يسائل عياد البطنيجي في هذه المقالة امتداد النظريّات الفلسفيّة إلى ميدان المعركة، ودورها في نحت المحارب كمرجعيّةٍ عليا، واقتحامها نطاقَ “الحروب القانونيّة” للكيان الصهيوني، بغية إعادة تشكيل الميدان الفارغ افتراضيّاً، والإفلات من العقاب (غزّة نموذجاً).

لا نغالي القول إنْ وصفنا الفلسفة الحديثة بأنّها ممارسة الحرب بوسائل أخرى. وعليه، كيف لنا أن نفسّر إمكانية انفتاح الفلسفة الكانطيّة على مفهوم الحرب الحديثة؟ وهو ما يتكشّف لنا في أعمال “كارل كلاوزفيتز”، منظّر الحرب الحديثة وواضع أصولها، الذي انطلق من ملكة الحكم الكانطيّة لتعيين التدمير كموضوعٍ للحرب الحديثة لا تتعيّن إلا به.

وظّف”كلاوزفيتز” الفلسفة الكانطيّة في بلورة نظريةٍ عن المحارب، تفتح لنا سبيلاً إلى التعرف على حدود وإمكانات المفهوم المعاصر لما تُسمّى “الحروب القانونية” التي أصبحت أداةً من أدوات الاستراتيجيّة العسكريّة الصهيونيّة في الحروب على غزة. تمتدّ هذه القراءة لتطال مفهوم القانون الدولي الإنساني؛ فتكشف لنا حدود إيقاع العقاب، ومدى إمكانية منع تكرار السلوك غير المرغوب به، وبالتالي تفسير ضعف الحركة المُعادية للحرب، وافتقارها لموقفٍ يقينيٍّ، فضلاً عن بقائها عاجزةً عن محاكمة مُجرمي الحرب حتى اليوم.

بجانب ما سبق، تزداد أهميّة “كلاوزفيتز” في سياقات حروب المدن مع خصمٍ غير متكافئٍ، والتي باتت تشغل الاستراتيجيّات العسكريّة المعاصرة لجهة توقّع ما ستبدو عليه حروب المستقبل. إذ تُبيّن لنا الممارسة أنّ مواجهة خصمٍ غير متكافئٍ غيرُ مُمكنةٍ إلا بالتدمير الشامل، كما حدث في الموصل وسورية، وفي بعض مناطق حي الشجاعية في غزّة، حيث طُبّق مفهوم الحرب المُطلقة لصاحبها “كلاوزفيتز”. وهذا من شأنه أن يجعل الحروب المستقبليّة مُدمّرةً، كونها تقوم على استراتيجية الإفناء بشكلٍ يصعب تفاديها. بذا، كيف لاستراتيجيّة الإفناء لـ”كلاوزفيتز” أن ترتبط بالتصوّر الفلسفيّ الحديث في تحديد علاقة الذات بالعالم؟

إنّ “كلاوزفيتز” زوّدته دراستُه للفلسفة النقديّة ببعض الأدوات الفكريّة، خاصةً في سياق استعارتِه ما كتَبَه “كانط” عن الظاهرة الجماليّة واستخدامها في استكشاف فنّ العنف في تدمير الأعداء، وكذلك استعارته تصوّرَ “كانط” حول علاقة الوسيلة بالغاية؛ فالدمج بينهما، كما يرى “كلاوزفيتز”، يعني الخلق والإبداع. وهنا، يختصّ الخلق، في نظريّته عن الحرب، في إعادة تشكيل ميدان الاشتباك، بغية إخضاعه وممارسة القوّة المُطلقة، كما سيأتي بيانه.

كما أنّ الحرب، بوصفها مرآة الفلسفة الحديثة، تمنحنا موقعاً ملموساً لفهمٍ أكثر شفافيةً للتجريد الفلسفي المُندفع من الصفحة البيضاء، وهو ما يجعلنا نرى الفلسفة الحديثة موضوعاً للتدمير تشترك فيه مع الحرب. يتكشّف لنا ذلك مع تجديد “كلاوزفيتز” لمفهوم الحرب الحديثة انطلاقاً من الفلسفة النقديّة.

