نضع بين أيديكم أربعة مقالاتٍ حجزت مكانها على “رادار” لشهر تشرين الأوّل، نبدأها بغياب أرشيف منظّمة التحرير، بفعل الاستحواذ الصهيونيّ وتخلّي القيادة الفلسطينية عنه، وتداعياته على كتابة التاريخ الفلسطيني، مروراً بقصة ثورة هايتي والتحرّر من العبودية، بعد قرنين، ودور العنف الثوريّ ومبدأ النديّة، وانتقالاً إلى دراسةٍ حول التشابه الوظيفي للكيان الصهيونيّ مع منطق القلعة، وهشاشته رغم الأسوار المتينة، وانتهاءً بهجرة الفلّاحين المصريّين غير النظاميّة إلى أوروبا، وأثرِ موجات الهجرة على النسيج الاجتماعيّ والاقتصاديّ للريف المصريّ.

تأملاتٌ في الغياب: الأرشيف الفلسطيني من حركة التحرّر إلى دولة أوسلو

تعيد الباحثة هنا سليمان، في تحقيقٍ بحثيٍّ نُشر في موقع “مدى مصر“، بناء قصة مركز أبحاث منظّمة التحرير الفلسطينيّة، ومصير أرشيفه، وتداعيات ذلك على كتابة التاريخ الفلسطيني، مُسلّطةً الضوء على استحواذ العدوِّ للموجودات الفلسطينيّة، فضلاً عن تخلّي القيادة الفلسطينيّة عنها. تتابع الباحثة تحليل هذه التداعيات وصولاً إلى الأرشيف المُمأسس بعد توقيع اتفاقية أوسلو وتأسيس “الأرشيف الوطني الفلسطيني”، كما تبحث في انسلاخ المشروع التحرّريِّ وأوجه التباين بين الأرشيفيْن، كاشفةً عن إسكات أرشيفٍ مقابل الانتصار لآخر، ومدى انعكاس ذلك في حدود إنتاج التاريخ الفلسطينيِّ الحديث.

يتناول المقال الأرشيف بوصفه مؤسّسةً لإضفاء الصدق على المعرفة ضمن منظومة الذاكرة، لا مجموعةً من الوثائق التاريخيّة النادرة وحسب، إذ تنطلق الباحثة من اعتبار الأرشيف ذاتاً فاعلةً، لا مجرّد مصدرٍ توثيقيٍّ، ما يستدعي قراءته وتحليله كأساسٍ لدراسة إثنوغرافيا الدولة. كما لا يتعامل المقال مع الأرشيف على أنّه توثيقٌ لأحداثٍ بعينها، بلّ يستند على اعتبار صُنع الوثائق سيرورةً لإنتاج الحقائق، والمادّة الأرشيفيّة استهلاكاً لها؛ إذ يعمل الأرشيف على ترسيم الحدود التي تُشكّل داخلها التواريخ، وتستدعي مَهمة بنائه وصونه طريقةَ فهمٍ مُعيّنةً للعلاقة بين الإنتاج الأرشيفيِّ وكتابة التاريخ، فضلاً عن حاجته لشرعنة أنظمة السلطة. ولذلك، عمَدت الدُول على السيطرة على الأرشيف، بينما لعب أرشيف حركات التحرُّر، والذي تختلف ظروف إنتاجه جذريّاً عن أرشيف الدول، دوراً مِحوريّاً في تشكيل السرديّات التاريخيّة.

وفي حالة أرشيف مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينيّة، تُجادِل سليمان بأنّ تحوّل الخلايا الفلسطينيّة الثورّية السرّية نحو التأسيس الرسميّ لمنظمة التحرير في عام 1964، كمؤسسةٍ تابعةٍ لجامعة الدول العربيّة، ساهم بمأسسة أنشطتها مُمهِّداً لإنشاء مركزِ أبحاثٍ وأرشيفٍ، وهو ما ساهم فيه الطابع الشتاتي للمنظّمة، وما وفّره من هامشٍ لحريّة العمل والتوثيق. وفي حالة العدوّ، أثبتت الهجمات الصهيونية المتكرّرة على المركز، والتي تُوّجت بالاستيلاء على أرشيفه، صعوبة الاحتفاظ بسجلٍ وثائقيٍّ كاملٍ أثناء النضال التحرُّري، فضلاً عن خطورة الاحتفاظ به، لما يشكّله من تهديدٍ إضافيٍّ في ميدان معركة السرديّات.

