سيارةُ جيب “نصف لوري” بريطانيّةٌ، قادمةً من نواحي “ولهلما” تجاه اللد. وما أنْ انتهى كلاهما من إفراغ العربة، وعادا مرّةً أخرى إلى “الخلاطة” بهدف ملء العربة بالزفتة مجدّداً، حتى انطلق الجيب العسكريّ البريطانيّ بسرعةٍ جنونيةٍ. ليس ذلك فحسب، بل إنّ السائق الذي كان يقود ذلك الجيب، تعمّد القيادة نحوهما تماماً. يؤكّد أحد الشهود ذلك؛ إذ رأى عاملاً من العمال الآخرين في الموقع، كانت وظيفته تنظيم السير وتوجيه إشارة تنبيهٍ للسيارات القادمة كي تُبطئ سيرها، إلا إنّ هذه الإشارة الموجّهة لم تلقَ أذناً صاغيةً، بل إنّ سائق دورية الجيش استمرّ بالقيادة بسرعةٍ، مُديراً مِقوده نحوهما، مُصطدماً بهما وبعربتهما بقوّةٍ.

كان وقع الاصطدام جَللاً، أصيب الاثنان على إثره، حيث كانت جروح العبد سمحا بالغة الخطورة استدعت نقله إلى مستشفى يافا. أمّا أمين شكوكاني، فكانت حالته أقلّ خطورةً، ونُقِل إلى الرملة للعلاج.

سُجّلت هذه التفاصيل في شهادة “عبد الله حسن” الذي كان يقود “خلاطة الزفتة” آنذاك، مُدلياً بشهادته هذه بتاريخ 22 حزيران 1946، في كتابٍ وُجّه إلى مدير دائرة الأشغال العامّة البريطاني في يافا. [1] ولاحقاً، أُضيف هذا الكتاب إلى ملفٍّ في الأرشيف الصهيونيّ، الذي يحوي قرابة 70 ورقةً تتضمّن وصفاً للواقعة؛ منها أوراقٌ كُتبت باللغة الإنجليزيّة، وأخرى تتضمّنت مناشداتٍ من عائلة العبد سمحا، وخصوصاً من والدته، للجهات الحكوميّة البريطانيّة، مُطالبةً إياها بتعويض العائلة عن الحادث القاسي الذي أدّى في نهاية المطاف إلى وفاة ابنها ومُعيل عائلتها، العبد سمحا، بعد الجروح البالغة التي تعرّض لها.

تُرجِع شهادة الوفاة التي كانت مُرفقةً مع الملف المذكور، سبب وفاة العبد سمحا إلى إصابةٍ في الدماغ، وهذا ما يوثّقه التقرير الطبيّ الصادر عن المستشفى الحكومي في يافا. فبعد وصول العبد سمحا إلى المستشفى في تمام الساعة الثانية والنصف؛ أي بعد أكثر من ساعتين ونصفٍ من إصابته، تبيّن أنه تعرّض لكسرٍ عميقٍ في الجمجمة أحدثَ نزيفاً حادّاً، أُدخِل على إثره إلى غرفة العمليات. وفي اليوم التالي، وعند الساعة الواحدة والربع ظهراً، استُشهد العبد سمحا، بالغاً العشرين من عمره.

وبما أنّني تتبّعتُ، من خلال الأرشيف الاستعماريّ، قصّة استهداف هذين العاملين البسيطين من قِبل أحد الصهاينة الغازين، فإنّه من الضروري الإشارة إلى أنّ البحث في الأرشيف يعدّ، بشكلٍ عامٍّ، أهمّ طرائق البحث في حقبةٍ تاريخيةٍ احتفظ من عاشها وعاصر أحداثها بوثائقَ يمكن من خلالها الوصول إلى المعرفة التاريخية والاجتماعيّة والاقتصاديّة المتعلّقة بتلك الحقبة، خصوصاً إنْ كانت هذه الوثائق صادرةً عن جهةٍ حكوميّةٍ أو رسميّةٍ، دون إغفال أنّه أرشيفٌ استعماريٌّ، وعلينا قراءته بعينٍ نقديّةٍ، لا مسايرة. 

ومن المؤكّد أنّ فترة الاحتلال البريطانيّ لفلسطين عجّت بملايين الأوراق والوثائق التي انتقلت إلى أرشيفات الكيان الصهيوني، باعتبار الأخير خلفاً للنظام الاستعماريّ السابق، ووريثاً له في جوانب كثيرةٍ. وعلى الرغم من حمّى الأرشفة والرقمنة التي نحياها، إلّا أنّ هذا الجانب المهم من طرق البحث في خفايا التاريخ، لا زال يعاني من نقصٍ في توجُّه الباحثين نحوه، على صعيد بناء رؤيةٍ واضحةٍ حوله.