وبالفعل، تُقدّم أعمال الاستراتيجي “كلاوزفيتز” عن الحرب فهماً أكثر عمقاً حول مدى خطورة مفهوم الجمال عند الفيلسوف “إيمانويل كانط”؛ (لماذا تصوّر “كانط” الجمال من دون مفهومٍ؟!). وإنْ شئتَ فقُلْ إنّ ميدان المعركة، كحقلٍ تجريبيٍّ، تنسحبُ عليه مقولاتُ الفلسفة النقديّة، من جهة أن يكون الخطاب عن الحرب خطاباً عمليّاً ممكناً.

يبدو، بذلك، الاستفهام حول علّة اختراع “كانط” الحكمَ الجماليَّ في ضوء منظور “كلاوزفيتز” لنظريّة المحارب، أوضحَ فهماً لأبعادها التجريبيّة، وكتحقّقٍ لمفهوم القبْلي الكانطيّ في ميدانٍ مخصوصٍ، ألا وهو المعركة.

إنّ إمكانيّة أنْ ينفتح مفهوم “كانط” عن الجمال على قواعد القتال، حيث ميدان الاشتباك، يجعل المرء يتفهّم ما قاله الشاعر الألماني “هيني”، واصفاً صاحب الفلسفة النقديّة: “مُنظّرٌ سفّاكٌ لا يقتل إلا الآدميين، لكن طيبة هؤلاء الناس البسطاء قد جعلتهم لا يرون فيه إلا مجرّدَ أستاذٍ للفلسفة (…) إنّه المحطّم الأعظم ورجل الإرهاب الفكري”.

يُذكر أنّ “كانط” يُعتبر أحد أهمّ الفلاسفة المؤثرّين ليس في الثقافة الأوروبيّة الحديثة فحسب، بل أيضاً على صعيد تشكيل الناس العاديين. كان النقد الكانطيّ بمثابة فاتحةٍ لعهدٍ فلسفيٍّ جديدٍ؛ فرأينا الكثير من الفلاسفة المُحدثين والمعاصرين يقصرون مهمة الفلسفة على عملية “إعادة بناء العقل”، كما فعل “هوسرل” في فلسفته الفنومنولوجيّة التي تعدّ بدورها أحد أهم الروافد الفكريّة للفيلسوف “مارتن هايدغر”.

يعدّ مفهوم “تعليق الحكم” مفهوماً مركزيّاً في فينومينولوجيا “هوسرل” الذي قال عنه “جاك دريدا” ذات مرّةٍ: “يستحضر هوسرل في تعليق الحكم الفرضيّةَ أو التخييلَ الجذريَّ لتدمير العالم”. إنّ الأنا المتعالي لا ينتمي للعالم كما هو، والذي بدوره يمكن أن يتلاشى دون أن ينال ذلك من الأنا الأعلى، حيث يبقى الأخير المحدّدَ الأصليَّ لما يجب أن يكون العالم عليه، الذي يعني في نهاية المطاف أن يتبدّى لنفسه عبر ملكة الذهن.

إنّني أرى أنّ مفهوم “تعليق الحكم” الذي جاءت به فينومنولوجيا “هوسرل” كان بغاية توكيد موقع الأنا إزاء العالم؛ لترسيخ القطْع مع السائد وإيقاف المجرى المتّصل (الاجتماعيّ والطبيعيّ)، الذي تُمتصّ فيه الأنا؛ إذ لا تكون ممكنةً إلا بتدمير الموضوع ( أو المجرى المتّصل)، وفي ما وراء التدمير تظهر حركة إعادة امتلاكٍ.

