قد يُحيل مسمى المجزرة في الذهن إلى الفعل الإجرامي المنفلت من العقلانية، أو العنف الفوضوي، ولكن ما يخبرنا به تاريخ المجازر الاستعمارية الاستيطانية بالتحديد، أنها كانت على الدوام فعلاً عقلانياً محسوب الوسائل والأهداف، وإن كانت تعبيراً عن أزمة عند جماعة المستوطنين.   

في سبعين النكبة، وفي أوج “إيفوريا” الاحتفال بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ارتكبت المستعمرة المسماة “إسرائيل” مجزرة غزة، راح ضحيتها حتى كتابة هذه السطور 59 شهيداً وآلاف الجرحى. تأتي هذه المجزرة في وقت تعيش فيه المستعمرة أفضل أوقاتها منذ نشأتها، بعد أن أصبحت حليفاً للعرب ضد العرب.

رغم فائض القوة السياسية والاقتصادية إقليمياً وعالمياً، إلا أنّ “إسرائيل” كنظام استيطاني تعيش مفارقة العجز عن  حسم  صراعها الأوّل المستمر منذ 70 عاماً مع مَن تستعمرهم في داخلها. فمنذ نشأتها أقامت “إسرائيل” أعقد منظومة لفرض الإذعان والعبودية على من  فشلت في تهجيرهم وقتلهم في حربها التأسيسيّة وما تلاها من حروب لاستكمالها، ومع ذلك لا تزال عاجزة عن إخضاعهم جميعاً، وإن كانت قد نجحت في خلق بنى للعمالة والتواطؤ مستقرةً عند مجموعات منهم.

وبقيت غزة عصيةً على الإذعان، متمردةً على  نظام معسكر الإبادة، حلّ “إسرائيل” الأخير لاستيعابها داخل أحشائها، وإن كانت قد حوّلت هذا المعسكر “الغيتو” إلى حالة فريدة هجينة تجمع ما بين كونه معسكرَ إبادةٍ ومنطقةً حدوديةً لتمارس عليه أقصى درجات القتل الاستعماري: الموت الروتيني عبر الحصار، والقصف كمنطقة خارج الحدود.

في العام 2005 انسحب “أريئيل شارون”، رائد حروب الحدود والعمليات الانتقامية، من غزة، خرج منها ليعرِّف العلاقة معها كعلاقةٍ حدوديةٍ، وقتلَها كدفاعٍ عن حدودٍ، ولطالما كانت تجري المجازر الاستعمارية على المناطق الحدودية التي كانت تعرف مسبقاً كحدودٍ أو تخومٍ يجب إخضاعها. والمفارقة أن هذا التشديد على حرمة حدودٍ يتم في كيانٍ يرفض تعريف حدوده النهائيّة.     

خلال أعوام الحصار الـ 11، حوّلت “إسرئيل” قطاع غزة إلى معسكرٍ للإبادة، وهذا التوصيف ليس محاولةً لمنازعة الصهاينة احتكارَهم للمصطلح، وإنما هو توصيفٌ علميٌّ مكتمل العناصر، يعبّر عن حصار مجموعة من البشر تعتبرهم سلطة ما بمجموعهم خطراً يجب حجزهم، وتقنين حياتهم وموتهم عبر إخضاعهم للمراقبة الدائمة، دون أن يشكل ذلك عبئاً اقتصادياً على هذه السلطة. وقد مكّنت تقنيات المراقبة المعاصرة، من مثل الطائرات بدون طيار وغيرها، من تشييد “معسكر الاعتقال” والإبادة حلاً عملياً، وغير مكلف اقتصادياً للمعضلات السياسيةّ.

في سبعين النكبة، كانت مسيرة العودة تساوي التمرد على معسكر الإبادة وعلى الحل الأخير، هكذا يجب أن يُفهم الحدث على حقيقته، وهكذا فهمه الصهاينة، ولهذا كانت المجزرة، التي كانت استمراراً للعمليات الانتقامية التي كانت تقوم بها بعد حرب النكبة الوحدة 101 بقيادة “شارون”. أرادت هذه العمليات حينها تحويلَ اللجوء إلى حالةٍ دائمةٍ، والقضاء على العودة كممارسةٍ فعليةٍ عبر تسلل أهل البلاد للعودة إليها .

وفرت وتوفر العمليات الانتقامية عبر الحدود فرصة “الجيش الصهيوني” ليكون على حقيقته أمام نفسه، ميليشيا تمارس الحرب “كحفلة” صيد. قبل أيامٍ قليلةٍ، وعلى صفحة “فيسبوك” خاصة بالمجندين الجدد، سأل أحدهم: ما هي الوحدة العسكرية التي يمكنني الانضمام إليها لقتل أكبر عدد من العرب؟ تنوعت الأجوبة، ولكن العديد منها التقى عند غزة.