يقدّم لكم فريق “باب الواد”، في هذه المقالة، مختارات قراءاته لشهر أيّار، نستهلّها بدراسةٍ أعادت التفكير في الانتفاضة الأولى كنقطةٍ تحوّلٍ مركزيّةٍ للجسد الفلسطيني هدفًا وأداةً، على صعيد المقاومة والاستهداف. ثمّ نمرّ بمقالةٍ تحكي سيرةً شخصيّةً سياسيّةً لشاعرٍ أردنيٍّ، فأخرى تضيء على أوّل مدرسةٍ فلاحيّةٍ أسّسها الاستعمار الفرنسي في تونس ومنعَ السكان الأصليين من ارتيادها، وانتهاءً بمقالةٍ تفكّك أسطورة الجاسوس الصهيوني إيلي كوهين.

إمّا مقاوماً أو مقتولاً: الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى كنقطة تحوّلٍ في إعادة صياغة وكالة جسد وروح الفلسطيني

في ورقةٍ نُشرت مؤخّرًا في مجلة “إضافات”، تقتفي سهاد ظاهر – ناشف أبرز التحوّلات التي مرّت على الجسد الفلسطيني وتشكيله وتفاعلاته، كموقعٍ لصياغة علاقات القوى بين المستعمِر والمستعمَر، وبوصفه أداةً جمعيّةً أساسيّةً في النضال للانسلاخ عن الاستعمار من جهةٍ، وأداةً أساسيّةً بيد القوى الاستعماريّة لفرض سيادتها من جهةٍ أخرى، وبخاصةٍ خلال الانتفاضة الأولى، والتي تعتبرها الكاتبة نقطة تحوّلٍ وتكثيفٍ لدور الجسد الفلسطيني.

تنطلق هذه الورقة من مركزيّة جسد الفلسطيني، وكيفية تجاوزه ثنائيات الحياة-الموت؛ السيادة-العبودية؛ الذات-الشيء؛ الحيز- الزمن، وغيرها من الثنائيات التي تطرحها المعرفة الغربيّة، متناولةً الجسد كأداةٍ للسيطرة الاجتماعيّة السياسيّة، وأيضاً كأداةٍ للمراقبة وإعادة إنتاج الجسدين الفردي والجمعيّ بهدف السيطرة عليهما.

شكّلت الانتفاضة الأولى، بحسب الكاتبة، أوج تحويل الجسد الفردي إلى جماعيٍّ، فكانت بمثابة “طقس عبورٍ” للذات الجمعيّة الفلسطينيّة، من خلال موت وفداء الذات الفرديّة، وتكثيف تشكيل الجسد كهدفٍ ووسيلةٍ، مما جعل منه موقعاً أساسيّاً لإعادة صياغة علاقات القوى (السيادة مقابل العبوديّة)، لتصبح علاقات (السيادة مقابل المقاومة).

ولا تقصد الباحثة بهذا نفي المقاومة الفلسطينيّة المستمرّة منذ اللحظة التي خُطّ فيها وعد بلفور، بل اعتبرت الانتفاضة الأولى نقطةً مكثّفةً لأنماط مقاومةٍ سابقةٍ وللهوية الفلسطينيّة الجمعيّة، تمكّن الفلسطيني خلالها من انتزاع وكالته على جسده ومحيطه وإفقاد السلطة الاستعماريّة تحكّمها أُحادي الجانب -كمستعمِرٍ- بجسده، من خلال مواجهة الاحتلال ككيانٍ شموليٍّ “وجهاً لوجهٍ وجسداً لجسد”.

وبحسب الورقة، أدّت محاولات محو الفلسطيني المستمرّة منذ الاستعمار الإنجليزي، والتي تكثّفت في النكبة، إلى تراكماتٍ مهّدت لحضور جسد الفلسطيني بهذه القوّة في الانتفاضة الأولى. إذ ساهمت هذه التحوّلات والتغيّرات السياسيّة والاجتماعيّة في بناء الوعي لضرورة العمل من الداخل على الانسلاخ عن السلطة الاستعماريّة، مما انعكس على الجسد الفلسطيني، والذي استحال آليّة مقاومةٍ ومواجهةٍ أفشلت إمكانات التحكّم بالجسد الجمعي الفلسطيني.