أمّا “هايدجر”، فيأخذ تعليق الحكم إلى أقصى ممكناته، ليستكمل تدمير ما كان عليه مفهوم الوجود والزمان، ليصير موضوعاً بالنسبة للذات في هذا العالم الذي يترافق معه مفهومٌ معيّنٌ للموت، بوصفه تحقيقَ أقصى الممكن عبر مفهوم التزمين، كعلاقة الأشياء في ظروفٍ محدّدةٍ موجودةٍ هنا، للكشف عن معنىً صافٍ مجرّدٍ من أيّ تعلّقٍ بعللٍ خارجيّةٍ.

وبالرغم من أنّ “كلاوزفيتز” سابقٌ على “هايدجر” بما يزيد عن القرن، إلّا أنّ ثمّة نظاماً معرفيّاً مُشتركاً يجمعهما، يظهر في مفهوم الأخير عن التزمين (الزمن يُعاش هنا)، والذي بدوره يرسم علاقةً مباشرةً بين المحارب وميدان الاشتباك. وهذا بالفعل مقصدُ “كلاوزفيتز” في نظريّته عن المحارب، ليُعاش كضرب حضورٍ ومفكّرٍ فيه (أي الزمن)، انطلاقاً من الشيء (الميدان)، كما سأبيّن بعد قليلٍ.

كيف يجب أن يتصرّف المحارب عندما يفقد القاعدة؟

يقدّم “كلاوزفيتز” دليل عمل المحارب أثناء الاشتباك: كيف يجب على الجندي أن يتصرّف وسط أجواء الشكّ والغموض التي تلازم الحرب؟ ليجيء حلّه انطلاقاً من مفهوم العبقريّة العسكريّة المتأصّل بملكة الحكم الكانطيّة من أجل تحسين قوّة الحكم عند الجندي وتطوير ملكته في التميّز والخلق. بالنسبة لـ”كلاوزفيتز”، تعدّ ملكة الحكم سندَ الجندي في الحكم على العرضيّ؛ إذ يرى أنّ لا جدوى من البديهيّات أو المسلّمات أو اتبّاع القواعد في ميدان المعركة، على اعتبار أنّ الأمر المُطلق ذاتيّ الحكم يكمن في اللذّة فقط، بحيث يكون فيه الجمال، كشاملٍ وضروريٍّ، حرّاً

من هذه الحيثيّة، أتاح”كلاوزفيتز” لملكة الحكم الكانطيّة أن تمتدّ صلاحيتها إلى ميدان المعركة، لتطوير ملكة حكم المحارب. فإنْ كان “كانط” يشجب ربط الحكم الجماليّ بالحكم المنطقيّ أو المفهوميّ، فإنّ نظرية “كلاوزفيتز”، أيضاً، ترفض الربط بين ملكة حكم المحارب وأحكام القواعد والمسلّمات والالتزامات؛ كعللٍ برانيّةٍ سابقةٍ على لحظة الاضطرام، فيكون الجندي كما الجمال الكانطي، حرّاً، يصنع المفهوم في ميدان الحرب دون التقيّد بعللٍ ليست مُحايثةً لميدان الاشتباك.

إنّ انفراد الجندي بإدارة شؤونه في زمن الاشتباك، حيث يسود الغموض والشكّ تلك اللحظة التي لا يخضع فيها لرقابة جهةٍ أعلى- (مرجعيّة الحرب العادلة، الغاية النبيلة، ممارسة الاعتدال والخيريّة، قواعد الفضيلة في ضبط القوة الغضبيّة، الخطّة السابقة، حتى توجّهات المرجعيّة السياسيّة أو ضوابط القيادة العليا)- يعني ميدان استقلال الجندي بالحكم، وانفراده بالتشريع المخصوص، وصنع قانونه بنفسه.

