تكشف لنا عملية النقب أننا ما زلنا نُعاني من قصور واضح على ما نعتبره خبراً وما لا نعتبره خبراً، وعمّا يرتقي للحديث والنقاش عنه، وعما لا يرتقي كذلك بالضرورة، وعن كيف نشاهد ومَن نشاهد، وعن طبيعة المجتمع المشهدي في السياق الفلسطيني.

في إحدى ليالي الخميس في نهاية شهر نوفمبر من العام الماضي، انطلق الفدائي خالد أبو جودة من بلدة كسيفة في النقب المحتل، إلى مستعمرة عراد المقامة على أراضي قرية تل عراد المهجرة. بعد إتمام العملية والاستيلاء على سلاح الجندي المقتول، بقيت قصة العملية وأحداثها بعيدةً عن التغطية الإعلامية التي عادةً ما تصاحب هكذا نوع من العمليات، بل تم التعاطي معها وكأنها حدث بعيد، لا يتصل مع سياق الهبة الشعبية الفلسطينية الدائرة ولا حيثياتها المتواصلة.

لم ينتج من هذه العملية سيلٌ من الصور والتعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي، بل بقيت العملية في طي النسيان، هامشاً من هوامش الأخبار، لا تدغدغ مُخيلة الفلسطينيين، ولا ترتقي لحالاتٍ مشابهةٍ من عملياتٍ معادلةٍ لها. لم تواجه العملية هذا المصير لوحدها، فعمليات محمد الشنودي ورفاقه الثلاث المتتابعة، وهم من أبناء حي الحليصة في حيفا، تم أيضا تجاهلها ومحاولة طيها في غياهب النسيان. لم تتوقف المسألة عند هذا الحدّ، بل حاول البعض إلصاق بُعد شخصي عليها لتفسير قيام الأسير محمد الشنودي ورفاقه في عمليات متتابعة. وهنا، لا يمكن إغفال أن هذه العمليات أرّّقت البعض، كونها تساهم في  ضعضعة التناغم اليومي المُعاش في مدينة حيفا ما بين المستعمِر والمستعمَر. 

تتعدد أسباب التعاطي المستفز مع العملية ونتائجها، من قصور حقيقي تُعاني منه المُخيلة بما يتعلق  بالأراضي المحتلة عام 1948 وأهلها، وصولاً لروتين صحافي فلسطيني يتماهى مع فعل الترجمة من الصحف الصهيونية، بحيث أصبحت مهنة التحليل السياسية والعسكرية ليست أكثر من ترجمة فورية لمقولات محمولة على أبعاد أيديولوجية صهيونية؛ لا يعي ناقلها أنه يساهم بذلك في حرب نفسية موجهة، وذات آثار وخيمة على المجتمع الفلسطيني، وأحياناً في فرز إشاعات داخل المجتمع الفلسطيني تساهم في تحجيم العمل المقاوم وترسيخ مقولات صهيونية متكررة ومُعادة.

تتعمّد الماكينة الإعلامية الصهيونية التقليل من أهمية العمليات التي تكون مصدرها الأراضي المحتلة عام 1948، لما تتضمنها من إشكاليات تتعلق أساساً بنزع واقتلاع النموذج المقاتل من البنيان الاجتماعي الفلسطيني وتصغير دوره في السياق، مُحاوِلةً أجهزة الأمن الصهيونية إيجاد معادلة اجتماعية تُوائم ما بين الهدوء النسبي الذي يعتري القرى والبلدات الفلسطينية في أراضي 48، وما بين اجتثاث أي من التيارات والبنى الاجتماعية التي يمكن لها أن تشكل خطراً على أمن الدولة الاستعمارية.   

وتتلاقى هنا مصالح العديدين من أحزاب وقيادات سياسية تنحصر صراعاتها على المقعد الرابع في إطار ما يُسمى بـ”القائمة المشتركة”، والتي تقبع تحت مظلة الكنيست الصهيوني، مع مصلحة المنظومة الأمنية من الإبقاء على نماذج المقاومة في سياق أراضي 48 منحصرة ومحاصرة. ماذا نتوقع من مؤسسات حزبية تُعزّي في جنود صهاينة قُتلوا على أبواب الأقصى، ولا تنفكّ عن شجب أيٍّ من أفعال المقاومة، خاصةً حين يأتي هذا الفعل من أبناء أراضي 48؟

يمكننا القول أيضاً أنّه في سياق التعاطي مع هكذا نوع من العمليات، يكون الرد التلقائي للبني الاجتماعية المغرقة في عجزها أمام البنية الاستعمارية- أحزاب سياسية، بلديات، نخب ثقافية… الخ- مُحاولةَ تجاهل ذلك المشهد، والذي يُخالف ويُزعزع من الوضع القائم وتجلياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إذ تعطي دولة الاحتلال هامشاً من العمل السياسي والثقافي لبعض التيارات السياسية (الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الجبهة، الحركة الإسلامية الجنوبية،الخ)، مقابل عدم الخروج عن قواعد معينة في صياغة الأخيرة للهوية الفلسطينية؛ أي أنها تعمل على إنتاج هوية فلسطينية مضطربة ومتضاربة تريد الانصهار مع المجتمع الصهيوني.

