لا يبني التناول الموسميّ معرفةً واضحةً وتراكميةً حول القدس، لأنه تناولٌ يأتي على عجالة وبروح المنافسة في بعض الأحيان، منشغلٌ بالمسارعة إلى بثّ ما لديه “كي لا نغيب عن التغطية”، ومأخوذٌ بتصاعد الأحداث وتسارعها، ولا يبني على تراكماتٍ طويلةٍ من التغطية والسعي للبحث عميقاً في قضايا المدينة.

يسعى هذا المقال، ومن واقع متابعة للتناول الإعلامي الفلسطيني والعربي حول مدينة القدس، ومعايشة لبعض تجارب الإعلام والإعلاميين في هذا الإطار، للإشارة إلى بعض ملامح ذلك التناول ومناقشتها.

التناول الموسمي

يتصاعد التناول الإعلامي للقدس كميّاً خلال فترة تصاعد المواجهة مع الاحتلال، وعند حدوث “ما يُعتبر غير روتيني” بتعبير الإعلاميين، كما هو الحال في التحرك الشعبي الأخير بعد الإعلان الأمريكي للقدس عاصمة لدولة الاحتلال. ما إن “تنفجر الأمور” حتى تزاحم “القدس” بقية القضايا التي تشغل بال العرب وإعلامهم، وتصل من ذلك الزحام إلى الصف الأول، فتحلُّ لوقتِ بثٍ أطول، وفي صفحات إلكترونية أكثر، إلى أن تعود تلك المساحة وتتقلص شيئاً فشيئاً مع غياب “العواجل”. ثمّ تبدأ الأمور بالهدوء شيئاً فشيئاً، لا تسمع عن القدس إلاّ الأخبار التقليدية “العادية” من نوع “مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى”، مكررةً للمرة الألف بنفس الصيغة وبنفس التراتبية وبنفس التعابير، وربما بنفس الصور مكررة منذ أعوام، بقالب لا يلفت المتابع، وباختلافٍ بسيطٍ حول الأرقام.

لا يعني ذلك لوم الإعلام على تناوله المكثف واليومي لقضية القدس خلال تصاعد المواجهة مع الاحتلال. فتزايد الكشف الإعلامي خلال فترة المواجهة متوقع بحكم تصاعد الأحداث، وهذا غالباً المنطق الذي يعمل وفقه الإعلام، فالإعلام يتحرك عند تحرك الناس، أو يأتي للتغطية عندما يكون هناك “ما يستدعي التغطية”، ومن المتوقع أن يخفّ هذا عندما تهدأ الأمور. إلا أن هذا لا يجدر به أن يكون “منطقاً مُقيّداً” في حالة القدس، أو أن يكون مبرراً للموسمية في تناول قضية القدس إعلامياً، خاصّة أن هذه المدينة مليئة بالقصص التي تجعل فيها ما يستحق التغطية دائماً.

لا يبني التناول الموسميّ معرفةً واضحةً وتراكميةً حول القدس، لأنه تناولٌ يأتي على عجالة وبروح المنافسة في بعض الأحيان، منشغلٌ بالمسارعة إلى بثّ ما لديه “كي لا نغيب عن التغطية”، ومأخوذٌ بتصاعد الأحداث وتسارعها، ولا يبني على تراكماتٍ طويلةٍ من التغطية والسعي للبحث عميقاً في قضايا المدينة.

كما أن الموسمية في التغطية لا تتناسب مع “شعارات قلب العروبة والإسلام، وترانيم زهرة المدائن” التي نكررها فور استذكار القدس، وخاصةً إذا رغبنا بناءً على ذلك بترسيخ خطابٍ إعلاميٍّ رصينٍ يستندُ إلى الإيمان بالمواجهة اليومية، فهذه المدينة لا تهدأ فعلياً، وهي في حالة مواجهة مستمرة، تتصاعد أحياناً وتخفت لبعض الوقت، وتتخذ أشكالاً مختلفةً، ونضالاتها لا تنتهي.

وقد يكون أحد المخارج من هذا التناول الموسمي، أن لا تبقى فترة “الهدوء” المؤقتة في القدس وانخفاض حدّة المواجهات فيها متروكةً فقط للأخبار “التقليدية”، وإنما تُستغل تلك الفترة التي لا تتصف بضغط “العواجل” للعمل على تقارير رصينة تبحث في تفاصيل القضايا وتقدم الجديد، وتكشف المستور، وتُرسِخ على الأقل أساسيات المعرفة حول القدس، وتتحول من “الخبر إلى صناعة الموقف بناء على الموقف المجتمعي” (يمكن مراجعة ورقة صادرة عن دائرة سليمان الحلبي بشأن الإعلام ودوره، هنا).

