بينما ينتشر جنود الاحتلال في أرجاء الحاجز ويتبختر المستوطنون في ظلّ هذا الأمان، دبّت صيحة “الله أكبر” ودوّى الرصاص مُصيباً، قبل أن ينسحب المنفذ بهدوءٍ كما دخل، عائداً إلى إفطاره، وتاركاً خلفه جيشاً يحاول لملمة منظومته التي أسقطتها للتوّ خمس رصاصاتٍ وصيحة. مقال شذى حماد

 

الساعة تشير إلى السادسة إلّا بضع دقائق من مساء هذا اليوم الرمضاني الموافق للثاني من أيار، يفصلُه عن أذان المغرب والانضمام لمائدة الإفطار قرابة الساعة والنصف. يقتربُ على مهله مواصلاً قيادة مركبته بوتيرة حركة السير التي تزداد بطئاً داخل حاجز زعترة. هادئٌ كما مرّ من هنا مراراً من قبل، ولكنّ مروره اليوم لن يكون كسابقه، بل سيكون مروراً محفوراً بالرصاص.

هنا على حاجز زعترة بين مدينتي نابلس ورام الله، وبينما ينتشر جنود الاحتلال في أرجاء الحاجز، ويعتلون نقاطه العسكريّة، ويتبختر المستوطنون في ظلّ هذا الأمان، دبّت صيحة “الله أكبر” ودوّى الرصاص مُصيباً، قبل أن ينسحب المنفذ بهدوءٍ كما دخل، عائداً إلى إفطاره، وتاركاً خلفه جيشاً يحاول لملمة منظومته التي أسقطتها للتوّ خمس رصاصاتٍ وصيحة.

 

الرصاص على حاجز زعترة لم يدوِّ إلا في مكانٍ وزمانٍ اختارهما المقاوم بدقة، ليُصيب أهدافاً، ثمّ ينسحب بسلام. وبذلك، لا تسجل عملية زعترة نجاحاً فقط بنتيجتها وما خلّفته من خسائر في صفوف العدو، وإنّما نجاحاً مزدوجاً بأبعاد ونتائج متعدّدة فرضتها على الواقع الزماني -حاضراً ومستقبلاً- والمكانيّ المتمثّل باختراق الحاجز كأحد أدوات المنظومة الاستعمارية ونسفه من الداخل.

من جهةٍ أخرى، جاءت العملية في خضمّ حالةٍ من الإرباك يمرّ بها العدو، بدءاً من أزمة الانتخابات الداخليّة، إلى سقوط صاروخ بالقرب من مفاعل “ديمونا” دون اعتراض المنظومة الدفاعيّة الصهيونيّة له، مروراً بهبّة باب العامود في القدس المحتلة والحالة الشعبيّة التي أشعلتها، ووصولاً إلى مقتل وإصابة العشرات من المستوطنين في حادثة التدافع في جبل الجرمق المحتلّ. لتشكّل عملية زعترة بذلك ضربةً قاسيةً في الوقت والمكان المناسبين.

وقبل ساعات قليلةٍ من عملية زعترة، كان جنود جيش الاحتلال قد تراجعوا خطواتٍ أمام تقدّم رحاب محمد الحروب (60 عاماً) بسكّينها محاولةً تنفيذ عملية طعنٍ على مفترق مستوطنة “عتصيون” جنوب بيت لحم، والذي يُعدّ أيضاً أحد المفترقات التي تشهد تعزيزاً أمنيّاً ورقابيّاً كبيراً. بدوره، نشر العدوّ مقطع فيديو يوثّق تراجع الجنود الخائفين وإطلاقهم النار صوب رحاب، والتي أُعلن عن استشهادها فيما بعد.

نسف الحاجز

لم يكفّ العدو عن تطوير حاجز زعترة وتحصينه خلال السنوات الماضية، كما باقي حواجزه التي تعدّ من أهم أدوات السيطرة الاستعماريّة على المكان وتقسيمه. ولم تمارَس هذه الهندسة إلا بعقليّةٍ أمنيّةٍ عملت على زرع العديد من أبراج المراقبة وغرف الجنود وأبراج الإنارة، وتكثيف نشر كاميرات المراقبة وتحديثها. هذا بالإضافة إلى تعزيز المكان بالجنود، وهو ما سيزداد كثافةً بعد هبّة القدس عام 2015. كما ستُوضع المكعبات الإسمنتيّة والعوازل الحديديّة أمام محطّات انتظار المستوطنين في الحاجز، خوفاً من عمليات الدهس.

