لعلّ ما يجمع النصوص التي اخترناها لزاوية “رادار” لشهر كانون الأول، هو الصراع الذي لا ينطفئ بين المستعمِر وما يحمله من نتاجاتٍ وتصوّراتٍ حول المستعمَر، وبين الأخير الذي يسكنه حلم الانعتاق من العالم والمصير المفروضَيْن عليه. نبدأ “رادار” بدراسةٍ تنشغل في تفكيك أطوار المعرفة المهيمنة، والبحث في آفاق بناء المعرفة البديلة، مروراً بحوارٍ يعود إلى “معذبو الأرض” والأطروحات التي تخلّلها، واختتاماً بمقالةٍ تستعيد سيرة إحدى الشخصيات الفنيّة الاستشراقيّة.

مخطّطات تصدير المعرفة الغربيّة: إسكات “الآخر” وخلق أسسٍ معرفيّةٍ مضادّةٍ

يحمل الشقّ الثاني من العنوان الأهميّةَ القصوى في موضوع هذه الدراسة، نظراً لإفصاحه عن منطلقات الباحثَيْن، سيف دعنا ولورا الخوري، في مساءلة المعرفة. تحمل الدراسة همّاً معرفياً مشغولاً بتحقيق الانعتاق؛ إذ تكتسب أهميّةً في إثرائها النقاش الجادّ حول سبل البحث والتمحيص في المعرفة المُصدّرة إلينا من الغرب، على نحو معلن وظاهر. يمثّل هذا خطوةً تسبق عمليةً أكثر تعقيداً تُعنى بتفكيك أدوات القمع والمسلّمات الكامنة، بغموض أحياناً، في لغتنا.

تتّجه الدراسة، المنشورة حديثاً في مجلة “المستقبل العربي”، إلى مساءلة الأطر والمفاهيم السياسيّة والثقافيّة في المجتمعات الأصليّة، عبْر الوقوف على أرضيةٍ تفترض وجود إشكالاتٍ معرفيّةٍ مرتبطةٍ بالتبدّلات الطارئة على مجتمعات ما بعد الاستعمار وما قبله كذلك. بذا، تنبني المقولات الواردة في هذه الدراسة على التنبّه الشديد لوجود إشكاليّاتٍ مفاهيميّةٍ جديّةٍ في صميم الحاضر السياسي، بما ينعكس مباشرةً على رؤيتنا للتاريخ وطموحاتنا المستقبليّة.

تبدأ الدراسة بالتأسيس نظريّاً لآليات تشكّل نظرية المعرفة المهيمنة، ومنطق اشتغالها ومساعيها. ومع كونها حقيقةً معروفةً، لكن يبقى فيها ما يُذهلنا؛ كيف أن أحداثاً تاريخيّةً (الثورة الصناعية 1789-1848) حلّت في منطقةٍ جغرافيّةٍ محدودةٍ من العالم وفي قسمٍ صغيرٍ من أوروبا (فرنسا)، لم تغيّر مجرى التاريخ الإنساني فحسب، بل أفرزت مفاهيمَ ستستمرّ قروناً من الزمن، وتُصدَّر بوصفها قيماً ومعاييرَ كونيّةً. يبيّن الباحثان أنّ التحوّل الأعظم في تلك المرحلة لم يتركّز في الابتكارات الصناعيّة، بقدر ما تركّز في نشوء مفاهيم حديثةٍ اختزلت أيّ تخيّلٍ للعالم الحديث، وهو ما يطلق عليه استعمار الخيال.

تتابع الدراسة في التأسيس نظريّاً لفهم آليات تحقيق الهيمنة المعرفيّة، فتطرح مجادلةً مفادها أنّ المعرفة الاستعماريّة لا يجري تصديرها إلّا بعد تفريغها من أيّ معرفةٍ مضادةٍ. يشير الباحثان إلى أنّ هذه المعرفة تمتلك قدرةً على استنساخ نفسها على الصعيد العالمي في مسارٍ موازٍ لعملية إفـراغ الأنظمة المعرفيّة من المنافسة، وحصرها في زاوية الاعتماد على المفاهيم والتحيّزات، والصور النمطيّة، والمخيّلة الجغرافيّة، والافتراضات التي تستند فقط إلى النظام المعرفي الغربي. يرافق هذه العملية العنيفة من تصدير المعرفة تهميشٌ بنيويٌ لأيّ معرفةٍ بديلةٍ.

تأسيساً على ما سبق، يرى الباحثان تعذّر الحديث عن إمكانية إنتاج معرفةٍ بديلة دون التنبّه إلى الإشكاليات الكامنة في أدوات إنتاجها التي غالبًا ما تستبطن “نزعةً استعماريّةً”. وفي هذا السياق، تُفرّق الدراسة بين مصطلحي “الاستعمار” و”النزعة الاستعماريّة”؛ إذ تتيح الأخيرة فهمَ استمراريّة أنماط الهيمنة بعد انتهاء إدارة الاستعمار، والتي أنتجتها ثقافة الاستعمار وبنيته الذكوريّة في النظام العالمي الحديث والرأسماليّ. بالتالي، تصبح تلك الأنماط كامنةً في أدوات البحث ومنهجيّاته، حتى وإن كنّا في خضّم البحث عن معرفةٍ بديلةٍ ومضادّةٍ للمعرفة الاستعماريّة المهيمنة.