وضمن محاولة إعادة بناء القصّة وتبيان شدّة الخسارة، ترى الباحثة أنّ المسألة تكمُن بكوْن الأراشيف لا تخدم سرديّة مُنشئِها، بل آسِرها؛ فالوثائق التي تمّ الاحتفاظ بها في منظمة التحرير لخدمة أغراضٍ يوميّةٍ، تمّ الاستيلاء عليها وطُوّعت لخدمة سرديّة العدوّ الصهيونيِّ. وفي هذا السياق، تدعو الباحثة لقراءة الأرشيف المُتاح باتّجاه التيار؛ أيّ “قراءة ما به من (إعادة) توزيعٍ و(عدم) انتظامٍ و(عدم) اتّساقٍ ومعلوماتٍ (مغلوطةٍ)، ومحذوفاتٍ”، من أجل فهم دارات إنتاج المعرفة.

وفي سياق توقيع اتفاقية أوسلو، وتشكيل السلطة الفلسطينية، أحدثت “الحركة الوطنية” قطيعةً مع ماضيها الثوري، لتفصِل ماضي المنظمة عن مستقبل السلطة، التي لا يُفسح خطابها المروّض بالسلام مكاناً لأرشيف مركز أبحاث منظمة التحرير، التي رفعت يوماً ما راية الكفاح المسلح، أو كما تصفُ الباحثة إنّ “منظمة التحرير انمَسَخت في هيئة السلطة، وفي الطريق إلى ذلك محت القيادة سجلّ الثورة المُسلّحة”.

تختمُ سليمان المقال بالتأكيد على أنّه وبالرغم من دور “إسرائيل” في سرقة وأسْر أرشيف المركز، فإنّه اليوم أسيرُ مشروع بناء الدولة المسخ، فأصبح منشئُ الأرشيف آسِرَه، بينما يبقى أرشيف مركز الأبحاث غائباً. ولا يعني ذلك استحالة كتابة تاريخ الثورة، بلّ إنّ في ذلك تأكيداً على إقصاء “دولة المستقبل” لتاريخ حركة المقاومة المسلحة من حدود إنتاج التاريخ الذي سترعاه، وتأسيس أرشيف السلطة، ليعبّر عن السير بخُطىً ثابتةٍ نحو “تحقيق” دولةٍ فلسطينيةٍ من جهةٍ، وليخدم كأداةٍ لإنتاج ماضي الدولة الجديدة؛ “فلسطينٌ متآكلةٌ، دائمةُ الانكماش”، من جهةٍ أخرى.

للقراءة من هنا.

قصة ثورة: بيان من أجل العنف الثوري
“هذا أوان القيامة…احمل سلاحك واتبعني “

في مقالٍ نُشر  في صحيفة “الأخبار” اللبنانية، يروي لنا أحمد حسن كثيراً ممّا حدث في ثورة هايتي، وكيف نال أهلها حرّيتهم بعد قرنيْن كامليْن من ذلّ الاستعباد؛ إذ تحقّق الانعتاق بفعل قادةٍ لم يؤمنوا إلا بمبدأ الندّية، وأنّه لا سبيل للمستَعبِدين إلا أن يتجرّعوا من نفس الكأس التي أذاقوا من مُرّها المستعبَدين. لا يستندُ هذا المبدأ على قيادة الثورة وحسب، إنّما يكون الشعب ارتكازه الأهمّ؛ ففي هايتي، حوّل الثوار ليلها إلى نهارٍ أحمر بعد أن قاموا بإحراق مزارع الأسياد البيض عن بكرة أبيها، كانت تلك الليلة أول لمعان الخلاص.