على جانبي الطريق، وفي الساحات المفتوحة المحيطة بحاجز زعترة، سيُمارس الجنود عمليات الاعتقال والتنكيل المستمرّ بالفلسطينيّين بما في ذلك إطلاق النار والإعدامات الميدانيّة، ضمن سياسة ردع وترهيب منفّذي العمليّات ومعتقليها، ولجميع المارّين في المكان الذين يشاهدون هذه الممارسات يوميّاً. إذ يشاهدون إعداماتٍ ميدانيّةً سيتعمّد جيش العدوّ فيما بعد اختيار مقاطع الفيديو التي تناسبه لنشرها، بينما سيُخفي المقاطع التي توثّق أثر العمليّات النوعيّة منها. كما يشاهد المارّة آخرين محتجزين لساعاتٍ طويلةٍ في العراء، مُكبّلي الأيدي ومعصوبي الأعيُن، وذلك في سعيٍ مستمرٍّ لتذكير الفلسطيني بحقيقته كمحتلّ وبما قد ينتظره في حال أقدم على مقاومته.

لا يهدف حاجز زعترة، بمكوّناته وممارساته الاستعماريّة إلى هندسة المكان والسيطرة عليه فقط، وإنّما لممارسة عمليات هندسةٍ أخرى تتعلّق بضبط الفلسطينيّ وقمعه وتشكيل قناعاتٍ ذهنيّةٍ عن استحالة اختراق هذا المكان الأمني، كما استحالة تنقّل المقاومين وأدواتهم. فهذا المكان المعزّز بكلّ هذا الجيش وعتاده، والمنظومة الرقابية وتقنيتها، يقول إنّ أحداً لن يمرّ منه دون أن يخضع له. 

عملية الثاني من أيار، كما سابقاتها من عمليات المقاومة التي نُفّذت على حاجز زعترة، ستنسف كلّ أوهام القوة والسيطرة هذه التي يحاول العدوّ زرعها طوال الوقت من خلال مكوّنات الحاجز وأدواته. نسفٌ من الداخل ببضع رصاصاتٍ وخلال لحظاتٍ معدودة، لتنهار على أثره المنظومة التي رُكبت فيزيائيّاً وذهنيّاً أمام الفلسطينيّ، وحاولت طوال الوقت أن تضبطه داخلها وفيها.

“نسْف” الحاجز، بوصفه أداة استعماريّةً، لن يتمثّل فقط بدخول المكان وتنفيذ العملية وإطلاق الرصاص، وإنّما بالانسحاب منه. إذ ينسحب المقاوم بسلامٍ من المكان، تاركاً خلفه الجنود متخبّطين، يركضون للأمام، ومرّةً للخلف، ويطلقون رصاصهم بشكلٍ عشوائيّ، ويبحثون عن مصابيهم وقتلاهم.

مثّل الانسحاب من المكان ذروة نجاح عملية زعترة في الأمس، وكأنّ المقاوم زرع متفجراته في المكان ووقف مبتسماً أمام كلّ الجنود وكاميرات المراقبة رافعاً يده ومُلوّحاً قبل أن يصوّب إصبعه بثبات، ويُفجّر المكان ويراقبه وهو يتلاشى وينهار. إنّ هذه الصورة المُتَخيلة ربما ليست في ذهن المقاوم المنفّذ وحده، وإنّما هي صورة ستتشكّل وتتكوّن في ذهن كلّ فلسطينيّ.