وفي إطار الحديث عن تجارب الشعوب المستعمَرة في إنتاج معرفةٍ أصيلةٍ وبأدواتٍ منهجيّةٍ بديلةٍ، تطرح الدراسة تساؤلاتٍ حول حـدود إنتاج المعرفة، ومدى قدرة المنهجيّات البحثيّة التي تحاول استجلاب المعرفة من الأسفل، كالتاريخ الشفوي، على إنقاذ المعرفة الأصيلة من التشويه. صحيح أنّ استخدام التاريخ الشفويّ يشكّل محاولةً للإنصات إلى أصوات المنبوذين أو المهمّشين واستعادة السرديات الغائبة، لكنّ الدراسة تتساءل: هل هذه السرديّة خاليةٌ من أيّ انتقادٍ؟

يأتي ذلك السؤال في ضوء التأكيد على مساهمة منهج التأريخ الشفوي في بناء سرديّةٍ “أصلانيّةٍ”، في حالة فلسطين تحديداً، نظراً لاشتغاله باستمرارٍ على ترسيخ هوية الشعب المستعمَر وتأصيله بالأرض المسلوبة ما بعد النكبة؛ إذ تشكّل الشهادات الشفويّة بدايات بناء قواعد بيانات الذاكرة الحيّة.

ختاماً، ترى الدراسة ضرورةً قصوى في إنقاذ مناهج البحث الأصلانيّة من الوقوع في فخّ استلهام المقولات التأسيسيّة من المركز إلى الهامش، والاستناد إلى الثنائيّات الهدّامة في تحليل الظواهر. مقابل ذلك، تجادل الدراسة بأهمية اشتغال البحوث الأصلانيّة كأداة مقاومةٍ في صوغها للمعرفة، عبر إنتاجها معرفةً بمعيّة الشعوب الأصليّة ومن خلال قنواتها، وليس عنها. كما تنتهي الدراسة إلى ضرورة إنتاج المعرفة من أفراد المجتمع المحلي كفاعلين للتاريخ المنتج عبْر الرواية الشفويّة، بما يجعلها معرفةً مُنتَجةً في ظلّ الاستعمار دون الخضوع لإسقاطاته النظرية، بغية الوصول، في نهايةِ المطاف، إلى نتائج غير مفترضةٍ مسبقاً.

للقراءة، من هنا.

حوار مع لويس غوردون: العودة إلى “معذبو الأرض”

في حوارٍ مع الفيلسوف والموسيقي والمفكر السياسي “لويس غوردون”، ترجمه محمد زيدان ونشره موقع “حبر”، يعيدنا غوردون إلى “معذبو الأرض”، وإلى الفكرة التي انطلق منها “فرانز فانون” بأنّ الاستعمار هو شكلٌ من أشكال الطرد واللعنة التي تدفع بالمستعمَرين خارج نطاق العلاقات البشرية، بشكلٍ يحوّل الإنسان إلى “زومبي”، على حدّ تعبيره.

يشير غوردون، بالاستناد إلى منجزات “فانون”، إلى  تعذّر مواجهة هذا الطرد وإعادة تصويب الواقع الإنساني، إلا  في ضوء العنف؛ ذلك أنّ الاستعمار عند فانون مرادفٌ للعنف، ومناهضته تتطلّب اتصالاً مباشراً معه، ومن هنا تأتي حتميّة العنف الثوري. بالاتساق مع هذه الرؤية، فإنّ  فانون يرى في تبني السلميّة قُبالة العنف خياراً  إشكاليّاً، وينطوي على نفاقٍ صريحٍ. فبحسبه، يخلق الاستعمار  فئتين منقسمتين متناقضتين، تخفيان بموجب  انفصالهما علاقاتٍ راسخةً من القوة. بذا، تصبح مهمة المستعمرَين التحرّك من خلال العنف، لتحصيل الحرية التي لا تُمنح، بل تُنتزع انتزاعاً.

ويشرح المقال أطروحات “فانون”، بالقول إنّ للعنف قوةً مزدوجةً، فهو من جانبٍ يعيد المستعمِرين الذين يرون أنفسهم آلهةً، إلى إنسانيتهم، ومن جانبٍ آخر، يطهّر المستعمَرين من قهر الاستعمار، ما يعيد تصويب الواقع الإنساني والكرامة الإنسانيّة . ووفق “فانون”، تستمدّ حركات التحرر شرعيّتها من تعهّدها على مواصلة النضال؛ إذ إنّ الأخير لا ينتهي بتحقيق الاستقلال الوطني، وإنما يواصل عمله في الدفع باتجاه  بناء عالمٍ جديدٍ كليّاً.

