هل يُمكن تجاوز الفجوة بين المتخيّل والحقيقي؟ ما المقصود بـ “الصدفة” عند دراسة الحرب؟ وما مدى تأثير الظروف الصغيرة على مجرياتها؟ هذا ما يناقشه مجدي عطية وعنان الحمدلله في الجزء الثاني من سلسلة “البحث عن اليقين”.

للاطّلاع على الجزء الأوّل، من هنا

في دراسات الحرب، تُعرف الأخيرة على أنها واحدةٌ من أقدم الظواهر في التاريخ. يذهب “غاستون بوتول” إلى أبعد من ذلك بقوله إنّ الحرب هي التي صنعت التاريخ كونها المسؤول الأول عن التغيرات الكبيرة فيه كنشأة واندثار الحضارات، والتكنولوجيا، وغيرها. وإن تاريخ الإنسان، كما يقول البوليمولوجي الفرنسيّ، بدأ وبشكلٍ لا يُمكن إنكاره بكونه حصراً تاريخ الصراعات المسلّحة. على الرغم من شعبيّة هذه الظاهرة وأثرها الكبير في تحديد مصائرنا كأفرادٍ، ومؤسّساتٍ وشعوبٍ، إلا إننا لم ندرك، أو في أحسن الأحوال تجاهلنا، قضايا أساسيّةً في جوهر الحرب. وبالتالي، لا نعرف إلى الآن كيف نخوض حرباً.

وراء هذا الافتراض ثلاثة تصوّراتٍ خاطئة عن الحرب، هي؛ أولاً، أنّ الحرب قائمةٌ فقط على الخراب والمعاناة. وهذا بدوره يفترض أن البشر “عوامل سلبيّة”، ضحايا لها وعاجزين إزاءها، أو أنهم آلاتٌ هدفها الأسمى القتل أو الموت في سبيل مثلٍ أعلى أو في سبيل قضايا سياسيّةٍ واقتصاديّة. لكن في حقيقة الأمر، الحرب ظاهرةٌ أكثر تعقيداً، فيها الفرح والحزن، فيها الحب والكراهية، باختصارٍ، فيها الموت وفيها الحياة، وليس بالضرورة أن تتطابق هذه التعريفات في وقت السلم أو من ثقافةٍ لأخرى، فالموت في الحرب أو لدى جماعةٍ ما يمكن أن يعني الحياة، والعكس صحيح. بمعنى آخر، في الحرب أمورٌ أخرى كثيرةٌ ينبغي علينا ملاحظتها وأخذها بعين الاعتبار عند التعريف بهذه الظاهرة: الإيمان، العواطف، الانتماء للجماعة، حسّ الفكاهة (النكات)، الألعاب والكثير من الإبداعات التي تشكّل جزءاً أساسياً من يوميّات الحرب.

ثانياً، أن الحرب ظاهرةٌ إنسانيةٌ-إنسانيةٌ فقط؛ أي نشاطٌ يمارسه البشر فيما بينهم. لكن لو نظرنا إلى الأمر بانتباهٍ أكثر، نجد أن الحرب كحقلٍ للعنف وصراعٍ بين الإرادات هي حالةٌ أصيلةٌ لهذا العالم. بالتالي، إنّ إغفال هذه الحقيقة يحجب عنّا طرق وجودٍ أخرى أكثر اتساقاً مع طبيعية هذا العالم سُلبت منّا باسم الحقيقة والدليل الملموس. وهذا بدوره أدّى إلى الاعتقاد الخاطئ الثالث، وهو أن الحرب ظاهرةٌ خطّيةٌ يمكن السيطرة عليها والتنبؤ بمُجرياتها، وهو ما سنركّز عليه بشكلٍ خاص في هذا المقال بالارتكاز على نظريّة الحرب عند المنظّر العسكري “كارل فون كلاوزفيتز”. وسيستعرض الجزء القادم والأخير من سلسلة “البحث عن اليقين” أدوات إدارة اللايقين المُعتمدة وتطوُّرها تاريخياً، ضمن عنوان “نزع السحر عن الحرب”.