زعترة وسيل الرصاص

لم تكُن عملية زعترة في الأمس الأولى من نوعها على هذا الحاجز، فقد “نُسف” الأخير مراتٍ عدّة من قبل وشهد على عمليّاتٍ نوعيّةٍ ومتنوّعة، بالرصاص والسكّين والمركبات، تمكّن خلالها منفّذوها من اختراق هذه المنظومة التي يحاول العدوّ تشكيلها عبر الحاجز والالتفاف عليها. وبينما يكثّف العدوّ محاولاته لفرض هذا الحاجز على الفلسطيني كأداةٍ للضبط والسيطرة، ظلّ هذا المكان في المقابل هدفاً للمقاومة، وظلّ الفلسطيني يعود إليه منتقماً، ويحاول في كلّ مرةٍ أن يُحسن انتقامه وثأره.

يأتي تنفيذ العمليات الفدائية على حاجز زعترة ضمن سيل العمليات التي استهدفت المقاومة الفلسطينيّة خلالها شارع 60 الاستيطاني، والذي يعتبر أهمّ الشوارع الاستيطانيّة التي تربط المستوطنات في الضفة الغربية مع القدس. يتيح هذا الشارع للمستوطنين التنقّل والتحرّك دون الحاجة للدخول إلى المدن والقرى الفلسطينية، إلا أنّ مرورهم من هذا الطريق يجعلهم أيضاً عرضةً لرصاص المقاومة. إذ ارتفعت وتيرة عمليات المقاومة على طول الشارع خلال انتفاضة الأقصى، واستعادت وتيرتها خلال هبّة القدس، وذلك لما يشكّله هذا الشارع من أهمية، فضلًا عن أهمية استهدافه وتفكيكه كأحد الأدوات الاستعمارية. بذلك، تأتي عملية زعترة الأخيرة لتراكم على مجموعةٍ من العمليّات الفدائيّة التي اخترقت في كلّ مرةٍ منظومة العدو الأمنيّة والرقابية التي يحاول من خلالها تعزيز حمايته للشارع والمستوطنين، وهذه المرّة بتنفيذ العمليّة والانسحاب بسلامٍ من ذات الشارع الذي أعلن العدوّ إغلاقه فور العمليّة.

ومنذ بدايات هبّة القدس، كان حاجز زعترة بالتحديد هدفاً لعمليات الدهس والطعن وإطلاق النار، من بينها: عملية الدهس التي نفّذها الشهيد سليمان شاهين بتاريخ 10 تشرين الثاني 2015،  وأصاب فيها أربعةً من جنود الاحتلال أحدهم وُصفت جراحه بالخطيرة. وسبقه في 30 تشرين الأول 2015 الشهيد قاسم سباعنة بتنفيذ عملية طعنٍ استهدف فيها أحد جنود العدوّ على الحاجز. وفي 24 تشرين الثاني 2015، نفّذ الأسير عزمي نفّاع عملية دهس على الحاجز وأصاب خلالها أربعةً من جنود الاحتلال. وتوالت فيما بعد العمليات على الحاجز وصولاً لعملية إطلاق النار التي نُفذت في الثاني من أيار 2021.

عملية زعترة والحبل ع الجرار

تأتي عملية زعترة في سياقٍ متّصلٍ بما سبقها من عملياتٍ وما سيليها، وضمن الجدوى المستمرّة ذاتها. الخوف من هذه الاستمراريّة عبّر عنه العدو بوضوح في الأمس، بالقول إنّ الخشية تكمن في أن تكون هذه العمليّة مقدمةً لسلسلة عملياتٍ وتصعيد قد تشهدها الضفة الغربية في الأيام القادمة. فربما تكون مجرّد الهدوء الذي يسبق العاصفة.

ولا يُمكن قراءة عملية زعترة بمعزلٍ عن انتصار هبّة باب العامود قبل عدّة أيام، والتي تمكّن خلالها الفلسطينيون من استعادة حيّزهم الاجتماعيّ والنضاليّ في قلب مدينتهم المحتلّة، وما رافق الهبّة من إسنادٍ شعبيّ في الضفّة الغربية وغزة والأراضي المحتلّة عام 1948، وإطلاق المقاومة صواريخها معلنةً استعدادها التصعيد. وأمام ذلك كلّه، تراجع العدوّ سريعاً عن مخطّطاته، لعلمه جيّداً أنّ انفجاراً ما يلوح بالأفق وعلى أصعدةٍ مختلفة.