وبالتوازي مع مسار المقاومة لدى الجسد الفلسطيني، أصبح الأخير حلبةً لصياغة علاقات السيطرة والوكالة على الحياة والموت، عبر ممارسة الإعدام والأسر والمحو واحتجاز الجثامين، وغيرها. كما تحوّل الجسد الفلسطيني إلى موقعٍ للتنازع والتفاوض وحتّى الانعتاق. فبينما أسر السجّان الصهيوني الجسد الفلسطيني، لمحو جمعيّته وذاتيّته، قوبلت محاولاته بالمقاومة، من تهريب الإنتاج المعرفي والتنظيم السياسي، إلى تهريب النطف وبناء حياةٍ وعائلةٍ خارج الأسر، ومعارك الأمعاء الخاوية، ليصبح الصراع داخل الجسد كحيّزٍ – زمنٍ يشارك بفاعليّة في تشكيل محيطه ومجتمعه.

اقرأ/ي أيضا: حول التمثيل بجثامين الشهداء باحتجازها

كما تنظر الورقة إلى المقاومة المسلّحة بكونها جزءاً من كينونة الجسد الفلسطيني، الذي أصبح بذاته سلاحاً بهدف استعادة الأرض. وعلى الرغم من استمرار الممارسات الاستعماريّة في السيطرة على الجسد الفلسطيني، إلّا أنّ مقاومته المستمرّة، والتي تكثّفت في الانتفاضة الأولى كما تحاجج الكاتبة، قد حوّلت الفلسطينيَّ إلى ندٍّ ومقاومٍ في ميدان الأجساد. وأخيراً، تدّعي الورقة إمكانيّة قراءة التاريخ الفلسطيني عبر قراءة سيرورة تطوّر الجسد ووسمه وتشكيله، كأحد أهم السبل التي يلجأ إليها الفلسطيني في صراعه للتحرّر من الاستعمار.

للقراءة، من هنا

عرار: سيرة الفتى بين زجاجتين

في ساحة مدرسة عنبر، صرخ مصطفى التل: “هذا دجّال كذَّاب”، مشيراً إلى مفتّش عام الولاية الشيخ عبد الجليل الدرة، بعد أن أنهى الأخير خطبته بالطلبة الرافضين لسياسات السلطات التركيّة في المنطقة. كان عُمْر مصطفى حينها (13 عاماً) حينما أعلن عن أوّل تمرّدٍ في حياته، فيما بدأ أساتذته الأتراك بنعته بـ”فأر الحقل”، جاهلين أنّ طالبهم العنيد سيقود تظاهراتٍ غاضبةً بعد سنواتٍ، وسيصبح فيما بعد أحدَ أشهر شعراء الأردن على الإطلاق، مُناهضًا الظلم ومُقارعًا الاستعمار.

تحت عنوان “عرار: سيرة الفتى بين زجاجتين”، يستعرض الكاتب عامر أحمد الشقيري في موقع “حبر” سيرة الشاعر مصطفى عرار، منذ نشأته كطالبٍ متمرّدٍ وعنيدٍ في مدرسة عنبر، إلى أن بدأت نشاطاته السياسية بالتبلور في الأردن وفلسطين، وتشكّلت شخصيته المشتبكة مع الواقع، والرافضة له، ليكون اعتقاله الأول عام 1919 على خلفية نكتةٍ نشرها وصديقه جبران مسموح في مجلّة “الإخاء” الدمشقيّة، حول الحاكم العسكري في دمشق.

وفي العام التالي، أبعدت السلطات عرار من دمشق إلى حلب، بعد أن كان أحد قادة التظاهرات الصاخبة والإضراب العام؛ حيث انطلقت التظاهرات للمطالبة بتطبيق نظام الفتوّة، والسماح للطلبة بالتدريب العسكري داخل أسوار المدارس.

وما إنْ عاد عرار إلى الأردن، واستقرّ في الكرك حيث كان معلّماً للأدب العربي، حتى بدأ نشاطه السياسي، بدايةً مع نجيب نصار صاحب صحيفة الكرمل الحيفاويّة، بنشره مقالاتٍ في السياسية والأدب. ولاحقاً في عام 1922، بدأ مهمة التبشير للقوميّة العربيّة بعد زيارة الناصرة، ثم رافقَ نصار في زيارةٍ للكرك عام 1925، والتي تخلّلتها دعواتٌ للوحدة العربيّة.