الحرب بين المتخيّل والحقيقي

في الفيلم الحربي الدرامي “حصار جادوتفيل” (2016)، وهو عملٌ إيرلنديٌ-جنوب أفريقيٍ مشتركٌ يوثق أول تجربةٍ قتاليةٍ للوحدة “أ” من الكتيبة الإيرلندية الخامسة والثلاثين للمشاة بقيادة “ب.ج كوينلان” أثناء بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في الكونغو عام 1961. يتمّ إرسال 155 جندياً إيرلندياً من ذوي القبّعات الزرقاء لمراقبة مداخل ومخارج بلدة “جادوتفيل” وللمساهمة في منع انزلاقها في حربٍ أهليّةٍ طاحنة. ولسوء حظّ هؤلاء الجنود، تتسبب الأوضاع المعقدة آنذاك في محاصرة وحدتهم ودخولها في مواجهةٍ مسلّحةٍ مع جيش “كاتانغيز” وحلفائه.

في إحدى مشاهد الفيلم (الدقيقة 44)، يعود القائد “كوينلان” إلى مكتبه بعد المواجهة المسلحة الأولى مع جيش “كاتانغيز” وحلفائه ويلاحظ ثلاثة كتبٍ عن الحرب (عالمٌ في الحرب 1914-1918؛ رومل واثنان آخران) كان قد وضعها على سريره لاستكمال قراءتها. في هذه اللحظة، ينظر القائد بعصبيةٍ إلى الكتب الثلاثة، يتناولها، وبكلّ ما أوتي من قوةٍ، يلقيها مباشرةً في الهواء، ثم يسودُ الصمت…

يشير هذا المشهد إلى فكرة الفجوة بين المُتخيّل والحقيقي في عالم الحرب، أيّ؛ بين ما تدرّب عليه هؤلاء الجنود قبل المجيء إلى “جادوتفيل” وما شهدوه على أرض الواقع. لكنّ السؤال هو: هل من الممكن تجاوز هذه الفجوة أصلاً؟ أم أنها أمرٌ لا بدّ منه؟
تتصارع على هذا السؤال مدرستان نظريتان تمتدّ جذورهما إلى بدايات عصر التنوير في أوروبا. المدرسة الأولى جمعت بين منظّرين عقلانيين رأوا بأن الحرب ظاهرةٌ خطيةٌ (Linear) قائمةٌ على ما هو ملموس، يمكن التحكّم بمُجرياتها، كما أنها قابلةٌ للحساب، أي يُنظَر إليها باعتبارها ظاهرةً علميّةً بحتةً يمكن التنبؤ بها.

جديرٌ بالذكر أنّ هذا الخطّ التنظيري هو جزءٌ من حركةٍ فكريّةٍ أكبر حملت لواء محاربة اللاعقلاني/الظلامي/التعسفي/الخرافي مُتمثلاً في الحكم الملكي والإلهي الذي عاشته أوروبا طوال القرون السابقة. من الآن وصاعداً، كلّ شيءٍ قابلٌ للقياس بما في ذلك الأحداث المستقبليّة وما لا يمكن قياسه يقع في خانة اللاعقلاني. [1] وفي ظلّ ازدهار الرياضيات وعلوم الجبر، خطّ الدفاع الأول في هذه الحركة، لم يكُن ليجرؤ أحدٌ على المعارضة، حتى جاء المنظّر العسكري البروسي “كارل فون كلاوزفيتز” الذي اتهم هؤلاء المنظّرين بالدوغمائية والانفصال عن واقع الحرب؛ حيث لا يمكن التيقّن من أيّ شيءٍ وحيث يجب أن تكون الرياضيات قائمةً على مجموعةٍ غير محصورةٍ من المتغيّرات.

نظرية الحرب عند “كلاوزفيتز”
في الرياضيات، تشير فكرة الخطيّة (Linearity) إلى المعادلات الحسابيّة التي تنتظم فيها المتغيرات واحدةً مقابل الأخرى في خطٍّ مستقيم. ولكي يكون نظامٌ ما خطّياً، عليه أن يستوفي شرطين، هما التناسب والتكامل. يعني الأول أن تتناسب التغيرات التي تطرأ على مخرجاتٍ عمليّةٍ ما مع تلك التي طرأت على مدخلاتها؛ فالأسباب الصغيرة تولّد آثاراً صغيرةً والأسباب الكبيرة تولّد آثاراً كبيرة. وفي الثاني، أنّ الكلّ يساوي الجزء مضروباً، فلا شيء يُخلق من لا شيء، ويسمح هذا الشرط بتقسيم مسائل المنظومة إلى أجزاء صغيرةٍ تُحَلُّ على حدةٍ ثم تضاف هذه الحلول إلى المسألة ككلٍّ لتقديم حلٍ نهائيٍّ وشاملٍ.

