يمتدّ شارع 60 من بئر السبع جنوباً، مروراً بالخليل والقدس، ووصولاً إلى مدينة الناصرة شمالاً، وقد كان وما زال هذا الشارع محطة موت متكررة للمستوطن الصهيوني؛ ففي منطقة جبل الخليل لوحدها قتل ما يزيد عن 25 صهيونياً منذ العام 1993 في منطقة لا تزيد مساحتها عن 16 كيلومتراً مربعاً تصل شارع 60 بمستوطنة “كريات أربع”.

لا تُخفي البنية الاستعمارية علاقتها الوطيدة مع الهندسة المعمارية وغيرها من علوم تهتم باللوجستيات، بل تستند إلى تلك العلوم في خلق نظام هندسي يُسهّل عملية السيطرة على الأرض، ويتيح القدرة للمستوطن لخوض غمار حياة “طبيعية” في وسط بيئة مُعادية.

ويشكّل البُعد الهندسي أحد أهم عناصر القدرة على بسط السيطرة والتحكم، بل يُشكّل أيضاً الصورة التي من خلالها نعرف مضامين الاستعمار الصهيوني؛ فعند الحديث عن الاحتلال يكثر الحديث عن الحواجز، الجدران، الطرق الالتفافية، أنظمة المراقبة، وغيرها من قضايا ذات أهمية قصوى في خلق البنية الناظمة للاستعمار في السياق الفلسطيني بمعناه المادي المباشر، أي في طرق وآليات السيطرة على الأرض. وتشكّل الطرق، لما تتضمنه من أهمية بالغة، ميثولوجيا بالغة الأهمية في العقيدة الصهيونية، ومن أسطورتها المرتبطة بتحويل الصحراء إلى نموذج ناجع يستمد روحه من الحداثة الأوروبية.

وبالرغم من أهمية موقع المستعمرات (عُلوّها) وما لفّ لفيفها من بنى مرافقة، إلا أن المنظومة اللوجستية التي تصاحب تلك المستعمرات يتخللها ضعفُ بنيويٌّ، لطالما كان حليفاً للفعل المقاوم في فلسطين ولبنان وغيرها من محطات المقاومة العربية ضد الكيان. نذكر هنا الحرب الاستخباراتية والعسكرية في جنوب لبنان على الطرق الواصلة ما بين معسكرات الجيش المختلفة والتي تخللتها: كمائن للقوافل العسكرية ما بين إطلاق نار وصواريخ موجهة، والأهم بالطبع المتفجرات المُموّهة والتي تُفجر عن بعد، وقد لعبت دوراً ذا أهمية قصوى في قرار الانسحاب الصهيوني من جنوب لبنان.

باختصار، تعاني منظومة الأمن من خللٍ واضحٍ يكمن في حماية الطرق المتخصصة  لسير المستوطنين من وإلى الداخل الفلسطيني أو القدس، والبضائع، والكهرباء وخطوط المياه المرافقة لإنشاء أية مستعمرة. وقد واظبت المنظومة الأمنية على خلق إمكانية الحماية من خلال عدة استراتيجيات، أهمها ما يتعلق بمحاولة الفصل ما بين الفلسطيني والصهيوني على الطرق. وتُذكر هنا أهمية المنظومة الأمنية المعقدة التي يتخللها فصل لوحات السيارات الرقمية ما بين الفلسطيني (خضراء) والصهيوني (صفراء)، ويتخللها أيضاً: أبراج المراقبة، أنظمة الكاميرات، منع السيارات الفلسطينية من دخول طرق محددة، الدوريات المنتظمة المسيّرة من قبل الجيش والشرطة، وغيرها من مجسّات ومناطيد تُعنى بالرصد والمراقبة، أو تلك التي تُيسّر التعاطي مع الحدث في أعقاب وقوعه.

ويمكن القول إن التطورات الحاصلة على صعيد أنظمة المراقبة والأنظمة الهندسية، بغالبها، أتت كردّ فعل صهيوني على نجاعة المقاومة، خصوصاً في الانتفاضتين الأولى والثانية. وقد شكّلت تلك الانتفاضات عمليةَ تكثيفٍ للفعل المقاوم، من حيث كثافة الفعل وانتشاره الجغرافي، وقد أنتجت تلك الكثافة الزمنية والمكانية، محاولاتٍ أمنيةً صهيونيةً في احتواء أثره من خلال خلق بنى هندسية مادية دائمة تحاول توجيه الفعل إلى أماكن محددة، وتمنع الانتشار الجغرافي للفعل المقاوم. بل يمكن قراءة اتفاقية أوسلو على أنها محاولة التخلص من الاحتكاك المباشر مع غالبية السكان الفلسطينيين، إذ يشكّل ذلك عبئاً أمنياً وبالتالي استراتيجياً على قدرة الكيان في الاستمرار بإتمام مشروعه الاستعماري في الضفة الغربية، أي التخلّي عن البشر مقابل الاستحواذ على الأرض.