قلّة التخصص وضعف الاطلاع

نرى الكثير من الصحفيين في الميدان، ولكن لا نرى ما يتناسب مع ذلك العدد من الإنتاج ذي الجودة والنوعية الذي يُعبر عن مسيرة متواصلة ومتناسقة وتنطلق من خطاب إعلامي واضح المعالم يرى نفسه متسقاً مع السياق الوطني الذي ينشط فيه.

وترى أنه مطلوب من الصحفي في القدس مثلاً أن يغطي كل قضايا القدس على عمقها وكثرتها وكثرة تفاصيلها، دون أن تجد محاولة لبناء تخصصات، فمطلوب منه أن يكتب أو يصوّر عن قضايا التعليم والهدم والاستيطان والأقصى والاعتقالات والتهويد والقضايا الاجتماعية والتجارية، في ضيق من الوقت لا يسمح له ببناء تخصص متعمق داخل إحدى هذه القضايا، ويتركه مشتتاً ما بين جهد هنا وهناك. وينعكس ذلك بكثرة الأخبار مثلاً عن “هدم المنازل” في القدس، دون تقارير صحفية كافية تتابع الخبر فيما بعد، وتشرح للقارىء أو المشاهد ما يكفي ليفهم سياسة هدم المنازل في القدس بعيداً عن العمومية والتسطيح.

لا يقع الخلل في مساحة الاطلاع أو التخصص التي يملكها الصحفيون كأفراد فحسب، إذ ترتبط هذه المسألة بما يمكن تسميته “البنية التحتية” للعمل الإعلامي إجمالاً، فعدا عن كوادر صحفية ضعيفة، هناك بنى إعلامية ضعيفة، لا تُحسِن التدريب والتوجيه، ولا تُقدّر الجهد، ولا تكافىء عليه بما يناسب ذلك الجهد، ولا تسمح للصحفي في كثير من الأحيان بطرح المواضيع المختلفة، فيجد كثير من الصحفيين أنفسهم مضطرين وفق منطق “هيك بدو الجمهور”، أو بالأصح “هيك بدو الناشر/الممول”، واتباع الكسل والاستسهال طريقاً، حتى يؤدي “وظيفته” ويخرج بأقل الخسائر.

في المقابل، يواجه الصحفيون إشكاليةً تُضعف من تقاريرهم وإنتاجهم، وهي “إشكالية “الضيف المناسب”، وخاصّةً من يعملون في الإعلام المرئي، فهم ملزمون بتعبئة وقت البث، ويجدون أنفسهم مجبرين في كل مرة على استضافة ذات الشخص للتعليق على مواضيع شتى، تحت مسمى “الخبير في شؤون القدس”. وقلة الباحثين والمختصين في شؤون القدس – حقيقةً لا اسماً وادعاءً- تراكم على قلة التخصص لدى الصحفيين وعدم قدرتهم الحصول على ما يكفي ويسد الرمق من المعلومات أو التحليل.

المصطلحات

لا يلتفت كثيرون إلى المصطلحات والمسميات ولا يفحصون دلالاتها السياسية. يشيع مثلاً استخدام مصطلح “القدس الشرقية”، للإشارة إلى ذلك الحيز الذي يمكن لأصحاب مسار التسوية القبول به كعاصمة للدولة التي ينشدون، في انفصال من قبل وسائل الإعلام تلك عن شعار يردده الشارع منذ سنوات “لا شرقية ولا غربية، هذه القدس عربية”.

واختيار مصطلحات مثل “القدس الشرقية” لا ينم فقط عن ضعف في إدراك دلالات تلك المصطلحات، وإنما ينم في كثير من الأحيان عن تبنٍ واعٍ ومقصودٍ لخطاب سياسي انهزامي ما زال يرى أفقاً لما يسمى حلّ الدولتين، ويقبل التنازل عن القدس ويكتفي بجزئها الشرقي. فاللغة الإعلامية تُعبّرُ عن مشروع سياسي وعن موقف سياسي من فلسطين، وكما نحرص على تسمية الشهيد بالشهيد، ونرفض كليّاً وصف “القتيل”، يجب الانتباه إلى مصطلحات أخرى، مثل شرطة الاحتلال (وليس الشرطة الإسرائيلية)، وبلدية الاحتلال (وليس بلدية القدس)، والحاجز (بدلاً من المعبر)، وغيرها.

أضف إلى ذلك هفوات كثيرة تدلّ على ضعف الإطلاع، وخاصة خارج فلسطين، أكثرها شيوعاً الخلط بين أبواب البلدة القديمة للقدس وبين أبواب المسجد الأقصى المبارك، أو حتى الخلاف المتكرر حول ما هي حدود المسجد الأقصى، وما الفرق بين الجامع القبلي وبين قبة الصخرة، عدا عن  استخدام أسماء ومصطلحات صهيونية للمواقع والأحداث.