 الحرب ظاهرة لاخطيّة

على العكس من ذلك تماماً، المنظومة اللاخطيّة لا تتبع قانوني التناسب والتكامل ولا يمكن بأيّ حالٍ من الأحوال إدراكها بالعقل الحسابيّ لأنها في طبيعتها منظومةٌ قائمةٌ على عنصر المفاجأة كالطقس، أو اضطرابات السوائل، أو الاحتراق مثلاً، أو البطانة أو التخميد، أو التطوّر البيولوجي وغيره. ولو نظرنا إلى تعريفات “كلاوزفيتز” للحرب، لوجدنا بأنها تشير جميعها إلى الحرب كظاهرةٍ غير خطيةٍ لا تحكمها قوانين العقلانيّة ولا يمكن التنبؤ بها تحليلياً.

دعونا نستعرض هنا اثنين من هذه التعريفات، في تعريفه الأول، يقول “كلاوزفيتز” بأنّ الحرب ليست إلا صراعاً بين صراعين على البقاء (Wechselwirkung)؛ أي تلك الجهود التي تستثمرها القوى الحيّة لتدمير خصمها في سبيل هدفٍ أسمى هو البقاء. ولنا أن نتخيّل ما يمكن لغريزة البقاء تحقيقه من أجل البقاء حتى لو تطلّب ذلك القيام بأمورٍ تبدو في ظاهرها جنونيةً أو هي جنونيةٌ فعلاً! أما في التعريف الثاني، يقول “كلاوزفيتز” بأنّ الحرب كالحِرباء التي تغيّر من لونها كلّ لحظة، وهي تشكّل في عموميتها ثالوثاً يتكون من: أولاً، العنف الخالص، والحقد والعدائية التي يمكن اعتبارها غريزةً عمياء تقود هذا الصراع من أجل البقاء. ثانياً، الاحتمالات المفتوحة والصُّدفة التي تشكّل فاتحةً للإبداع. وأخيراً، الإرادة السياسية التي تحيل إلى مستوى آخر ليس أقلّ تعقيداً من ميدان الحرب الفعليّ. ويضيف: “إن النظرية التي تتجاهل أيّاً من هذه المكوّنات، ستضع نفسها على الفور في تناقضٍ مع الواقع، وبالتالي، هي نظريّةٌ باطلة”.

إن اعتبار الحرب ظاهرةً لاخطّيةً لا يقف عند هذه التعريفات. في الحقيقة، تقوم نظريّة الحرب عند “كلاوزوفيتز” على أربعة مفاهيم أساسيّةٍ تشكّل بمُجملها هذا الادّعاء: الصدفة (Chance) والاحتكاك (Friction) واللايقين (Uncertainty) وضباب الحرب (Fog of War):

الصُّدفة
يحيل مفهوم الصُّدفة إلى الأحداث غير المتوقعة وغير المنتظمة؛ أي عند استحالة قياس الشروط السابقة لهذه الأحداث. وقد وظّف “كلاوزفيتز” هذا المفهوم بشكله الأكثر نقاءً، أي باعتباره تلك الأحداث الاعتباطية التي لا يمكن قياسها، والتي تمتاز بعدم قابليتها للتوقّع وغياب الانتظام، على شكل تسلسلٍ للفعل والظروف المُسبقة. بمعنى آخر، الصُّدفة هي المتطفّل الذي يجعل من كلّ شيءٍ أمراً غير مُؤكّد، وتتدخل في المسار الكليّ للأحداث. ولذلك انقسمت الآراء حول الصدفة ودورها ومكانتها في الحرب؛ فهنالك من أبدى تجاهُلاً تامّاً لها ولدورها، كما هو حال مُفكّري التنوير الذين كانوا على اطلاعٍ على عوامل عدم اليقين، ولكنهم ركّزوا على ما رأوه مناسباً للتشكيل الفكري العقلاني. وكان لفشلهم في تحليل الصدفة ودورها أنْ شكّل نوعاً من الإنكار النظري المبني على النشاز المعرفي، أي عدم القدرة على تأمّل ما لا يُمكن تفسيره، ولذلك أضحت النظرية مُهتمّةً بشكلٍ حصريٍّ بالقوانين الحربية القابلة للتفسير والتي يُمكن إدراكها، مُحوِّلين الحرب بذلك إلى نظامٍ (System) يركّز على ما يمكن قياسه بشكلٍ دقيق، وكان مثال ذلك علم حروب الحصار، التي شجّعت الاعتقاد بأنه يمكن للنظرية أن تربط نفسها بوصفاتٍ رياضيةٍ (mathematical prescriptions)، بحيثُ لا تترك شيئاً للصدفة.