تتحقّق، بذلك، العلاقة المباشرة بين الجندي وميدان الاشتباك، فيرتبط الأخير بذاتيّة الجندي، ليكون علّة أفعاله ومصدر تصرّفاته من دون تدخّلٍ أعلى من أيّ طرفٍ. بالنسبة لـ”كلاوزفيتز”، فإنّ ملكة الحكم الكانطيّة تعني في نظريّة الحرب تنميةَ قدرات الجندي على التصرّف الصحيح، من خلال تهيئة مواهبه في الحكم لامتلاك القدرة على إقامة شروط الحكم بذاته، ليصبح الجندي مرجعيّة نفسه يملك زمام المبادرة، وبالتالي العمل وفقاً لمبدأ التحرّر من أي قيودٍ تكبّل حركته التي تتحوّل إلى خصوصيّةٍ دافقةٍ من المبدأ المُطلق المجرّد.

إنّ ملكة الحكم حربيّاً تُعنى بكيفيّة التصرّف عندما تُفقد القاعدة حين تصبح عديمة الصلاحيّة في المعركة، فتُمكّن الجندي من اتخاذ القرارات الاستراتيجيّة الحاسمة في تنظيم شؤونه لحظة الاشتباك بحريّةٍ مُطلقةٍ. وبالتالي، القدرة على الانفراد بالحكم والاستحواذ على السيادة الكاملة في لحظة الاشتباك؛ كأنّها مسألةُ تذوّقٍ ذاتيّةٌ.

وبهذا المعنى، يصبح ميدان المعركة، نظريّاً، أسمى مكاناً يعيد الجندي خلقه وصناعته بالارتداد على نفسه. لقد جعل “كلاوزفيتز” الحرب الحديثة ميدانَ استقلالٍ ذاتيٍّ ينظم المقاتل شؤونه، انطلاقاً منه دون الرجوع للقاعدة، فينجز الأمر المُطلق الكانطيّ في سياقه المخصوص.

كشف لنا هذا عطبَ بعض القراءات العربيّة للفلسفة الكانطيّة، تحديداً على صعيد الأمر المطلق، عندما ذهب صاحب كتاب “الأخلاق والعقل” إلى أنّ الأمر المطلق الكانطيّ لا يراعي الخصوصيّة أو الوضع العينيّ الذي يتوقّف على هذا الوضع، وبخاصّةٍ عندما تتعارض فيه الاعتبارات الخلقيّة التي تستوجب قيامنا بهذه الواجبات مع أيّ اعتباراتٍ أخلاقيّةٍ أخرى منافسةٍ لها. إذ يتوجّب الاختيار بناءً على المفاضلة، بحسب السياق، وليس بحسب الأمر المطلق الكانطيّ، ليستنتج الكاتب من ذلك أنّ الأمر المطلق الكانطيّ في هذه الحالة غيرُ مُجدٍ البتة. فيما الوضع عند “كانط” ليس على هذا النحو الذي يضع الخصوصيّة في مواجهةٍ مع العمومية، بل إنّ ما يعنيه “كانط” أنّ كلّاً من الضرورة والشموليّة، والخصوصيّة والعموميّة، ذاتيٌّ. وبالتالي، فالأمر المطلق الذاتيّ موجودٌ في الخاص كما في العام. وعليه، ينجز الجندي الأمر المطلق في ميدانه المخصوص الفارغ، فيصبح فيه الناس غير مرئيين، كما يتكشّف لنا ذلك مع “كلاوزفيتز”.

الكيان الصهيونيّ وظهور “القتال القانوني”

جاء القانون الدولي الإنساني ردّاً على فظاعة الحرب، من خلال مجموعةٍ من الالتزامات من شأنها الحدُّ من تأثير النزاعات المسلّحة. ومع ذلك، قلّما شهد التاريخ الحديث معاقبة المحاربين على تجاوزاتهم إلا في حالاتٍ استثنائيّةٍ لا تحدث في كلّ الظروف. ففي مجال الاستراتيجيّة العسكريّة الصهيونيّة، لطالما أفلت الكيان الصهيوني من العقاب، بالرغم من استعماله القوّة المفرطة وإضراراه بالحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة للفلسطينيين. لكنّه في خضمّ ذلك، يبقى حريصاً على تحسين صورته أمام العالم.