يمتدّ شارع 60 من بئر السبع جنوباً، مروراً بالخليل والقدس، ووصولاً إلى مدينة الناصرة شمالاً، وقد كان ولا يزال هذا الشارع محطة موت متكررة للمستوطن الصهيوني؛ ففي منطقة جبل الخليل لوحدها قُتل ما يزيد عن 25 صهيونياً منذ العام 1993 في منطقة لا تزيد مساحتها عن 16 كيلومتراً مربعاً تصل شارع 60 بمستوطنة “كريات أربع”. ويشكّل شارع 60 أحد الأعمدة الأهم في منظومة الطرق الصهيونية التي تصل ما بين القدس والمستوطنات الصهيونية القابعة في عمق الضفة الغربية. وبالرغم من أهمية هذا الشارع وكثرة الإشكاليات التي تنبع من محاولات حمايته، إلا أنه كان ولا يزال محطةً لإرث طويل وممتد من المقاومة.

تخلّلت الانتفاضة الحالية العديد من العمليات التي استهدفت شارع 60، من أهمها عملية الفدائي مالك حامد بالقرب من قريته سلواد، والتي أدت لمقتل جندي صهيوني، وعملية الفدائي خالد أحمد عليان والتي أدت لجرح ثلاثة جنود بالقرب من قرية بيت أمر في الخليل، وعملية الفدائي الشهيد عمر زعقيق، والتي أيضاً أسفرت عن إصابة ستة من جنود الاحتلال، وغيرها من عشرات العمليات التي استهدفت مناطق بالقرب من شارع 60 خصوصاً في حوارة-جنوب نابلس، أو مفارق الطرق ومحطات الباصات المحاذية للشارع، مثل مفرق زعترة ومفرق غوش عصيون. وهكذا كان للضفة في الهبة الحالية عنوانٌ واضحٌ في اختيارها لمكان محدد للهجمات، فشارع 60 يشابه باب العامود على أبواب القدس القديمة، من حيث وجهة الفدائيين واقتناصهم للأهداف. 

أتت عملية نابلس لتعيد إلينا ذكرى أولى عمليات الانتفاضة الحالية من حيث توظيف الأداة -عملية إطلاق نار بيت فوريك- من حيث الموقع المختار للعملية والسرعة والقدرة على الانسحاب من مكان العملية، وكأنّ نابلس وريفها يُفضّلان الالتفاف على الطرق الالتفافية، لتجعل التنقل اليومي لمستوطنيها مسألةً تتضمن احتمالية الموت السريع بطلقاتٍ سريعةٍ، لم تتعدَّ في هذه الحالة 22 رصاصة في أقل من 40 ثانية من مسافةٍ قُدِرت حسب الجهات الأمنية الصهيونية بعشرين متراً. وقد تخلل العملية بحسب إفادة الأجهزة الأمنية الصهيونية ضرب هدف متحرك من هدف متحرك، ما يعني أن في العملية إتقاناً في سرعة التنفيذ. إنّه انتقاءٌ سلسٌ للهدف، وعمليةُ انسحابٍ من منطقة الحدث بسلام.

 تكمن المفارقة بأن المنظومة الأمنية التي تتضمن فصل الشاخصات الصفراء عن الخضراء، تشكل أيضاً وخصوصاً في شمال الضفة الغربية، تشخيصاًَ أدق لمن يقبع في داخل السيارة، إذ إنها تسهل عملية انتقاء الهدف. ويُذكر هنا أن العديد من المستوطنين اقتنوا رموزاً فلسطينيةً، ومنها الحطة في محاولةٍ لتمويه انتمائهم للمشروع الاستيطاني، خصوصاً في مناطق الالتحام، وفي سياق الانتفاضتين الأولى والثانية. ومع ذلك، تغلّب الفلسطينيون على وسائل المستوطنين ودولتهم بحِيَلٍ مثل إعطاب مصابيح سيارات الفلسطينيين الأمامية اليمنى لتمييزها ليلاً عن سيارات المستوطنين.

ما يجعل من العملية الحالية ذات أهمية أنها تُبرز الضعف المرتبط بالطرق الاستيطانية؛ بحيث تصبح محاولات الفصل ما بين المستوطنين والفلسطينيين عنواناً للتخلص من تكلفة التنقل داخل الضفة وفي أماكن يسهل وصول الفدائي الفلسطيني إليها. ومنطق الفصل هذا نهايته الحتمية -في حال وصلت المقاومة مداها ولم يقبل الشعب الفلسطيني بـ ‘حلول’ تُجهضها بنيوياً، واستمر بالضغط على تناقضات المجتمع الصهيوني- هو الانسحاب شبه الكامل من الأرض، فلم يكن الانسحاب الصهيوني من غزة وجنين واقتلاع المستوطنات من تلك المناطق سوى النهاية العقلانية لمنطق الفصل، فعملية احتواء العمليات من خلال مجموعة من الأنظمة الهندسية المادية الدائمة، أو من خلال فصل الطرق، أو الشاخصات والحواجز وسياسات الإغلاق وغيرها، بالنهاية -وفي حال فشلها- تقنع الصهيوني أيضاً بضرورة الانسحاب، وفي بعض المحطات التاريخية (لبنان وغزة وجنين) من ضرورة اقتلاع وجوده المادي الدائم من تلك المناطق.

باختصار، قد نرى التوجه الصهيوني للفصل على أنه محاولةٌ لملاءمة المنظومة الاستعمارية، ونوعٌ من أنواع المرونة في خلق إمكانياتٍ أقل للوصول للأهداف من قبل المقاومة؛ أي عملية تكثيف لأنظمة الحماية أو الجدار الحديدي بتعابير جابوتنسكي، ولكنها أيضاً منطق يصل حدّ اقتلاع البنى المادية ذاتها، وهو المنطق الذي تصبو إليه المقاومة في فعلها.