وفي السياق الفلسطينيّ، يتوقفّ حسن قليلاً ليعيد تعريف الجنون، فينقله من اعتبار تحرير فلسطين فكرةً مجنونةً، ويعيد موضعته في المُتمسّكين بأبواق اللّاعنف والتعايش السلميّ، وأولئك الذين يتشدّقون بفكرة الصراع الأخلاقيّ العاجز والمفاوضات. إذ إنّ “إسرائيل” هي أكثر الأفكار جنوناً وعبثيةً على الإطلاق، ويرى أنّ جواب سؤال: “ماذا يعني تحرير فلسطين؟” يتلخّص في كلمتين فقط: “تغيّير العالم”، خاتماً إجابته بنقطةٍ واضعاً الحدّ لأيّ كلمةٍ أخرى.

ولا يستهدف الفعل المقاوِم حدود الفعل الماديّة المحيطة به وحسب؛ بلّ يتعدّاه ليُربك النظام العالميّ البائس، الذي جَعل من فكرة إقامة الوطن اليهوديّ في فلسطين من الممكنات. لا أدلّ على ذلك من تأثير الفعل المقاوم المستمرّ في جسم الاستعمار فيتخبّط ليتّخذ قراراتٍ اعتياديةً بلهاءَ قرأنا مثلها الكثير في سِير المستعمَرين، ستكون سبيله إلى الفناء.

يستطرد حسن في قصة ما حدث أثناء ثورة هايتي، مشيراً إلى أنّه عندما قرّر “ماكاندال” أنّ الوقت قد حان لوداع العبودية وتحرير هايتي، ظنّ من حوله أنّه قد جُنّ؛ فقراره هذا كان يعني بالحدّ الأدنى انقلاباً على النظام الاجتماعيِّ والاقتصاديِّ للعالم، ونسف كلّ الأسس القائمة آنذاك. ثمّ أثبتت الأيام اللاحقة أنّه كان أكثرهم عقلانيةً؛ فكان هو وقادة ثورته من أنبياء الثورة، وحصل ما عزموا عليه، راسمين خارطةً لمن سيخطّ طريق الحرية من الاستعمار من بعدهم.

لقد كان عليهم أن يقتلوا أكبر عددٍ ممكنٍ من المُستعمِرين، وبلا رحمةٍ، وإلّا كانوا سيظلّون رَهْنَ العبودية أبداً؛ كانت هذه الفكرة الرئيسة التي ارتكز عليها “ماكاندال” وشَرَع في تنفيذها، وقد اقتبسها من المجموعة المسمّاة بــ “الحشّاشين”، فسار على خطاهم في تكتيكات التنظيم والاغتيال بالسُّم، التي قطعت ستة آلافِ مستعمرٍ من جذورهم، وكان لا بدّ أن يمارسوا على المستعمِرين بعضاً من العنف الذي مارسوه ضدّهم، و”من يتعب أولاً يُهزمُ أولاً”، لا مزاح في ذلك.

اخترق “ماكاندال” بتكتيكاته الفذّة أغلب المَزارع، عبر شبكةٍ تنظيميّةٍ واسعةٍ ومعقدّةٍ من المستعبَدين الذين قاموا بتنفيذ خططه بالاغتيال بالسُمّ وحرق المزارع، ما جعل الذعر يدبُّ في صدور المستعمِرين، ونُسِجت كثيرٌ من الأساطير حول ذلك، موظّفةً الحرب النفسيّة. كما اتّبع أيضاً منهج التخريب الشعبيِّ، الذي اعتُبر أعظم حملات التخريب المنظّمة في التاريخ الحديث، بهدف تدمير الاقتصاد الكولونياليّ.

يوضّح الكاتب، أيضاً، أنّ شجاعة “ماكاندال” وتكتيكاته وقدرته التنظيميةّ كانت مقدّمةً ضروريةً لتحرير جزيرة هايتي، وهو ما جعلها في عِداد المُمكنات، حتى بعد أن أمسك به المستعمِرون وأحرقوه حياً، بلّ جعل التحرير عقيدةً سار على دربها كلّ أتباعه. آمن “ماكاندال” أنّ لا مجال للمجاملة أو العودة في الثورة والمقاومة، وأن ما يتشدّق به أدعياء التعايش السلميِّ ما هو إلا كذبةٌ سخيفةٌ تنأى عن حقيقة الفكرة الاستعماريّة؛ إذ لو أراد المستعمِرون تعايشاً سلميّاً لما أصبحوا مستعمِرين، ولم تتحرّر هايتي لاحقاً إلّا لأنّ مستعمِريها أيقنوا أنّهم أضحوا خيار اثنين فقط؛ إمّا القتل أو الرحيل!

