نستهلّ “رادار” بمقالٍ يعرّفنا على الجاسوسة البريطانية “المس بيل”، وننتقل بعدها للحديث عن علاقات التبعيّة بين شيوخ القبائل العربية في الخليج والقوى الاستعمارية مطلع القرن التاسع عشر، ونختم بإشكالية “الاستقصاء المعماري” في فلسطين.  إعداد: مها النتشة.

نبدأ مختارات قراءاتنا لشهر كانون الثاني بمقالٍ يقدّم سيرةً مختصرةً للجاسوسة البريطانية الشهيرة “المس بيل” ، “صانعة الملوك” التي  ساهمت في هندسة مستقبل العراق ورسم حدوده، وننتقل للحديث عن علاقات التبعيّة والخضوع التي نشأت بين شيوخ القبائل العربية في الخليج والقوى الاستعمارية مطلع القرن التاسع عشر وواقع حال هذه العلاقة مع “دويلاته” اليوم، ثمّ نختم بإشكالية «الاستقصاء المعماري» في فلسطين. قراءة طيّبة

****

جيرترود بيل: صانعة الملوك

في كتاب “مذكرات وريثة العروش” الذي يروي سيرة الأميرة بديعة، حفيدة الشريف حسين، تظهر سيرةٌ مختصرةٌ بين ثناياها لأشهر جاسوسةٍ بريطانيةٍ في العراق، “جيرترود بيل”. سيرةٌ غابت عن كتب التاريخ، يحدّثنا عنها الكاتب وائل عبد الفتاح في هذا المقال المنشور على منصّة “مدينة“.

تفتتح الأميرة مذكراتها بالحديث عن سيرة عائلتها الهاشمية وسلطتها السياسية التي اكتسبتها من ادّعائها الانحدار من نسب النبي محمد عليه السلام. وتتطرّق المذكّرات إلى تناقل الحكم بين الشريف حسين وابنه فيصل وما واكب ذلك من وقائع مختلفةٍ. وعن الشريف حسين، فقد بدأ دوره الحقيقيّ يأخذ منحًى رسمياً و”ممهوراً بالرضى” بعد استلامه برقية القومية العربية التي أرسلتها إنجلترا له، إذ كانت السلطة مُرادَ الأول، ممثّلاً للأسرة الهاشمية، في حين كان مُراد الثانية سيطرةً تشدّ وثاق العالم العربي لصالحها وفي ذات الوقت، تفكيكه ورسم خارطةٍ سياسيةٍ جديدةٍ له؛ يكون أقصى أمنيات أفراد كلّ قطعةٍ منه، الدفاع عن حدودها.

وبينما تسرد الأميرة سيرة عائلتها، يتكرّر اسم الجاسوسة “بيل” بتلميحٍ وغموض، رغم أنّها المرأة الوحيدة بين  19 رجلاً تولوا منصب وزارة المفوّض لشؤون الشرق لدى المندوب السامي البريطاني. ونفّذت “بيل” – الخبيرة بالخريطة السياسية للقبائل والعشائر –  مهمّةً أساسيةً تركّزت على ترسيم حدود العراق في عام 1918، ثمّ تنصيب فيصل ملكاً على العراق عام 1921 لضمان تحويل خريطة العراق إلى واقع، رغم أنّها لم تكن آنذاك سوى السكرتيرة الشرقية للمندوب السامي البريطاني في العراق “بيرسي كوكس”.

وعلى الرغم من تجاهل بديعة الحديث عن الجاسوسة البريطانية التي رسمت حدود العراق، ينبش الكاتب عبد الفتاح في مذكّرات الأميرة ليستعرض سيرة الجاسوسة “بيل” المولودة في إنجلترا لأبٍ حُوتٍ استأثر بالنصيب الإنتاجيّ لبريطانيا في غير ذي قطاعٍ، في عصرٍ اتّسم بالمراوحة بين الأخلاق في السرّ والعلن وبسطوة الطقوس الفكتورية والطبقة الأرستقراطية، جهّزت لنظامٍ عالميٍّ هدفه تنمية ثروات المستعمِرين على ظهور المجتمعات المستضعَفة، ووزّعت موازين الغنى والفقر والقوة والضغف، على الخارطة السياسية الجديدة المرسومة، لم ينفكّ أثره إلى اللحظة.