بناءً على ذاك الحرص، جاء مفهوم “الحرب القانونيّة” كجزءٍ من الخطاب الصهيونيّ المعنيّ بتحسين صورة الجندي الصهيونيّ أمام الرأي العام العالمي، والذي شُوهدت ممارساته الوحشيّة بحقّ الفلسطينيين عبر وسائل الإعلام المختلفة خلال الحرب، توازياً مع إبقاء القتال القانونيّ كجزءٍ محوريٍّ من الحرب في المستقبل المنظور.

يُعنى هذا التقنين الجديد بالكيفيّة الاستراتيجيّة في استعمال القانون في الحرب من أجل تحقيق هدفٍ يستكمل تحقيق فعالية العمل العسكريّ؛ مثل إنذاراتٍ مُسبقةٍ عبر منشوراتٍ تُلقى على المدنيين بواسطة طائرات الاحتلال الصهيوني، وأسلوب طرْق الأسطح كإنذارٍ لنيّة تدميرها كليّاً، فضلاً عن إجراء مكالماتٍ هاتفيّةٍ مع المدنيين تكون أيضاً بمثابة رسائلَ تحذيريّةٍ. تسبق هذه العمليّة الاشتباك الفعلي، بيْدَ أنّ غرضها ليس إنسانيّاً لأجل تفادي وقوع ضحايا، وإنّما للحدّ من تحدّيات الدخول واقتحام الميدان التي قد تواجه القوات العسكريّة.

يأتي ذلك، بطبيعة الحال، كتوطئةٍ لتطبيق مفهوم الاختراع لـ”كلاوزفيتز”، الذي يُقصد به إعادة تشكيل ميدان المعركة الفارغ افتراضيّاً (لكنّه الممتلئ فعليّاً)، بحيث تصير الأرض المحروقة أو القدرة على التدمير الشامل ممكنةً قانونيّاً. بذا، يُعتبر القتال القانوني حيلةً قانونيّةً افتراضيّةً تعدّ أقصى الممكن في تشكيل الميدان الفارغ من الناس، بحيث يبدو العقاب مهمةً مُستحيلةً.

كان الصليب الأحمر في قطاع غزة مُشاركاً، كشاهدٍ قانونيٍّ، في اختراع ميدان الاشتباك الفارغ من الناس، تمهيداً لتطبيق استراتيجية الإفناء على ميدانٍ مُتخيّلٍ بفروغه من المحتويات. يُلاحظ أنّ “إسرائيل” كانت تسمح للصليب الأحمر بالدخول قبل وأثناء الإنذارات والمعارك الإسرائيليّة، لحثّ الناس على الخروج من الميدان والامتثال للإنذارات الإسرائيليّة.

شخصيّاً، كلّما شهدتُ دخول الصليب الأحمر قبيل الاشتباك، كنتُ أتوقع شكل اليوم التالي. كان الصليب الأحمر منخرطاً في تقنيات القتال القانوني، بل وكانت الدولة الصهيونيّة تستدعي شخصياتٍ دبلوماسيّةً غربيّةً في جولاتٍ استطلاعيّةٍ داخل أنفاق غزّة؛ كجزءٍ من صوغها الرأي العالمي تجاه الميدان الفارغ من محتوياته الإنسانيّة. هكذا، يتجلّى التلازم بين تقنيات القتال القانوني (الإنذارات المسبقة، المكالمات الهاتفيّة، طرق الأسطح، الصليب الأحمر) واستراتيجية الإفناء والتدمير الشامل، كما حدث في حي الشجاعية في غزّة.