تنتزع هذه الأحزاب الاعتراف من المستعمِر بقبوعها تحت سقف نظامه في نهاية المطاف، ليكون الضحية الأولى لتلك المعادلة: الحدث المقاوم وملحقات هذا الحدث من شهادة واعتقال، وليكون الرد الأول تجاهلاً. وإن لم يفلح التجاهل، فيكون النبذ والشجب، أو محاولة قتل النموذج من خلال بناء روايات تحاول أن تفكك وتضعضع من الصحة النفسية للنماذج المقاومة. وبالرغم من ضيق المساحة السياسية التي تتعاطى من خلالها الأحزاب السياسية الفلسطينية في الأراضي المحتلة 48، إلا أن تجاهل الحدث لم ينحصر هناك، بل امتد إلى الفلسطينيين في الضفة وغزة والقدس والشتات، ما يضعنا أمام محك الإجابة، فلماذا تقف المخيلة عند حدود الخط الأخضر؟ وهل القرار في تصدير المشهد المقاوم عرضة أيضاً لآليات التحكم الاستعمارية؟   

الحرب على المجتمع المشهدي الفلسطيني

استخدم غاي ديبورد (Guy Debord) مصطلح “المجتمع المشهدي” لوصف العملية التي من خلالها يتم استبدال واقعية الحياة بكثافة التمثيل؛ بمعنى أنّ الفرد أصبح يعي وجوده ومعنى ذلك الوجود بالعلاقة مع الصورة، والتي عادةً ما تنتجها منظومة معقدة من الصناعات الثقافية تهدف إلى اغراق البيئة العقلية والروحانية والاجتماعية للمجتمعات ليضحي سيل الصور اللامتناهي هو الوسيط العملي لفهم الواقع.

وإن أسقطنا مفهوم ديبورد على وسائل التواصل الاجتماعي، يمكننا حينها القول بأن وسائل التواصل تساهم في خلق سيل من الصور، والتي تُشكل شذراتٍ متقطعةً وخادعةً ليضحي سيل الصور وما يجسده من بُنية هو المرآة التي من خلالها نرى الواقع، وإن كانت مرآةً لا تعكس بالضرورة تعقيدات الواقع وسماته. بتعابير أخرى، تؤدّي الصورة دور الوساطة ما بين الواقع وانعكاسه، ليتمثّل الواقع في الصورة.

في الحقيقة، تكمن أهمية الصورة في كونها حالةً مكثفةً تختزل الواقع وتمدّ البنى الاجتماعية بمعانيها ورموزها ومشاهدها. ما يلمح له ديبورد، وما نصبو إليه هنا، هو فهم لماذا تتحول عملية ما إلى خبر رئيسي، يتفاعل جموع المشاهدين معها، بينما يتم احتواء خلق المشهد والمشاهدين في سياق عمليات أخرى؟ ما هي طبيعة المرآة التي ننظر من خلالها إلى واقعنا، وكيف لها أن تتجاهل سيلاً من العمليات المتتابعة التي أصبحت أكثر من مجرد حالات منعزلة؟

وبالرغم من حديث الصهاينة عن دور “التحريض” الذي ينسحب أيضاً على وسائل التواصل الاجتماعي في خلق استمرارية للهبة الحالية، إلا أن ما تكشفه عمليات النقب وحيفا  يدل على أن المجتمع الفلسطيني أيضاً لا يتعاطى مع الحدث، إلا إذا تعاطى الصهيوني إعلامياً معه؛ فلا يسمع عن الحدث أو يراه إلا عندما يراه الطرف الآخر. بمعنى آخر، نحن مشاهدون حين يكون الصهيوني مشاهداً، خصوصا فيما يتعلق بعمليات المقاومة وآثارها.

يمكننا القول أن جزءاً كبيراً من المنظومة الثقافية والإعلامية أو الصناعة الثقافية التي يُنتجها الفلسطيني إما مخترقة بشكل مباشر، أو تتماهى مع المستعمِر، فيما في حالات قليلة تنتج ثقافة مضادة وبديلة؛ ما يعني أن المرآة التي تتوسط بيننا وبين الواقع هي مرآة تعاني من اختراق، ومن حرب على سماتها، وطبيعة نقلها للصورة، والمَشاهد التي نراها ولا نراها.

