إن المقاومة صيرورة مستمرة، تتخذ شكل انبثاق دائم في سياق استعماري عنيف يحاول التوسّع والتوغّل وإحلال المستوطِن مكان الفلسطيني، انبثاق قادر على دفع عجلة الاستمرارية وتكثيفها وإيصالها إلى حدّ ولادة الجديد، وإعادة رسم الممكن من خلال هبّات ومواجهات عارمة ومتعددة تُبنى على تاريخ متراكم من المواجهة.

عندما وضعت شرطة الاحتلال الصهيوني مجموعة من الحواجز الحديدية في باب العامود -في العَصَب الاجتماعي للقدس- لم تعتقد أنها ستجد نفسها أمام تمرُّد جماهيري عامّ نجح في محاصرتها وتعثّرها. ففي لحظة التمرّد تلك، ارتبكت المنظومة الأمنية وترنّحت بين خيارات صعبة، فمن جهة يشكّل الإبقاء على هذه الحواجز تهديداً للمنظومة الأمنية يؤدّي بدوره إلى توسعة رقعة المواجهة، بل وإمكانية دفع الحالة التظاهرية إلى أقصى حالات التمرُّد. 

ومن جهة أخرى فإنّ إزالة الحواجز الحديدية تعني انتصاراً ملموساً وتراجعاً للمؤسسة الأمنية والسياسية الصهيونية. وهذا تحديداً ما لا تُحبّذه أيّ سلطة، أيْ أن تظهر بمظهر السلطة المجروحة والتي تتراجع عن كلّ قرار تتخذه، وهذا تحديداً ما أنتجته لنا هذه الهبة. 

إنّ ما بدأ بتراجع واحد للمؤسسة الأمنية والسياسية الصهيونية تحوّل إلى سلسلة من التنازلات تضمّنت منع مسيرة الأعلام الاستيطانية من المرور من باب العامود، وتحوّل أيضاً إلى منع دخول المستوطنين إلى المسجد الأقصى بعد سنوات من دخولهم اليومي، كما وتُرجم أيضاً إلى إمكانية حماية حيّ بأكمله من التوسع الاستيطاني في قلب القدس العربية، أيّ حي الشيخ جراح. وكلّ هذا ينعكس على مستوى الإنجازات الملموسة للهبة الشعبية في القدس التي امتدّت إلى غزّة. ولكن ماذا يعني الانتصار؟ وما هي أهم عناصره؟

(1)

إن المقاومة صيرورة مستمرة، تتخذ شكل انبثاق دائم في سياق استعماري عنيف يحاول التوسّع والتوغّل وإحلال المستوطِن مكان الفلسطيني، انبثاق يأخذ شكل التكرار، وقادر على دفع عجلة الاستمرارية وتكثيفها وإيصالها إلى حدّ ولادة الجديد، وإعادة رسم الممكن من خلال هبّات ومواجهات عارمة ومتعددة تُبنى على تاريخ متراكم من المواجهة. فعقب الحرب على غزة عام 2014، صعدت وتكثّفت هبّة العمليات الفردية في الضفة والقدس والداخل التي حولت القدس إلى الموقع الأول لعمليات أتت من كل صوب: الأردن والضفة والداخل المحتل والقدس، بل جعلت من جهاز شرطة الاحتلال في القدس هدفها، وحولت فرق الإعدام إلى أهداف لها، وخلقت عند كلّ شرطي في القدس إحساساً بأنه مُستهدَف.

ومن المهم هنا الإشارة إلى أنّ التوتر المتصاعد في القدس، والإحساس باسترداد الفاعلية ترافق مع هذه العمليات، بل أدّت العديد منها إلى صعود هبّات شعبية كُبرى كما حصل في حال هبة باب حطة وباب الأسباط التي سبقتها عمليات نوعية في تلك المواقع. هذه الديناميكية التاريخية للفعل الفلسطيني في القدس لا يمكن تجاوزها في فهم الأحداث وولادتها في الحاضر. علاوة على ذلك، وفي التوغّل في التاريخ أكثر، فإنّه لا يمكننا إغفال دور الانتفاضات الكبرى، أيْ الانتفاضتين الأولى والثانية، التي لولاهما لم نكن لنشهد ما شهدناه اليوم من تطوّر في المقاومة الفلسطينية التي عقبت انتفاضة الأقصى والتي استطاعت استعادة السيطرة على قطاع غزة وتحويله إلى بؤرة متقدّمة في المواجهة العسكرية والسياسية مع العدو. بؤرة اختبار واختلاق التكتيكات وتطوير البنى العسكرية ورفدها بالمعرفة والقدرات عبر ملايين من الأفعال الصغيرة والتدريبات المكثفة.