خلال تلك الفترة، وتحديداً عام 1923، عُيِّن عرار حاكماً إداريّاً لوادي السير، إلا أنّه لم يبقَ في المنصب إلّا لأشهرٍ قليلةٍ. إذ اعتقلته السلطات وآخرين، مُتّهمةٍ إيّاهم بالتخطيط للانقلاب على نظام الحكم وتأسيس حكومةٍ أردنيّةٍ من أهل البلاد الأصليين. بعد تسعة أشهرٍ من الاعتقال، نُفيَ عرار إلى معان ثم جدة. وفي عام 1925، عُيّن حاكماً إداريّاً للشوبك، إلا أنه سيُعزل مجدّداً بعد أقلّ من عامٍ، إبان الإضرابات في وادي موسى. سيتقلّد عرار حتى عام 1942 مناصبَ عدّةً، لكن سيتكرر عزله واعتقاله على خلفية نشاطاته السياسية، وستنفيه السلطات إلى معان مرّةً أخرى.

عام 1949، ودّعت البلاد عرار دون أن يُصدر ديواناً واحداً، ودون أن يحقّق ما كان يرنو إليه، من تجميع أعماله الأدبيّة في ديوان “عشيات وادي اليابس” أو “أيامٌ وليالٍ في مضارب النور”، الذي بدأ بالعمل عليه عام 1933. إذ خطفه الموت وهو لا يزال يتطلّع لأنْ يحكي ما بقلبه، كما كان يردّد بلهجته الإربديّة،  فيما سيُولد ديوانه بعد أربع سنواتٍ من وفاته.

للقراءة، من هنا

عن أوّل مدرسةٍ فلاحيّةٍ تأسّست فـي تونس ومنعت فرنسا أبـناء التونسيّين من التعليم فيها

في كنف الاستعمار وتحت سيطرته، تأسّست دار العلوم والمعارف في تونس عام 1883، حارمةً أبناء البلاد من تلقّي العلوم في مدارسها، حيث اقتصر التدريس فيها على أبناء المستعمِرين. إلا أن الدعوات لصهر أبناء البلاد في مدارس الاستعمار بقيت تتجدّد بين الحين والآخر بهدف توحيد فكر وثقافة المستعمِر؛ كان أهمّها في مؤتمر المحفل الماسوني في شمال أفريقيا عام 1901.

ويبيّّن الكاتب بلقاسم بن عمّار الشّابّي، في مقالٍ نُشر في موقع “أنتلجنسيا للثقافة والفكر الحر”، أنّه رغم ادّعاء المستعِمر المساواةَ في التعليم والمدارس، إلّا أنّه مارس إجراءات الإقصاء والظلم على الطلبة من أبناء البلاد الأصليين. كما طالب، في محافل عدّةٍ، فصل الطلبة الأوروبيين عن أبناء البلاد، وتوفير قاعاتٍ دراسيةٍ خاصةٍ بهم، ليبرُز ذلك في تأسيس أوّل مدرسةٍ فلاحيّةٍ مُنع التّعليم فيها عن أبناء التونسيين بموجب قرار المجلس التشريعي الاستعماري عام 1895.

ردّت حركة الشبّان التونسيين على هذا الإجراء الاستعماري بتأسيس مدرسةٍ خاصةٍ لأبناء التونسيين، بتبرّعٍ من جمعية الأوقاف، برئاسة محمد البشير صفر حينها. وقد أُسّست المدرسة بهدف استيعاب مئتي تلميذٍ، يمثّل كلّ عشرين منهم منطقةً من مناطق تونس لمدّة ثلاث سنواتٍ. كما انتدبت إدارة المدرسة، والتي كان مجلسها بيد التونسيين، مهندسين فلاحين إيطاليين وفرنسيين للتدريس.

هدف مؤسّسو المدرسة الفلّاحية التونسيّة إلى تكوين جيلٍ من الإطارات الفلّاحية وتوظيفها لخدمة التونسيين، بما يرفع إنتاجهم وتمسّكهم بأراضيهم، فضلاً عن حثّهم على إعمارها وعدم تركها. ويوضح الشابي كيف بدأت السلطات الاستعماريّة نصب العراقيل أمام المدرسة، ومحاولة اجتثاثها، فور تأكدها من المساعي والأهداف التي تأسّست لتحقيقها.