لكن بالمقابل، كيف يمكن إخضاع الجنود الصهاينة للعقاب إذا كان مفهوم الحرب الحديثة نفسه، وحرب المدن المطوّرة عنه، يعمل من دون قواعد، بل ويقوم جوهره على إمكانية تكسير القواعد والالتزامات؟ إنّ القتال القانوني، كتصوّر الجمال عند “كانط”، يعمل من دون مفهومٍ أو مصداقٍ؛ إذ يبقى مسألةً ذاتيّةً يُخضع فيها الأنا المقاتل موضوعَه، حيث لا يكون ممكناً إلا عبر تدمير الموضوع. بالتالي، فإنْ كانت ملكة حكم الجندي تعمل بالعرضيّ ومن دون مصداقٍ، فكيف لها أن تنضبط بقواعد الحماية القانونيّة الإنسانيّة؟ 

يعمل الجندي وسط أجواءٍ من الشكّ والغموض، التي تلازم الحرب وتعيّن تصرّفاته المتحرّرة من أيّ تعلّقٍ خارج ميدان الاشتباك. إنّّ ملكة حكم المقاتل المتأصّلة بتكسير القواعد، لأجل تجاوز مأزق الشكّ والخطر والغموض، لتمكينه من العمل في أجواء العرضيّ في الاشتباك، هي نفسها من غير الممكن احتسابُها قانونيّاً. إنّها تقع بمنطقة عدم تمايزٍ بين القانوني وغير القانوني، حيث يذوب الأخير في الأولى التي يعيد اختراعها.

وهذه خاصيّةٌ جوهريّةٌ في الحرب الحديثة في تنظير “كلاوزفيتز”، حيث لا يمكن إحالة الحرب إلى قواعد أسمى، وإنّما إلى قواعد تُشتقّ ممّا يجب أن تكون عليه تصرفات الجندي عند الاشتباك. فما يوجب اتّباع القواعد هو الامتلاء، وليس الفراغ الذي يحكم ملكة حكم الجندي في الميدان المجرّد من كينونته. فميدان الاشتباك منطقةٌ مخصوصةٌ مستقلّةٌ تخضع لإرادة الجندي الذي يتلاعب بها.

إنّ تجريد ميدان المعركة من تعلّقه بمحتوياته هو خاصيّة عمل ملكة حكم المقاتل التي تكمن في التدمير- موضوع الحرب الحديثة. تبدو، بذلك، مهمّة القانون الدولي الإنساني في تقنيين هذا الفراغ كشرطٍ للعقاب، مهمّةً مستحيلةً، ليس لأنّ القانون الإنساني غيرُ قادرٍ على حساب الفراغ فحسب، بل لأنّه مُتواطئٌ في صناعة مفهوم الحرب الحديثة.

إنّ كلّاً من الحرب والقانون يشتركان في مفهوم الميدان الفارغ، ومؤسّسان في أنطولوجيا القوّة والإمرة، التي تقوم على الإرادة المطلقة بشكلٍ واعٍ دون احتفاظٍ بمرجعيّة الكائن. أو كما يقول “جورجيو أغامبن” إنّ القانون وُضع وفق هذا التغيير؛ تغيير ما هو كائنٌ إلى ما يجب أن يكون، ممّا يفضي إلى الفراغ، وبالتالي يفتح ثغرةً فادحةً في التعارض بين الخير والشر، والخطأ والصواب، بل ويؤسّس لرابطةٍ قلقةٍ بينهما. ومن هذه الحيثيّة، ذهب “جان ليوتار” إلى أنّ الغرب أصبح في منطقة ما وراء الخير والشر؛ أي في منطقةٍ لا يجدي معها الخطاب الأخلاقي، حيث تحوّله إلى خطابٍ مبتذلٍ وعبثيٍّ.

يُعتبر الفراغ الناجم عن هذه الثنائيّة إنجازاً مميّزاً للأنطولوجيا الغربيّة الحديثة منزلاً على قانون الحرب. حيث إنّ ملكة حكم الجندي والميدان الفارغ منخرطان في علاقة إنجازٍ متبادلةٍ في ميدان المعركة: الفراغ أثرٌ عمليُّ لملكة الحكم التي تُنجز فعاليتها في الاشتباك. ففي أنطولوجيا القيادة الدافقة من أنطولوجيا الإمرة الحديثة، تكون ملكة الحكم قوّةً افتراضّيةً تفُترض قبليّاً، والموجودة في القانون العام (الدولة) كما في القانون الخاص (الفرد). هنا، يفقد ما هو موجودٌ في الميدان سبيلَه وأحاسيسه وكينونته كما هي، أمام ذاتٍ خارجيّةٍ (الجندي) التي تنجز الأمر القطعي الكانطيّ في إعادة تشكيل الميدان، وليس في الخضوع للقانون فحسب، بل وفي الانفكاك عنه.