في الحقيقة، القضية أعقد مما ورد، إذ يمكننا- مثلاً- تأطير معظم الاعتقالات لشبان على خلفية التحريض، ومحاولة السلطة حظر بعض المواقع من خلال قانون العقوبات الإلكترونية، وتواصل الصهاينة مع الشركات العالمية الكبرى للحد من المحتوى الفلسطيني المقاوم على شبكات التواصل، أو قيام الصهاينة بالاستثمار بشكل أوضح بمواقع إخبارية عربية أو صفحات فايسبوكية، في سياق محاولة إعادة صياغة طبيعة المجتمع المشهدي، والتي تهدف إلى إخضاع هذا المجتمع لمرآة أكثر التصاقاً مع التصورات الصهيونية حول ما على الفلسطيني سماعه وقراءته ورؤيته، وعلى الرموز التي عليه الاحتفاء بها، دون أن يعني ذلك انعدام مساحات لا تزال وفية لمضامين الهوية الفلسطينية المقاومة.

تخبط الصورة

استحالت عملية الإشباع من خلال خلق المشهد، اليوم، جزءاً لا يتجزأ من مكونات الهبة الفلسطينية، بل الحروب بشكلها العام. إن ديكتاتورية الصورة تحكم ومن يعي أهمية الصورة يعي جانباً كبيراً من طبائع الحرب ومساراتها، خصوصاً عندما تكون الصورة محمولةً على سردية استراتيجية محددة المعالم، تتضمن قاعدة أيديولوجية رصينة.

وهنا من الضروري الحذر من مصدر الصورة، وطبيعة المشهد، وكيفية تناوله وتناقله، فما يبعث على القلق هو أن العدو يعي جيداً دور الصورة، وقدرتها على تعزيز بصمات نفسية جماعية مثل الردع، وزعزعة الثقة الاجتماعية، وضرب الثقة بالأحزاب والتنظيمات، وخلق شرخ بين القيادات والكوادر. بالمقابل، لا يعني ذلك أن الصورة والمشهد والأيقونة لا  تلعب، مجتمعةً، دوراً مفصلياً على صعيد المقاومة وأهدافها، بل تخدم الصورة والأيقونة نفس الأهداف، وترفد المقاومة بقدرات مضاعفة، خصوصاً عندما تنتظم المقاومة داخل بنية تنظيمية تستطيع إدارة المعركة النفسية.

يمكننا الاستدلال على ما ذكرناه آنفًا  بالاضطراب والارتباك اللذين أحدثهما تتابع الأحداث في  جنين  وفرض الصهيوني سلطته على المعلومة والصورة. في هذه العملية، تفاجأت الوحدات الصهيونية الخاصة (اليمام) بانقضاض الشهيد أحمد إسماعيل جرار عليها، ما أدى إلى جرح اثنين من الوحدة، ومتيحاً الفرصة كذلك لهروب أو تخفي عناصر من المجموعة التي تزعم الأجهزة الأمنية الصهيونية تنفيذها عملية نابلس.

وزاد من التخبط حين لم ينتج عن هدم منازل آل جرار انتشالٌ لشهداء جدد، فتحولت عملية السيطرة التي تواظب عليها أجهزة الأمن من محاولة تصدير عملية نظيفة إلى خلل وتخبط أدى إلى تخبط عند الفلسطيني أيضاً.

وحينما يتخبط الإخراج الصهيوني للمشهد في جنين، فذلك دلالة على أن التخبط مصدره فشل أهداف المهمة، أو ترنح المهمة ما بين فشل نسبي ونجاح محدود. ويمكننا القول أن الاضطراب عند الصهاينة أدى لاضطراب المشاهد الفلسطيني، وهو يقبع خلف الشاشة، محاولاً متابعة حيثيات الحدث من بعيد، ومعولاً على مصادر صهيونية لبثّ أخبار مواكبة العملية، فتارةً شهيدٌ نخطأ بتشخيصه، وطوراً نتناقل أخباراً عن قتلى صهاينة لم يُقتلوا؛ فكيف لنا أن نقرأ الحدث، والغالبية الساحقة للأخبار بدأت بجملة “أفادت مصادر من الإعلام الصهيوني”؟   

كيف لنا، كذلك، أن نفسر إغراق وحدات المستعربين بأعمال أشبه بالمسرحية لاعتقال أطفال من وسط مظاهرات تنطلق باتجاه نقاط معدة مسبقة للمواجهات، إن لم نعِ أن قيام هذه الوحدات بهذا النوع من العمليات يهدف بالأساس لخلق المشهد الرادع؛ مشهد البطولة الصهيونية وهي تعتقل وتقتل؟ وبذلك، تلعب تلك الوحدات دورين: إحياء بطولة مفقودة يحاول الصهيوني انتزاعها من خلال عمليات الوحدات الخاصة، وردع المظاهرات وحصر اتساعها وتوزعها الجُغرافي. وبالتالي، كيف لنا أن نعي واقع ومسار الحرب الدائرة اليوم، إن لم نعِ أن غالبها هي معركة المشهد؟