(2)

لم يعد عنوان المعارك التي نخوضها كفلسطينيين هو إقامة الدولة، أو اجتراح الحلول الكبرى التي تحاول أن تبني تكتيكات المواجهة على أساس تلك أهداف، من قبيل إنهاء الفصل العنصري (الأبارتيد) التي تُحتّم علينا المطالبة بالمساواة والانهماك في خوض الانتخابات والمشاركة السياسية من داخل المؤسسة الصهيونية وحصر تكتيكات المواجهة بتلك التي تُبنى على ما يسمى اللاعنف… ومن قبيل حل الدولتين كذلك الأمر، مما سيجبرنا على السكون، وتسويغ التعاون مع المستعِمر على أمل أن يأتي أحدهم ويهبنا دولة مشوّهة مبنية على التنازلات الرخيصة..بلا أيّ ثمنٍ. ما نخوضه اليوم هو ممارسة في الصمود المقاوم الفاعل، والقادر على ردع التوسّع الاستيطاني، بل وعلى كيّ وعي العدو، وإعادة تذكيره باستمرارٍ أنّ كل فعل توسُّعي يملك في طياته ثمناً ملموساً يدفعه غالياً، وبالتالي، فهو فعل قادر على تأجيج تناقضاته الداخلية وتعظيم تخبطه على مستوى القرار السياسي والأمني.

(3)

في هذه المواجهة المستجدة يتخذ المسجد الأقصى والقدس عامّة عنواناً أساسياً للمواجهة، بل وموقعاً لاستعادة ذاتنا الموحدة في كافة أماكن تواجد الفلسطيني، مُشعلاً كل الجبهات في آنٍ واحد، وممزّقاً لجغرافيات العزل. يكفي مثلاً، أن إغلاق الضفة على القدس عقب الانتفاضة الثانية ساهم في استعادة الدور النضالي لأهلنا في الداخل، وإقحام المجتمع الفلسطيني في الداخل كسندٍ للمجتمع المقدسي، مؤسّساً ضمن مجموعة من العوامل الأخرى لانتفاض عام عمَّ الجليل والمثلث والنقب واللد ويافا والرملة وأسقط مقولةَ الخصوصية التي احتمت وراءها النخب السياسية في الداخل على مدى أكثر من 70 عاماً. وإن كانت هناك خصوصيةٌ، فهي في تكتيكات المواجهة، وليست خصوصية أو ضرورة التعاون مع المستعمِر.

(4)

المعركة في غزة أظهرت أمرين، أولهما أنّ استراتيجية “الجيش القاتل” التي أعلن عنها رئيس هيئة الأركان “أفيف كوخافي” لا تتعدى إيصال بنية الجيش إلى حالة متقدمة من الاعتمادية على القدرة النيرانية دون التوغّل العسكري البري ومخاطره المتعددة من أثمان غير مقبولة على مستوى المجتمع الصهيوني. نحن أمام جيش مستعمِر يختبئ وراء الجدران، بل في مفارقة تحوّل خلالها عرّاب دخول الجيش من الهجوم من خلال الجدران في معارك نابلس عام 2002 إلى عرّاب الإبقاء على مسافات آمنة لجيشه، وعدم اقترابه إلى مواقع يسهل استهدافها. وقد نكون هنا أمام التحدي الأهم لقوى المقاومة، وهي التفكير بآليات وطرق لجرّ الاحتلال نحو الاحتكاك المباشر وإعادة ضبط مسافة الصفر وإدخالها إلى المعركة مُجدّداً.