في الأمر القطعيّ، لا تكون الإحالة إلى ما هو كائنٌ أو الميدان كما هو قبل الاشتباك، بل إلى ما يجب أن يكون عليه ميدان الاشتباك. فليس احترام القانون بالخضوع له، إنّما الأدقّ تشكيلُ الميدان ليجعل منه مشروع القانون الذي يخضع له. وهكذا، فإنّ ميدان الاشتباك الافتراضيّ كشيءٍ مُفرغٍ من أحاسيسه ومن المحتوى البشري من جهةٍ، وموقع الجندي من جهةٍ أخرى، محدّدان بفعلهما.

إنّ ما ينجزه الجندي، كأمرٍ قطعيٍّ، يكمُن في تفعيل مبدأ إرادته التي تمكّنه من أن يصبح هو القانون. لا يهمّ أن تكون طاعته داخليّاً أو خارجيّاً، لأنّ كليهما ليسا إلا لحظتيْن في سياقٍ واحدٍ؛ سياق الأمر القطعيّ الكانطيّ. فما هو موجودٌ في الداخل عند الجندي موجودٌ أيضاً في الخارج عند الدولة وقانون الحرب. ولهذا السبب، فلا ينبغي محاسبته كما تعوّد الغرب على ذلك، حسبما يشير “أغامبين”. يُعزى ذلك إلى أنّ جميع المحاولات لإيجاد قواعد حاكمةٍ تُنزل العقوبة على منتهكي القانون ستكون بلا جدوى في نشاط القتال، حيث ينجز الجندي بناءَ المنطقيّ من ميدان الاشتباك والاحتكاك، لتظهر المحاكمة شيئاً برانيّاً عبثيّاً، واعتباطيّاً، تفتقر إلى اليقين، ولا تصل لشيءٍ مُستقرٍ تبني عليه العقاب.

في الختام 
إنّ هذه المسافة بين الجندي وميدان الاشتباك تحقّق له احتكاره الدلالةَ بالقطعيّة مع أي معنىً سابقٍ عليه كان موجوداً في الميدان. حيث تجري العلاقة بين الميدان والجندي كعلاقة ذاتٍ بموضوعٍ، تابعٍ بمتبوعٍ؛ كموضوعٍ مُفكّكٍ، أو كثرةٍ غير منظّمةٍ، ليس عنده أصالةٌ، وبلا معنى، وبين ذاتٍ أصيلةٍ مُنظِّمةٍ تضفي المعنى، وتنجز إخضاع الموضوع لإرادتها.

يمنح “كلاوزفتيز” الجندي امتيازاً (أو ملكةَ حكمٍ مخصوصةً) في إنتاج المعايير في المعركة بالارتداد على ذاتيتّه. يعدّ هذا العنف طريقةً في حكم الميدان؛ إذ إنّ الجندي يمارس الحرب المُطلقة ويمتلك أسباباً لضرورة هذه الحرب. يعطّل هذا المعنى، في الجوهر، الحمايةَ القانونيّةَ، ويجعل التطبيق العالمي لحقوق الإنسان لحماية المدنيين، مجرّد َكلامٍ فارغٍ يفتقر لأدواتٍ مفيدةٍ للحدّ من الضرر. تكمن المشكلة في صُلب هذا التصور الحديث للأنطولوجيا كما يشير “أغامبين”، فيما هذا التعيين للمشكلة من ذاك اللحاظ هو ما تسكتُ عنه الحماية القانونيّة.