وهم الانتخابات والالتفاف حول المقاومة

من جانبٍ آخر، لا يُمكن فصل عملية زعترة عن ما حاولت السلطة الترويج له من انتخاباتٍ قريبة وفشلها في تنفيذها فيما بعد. وإنْ تعدّدت أسباب تَذكّر السلطة حاجتها لممارسة الديمقراطية عبر صناديق الاقتراع – فلن نتطرق في هذا المقال إلا لأحدها المتّصل بموضوعنا – وهو استخدام صناديق الاقتراع كأداةٍ لقمع الحالة الشعبيّة وتهدئتها، وما راكمته الهبّات والحراكات الشعبيّة خلال السنوات الماضية من غضبٍ وسخطٍ على السلطة وممارستها الهادفة لإنهاك المجتمع من جهة، وصدّ نضاله واشتباكه مع العدو من جهةٍ أخرى عبر التنسيق الأمني.

إنّ ما سعت إليه الانتخابات بالدرجة الأولى هو تجديد الشرعية للسلطة كمنظومةٍ مسقوفة باتفاقية أوسلو، والتي تكمن مهمتها الأساسيّة في ضبط المجتمع الفلسطيني وإحباط مقاومته بالتعاون مع المحتلّ. إذن، وإن تبدّل من يحكم في السلطة، لن يُبدّل حقيقتها كجزءٍ من المنظومة الاستعمارية، كما لن يغيّر دورها الوظيفيّ المتمثّل بالتنسيق الأمني ومحاصرة المقاومين وملاحقتهم، وتتبّع أيّ بذرة مقاومةٍ تحاول أن تُنبت وتزهر في أرض الضفة الغربية، وهو دورٌ يتعزّز في لحظاتٍ كهذه التي يطارد فيها العدوّ شبحاً جديداً.

منذ لحظة الإعلان عن تنفيذ العمليّة،  انطلقت دعواتٌ لحذف تسجيلات كاميرات المراقبة التي سيسعى العدوّ للوصول إليها ضمن تتبّع سير منفّذ العمليّة، وهي الدعوات ذاتها التي تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فور تنفيذ أيّ عملية. فيما بدأ أهالي القرى المحاذية لشارع 60 الاستيطانيّ بتقديم وجبات الإفطار للعالقين على الحواجز العسكرية التي انتشرت وأغلقت الشوارع الحيويّة الواصلة بين مدينتي رام الله ونابلس، إضافةً إلى ما شهدته قرية بيتا من مواجهاتٍ واشتباك مع جيش الاحتلال الذي اقتحم قريتهم بحثاً عن المنفّذ.

ومع تضارب الأنباء حول العثور على عدّة مركباتٍ اعتُقد أنّها تعود إلى منفّذ العمليّة، سارع الشبّان في قرية عقربا إلى حرق مركبةٍ قيل إنّ الأجهزة الأمنية الفلسطينية قد وجدتها في البلدة، وذلك قبيل وصول جيش العدوّ إليها. يؤشّر هذا الاحتضان الشعبيّ في أعقاب العمليّة إلى استفتاءٍ شعبيّ من نوعٍ آخر، وهو الالتفاف حول المقاومة.

تثبت عملية زعترة أنّ محاولات السلطة قمع المقاومة تفشل مجدداً، وأنّ فقاعة الانتخابات التي تحاول زجّ الفلسطيني فيها لا تنطلي عليه ولا تمنعه من مواصلة نضاله. كما تؤكّد على أنّ حاجة الفلسطيني اليوم ليس تجديد الشرعيّة للمنظومة الاستعمارية، وإنما محاربتها وتفكيكها. بذلك، وامتداداً لهبّة باب العامود، نجحت عملية زعترة بتصويب ما حاولت السلطة وانتخاباتها حرفه، وأسقطت كذلك ادّعاءات العدوّ أنّ عدم عقد الانتخابات هو سبب التصعيد في الضفة الغربية، وذلك في محاولةٍ للهروب من الفشل الأمنيّ في صدّ المقاومة وتهدئة جمهورها.