تأتي فكرة اللاعنف، وفقاً لفانون، ضمن مبتكرات الدفاع الاستعماريِّ؛ إذ إنّها تُرضي ذوق الكثيرين ممّن لا ترقى لهم شجاعتهم بالتصدّي، أو من يفضّلون راحة السلم على المقاومة. ومن خلال ترويج هذه الفكرة، يتمكّن المُستعمِر من كسب متواطئين معه. كما ينسف فانون حتميّة انتصار الأكثر حداثةً؛ إذ انتصر مقاتلو حروب العصابات غير الحداثيّة، في كثيرٍ من الأحيان، على الجيوش النظاميّة الحداثيّة، وهؤلاء همّ “سرُّ قوتنا، وسرّ ضعفهم”.

وعودةً إلى السياق الفلسطيني، يعوّل الكاتب في الصراع على الذاكرة. فإنّ ما فعله بنا الصهاينة، من قتلٍ فعليٍّ وروحيٍّ وثقافيٍّ، لا يُمكن أن يُنسى، فلكلٍّ منا ثأرٌ شخصيٌّ معهم، ولكي نصل إلى نقطة الثورة، لا بدّ أن نصِل إلى نقطة اللاعودة، وعلينا أن نقرّر أنّ ثمن الحرية أقلّ دائماً وأبداً من ثمن الاضطهاد، ونضعهم رهن خيارين: الموت أو الرحيل. ويبقى سؤال الكاتب: هل نحن بحاجةٍ للتذكير بكلّ ما فعله بنا الصهاينة؟ كيف قتلوا أطفالنا؟ كيف قطّعوهم إرباً؟

للقراءة، من هنا.

القلعة: المقوّمات العسكريّة والاقتصاديّة في “إسرائيل”- مظاهر القوّة والضعف

في  مقالٍ نشر في مجلّة “الآداب“، ينطلق الكاتب كميل أبو حنيش، الأسير في سجون الاحتلال، وعضو اللجنة المركزيّة للجبهة الشعبيّة، في دراسته هذه من كون الكيان الصهيونيِّ جسماً استيطانياً غريباً تتشابه صفاته في كثيرٍ من الأحيان مع القلعة من النواحي الوظيفيّة، ومن ناحيتي القوة والعزلة، مُرتكزاً في وصفه على البعدين العسكريِّ والاقتصاديِّ. كما يستعرض سلسلةً من المواقف الصهيونية، سعياً منه في وصف علاقتها العضوية بالدول الكبرى والتحديات السياسية التي تواجهها، في محاولةٍ لاستشفاف مستقبلها والدور المنوط بها.

حاول “ثيودور هرتزل” في كتابه “الدولة اليهوديّة”، بناء تصوّرٍ سياسيٍّ واستراتيجيٍّ لدولته المُتخيلة، هويةً ووظيفةً ومعنىً تاريخياً، إذ كان يرى أنّ الشرق بربريٌّ تقف قبالته الحضارة الغربيّة التي يلعب الكيان بها كنقطة مراقبةٍ وقلعةٍ حاميةٍ ومستعمرةٍ تعمل لصالحها في سبيل التحالف معها كقوى عظمى تساعدها في بناء مشروعها. تتواءم رؤية “هرتزل” هذه مع المعاني الاصطلاحية واللغوية للقلعة؛ فهي رمزٌ للقوة وحصنٌ منيعٌ يصعب الوصول له أو تسلّقه.

وإن أمكننا استدراك الكاتب؛ فالقلعة قد تنأى عن المواجهة المباشرة؛ كدلالةٍ على هشاشتها إلّا من أسوارها المتينة، وعلى هشاشة المُحتمين بها وجُبنهم، و”حاجتها إلى من يدافع عنها” كما يقول إيلان بابه. وتاريخيّاً، كانت القلعة رمزاً للسطوة والظلم الذي مارسه الإقطاعيون على عبيدهم، كما كانت، قبل انهيار معظمها، ومحطّاتٍ تذكّرنا بتاريخ الحروب الصليبيّة في بلادنا فلسطين.