مواضيع بعينها

أعرج هنا على قضية اختيار مواضيع بعينها لإعادة طرحها والترويج لها من قبل وسائل الإعلام العربية، كلما عادت القدس أو فلسطين عامةً إلى ساحة التناول الإعلامي المكثف، إذ نجد تلك الوسائل تترك كل ما جهلنا وكل ما غاب عنا من قضية القدس، وتركز، بغير براءة، على تلك المواضيع مما لا يخدم وطناً ولا يؤازر تضحية.

لا بد من التنبّه مثلاً إلى تعمد الإعلام المصري، وعلى رأس ذلك عمرو أديب، ووسائل إعلامية أخرى، إلى تناول موضوع “قدسية القدس عند المسلمين والعرب” بنفس تشكيكي نافٍ لأي ارتباط حقيقي وعميق بهذه الأرض وأهلها. فكلما هبّت رياح المواجهة في القدس، نجد عمرو أديب وأمثاله منشغلين في استضافة من يُثبت أو ينفي علاقة العرب والمسلمين بالقدس، وقُدسية المسجد الأقصى، كاستضافته مؤخراً للمدعو يوسف زيدان للتعليق على ذلك، وهي الاستضافة التي نقلها عدد من المواقع الإلكترونية المصرية التابعة للصحف. إن أبسط ما يمكن أن يقال بحقه أنه تناول متواطئ يصبّ في أهداف إعلام العدو، فهو خطاب مضادّ للخطاب الإعلامي الوطني الذي يجدر به رفد الممارسة النضالية على الأرض، لا ضربها بأسئلة لا قيمة لها.

ولا ينفصل عن ذلك ما تقوم به قناة الجزيرة القطرية من استضافة متحدثين صهاينة في نشراتها الإخبارية وبرامجها الحوارية، فيما يشبه إخراج مشهد تمثيلي تظهر فيه مذيعات أو مذيعو القناة وكأنهم “الأبطال المنتصرون” على “محاوريهم” الصهاينة، ويسارعون للمنّ علينا بذلك المشهد من على صفحاتهم على الفيسبوك.

وقد بلغت تلك الوقاحة مبلغاً في الأيام الأخيرة عندما استضاف فيصل القاسم في برنامجه “الاتجاه المعاكس” متحدثاً صهيونياً لنقاش قضية القدس وعمقها العربي. لم يخجل فيصل القاسم ولم تخجل قناة الجزيرة من ورائه أن توفر منبراً للدعاية الحربيّة الصهيونيّة النفسيّة الزاعمة أن القدس مدينة هامشية في التراث الإسلامي والعربي، وكأن هذه الدعاية مجرد “رأي آخر” يستحق طرحه على طاولة “الردح” في الاتجاه المعاكس، من باب “النقاش وعرض الآراء”، وكأننا في معرض الجدال بين علماء الصحة عن “مسببات السمنة” مثلاً.

وفيما يتعلق بقضية المسجد الأقصى كذلك، نرى تعمد بعض وسائل الإعلام، وبعض الفاعلين على مواقع التواصل الاجتماعي، ترديد مقولة “القدس مش بس الأقصى”، مرفقة ببعض الاستخفاف بمشاعر الناس الدينية، مع انتقادٍ خفيٍّ للَهفة الناس وتحركهم السريع للأقصى، مقارنةً بتحركهم الضيّق مثلاً في حال هدم البيوت أو اعتقال أحدهم.

نعم صحيح، القدس ليست الأقصى فقط، القدس بأهلها ومقدساتها وريفها وشرقها وغربها ومحيطها وتاريخ مواجهتها الممتد. لكن هذا لا يعني المساهمة من حيث لا ندري – وباستعلاء غير محق في كثير من الأحيان – في سلب الناس ما تعنيه رمزية المسجد الأقصى في نفوسهم، الناس الذين بنوا علاقتهم مع المسجد الأقصى ليس حصراً على مكانته دينياً، وإنما هي علاقة تتعدى الديني، لتشمل الروحاني والاجتماعي والسياسي والنضالي. فهناك من تفتحت عيونه على فلسطين من خلال تصديه من وراء بوابات الجامع القبلي في الأقصى للمستوطنين ورجال شرطة الاحتلال، وهناك من يرى في الأقصى قلب مدينته والحيّز الذي يأوي إليه ليلعب كرة القدم مثلاً، وهناك من يؤمن بأن تكثيف الصراع يتمثل في المسجد الأقصى، وأن الدفاع عنه دفاع عن كل القدس وفلسطين.