عودٌ على بدءٍ، وبتفحّص تفاصيل الحادثة المسرودة في الأرشيف، إضافةً إلى ما يكشفه تحقيق البريطانيين في الحادث عن هوية سائق الجيب، نجد أنّ الأخير كان يهودياً يقطُن حيفا واسمه “إسرائيل يروشلمي”؛ الأمر الذي لا يدع مجالاً للشكّ في خلفية عمليّة الدهس المتعمّدة التي تعرّض لها العبد سمحا وزميله، دون أن نعلم إنْ عُوقِب هذا الجنديّ أم لا؛ إذ إنّ النص الذي وثّق التحقيق، لا يُسهِب في التفاصيل هذه.

وبتتبُّع الحياة الاجتماعيّة للعبد سمحا، نرى أنّه لم يكن متزوّجاً، فقد كان الابن الأكبر لـ (نزهة محمد عاشور وهبة) التي بلغت آنذاك ما يقرُب من 31 عاماً، أو 30 عاماً وفقاً لشهادة ابنها رمضان حول الحادث. ومن الجدير الإشارةُ، هنا، إلى صعوبة تحديد أعمار الأشخاص أيامذاك؛ إذ لم يكُن تسجيل المواليد شائعاً في تلك الحقبة، غير أنّ رغبة والدة العبد سمحا بطلب التعويض من دائرة الأشغال البريطانية العامة- التي كان العبد سمحا يعمل لديها بدخلٍ لم يتجاوز الجنيهين الفلسطينيَيْن أسبوعياً- دفعت السيدة نزهة إلى إخراج شهادات تسجيلٍ لأولادها جميعاً.

تكشف المادة الأرشيفيّة التي أمامنا حِرصَ بعض العائلات الفلسطينيّة على الحصول على التعويض إذا ما تعرّض ابنها العامل لإصابة عملٍ، خصوصاً في سياقٍ استعماريٍّ غير طبيعيٍّ. كما تُظهر المادّة تلك الحاجةَ الماسّةَ للتعويض لأسرةٍ فلسطينيةٍ مستورة الحال، كعائلة العبد سمحا. ويبدو ذلك أكثر إلحاحاً حين يتّضح أن والدهم توفّي قبل استشهاد العبد بما لا يقلّ عن ثمانية أعوامٍ، وأنّ نزهة تزوّجت من شقيق زوجها صبحي بعد وفاته، فأنجبت منه ولدَيْن، وهما عادل ورمضان، إضافةً إلى ابنيها محمد والعبد من زوجها المُتوفى. وبالتالي، يبدو أنّ هذه العائلة كانت تعتمد على المبلغ المتواضع الذي كان يحصل عليه العبد مقابل عمله، بهدف تسيير حياتها اليوميّة.

كما تصلنا أخبار نزهة والدة العبد، أثناء بحثنا في ذات الملف، وهي تسعى جاهدةً لحثّ سلطات الانتداب البريطانيّ على دفع التعويض لها ولأفراد عائلتها، مُستعينةً، في سبيل ذلك، بمختار الحارة الغربية من اللد السيد “فؤاد الكرزون”، إذ أرسل الأخير العديد من الرسائل للجهات الرسمية المسؤولة عن متابعة قضية التعويض. وثمّة رواياتٌ أخرى تُخبرنا أنّه ذيّل بختمه أسفل الرسائل التي أملتْها السيدة نزهة، آنذاك، على الكاتب، إضافةً إلى بصمتها المطرّزة أسفل الرسالة.

وتعود استعانة السيدة نزهة بالمختار إلى كوْن تلك الفترة التاريخيّة قلَّ فيها توجُّه أصحاب الدعاوى الفلسطينيين إلى المحامين، كطريقة إدارة مثل هذه الطلبات؛ إذ فضّلوا التوجّه إلى مخاتير الأحياء لتأدية هذا الدور، والذين كانوا يتلقّون غالباً رسوماً رمزيةً لقاء ذلك. ولا يختلف دور المختار “الكرزون” عن باقي الأدوار التي لَعِبها المخاتير في ذلك الحين؛ فبجانب تذييله أغلبَ الرسائل التي أرسلتها السيدة “نزهة” بختمه، كان قد أدلى بشهاداتٍ تعريفيةٍ مفصّلةٍ حول أفراد عائلة سمحا، كأعمارهم ووضعهم الماديّ الصعب، إضافةً إلى تقدير عُمْر العبد الذي لم يكن يملك شهادة ميلاد. ومن الغريب أيضاً أنّ المختار يذكر أنه يعرف العبد شخصياً، باعتباره يسكن قريباً من مكان سكن المختار في حي “كفر جنس”، الأقرب إلى الرملة منه إلى اللد.

وبعد هذا الجهد المُضني في محاولة الحصول على التعويض، استمرّ البريطانيون بالبحث في هذه المسألة حتى منتصف العام 1947، حيث قرّرت سلطات الانتداب صرف مبلغ 240 جنيهاً فلسطينياً لعائلة الشهيد العبد سمحا، تعويضاً عن الحادث الذي أودى بحياته.