وعموماً، “فإنّ البشر يُحبّذون الاعتقاد بأنّهم يسيطرون على بيئتهم، وينظرون إلى أنفسهم كونهم أسياداً لقدرهم، ولا يشعرون بالراحة عند الاعتقاد بأنّ الأمور تُساق عن طريق الصدفة”. من الجهة الأخرى، هناك من ذهب إلى التأكيد الزائد على دور الصدفة في مُجريات الحروب، مُعلِناً استسلامه الكامل لها، وفشل كلّ محاولات التخطيط الاستراتيجي للحرب أو بناء نظريةٍ صلبة، ممّا أدى إلى انفصالٍ تامٍّ بين الأفكار والواقع. ومثال هذا التوجُّه من يحمل رؤيةً رومانسيةً للعالم التي تصوّر الحرب على أنها “فضاءٌ للإرادات المُشتبكة، والعواطف المُتصاعدة، وعدم اليقين والارتباك… كتعقيدٍ مُتنوّعٍ وخلطٍ لا نهاية له…هذا الفضاء يُمكن السيطرة عليه من خلال عبقرية الجنرال العملية وعزيمته الحديدية”. ومن أبرز أصحاب هذا التيار، “جورج فون بيرينهورست” (Georg von Berenhorst)، الذي بيّن أن الحرب تتحدّد ببساطة المُمكن، الاستثنائي وغير المُتوقّع، فيقول بهذا الصدد: “إن الحرب بعيداً عن كونها علمية، فهي فوضويةٌ، مُسيطرٌ عليها بما هو عَرَضيّ…وجهود السيطرة عليها، وإبطال فوضويتها، يعتبر أمراً سخيفاً”.

وبناءً عليه، قام “كلاوزفيتز” بنقد من تجاهلوا الصُّدفة ودورها، مُعلناً أنّ هؤلاء المفكرين يركّزون على القيم الثابتة، في حين أن كلّ شيءٍ مُتعلقٍ بالحرب يُعوِزه اليقين، وأنّ الصدفة والاحتكاك وغيرها من العوامل هي ما يميّز الحرب الحقيقة عن تلك الحرب المرسومة على الورق، ولذلك وجب على النظرية الحربية أن تقوم بتضمين تلك العوامل الأساسية إذا ما أرادت أن تلاقي نجاحاً على أرض الواقع. واختلف “كلاوزفيتز” في توصيفه للعبقرية مع التيار الرومانسيّ؛ حيثُ الأخيرة قائمةً على العفوية، في حين أنّ عبقرية “كلاوزفيتز” تتفعّل عندما يتمّ تقييم الوضع بمُجمله تقييماً صحيحاً. وبذلك خطّ “كلاوزفيتز” طريقاً ثالثة؛ لا تستسلم للصُّدفة من جهةٍ، ولا تغرق في اعتقادها بقدرة النظرية على تخطّي الصُّدفة من جهةٍ أخرى، بقوله “لا يوجد هنالك نشاطٌ إنسانيٌّ ترتبط فيه الصُّدفة وتلتزم فيه التزاماً مُستمراً كما هو الحال في الحرب…حيث هنالك تفاعلٌ متبادلٌ بين الإمكانيات (Possibilities) والاحتمالات (Probabilities)، والحظّ الجيد والحظّ السيء”.