وربما يفيد هنا أن نستحضر المرات الكثيرة التي كان فيها المسجد الأقصى مُحركاً ووقوداً للهبات الشعبية في وجه الاحتلال، بل كانت ساحته ميداناً للتصدي لجنود الاحتلال، كحرق مخفر شرطة الاحتلال في ليلة القدر في العام 2014، أو كالمسيرات التي تنطلق من البائكة الجنوبية الغربية جنوب قبة الصخرة باتجاه باب العامود في الجمع الأخيرة، أو بالرجوع أكثر إلى تجمع أهالي نابلس والخليل والقدس في أواخر الحكم العثماني في ساحات الأقصى استعداداً لمسيرات النبي موسى، الذي كان موسماً شعبياً يحمل الطابع الثوري والمتصدي للاستعمار.

التركيز على “الزيارة كحلّ”

أما الموضوع الآخر، والذي يبدو أنه تخصص الإعلام الخليجي، فهو أكثر من يثيره بين الحين والآخر (إلى جانب الإعلام المصري وإن بدرجات أقل)، فهو موضوع زيارة القدس “كوسيلة لنصرتها والدفاع عنها، فكيف نترك تلك المدينة للصهاينة”، حسب تعبير إحدى المقالات.

تخرج تلك المقالات التي تطرح زيارة القدس كحلّ، بدون مقدمات، بمعنى أنك في غالب الأحيان لا تجد في الجهة الناشرة اهتماماً يليق بقضية القدس في زاوية الأخبار أو التقارير أو حتى القصص الإنسانية. ولكن تجد هذه الاسطوانة تتكرر من خلال مقالات الرأي مع كل مرة تعود القدس للكشف الإعلامي من جديد، وكأنها الحلّ السحريّ الذي يخرجه الساحر من قبعته كلما تأزمت الأمور.

تعمد تلك المقالات إلى تسخيف الموقف الرافض لهذه الزيارات من منطلق اعتبارها قبولاً بوجود دولة العدو، وتتعامل مع القدس كمجرد قضية مدينة محرومة من الزوار ومحاصرة ويجدر بنا كسر هذا الحصار وبذلك تنتهي “مأساة” تلك المدينة، دون أي التفات إلى ما تفتحه تلك “الزيارات” من قنوات التطبيع بين العدو الصهيوني وبين دول الخليج، وما تنطوي عليه من قبول بالسيطرة الصهيونية على فلسطين، واختزال القضية في كونها “القدرة على الصلاة في المسجد الأقصى المبارك”، أو الحصول على “صلاحيات إدارية أكثر فيه”.

ولا شكّ أن هناك قائمة من المنتفعين من ذلك الطرح، على رأسها المستويات الرسمية في دول الخليج المتعطشة لتطبيع شعبي مع دولة الاحتلال، بالإضافة إلى سلطة أوسلو التي كانت من المبادرين إلى طرح قضية “الزيارة” كحلّ سياسي لمدينة محتلة، ووظفت من يُفتي لها بذلك. وهو تناول إعلامي يخدم تلك المصالح بالدرجة الأولى، ولا يخدم قضية القدس.

****

ختاماً، في محاولة خلق نشاط إعلامي مختلف عن القدس، أظنّ أن المسؤولية تقع في المقام الأول على الصحفيين والصحفيات أبناء فلسطين، وعلى الصحفيين والصحفيات أبناء القدس بالذات، إذ هم الأقرب إلى الحدث، والأقرب إلى فهمه وتحليله، وهم المكلفون بنقل هذه الواقع عبر عملهم مع وكالات إعلامية محليّة وأخرى عربيّة.

وربما من المفيد العمل بشكل أساسي على تنويع وتوسيع نطاق المواد الإعلامية التي يخرجها صحفيو وصحفيات القدس، والمقصود بذلك البحث عميقاً في قصص صحفية وتقارير مفصلة جديدة، حول كل ما يخص القدس، من بيت دقو وكفر عقب شمالاً إلى صور باهر والولجة جنوباً، وعدم الانجرار إلى تكرار ذات القصص في كل وكالة ووكالة.

وبموازاة ذلك، لا بدّ من العمل على تطوير وتعميق ما يملكه الصحفيون من معارف سياسية واجتماعية واقتصادية عن القدس، مع بناء مرجع مصطلحات إعلامية أساسية حول القدس تعكس الموقف الوطني منها، وعدم الاكتفاء بدورات تطوير المهارات الإعلامية.

ووفي ظلّ سيطرة الصورة والمواد البصرية القصيرة التي تجد من الإعلام الاجتماعي منصة للانتشار، لا بدّ أن يتنوع شكل هذا المحتوى الإعلامي عن القدس، ويتوسع ليقدم مواد ذات جودة أكبر على المستوى البصري. وبطبيعة الحال، غالباً يصعب الخروج بمثل هذه الأفكار إلى حيز التنفيذ دون وجود أُطر وبنى تحتية إعلامية تُمكّن الصحفيين والصحفيات من ذلك، وتوفر لهم ما يسمح بهذا التطوير.