قبل قيامها بمهامٍ استعمارية، قامت “بيل” بجولاتٍ استشراقيةٍ عدّة بدأت من إيران، ثمّ القدس وأريحا، وأماكن كثيرةٍ لاحقةٍ التقت فيها بـ “لورنس العرب” و”مارك سايكس” قبل تولّيه منصب المندوب السامي، لتتحوّل من مستشرقةٍ هاوية الرحلات إلى أشهر جاسوسةٍ بريطانيةٍ، بعد أن درست العادات والتقاليد الشعبية لأهل الشرق، وعرفت الجغرافيا وأتقنت رسم الخرائط.

تمتّعت “بيل” بشخصيةٍ جذّابة تراوحت بين المغامرة والمحافظة، فجذبت حولها “لورنس العرب” والملك فيصل، وجعلتها أشدّ النساء تأثيراً في صناعة القرار الاستعماري البريطاني، وأهّلتها لتكون من ثلّة الجواسيس الذين يقدّمون أنفسهم أنهم خلاص الشعوب الشرقية. أصبحت “بيل” إثر ذلك شخصيةً ذات شعبيةٍ في العراق، ترى من كان أقصى مديحٍ يبهجها “أنتِ عربية.. أنتِ بدوية”، أو يا “أمّ المؤمنين”.

تولّت “بيل” لاحقاً الرئاسة الفخرية لدائرة الآثار العراقية وأنشأت نواة المتحف إذ ذاك. وقضت أوقاتها في حوارات إدارة العلاقات في البلاد، وفي الرفاهية أحياناً بين مياه دجلة. قبل أن تموت في الأرض التي استعمرتها وتدفن فيها، في 12 تموز 1926.

يقدّم المقال تاريخاً مختصراً للجاسوسة “بيل”،  يلخّص الكاتب من خلاله مآلات اتفاق الشريف حسين مع الإنجليز بإشعال ثورةٍ عربيةٍ كبرى على الدولة العثمانية عام 1916، مقابل قيام الإنجليز بـ “منح” العرب استقلاليتهم عن الأتراك. وعلى إثر ذلك، أصبحت مكّة وجدّة والطائف تحت سيطرته. وبعد أن وكّل قيادة الجيوش إلى أبنائه الثلاثة، وجد الإنجليز في ابنه “فيصل” ضالتهم لقيادة الثورة، والذي انتصر في أكثر من موقعةٍ في سوريا والقاهرة، وبشّر باحتمالات النصر في مواقع أخرى في فلسطين.

ترنّح فيصل بين مطالب الإنجليز والثوار في سوريا بعد دخوله إليها، وبعد تراجع الإنجليز عن وعودهم له، اضطرّ للانحياز إلى جانب الثوار بعد أن عيّنوه ملكاً على سوريا. ولكن سرعان ما أسقط الفرنسيون مملكته -التي كانت نصيبهم من كعكة التقسيم- بعد واقعة ميسلون عام 1920 التي راح فيها “يوسف العظمة” شهيداً، في حين نُفِي فيصل “أو هرب” على إثرها إلى لندن، لتلتقي أقداره هناك بـ “جيرترود بيل”.

أدركت “بيل” حين حطّت في بغداد أنّها “البلاد المنشودة”، وبدأت بتكوين علاقاتٍ مع شيوخ القبائل العراقيين وأملت عليهم قراراتها، كما تمّ اعتماد مقترحها للإدارة المدنية في العراق من قبل الإدارة الأمريكية، وهي ذاتها التي اتّبعها صدام حسين وحزب البعث العربي الاشتراكي لاحقاً.