هذا الخط الفكريّ لـ “كلاوزفيتز” المُتعلق بالصُّدفة، سبقه إليه العديد من مُنظّري الحروب، كـ “مارشال ماوريس دي ساكس” (Marshal Maurice de Saxe) والذي قال إنّ نتائج الحرب قد تكون مُعتمدةً على الحظّ المُتقلب (Fortune)، ولذلك وجب على القادة أن يمتلكوا الشجاعة والذكاء للارتجال، والقدرة على رؤية الفرصة ومعرفة كيفية استثمارها. أمّا “بارون هنري أنتوين دي جوميني” (Baron Henri-Antoine de Jomini)، فرأى أن حالة عدم اليقين من الأسباب الرئيسية للفرق بين نظرية الحرب ومُمارستها. إلا إن كلاً من “ساكس” و”جوميني” فشلوا في النظر إلى الصدفة على أنّها أمرٌ أساسيٌّ في النظرية؛ حيث اعتبروها أمراً عارضاً، وذلك على عكس توكيد “كلاوزفيتز” بأن الصُّدفة وحالة عدم اليقين أمران أساسيان لأيّة نظريةٍ حربية.

ولعلّ أبرز من تأثر بهم “كلاوزفيتز” فيما يتعلق بالخط الثالث لدور الصدفة في الحرب كان “ميكافيلي”، والذي اعتُبر “كلاوزفيتز” قارئاً نهماً له. حيث أن مفهوم الصدفة (Chance) لدى “كلاوزفيتز” يعادله مفهوم الحظ (Fortuna) لدى “ميكافيلي”، وهو ما يحيل إلى ما لا يمكن قياسه ولا توقعه. وللتخصيص أكثر، فقد اعتقد “ميكافيلي” بأنّ “الوجود المستمرّ للصراعات والشكوك (uncertainties)، يُقَولب شخصية وطرائق الحرب، حيث لا يوجد مسارٌ آمنٌ”. وعلى خُطى “ميكافيلي”، لا يخضع الإنسان كلّيةً للصدفة والحظ، كما لا تُهمّش أهمية الحظ في بلورة مسارات الحرب، وإنما يقترح تسويةً قائمةً على دور الإرادة الإنسانية في تشكيل المسارات، “فالحظ يحكم نصف أعمالنا، بينما يترك النصف الثاني ليتم السيطرة عليه من قِبلنا”. هذا المزيج بين الصدفة والإرادة الإنسانية تعكس الازدواجية التي يقترحها “كلاوزفيتز”، فعلى سبيل المثال، يناقش “كلاوزفيتز” أنه عند وجود عدم اليقين في كفّة، يجب الشروع بالشجاعة والثقة بالنفس لتتساوى المقاييس بين الكفتين. وهذا ما أقرّه “ميكافيلي” عندما فسّر بأن الحظ ليس قوةً طاغية، كما هو حال نهرٍ متدفّقٍ بعنف، يمكن للإنسان أن يأخذ احتياطاته للسيطرة على قوته.

ولذلك، يشترك الاثنان في وجوب الوقوف أمام تقلبات الصُّدفة، وأنّ على البشر التكيّف والتأقلم مع الأزمنة والأوضاع المُتغيرة. وفيما يدعو “ميكافيلي” إلى استثمار الفرص، فإنّه يؤكد على مدى أهمية معرفة الفرصة عند حصولها واستثمارها، وهو أمرٌ يفوق كلّ الأمور أهمّيةً في أوقات الحرب. ولاستثمار الفرص، يجب أن يحمل الإنسان خصائص مُميزةً حتى يتمكن من استثمارها بحسب “ميكافيلي”، ومن أهمّ هذه الخصائص: الفضيلة، وما يُعادلها من العبقرية عند “كلاوزفيتز”. والسمات المرتبطة بالفضيلة تخضع في عمومها للوصفة الكلاوزفيتزية؛ من حيث الجرأة والشجاعة والتصميم والحسم، ممزوجةً بالحزم والجَلَد، والقدرة على استدامة الفعل حتى تحقيق الغايات، فيما تمتاز سمة الفضيلة بالطاقة الحيوية الإبداعية. وبناءً عليه، فإنّ كلاهما يشترك بالنظر إلى الصُّدفة على أنها ليست مِدعاةً وسبباً لليأس، بل قوّةٌ صارمةٌ لا يمكن تفاديها.