وهنا، من المهم التركيز على العنصر الدفاعي الأساسي للقوة البرّية؛ ففي تجنّب المعارك خارج ساحاتها الجغرافية المباشرة ما يضعف قدرتها الدفاعية في جغرافيتها أيضاً، خاصّةً إذا ما واجهت اجتياحاً أو دخولاً برياً من الشمال أو الجنوب. وبهذه الحالة أيضاً يصعب توظيف القوة الجوية دفاعياً كما يتمّ توظيفها هجومياً؛ فقصف أرض الخصم ليس كقصف “أرضك”، خاصّة عندما يكون هناك التحام برّي يصعب فيه تحديد الأهداف بدقة وتدخل فيه حسابات الاستهداف الخاطئ. هذا تحوّل مهم، تحوّلٌ في تعريف أرض المعركة، من معارك خاضتها هذه الجيوش البرية في السويس والجولان ولبنان والأردن، وتحوله بشكل متدرّج إلى “أرض” العدو.

باختصار، رسّخت المقاومة عدّة معادلات، أهمّها تبادلية القصف بحسب كثافته وشكل موقع وحجم الاستهداف. مثلاً، تل أبيب بمقابل الأبراج السكنية. كما عزّز الاستهداف من شعور مستوطِني غلاف غزة أنّ هذه البقعة الجغرافية لا تشكّل عنصراً مركزياً في قرارات الحرب والسلم لدى الطبقة السياسية والعسكرية الصهيونية؛ بما يعنيه ذلك من تآكل عجلة الاستيطان في الجنوب الفلسطيني وإعادة تحويره نحو المركز في “غوش دان”. كما استطاعت المقاومة إظهار تنوُّع هائل في الاستخدام التكتيكي الهجومي من صواريخ ومضادات للدروع وصولاً إلى آليات موجّهة عن بعد كالغواصات والطائرات. وفي هذا السياق، فإنّ القدرات البحرية وحدها كفيلة بحماية المقدرات الطبيعية للثروة الغازية في شرق المتوسط ورفد الفلسطيني بقدرة عسكرية تساهم في ردع أيّ تعدٍّ على الحقوق البحرية وما تكتنزه من ثروات طبيعية. هذه ليست فقط رسالةٌ إلى العدو، ولكنها رسالة لكل مشاريع استخراج الغاز في شرق المتوسط التي تحاول تخطّي الحقوق الفلسطينية فيه، وتتعامل معها دون اكتراث حقيقي.

(5)

النصر لا يكتمل إلا بإسقاط مشروع التعاون مع الاستعمار الذي لم يعد يملك الكثير من الطاقة للمواجهة مع المجتمع ولم يعد يملك قدرة على الإقناع حتى أمام قاعدته الاجتماعية المباشرة. هذا مشروع نُخبَوي انقضّت عليه فئة ضيقة بعد الانتفاضة الثانية وبعد نجاح العدو في تفكيك بنى المقاومة في الضفة الغربية، أي أنه أتى محمولاً منذ البداية على ظهر الدبابة الاسرائيلية، وشكل استراتيجية لطبقة اجتماعية فقدت إيمانها بالمواجهة أو لم تمتلك مصلحة قد تأتي من أيّ مواجهة أساساً، فرهنت نفسها للتعاون كأساس وعقيدة لبقائها وتعاظم رأسمالها. وبهذا لا يمكننا فهم كل مراوغات النخبة الحاكمة إلّا في سياق محاولة فرض بقائها وإطالة أمد وجودها، وأنّ إسقاطها هو إسقاط واحد من أهم المشاريع الأمنية الصهيونية منذ نشأة الكيان على أرض فلسطين. وفي هذه اللحظة بالذات  أضحى مشروع الحكم الذاتي في الضفة في أضعف حالاته منذ نشأته.

(6)

كشفت الهبّة عن الاختلال في البنية الاجتماعية الصهيونية وعن شرخ متعاظم بين المجتمع والقيادة السياسية، لا أتحدّث هنا عن الاستقطابات السياسية الداخلية وحسب، أو عن إفراغ المؤسسة السياسية وتآكل المؤسسات التي تجلّت بأربع انتخابات متعاقبة وخامسة على الطريق، ولا حتى عن فقدان بعض من آليات المحاسبة والمراجعة على شاكلة لجان التحقيق “كفينوغراد” وغيرها، أي فقدانها القدرة على استيعاب الأخطاء والبناء عليها. ولكن أتحدث ببساطة عن الشرخ بين ما يتوقعه المجتمع الصهيوني من الجيش وبين ما يحرزه على مستوى عسكري تكتيكي واستراتيجي؛ فلم يعد الجيش قادراً على إغناء وتعزيز مخيّلة الصهيوني بالحسم، ولم يستطع حتى منحه صورة واحدة تجسّد هذا الحسم في المعركة الحالية. ما يقوله لنا هذا أننا أمام تحول بالعلاقة بين الجيش الذي يملك دولة متآكلة، والمجتمع الذي يشعر بشكل متصاعد بأن الجيش والدولة عاجزين عن الفعل والمبادرة والحسم وعاجز حتى عن اجتراح صور النصر.