وعند اندلاع الحرب العالمية الأولى، تم تجنيد “بيل” جاسوسةً للحلفاء؛ وقابلت “لورنس العرب” مُجدّداً، وهناك استطاعت وضع خطّةٍ لإدارة العلاقة بين بريطانيا ومستعمراتها في الشرق. دورٌ لم يقتصر على الخريطة السياسية وحسب، بل امتدّ إلى مناحٍ وتقسيماتٍ مذهبيةٍ، خدمت مصالح بريطانيا الاستعمارية في المنطقة ورجّحت لها القوة على كلّ الأطراف.

أمّا فيما يتعلّق بالقضية الفلسطينية، أيّدت “بيل” لقاءات السلام التي جرت عام 1919 بين الملك فيصل و”حاييم وايزمان”، قبِل الأول بموجبها توطين اليهود في فلسطين، رغم تعبيرها عن رفض “وعد بلفور”، وإيمانها بعدم أصلانية اليهود في بلد يملؤه العرب والمسلمون.

للقراءة، من هنا

قرنان على “معاهدة السلام العامة” في الخليج

في مقاله المنشور على منصّة “السفير العربي”، يعود بنا عبد الهادي إلى أوائل القرن التاسع عشر، متحدثاً عن أصول اتفاقيات السلام وسيطرة قوى الاستعمار الغربيّة على دول الخليج العربي، التي دُشّنت بـ “معاهدة السلام العامة” بين شيوخ القبائل العربية في دول الخليج العربي وممثّلي بريطانيا بعد عدّة حملاتٍ عسكريةٍ وحصارٍ بحريٍّ مُبرُّرها مناوئةَ القرصنة وتجارة الرقيق.

في هذا الاتفاق، استأثر الاستعمار البريطاني بالسيطرة على أسطول مياه الخليج العربي وبترِ أيّ محاولةٍ لمنافستها -داخلياً أو خارجياً- بحيث ضمنت بقاء مفاتيح مداخل الخليج بيدها. ولم تترك أيّة فرصةٍ قد تقود لذلك؛ فمنعت المتنفّذين في دول الخليج من بناء السفن الكبيرة والموانئ التي دُمّرت بعد الحملات العسكرية المتكرّرة آنفة الذكر. سيطرت بسطها الاستعمار في المنطقة بعد أن أذعن شيوخ القبائل لإغراءات المناصب بشرط ضمان عدم ولادة أي مقاومة تسعى لاسترداد مياههم المُستعمرة، ليتحول بذلك “ساحل القراصنة” إلى “الساحل المُتهادن”.

وفي الوقت الذي أتاحت فيه هذه المعاهدة امتناع القبائل عن محاربة بريطانيا والتزامهم بعلاقة السلام ونيل الرضا، انطلقت القبائل تجاه نزاعاتها الداخلية على “السيطرة الشكلية” التي مُنِحت لهم بغير استحقاقٍ. نزاعات نالت إعجاب بريطانيا التي عملت على تغذيتها بين الحين والآخر. كما وضعت المعاهدة أساساتها لعهدٍ جديدٍ من السيطرة الأمريكية على المنطقة، لا سيّما بعد اكتشاف الثروة النفطية هناك، سيطرة استفادت من القواعد والخبرات التي أسّسها البريطانيون خلال استعمارهم للمنطقة.

بقيت صفة “التهادن” لصيقةً بشيوخ القبائل العربية وحكامها، واستمرّوا على ذات النهج إلى يومنا هذا رغم تغيّر الخليج لما كان عليه قبل قرنين؛ إذ لا يرى حكّام الخليج أيّ مستقبلٍ لهم بلا “حمايةٍ” خارجيةٍ، وهو ما يرتكنُ إليه “ترامب” في علاقته الحالية مع دول الخليج، وكلٌّ بمقابله طبعاً؛ إذ (you have to pay)، على الصعيدين السياسيّ والماليّ.