عودةٌ إلى مفهوم الصُّدفة العمليّ، فقد قسّمه “كلاوزفيتز” إلى قسمين من حيث المصدر. الأول، يمكن تسميته بصدفة العمى التحليلي، أي عندما تفوق مُسبّبات الحدث قدرات الفرد على الملاحظة والاستيعاب، فيظهر هذا الحدث بمظهر الصدفة. [2] القسم الثاني من الصدفة يقودنا مباشرةً إلى مفهومٍ آخر في نظريّة الحرب عند “كلاوزفيتز”، وهو الاحتكاك. لكن قبل الخوص في المفهوم الثاني، نودّ الإشارة إلى أنّ مفهوم الصدفة عند “كلاوزفيتز” لا يعني بأيّ حالٍ من الأحوال غياب الأسباب بقدر ما هو قصورٌ بشريٌّ على ملاحظة أو استيعاب هذه الأسباب. وفي الحقيقة، هنا تكمن مشكلة مفكّري العقلانية ومن بعدهم نموذجٌ معرفيٌّ “عالميٌّ” سرعان ما تحوّل إلى مدفع أحكام: متخلف/متقدّم، كافر/مؤمن، إلخ.

الاحتكاك (Friction)

الاحتكاك واحدٌ من المفاهيم التي تشكّل سحر الحرب والتي يُمكن إيجازُها بالتعريف التالي: تفاقم المشاكل الصغيرة إلى حالةٍ من التوتّر العامّ. وهو عملياً ما يُعرَف اليوم بأثر الفراشة أو نظرية الفوضى: اجتماع أسبابٍ متناهية الصِّغر ينتج عنه أحداثٌ كبيرة. وفي الحرب، كما في الحياة الطبيعية، كلّ الأشياء مترابطةٌ ومهما كانت بساطة السبب أو حجمه، سيؤثّر بشكلٍ ما على مُجرَيات الحرب ويغيّر من النتائج إلى حدٍّ ما. ولعلّ ما أورده “جايمس غليك” في نظرية الفوضى مثالٌ على ذلك، باقتباسه أغنيةً فولكلوريةً أمريكيةً تقول: بسبب مسمارٍ سقطت حدوة حصانٍ، وبسبب حدوةٍ تعثّر حصانٌ، وبسبب حصانٍ سقط فارسٌ، وبسبب فارسٍ خُسِرت معركةٌ، وبسبب معركةٍ فُقِدت مملكةٌ. وذلك في دلالةٍ إلى كون ما “في العلم، كما في الحياة، فالحوادث المُتسلسلة تصل إلى نقطةٍ حرجة، بحيث يتضخّم بعدها أثر الأشياء الصغيرة”.

اللايقين
في كتابه “عن الحرب”، يؤكّد “كلاوزفيتز” مِراراً وتكراراً بأنّ اللايقين يلعبُ دوراً أساسياً في جريان الأحداث وأنّ ثلاثة أرباع العناصر التي نعتمد عليها لاتخاذ قراراتنا يغمرها مستوى مُعيّنٌ من اللايقين. لكن، ماذا يعني باللايقين وكيف نفرّق بينه وبين الصُّدفة؟

بالنسبة لـ “وايلدمان” (2010)، يجدُر بنا فهم اللايقين على أنه ردود الفعل البشريّة حول ما لا يمكن فهمه أو التحكّم به، وبالتالي، فهو أقرب إلى حالةٍ شعوريّةٍ تنتجها الصدفة. ويؤكّد “كلاوزفيتز” هذا التفسير بقوله بأنّ حالة اللايقين هذه تختلف من شخصٍ لآخر ومن لحظةٍ تاريخيّةٍ لأخرى. وعلى بساطة هذا الطرح، فإنه يفتح أفقاً ربّما لم يخطر على بال الجنرال. فمن جهةٍ، يحيل هذا التفسير لحالة اللايقين إلى أنثروبولوجيا اللايقين التي تتمحور حول ثلاث فرضياتٍ رئيسية: الأولى، أنّ العالم الذي نعيش فيه منسوجٌ من اللايقين وكذلك تصرّفاتنا كبشر. والثانية، أن اللايقين ظاهرةٌ ثقافيةٌ تحدث عند حصول خللٍ في منظومة العقائد والمعارف؛ أي عدم قدرة هذه المنظومة على توفير الأجوبة والحسّ بالاستمراريّة. وأخيراً، أنه وبالرغم من حالة اللايقين هذه، لا يمكن اعتبار البشر ضحايا أو عبيداً لها. بمعنى آخر، يجد الأفراد دائماً طريقةً ما لإنتاج أجوبتهم والشعور بالتناغم مع أوتار هذا العالم.