ويتطرّق الكاتب إلى ادعاء جابوتينسكي، الأب الروحيُّ لليمين الصهيونيِّ، والمتمثّل في أنّ حلّ الوصول إلى السلام يكمُن في بناء جدارٍ حديديٍّ بين الفلسطينيين والصهاينة، على اعتبار أنّ هذا الفصل سيخفّف من احتكاكهم، وسيجعل الأمل يستحيل استسلاماً وقبولاً بدولةٍ يهوديةٍ في فلسطين، وبهذا تنسحبُ رغبتهم في مقاومة هذا الاستعمار، كما أنّه سيمنح الكيان الصهيونيّ استقلاليّته وعدم تبعيّته للعرب، وبهذا سيعمّ السلام من خلال منطق القوة والردع.

واستناداً على أساليب الكيان الصهيونيِّ في الاستيطان ومنه الزراعيُّ، تطلّب ذلك أيضاً بناء الجدار من أجل حماية البلاد من أيّ هجومٍ خارجيٍّ؛ إذ إنّ أمن “إسرائيل” لن يعتمد بكليّته على القوات المسلّحة، هذا ما قال به “بن غوريون” في خطابه بُعيد إعلان قيام الكيان الصهيونيِّ.

وعطفاً على منطق القوة الذي يعتمده الكيان في سياساته؛ فإنّه أشبه ما يكون بثكنةٍ حربيةٍ تقوم بكلّيتها على الحرب، فـ”لا مفرّ من هذه الحرب، ومن دونها لن تكون هناك أيّة فرصةٍ للحياة وبقاء الأمة”، هكذا شرح “إسحق شامير” جوهر الكيان الصهيونيّ، الذي يحاول الجميع بناء سلامٍ واهٍ معه.

كما يرى “نتنياهو” بضرورة السيطرة على جبال الضفة الغربية استكمالاً لحلقات هذه القلعة، وهو ما شرع الكيان الصهيونيُّ بتنفيذه فارضاً على نفسه أسس العزلة والفصل مع كل حدوده البرية وحتى البحرية.

يفرض المنطق الحربيُّ على القلعة التوسّع، مقاومةً التقلّصَ، خاصّةً بعد أن رفضت الحركة الوطنية الفلسطينية التسليم بكلّ ما أوجدته عى الواقع؛ فكان لزاماً عليها توسيع حدودها في حزيران 1967، فيما تراجعت بعد استعادة الجنوب اللبناني عام 2000، وتراجعه عن غزة عام 2005. بيد أنها ركّزت أكثر في الجوانب التي ترى أنها تزيد مناعتها وقوّتها، كقوتها العسكرية والحدودية.

لكنّ كلّ ذلك لم يجعل وجود “إسرائيل” شرعياً ولاأخلاقياً ولم يُزِل عنها صفة المُحتلّ، ولكنّها سنّت مجموعةً من القوانين التي ترى أنها قد تجعل وجودها قانونياً، كقوانين العودة والمواطنة، والقانون الأساسيّ الذي يعرّفها كونها دولة الشعب اليهوديِّ.

وكما أسلفنا سابقاً، فإنّ الكيان الصهيوني يعتمد في أمنه أساساً على الدول العظمى التي تحميه وتقدّم له الدّعم ليبقى قائماً؛ إذ إنه يظلّ قاصراً باعتباره كياناً وظيفياً، هذا بالطبع مقابل ما يلعبه الكيان من دورٍ في الاقتصاد الرأسماليّ وفي السياسة الأمريكية، بالتحديد، في المنطقة.

للقراءة، من هنا.

هجرة الفلّاحين غير النظامية إلى أوروبا أو نهاية القرية المصرية

في مقالٍ نُشر في موقع “السفير العربيّ“، يسلّط أحمد شهاب الدين الضوء على هجرة الفلّاحين المصريّين غير القانونية إلى أوروبا بحثاً عن العمل، ويتتبّعُ موجات الهجرة المختلفة على مرِّ العقود الأخيرة، وأثرها على النسيج الاجتماعي والاقتصادي للقرى المصريّة والمجتمع ككلٍّ.