وانطلاقاً من تشابه السياقات الاستعماريّة في إطارها الواسع، يتحدّث غوردون عن الأثر  الذي تركته أفكار “فانون” على الشعوب المضطهدة وحركات التحرّر، لا سيّما الأمريكيين السود الذين وجدوا فيه النموذج الأقدر على تحّدي النظام والسلطة المدمرة .

ختاماً، يتطرّق الحوار إلى أهميّة أفكار فانون التي يلخّصها في الجدوى المستمرة للمقاومة والتجاوز المزدوج للذات: الذات التي صنعها الاستعمار، والذات التقليديّة، بهدف بناء الإنسان الجديد على أنقاضهما.

للقراءة، من هنا.

“تان تان”.. وجه العنصرية القبيح

لعلّ في هذا المقال، للكاتب الجزائريّ عبد الله بن عمارة، عودةً إلى النتاجات الاستشراقيّة في أعنف صورها الفنية. “تان تان” اسمُ شخصيّةٍ فنيّةٍ أسّس لها رسّامٌ بلجيكيٌّ يُدعى “جورج ريمي” عام 1929، لتصبح من أشهر شخصيّات الرسوم المتحرّكة. إنّه فتىً بلجيكيٌّ يخوض مغامراتٍ لا تنتهي مع كلبه “سنووي” في بلاد “الآخر”، مع الإشارة الضروريّة إلى أنّ الرسّام “ريمي” كان متّهماً بالتعاون مع النازيّة إبّان الحرب العالميّة الثانية.

يوجِز لنا المقال، المنشور في موقع “الميادين”، الدور الذي لعبته شخصية “تان تان”، بوصفها نتاجاً فنيّاً أوروبيّاً، في تعزيز المقولات الاستشراقيّة عن البلاد العربيّة والإفريقيّة، والتي أُنتجت من خلال الأدب، والعلوم الاجتماعيّة، والسينما…إلخ، كأدواتٍ في خلق المعرفة المهيمنة وتصديرها.

يستحضر المقال أمثلةً عينيّةً من مغامرات “تان تان” تَظهر فيها، بوضوح، الإحالاتُ الاستشراقيّة العنصريّة في النظرة إلى بلادنا العربيّة بوصفها موطناً مختلفاً، وبعيداً، ومفعماً بكلّ ما هو غرائبيٌّ لا يحتمل التصورات العقلانيّة ولا يتّسع للمشاهد “الحضاريّة”. ففي كلّ قصص مغامراته، لا يتوقف “تان تان” عن كونه الرجل الأبيض المغامر، والشجاع، الذي لا يخشى خوض رحلاتٍ محفوفةٍ بالمخاطر في بلادٍ تسودها مشاهد “التخلف” و”الوحشيّة”.

وفي حكايا رحلات “تان تان” إلى أفريقيا، تصل الأوصاف الواردة في النصوص إلى حدّ التجسيد الصارخ لما فعله “المغامرون” البلجيكيون من أفعالٍ تجاوزت العبارات العنصريّة إلى جرائم إبادةٍ حقيقيّةٍ بحقّ سكان تلك الأرض وثرواتها الحيوانيّة والطبيعيّة.

ومثلما شكّلت الإثنوغرافيا رِفقة العلوم الطبيعيّة، والجغرافيّة، والاجتماعيّة أداةً – مباشِرةً أحياناً وغير مباشِرةٍ في أحايين أخرى- في تحقيق الهيمنة والسيطرة الاستعماريّة، اشتغلت النتاجات الأدبيّة والفنيّة على نفس المستوى مع تلك العلوم في تخليق نظرةٍ تؤسّس لخطاب الهيمنة الثقافيّة القائم على المهمّة التحضّرية “المقدّسة” للرجل الأبيض من جهةٍ، وعلى تحفيز الأوروبيين للاستيطان في جنّات هذا “الشرق الساحر” المُهمَل من أصحابه من جهةٍ أخرى.

يقدّم المقال نموذجاً واحداً من بين كمٍّ هائلٍ من النتاجات الاستعماريّة التي لم تقل عنفاً عن عنف استعمار الأرض والإبادة الفعليّة للسكان الأصليين. كما يجعلنا نستحضر كثيراً من الأدبيّات حول الأعمال الفنيّة الاستشراقيّة التي أُنتجت عن البلاد المُستعمَرة. ففي الحالة الفلسطينية، يمكننا تلمّس النزعات الاستشراقيّة في الرسومات والصور الفوتوغرافيّة القديمة عن فلسطين وأهلها، والتي أُنتجت بالأساس على يد مستشرقين أوروبيين وصهاينة (مصوّري الأمريكان كولوني مثالاً). كذلك، اشتغلت السينما الصهيونية في بداياتها، قبل النكبة، على اختراع واقعٍ خرافيٍ يوتوبيٍ عن أرضٍ خاليةٍ تنتظر شعباً رائداً كي يصلَ ويحرثها، مُنتجةً تمثيلاتٍ مشابهةً لما أورده المقال في معرض حديثه عن شخصية “تان تان” في أبشع تجسيدٍ لعنصرية الرجل الأبيض.

للقراءة، من هنا.