للقراءة، من هنا

إيلي كوهين وإخفاقات الموساد: جاسوسٌ أقلّ من عادي وأسْطَرَةٌ غير عاديةٍ‎

كثّف الاستعمار الصهيوني منذ حرب حزيران 1967 ممارستَه الحرب النفسيّة على الشعوب العربيّة كإحدى أدوات السيطرة. وكان من وسائل هذه الحرب ضخُّ الكثير من الكتب والإصدارات التي تناولت حلّ العرب، مُحلّلةً هزيمة حزيران، مقابل تمجيدها قوّة الاستعمار؛ إذ صكّت لذلك رواياتٍ تحمل طابع المبالغة، وأشرفت الاستخبارات الصهيونيّة على حياكتها ونسج تفاصيلها. وعلى غرار ذلك، صيغت حكاية الجاسوس الصهيوني إيلي كوهين، حسبما يرى الكاتب صقر أبو فخر في مقالٍ نُشر في موقع “أوان ميديا”، بغية المفاخرة بقدرة مخابرات الاحتلال على اختراق المجتمعات العربيّة، من خلال جواسيس خارقين عمدوا إلى أسطرتهم.

ويبيّن المقال أنّ الجواسيس يُزرعون لفتراتٍ طويلةٍ في المجتمعات، ولا يٌكشف عنهم إلا بعد أن يخدموا سنواتٍ طويلةً جداً في مهامهم السريّة، كحال وحدة “يوليسيس” التي أسّسها الموساد عام 1950، وهدفت لزراعة جواسيس يهودٍ في المجتمعات الفلسطينيّة في لبنان وسورية، متقمّصين الهويّة الفلسطينيّة. تزوّج هؤلاء فلسطينياتٍ وعاشوا سنواتٍ طوالاً، دون أن يعرف أحدٌ تفاصيلهم وخلفياتهم، وهو خلاف ما جرى مع كوهين الذي كُشف بعد عامين ونصفٍ فقط من زراعته في دمشق، بعضها قضاها في تأثيث منزله وشراء المصنوعات.

خلق الاستعمار الصهيوني من كوهين أسطورةً خارقةً، رغم أنّه أقلّ من جاسوسٍ عاديٍّ. كان يتندّر الضبّاط على رسائله المشفّرة التي لم تحمل مضامين مهمةً، إنّما حمل الكثير منها رسائلَ إلى عائلته التي كانت على علمٍ بالمهام التي يؤدّيها في دمشق. فيما اعتمد على مصادر ضعيفةٍ في جمع المعلومات؛ أحدها كان موظفًا مدنيًّا، والآخر ملازمًا أول. وكان كلٌّ منهما يزوّده بملخّصٍ يوميٍّ من الصحف العربيّة، ينتقي منها كوهين ما يناسب أن يرسلها إلى كيان الاحتلال.

وينفي المقال ما نشرته المخابرات الصهيونيّة عن زيارة كوهين الجبهةَ السوريّة المواجهة لكيان الاحتلال والتقاطه صوراً للأسلحة والمواقع العسكرية، إنّما زار منطقة الحمة المطلّة على طبريا كالكثير من السيّاح الذين كانوا يتوافدون إلى المكان بهدف العلاج. كما زار مناطق أخرى في سوريا ولبنان كان الوصول إليها متاحًا للعامة، ولم تحمل الصور التي التقطها هناك أيّ معلوماتٍ أمنيّةٍ أو عسكريّةٍ مهمةٍ.

من خلال أسطرة كوهين، خلق الموساد لنفسه صورةً مقرونةً بالقوة والذكاء والتخطيط والقدرة المستمرة على الاختراق. وقد عزّز هذه الصورة بمجموعة عملياتٍ نفّذها وأشرف عليها في دولٍ عربيّةٍ وغربيّةٍ. تجاهَل الموساد، بذلك، تمكّن الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة من الرّد بعملياتٍ مضادّةٍ استهدفت عدداً من شخصيات الموساد، فيما فشل الموساد بتنفيذ عملياتٍ خطّط لها، كما فشل بإحباط عملياتٍ نفّذها فدائيون فلسطينيون في تلك الفترة. في النهاية، نال كوهين العقاب الذي يستحقه؛ إذ أُعدم في دمشق، ودُفن، في البداية، في كهفٍ على طريق دمشق – الديماس (طريق لبنان)، ثم نُقلت جثته لاحقاً إلى مكانٍ مجهولٍ.

للقراءة، من هنا