في الحقيقة، تحفّزنا هذه الحادثة وسعي العائلة الدؤوب إلى الحصول على التعويض، على طرح أسئلةٍ عدّةٍ، أهمّها: لماذا لم يتمّ التطرّق إلى الحادث كحادث قتلٍ مُتعمّدٍ من جنديٍّ يهوديٍّ مُنخرطٍ في الجيش البريطانيّ؟ ولماذا لم يتمّ اعتبار العبد سمحا شهيداً قُتل، فتذكره كتب التاريخ كذلك؟ وفي محاولةٍ لاقتفاء أثر الإجابة، يمكننا القول إنّ رغبة عائلة سمحا بالحصول على التعويض، وإبقاء الحادث في إطاره الأضيق، باعتباره حادث عملٍ، دون إلحاقه بأيّ وصفٍ عدائيٍّ تجاه الصهاينة، سهّلا الحصول على هذا التعويض لأسرةٍ كان من المؤكد أنها ستعيش مزيداً من شظف الحياة، لو لم تضمن تعويضاً بعد اسشهاد مُعيلها. في حين أنّ مسألة الحصول على التعويض باعتبار ما حصل استشهاداً أو إصابةً سبّبها العدو، ليست مضمونة النتائج، وستحتاج في الغالب جهداً أكبر في سبيل تلقّي أيّ تعويضٍ؛ وهو الأمر الذي حاولت العائلة تلافيه، وإنْ كانت متيقّنةً في قرارة نفسها أن ابنها ذهب ضحيّةَ مستوطنٍ غازٍ ومشروعه الاستعماريّ.

****
خلفيّةٌ تاريخيّةٌ

إنّ تكرار أحداث وفاة عمالٍ فلسطينيين في الآونة الأخيرة، أعاد إلى الذاكرة أحداثاً كثيرةً جرت في الماضي البعيد، فما أشبه اليوم بالأمس، حيث تعرض العامل الفلسطيني ولا يزال للعديد من الأحداث المؤلمة التي وصلت حدّ إصابته الخطيرة أو استشهاده، كما اتّضح أثناء مراجعة الملف الأرشيفيّ المتوفّر بين أيدينا. ولا يُقصد بذلك اختزال العامل الفلسطيني في صورة الضحيّة؛ إذ كان أيضاً محرّكاً أساساً في إشعال ثورات وانتفاضات بلادنا، سواءً تلك التي وقعت قبل السيطرة الصهيونيّة على فلسطين في العام 1948، أو في مرحلة ما بعد انطلاقة الثورة الفلسطينيّة المعاصرة في العام 1965، ولاحقاً على مرّ كلّ الانتفاضات، فقد كان عمّال فلسطين الشرارةَ التي أشعلت الانتفاضة الأولى، كما كان لهم حضورٌ بارزٌ في الانتفاضة الثانية.

فقُبيل الانتفاضة الأولى، تعرّضت مجموعةٌ من العمال الفلسطينيين للدهس على يد صهيونيٍّ متطرّفٍ قُرب مخيم جباليا، استشهد أربعةٌ منهم على إثر ذلك. وعلى الفور، عمّ الغضب أنحاء الأراضي الفلسطينية المحتلّة، لتستمرَ الانتفاضة بعدها عدّة سنواتٍ. لم تكن حكاية عُمّال غزّة استثناءً، ففي 20 أيار 1990، تعرّضت أيضاً مجموعةٌ من العمّال الفلسطينيين للهجوم على يد المتطرف الصهيونيّ “عامي بوبر” بالقرب من منطقة عيون قارة، ما أدى إلى استشهاد سبعة عمّالٍ، إضافةً إلى إصابة آخرين. والأمثلة حول ذلك كثيرةٌ وعديدةٌ لا مجال لحصرها في هذا السياق.

صورةٌ من موقعة مجزرة وادي قارة "ريشون لتسيون"، 20 أيار 1990

ورغم محاكمة المنفّذ الصهيونيّ “عامي بوبر”، إلا أنّ حكمه خُفّف كثيراً إلى ما يقرب الثلث. ومن الجدير ذكره أن سلطات الاحتلال الصهيونيّ سمحت له بالزواج وإنجاب الأطفال في الفترة التي أمضاها في السجن، فضلاً عن الإجازات التي كان يخرج فيها من سجنه، في تواطؤٍ واضحٍ، لا يختلف كثيراً عن تعامل الاحتلال الصهيونيّ مع حالات القتل التي تعرّض لها العامل الفلسطيني ولا يزال، وهو ذاته ما حصل في حادثة العبد سمحا وزميله.

****

الهوامش

[1] يمكننا الحصول على هذه الشهادة ووثائق أخرى مُتعلّقة بهذه الحادثة من الأرشيف الصهيونيّ الحكوميّ تحت رقم מ4058/6 ، الملف هنا