(7)

 في هذه الهبة لم تستعِد فلسطين شعورها بالقوة فقط، ولكنّها أيضاً ساهمت في إظهار مدى سطحية ونخبوية التطبيع القائم بين الدول العربية والعدو. عادت فلسطين إلى الواجهة وأسقطت بذلك كل مشاريع القصف النفسي المُوجّهة نحو تطبيع الخيانة في المجتمعات العربية في الأعوام القليلة الماضية والتي صُرفت عليها الملايين، بل وتساهم اليوم في استنهاض الممكن على مستوى الأمة كلها. 

(8)

عامل آخر أظهرته هذه الهبّة أيضاً؛ وهو صراع السردية على مستوى الرأي العام العالمي؛ فعشرون عاماً من العمل الدؤوب لحراكات عمالية وسياسية ومدنية فلسطينية تؤتي الآن أُكُلها من خلال التفاف غير مسبوق وتوسّع هائل في تقبل الخطاب الفلسطيني في المراكز الاجتماعية والسياسية المختلفة على طول الجنوب والشمال العالمي. لا يمكن لنا اليوم الحديث عن قضايا اجتماعية عمالية، أو تلك التي تواجه العنصرية والفاشية في الجنوب والشمال العالمي دون الحديث عن التحام حراكات داعمة للقضية الفلسطينية فيها، وبالتالي في سهولة استحضار هذا التحالف في لحظات المدّ الثوري في فلسطين.

ما نشهده هو تمايز الخطوط بين أنصار القضية الفلسطينية وبين أنصار الصهاينة، ويساهم اليوم بانحسار ملحوظ في قدرة الصهاينة على خلق حالة تضامن واسعة مع الكيان، كما ويساهم في اتخاذ دعم فلسطين شكلاً شعبياً واضحاً، خاصة لمن هم تحت. وفي اصطفاف رئيس الوزراء الصهيوني “بنيامين نتنياهو” مع الحزب الجمهوري مُمثلاً بـ “دونالد ترامب” في الولايات المتحدة في لحظة الاستقطاب السياسي العظيم داخل امريكا ما شكل حافزاً إضافياَ لاتساع تبنّي السردية الفلسطينية ووصولها إلى حراكات سياسية تقدّمية وحتى ليبرالية في الشمال والجنوب العالمي معاً، وقد شكلت هذه الحالة مساهمة إضافية في زعزعة الغطاء الأخلاقي الذي استند عليه العدو منذ ما يقارب السبعين عاماً.

خاتمة

بعد صلاة الفجر وبعد إعلان وقف إطلاق النار، خرجت أفواج المصلين من المسجد الاقصى تهتف للمقاومة، بينما بقي الجنود على حافة مداخل المسجد الأقصى يستمعون للهتافات والاستفزازات دون قدرة حقيقية على الفعل. جدار من الشرطة المدجّجة بالسلاح لا تملك سوى الصمت المُذلّ، ووجوه شاحبة وخائفة تبوح بحال الطبقة السياسية والأمنية الصهيونية برمّتها، وحائرة ومتخبّطة أمام إرادة القتال والتوق للتحرّر اللتين قامت سواعد المقاومة الشعبية والعسكرية بإظهارها في كافة أماكن تواجد الفلسطيني.
أعادت هذه الهبة تعريف العلاقة بيننا وبين المستعِمر، حيث استعاد فيها الفلسطيني فعاليته أمام الشرطي والجندي المستوطن. باختصار، ما  ينبثق من خلال صمودنا المقاوم والفاعل يعبّد الطريق نحو الحلم الأهم؛ أي نحو فلسطين كلّ فلسطين.