المشهد في مستعمرة عراد

في الثلاثين من تشرين الثاني من العام 2017 وفي ليلة من ليالي الخميس، قرر خالد أبو جودة قطع رتابة الحياة وروتينها، بل بتجذير ذلك بالانتماء إلى ما هو غير مرهون بالمرئيات، لجماعة وطنية ودينية؛ إلى فلسطين وأهلها. أراد خالد، كما غيره، أن يحيا في قلب ذلك الانتماء وأن يرحل إليه، ليجسد معنىً آخرَ، ولربما معنى أهم لما يعينه أن تكون من أبناء أراضي الـ 48: من داخل فلسطين وإليها. 

صعد الشاب خالد أبو جودة إلى مركبة كان قد اقتناها لأجل تنفيذ العملية، وثابر في مسح منطقة مستعمرة عراد لما تتضمنه من مساكن للعاملين في الجيش، ولقربها المباشر لبلدته كسيفة المحاذية لمستعمرة عراد. رأى الجندي من وحدة غفعاتي وحيداً بالقرب من محطة باصات منزوية على أطراف المستعمرة. وبعد أن تهيأ نفسياً وقرأ بضع آيات قرآنية، توجّه لتنفيذ عملية طعن مُحكمة أردت الجندي قتيلاً، وهرب بانفعال- لربما ساهم في تحديد هويته- من مكان الحدث، بعد أن استطاع الاستيلاء على السلاح الخاص بالجندي.

اتصل خالد بأخيه، والذي يعمل في أحد المستشفيات القريبة لإبلاغه باقتنائه السلاح، وأن العملية تمت بنجاح. نجح الاثنان في إخباء السلاح، وتمكّنا من تجديد صورة تبدو اليوم أكثر من مجرد حالات منعزلة لعملياتٍ فدائيةٍ أصبح الأراضي المحتلة عام 1948 إحدى المكونات الأساسية لها، من مهند العقبي، ونشأت ملحم، مروراً بأبناء الجبارين الثلاثة، ومحمد الشنودي ورفاقه، وصولاً لخالد أبو جودة وأخيه وغيرهم الكثيرين. غير أن الحدث الذي صنعه خالد وأخوه لم يرتقِ لدى البعض بأن يصبح هو الحدث الفعلي؛ منبعاً للتحليل، ومنبعاً لبناء رواية متماسكة حوله. خانت الصورة خالد وأخاه، وخانتهم مُخيلة المشاهد الفلسطيني، بل خانتهم أيضاً أحزاب سياسية تنبذ رمزيتهما ونموذجهما. 

خاتمة

عندما خطّ ديبورد نظريته، لم تكن متوفرة بَعد وسائل التواصل الاجتماعي، والتي وعدت مستخدميها بإنهاء احتكار النخب للخطاب السياسي، وصوّرت نفسها بأنها ستكون منصةً للجميع يستطيع من خلالها التحدث بأريحية عمّا يريد، وقتما يريد، وعن الموضوعات التي يريد.

وبالرغم من إشكاليات تلك الوسائل، إلا أنها أتاحت فضاءً فاعلاً ساهم في خلق حيز للنقاش العام وأضحى من العناصر المكونة للفعل السياسي، إلا أن عملية النقب تكشف لنا أننا ما زلنا نُعاني من قصور واضح على ما نعتبره خبراً وما لا نعتبره خبراً، وعمّا يرتقي للحديث والنقاش عنه، وعما لا يرتقي كذلك بالضرورة، وعن كيف نشاهد ومَن نشاهد، وعن طبيعة المجتمع المشهدي في السياق الفلسطيني.

إننا نرى أنفسنا من خلال ما نُقدس ونحتفي به. وحين نتجاهل البطولة الفلسطينية إما لجغرافيتها (النقب وحيفا)، أو لأننا لا نرى إلا ما يراه عدونا أو يرينا إياه، أو لقيامنا بفعل التماهي دون وعي، نصبح حينها أشباه تكويننا، فالواقع يخلق أبطاله ولا نحتاج سيل الصور أو كثافة التمثيل لخلق البطل، فهم يمتدون لما قبل صناعة الصورة، ويستمرون دون أن يهدأ لهم بالٌ إلى يومنا هذا. إنهم يأتون من حيفا والنقب والقدس وغزة والضفة، يتآمر عليهم من يتآمر، ولكنهم دوماً يعودون.