ففي عهد جمال عبد الناصر، دفع قانون الإصلاح الزراعي ببعض الفلّاحين إلى بيع الأراضي التي وُزّعت عليهم والهجرة إلى أوروبا طمحاً في فرص حياةٍ أفضل، ليعودوا بما جنوه من مالٍ ويوسّعوا رقعة البناء بالأرضي الزراعيّة، ما غيّر بالهيكل الاقتصادي والاجتماعي للقرى. وبعد عقود من تلك التجربة، تغيب التنمية عن الريف المصريّ، كما تحافظ الأُميّة على نسبةٍ مرتفعةٍ، ما دفع الفلّاحين بالهجرة إلى مدنَ صناعيّةٍ كبرى، ولاحقاً إلى العراق وليبيا والخليج وأوروبا.

ومع حلول عام 1980، كان ثمّة أكثر من مليون مصريٍّ يعمل خارج البلاد، وعادلت تحويلاتهم الماليّة إلى أُسَرِهم الإيرادات من صادرات القطن والرسوم عبور قناة السويس والسيّاح.  إلّا أنّه ومع نشوب الحرب العراقيّة – الإيرانيّة، خسر الكثير من المصريّين وظائفهم. وفي أوائل التسعينيّات، توجّهت اليدّ المصريّة العاملة لصالح الهجرة غير النظاميّة إلى أوروبا، لا سيّما لمن لم تتوفّر له فرصة التعليم، بسبب مخلّفات الحرب وانهيار الاقتصاد العراقيّ من جهةٍ، وتراجع فُرص العمل في الخليج من جهةٍ أخرى، والتي تمّ استبدالها بالأيدي العاملة الرخيصة القادمة من شرق وجنوب آسيا.

وفي أعقاب توقيع اتفاقية كامب ديفيد، واعتماد خصخصة القطاع العام و”سياسة الانفتاح”، ارتفعت تكلفة المعيشة في القرى المصريّة، وتطوّرت أساليبها بعيداً عن قدرة الفلّاح المصريِّ، الذي لم يؤهّله تعليمه للعمل في الخليج، ولم يكفه مُرتّب المصنع لإشباع حاجات أسرته، ما دفع بالكثير من الفقراء للرحلات غير النظامية إلى أوروبا، والتي اعتمدت سياساتٍ متشدّدةً في الهجرة في التسعينيّات لمجابهة انتشار شبكات الهجرة غير القانونيّة.

يستعرض الكاتب عدّة نماذجَ لفلّاحين، منهم من هاجر وعاد، ومنهم من يتمنّى العودة، ومن لم يغادر، وكيف تأثّرت قُراهم اقتصاديّاً وثقافياً وقِيَميَّاً بسبب الهجرة غير النظامية. إذ بدأت ملامح القرية الاجتماعية والأخلاقية بالتغيّر، حيث لم يعُد للشهادات الجامعية قيمةً، ما انعكس في تفضيل المُهاجِر على الموظف الحكوميِّ أو الفلّاح.

وكان لثورة يناير، وما جرى بعدها من أحداثٍ، حصةٌ أيضاً؛ حيث ازدهرت الهجرة غير النظامية، لا سيّما بين عامي 2013 و2015 في أوساط الفلّاحين، ما شجّع أُسر وأصدقاء المُهاجرين على اللحاق بهم. وبرغم مزاعم الدولة المصريّة بالقضاء على الهجرة غير النظاميّة بشكلٍ نهائيّ، إلّا أنّها، ووفقاً للكاتب، لا تزال قائمةً بلّ ومتعاظمةً، حيث تستدعي مجابهة هذه الظاهرة توفير ضمانٍ اجتماعيٍّ ومعاشاتٍ وتأمينٍ صحيٍّ لمواكبة غلاء المعيشة، بينما يسبّب الحلّ الأمنيّ في حلّ مشكلة الهجرة غير النظاميّة غلياناً اجتماعيّاً، سيزيد من صعوبة السيطرة عليها، ويُفاقمها.

للقراءة، من هنا