للقراءة، من هنا

الحضور الباهت لـ «الاستقصاء المعماري» في فلسطين: إشكالية لغة الباحث في أرض بحثه

عن معرض “عنف سريع وبطيء” الذي أقامته وكالة الاستقصاء المعماري (Forensic Architecture)، تحدّثنا رنا عناني في مقالها المنشور على موقع “حبر“، عن إشكالية السرد اللغوي والإعلامي التي اعترت تقديم المعرض آنف الذكر، والذي قُدّم بشكلٍ أساسيٍّ ليحقّق في قضية الحرب الزراعية التي يشنّها الكيان على أراضي ما يسمّى “غلاف غزة” للقضاء على كل المدّ الأخضر وخلق منطقة فارغةٍ على “الحدود”، كما يحقّق في قضية استشهاد رزان النجار، إبّان مسيرات العودة الكبرى. ذلك في ضوء محاولات الكيان الصهيونيّ ترسيم حدود طبيعيةٍ مع غزة، وطرد “السّكان” البدو من بئر السبع.

يرتكن المعرض على لغةٍ حياديةٍ باهتةٍ تشبه لغة القانون الدولي وخطابات حقوق الإنسان، وهو ما نبّه له مركز خليل السكاكيني المُستضيف للمعرض، على لافتةٍ معلّقة على باب المركز، داعياً المتجوّل للنظر إلى الأعمال بعينٍ نقديةٍ نظراً للصعوبات التي واجهها أثناء ترجمة العمل. فيستخدم المعرض مثلاً لفظ “المدنيين” بدلاً من الفلسطينيين، سالباً هويّتهم ومُحيِّداً إياهم عن الصراع كأصحاب حقٍّ في هذه الأرض التي اغتصبها الكيان. كما استخدم لفظة “الموت” بدلاً من “جرائم القتل”؛ التي لا تجعل الوكالة تتخذ موقفاً واضحاً مُنحازاً فعلاً إلى الجانب الفلسطينيّ.

 وهذه هي اللغة ذاتها التي تستخدمها منظمات الأمم المتحدة في خطاباتها دوماً خالقة مناطق رماديةً قابلة للتأويل تجد مخرجها للتبرير والتملّص، فهي مثلاً، تشترط لتجريم استخدام القنابل الفسفورية “مسرحاً” مكتظاً بالسكّان!

لا عجب؛ إذ أن وكالة الاستقصاء المعماري تنال فعلاً رضى الأمم المتّحدة، وتجثم تحت غطائها. ويتساءل المرء حقّاً عن موقف الوكالة من كلّ ما يحدث. ولعلّه لا داعي لذلك؛ فالتساؤل عن موقفها أو التصفيق له، يشبه إلى حدٍّ كبير الاحتفاء ببعض مفكّري اليسار الصهاينة عن حقوق الفلسطينيين ضدّ انتهاكات الاحتلال، والتصفيق لهم على اعتبار أنّهم “أبطالٌ مخلّصون” ويمكن كذلك “أحسن من إللي عنّا”، هذا ما قاله البعض حقّاً عندما قام مركز القطان باستضافة “إيال وايزمان” في تشرين الأول من العام الفائت. إذن؛ فقد امتدّ تأثير هذه اللغة التي تقف “شكلياً” موقف الدفاع عن الفلسطينيّ، إلى تمرير لقاءاتٍ تطبيعيةٍ، يُسوّغ المشتركون فيها فعلهم، وقد لا يرون فيه أيّ تطبيعٍ حقيقيٍّ، ويشرعن التعامل مع أمثال “وايزمان” على أنه “غير صهيونيّ”.

في حين أنّ هذا الدفاع ما هو إلا أسطورةٌ، تضع الفلسطينيّ موضع الضحية المُستكينة، المنتظرة للخلاص والمُتّكلة على أولئك الذين يدافعون عن حقوقها “بالنيابة عنها”، مقابل سلب الفلسطينيين لفاعليّتهم وإيمانهم بالخلاص من الاحتلال بعيداً عن الحروب القانونية الشكلية.

للقراءة، من هنا