ومن جهةٍ أخرى، يمكن الاتجاه نحو الفلسفة واعتبار هذه الحالة الشعوريّة واحدةً ممّا يُطلق عليه “هايدغر” المزاجات الأساسية (Grundstimmung) كالتوجُّس والملل التي ندرك من خلالها العالمَ وحقيقة أنه مُلقى بنا فيه، بل وتقترح كذلك أدوات التعامل معها، فالخوف الذي نعتقد غالباً بأنه يجعلنا في قطيعةٍ مع الواقع، في حين أنّه يُكشَف لنا على شكل تهديدٍ يشكّل خطراً علينا. [3] وفي حالتنا هذه، يمكن للايقين في الحرب أن يستثمر في طاقة البشر الإبداعية ويُرشدهم إلى ما هو أبعد من نظرياتٍ خطيّةٍ قصيرة النظر.

ضباب الحرب
في تعريفه للمفاهيم السابقة، يقترب “كلاوزفيتز” كثيراً من تعريف ضباب الحرب، فمن جهةٍ، هو اجتماع المفاهيم السابقة في آنٍ واحدٍ مشكّلةً ما يُطلق عليه الجنرال “الاحتكاك العامّ” أو “ضباب الحرب”.

ومن جهةٍ أخرى، هو حالة المبالغة والتهويل التي تجتاح صفوف الجنود عند اجتماع النقص في المعلومات أو عدم وضوحها مع حالة الشك الدائمة المصاحبة للحرب. وبذلك، يكون ضباب الحرب حالةً نفسيّةً سببها عدم مطابقة الوقائع لما هو منصوصٌ عليه في النظرية أو الخطة الحربية، أي ما يُميّز الواقع عن النظرية، وما يُرافقه من المبالغة الزائدة والتردُّد والحيرة والتمرُّد والاضطراب والارتباك في خِضمّ الحرب ذاتها.

ملخّص ما سبق هو أن الحرب عند “كلاوزفيتز” ظاهرةٌ لاخطيّةٌ تسودها حالةٌ من اللايقين التي لا يمكن التخلص منها، وإنّ التعامل معها بنفس الأدوات المستخدمة في الظواهر الخطيّة هو تحدٍّ خطيرٌ يزيد من الأمور تعقيداً على تعقيدها. وفي إطار البحث عن بدائل، يكتفي الجنرال بالقول إنه يجب التعامل مع هذه الظاهرة بالمَلَكة والقريحة، أو ببساطةٍ لتُترَك للصدفة… لكن وكما نعلم مُسبقاً، لم يستمع مُنظرّو الحرب لهذه النصيحة، وبدلاً من ذلك، أصرّوا على محاولاتهم في نزع السحر عن الحرب التي خلقت مجتمعاً مهووساً بالسيطرة والتحكم والذي خلق بدوره حالةً جديدةً من اللايقين لم تكن موجودةً من قبل.

وفي الجزء الثالث والأخير من هذه السلسلة، سنرى كيف تعاملت مؤسّسات السلطة بما فيها الجيش مع فكرة اللايقين وما هي الأخطاء التي وقعت بها باتّباعها الخط التنويريّ في تفسير هذه الظاهرة، وسنحاول في نهاية المقال أن نفتح باباً للأمل والتعلّم من تجارب لا تخضع للنموذج المعرفيّ الغربي في “إدارتها” لمسائل كهذه.

الهوامش:
[1] هكذا مثلاً أخرجت أوروبا شعوباً كثيرة من دائرة التاريخ فقط لامتلاكها مفهوماً آخر للزمن لم يتمكّن هذا النموذج المعرفي من استيعابه.
[2] نذكّر هنا بذاك الحلم الإنساني القديم بتجاوز طبيعته القاصرة بدءاً من جلجامش في بحثه عن “إكسير الخلود”، ورفيقه “إنكيدو” في محاولته لترويض خوفه، مروراً بـ “آخيل”، و”بروميثوس”، والحشاشين، والسايبورغ والهيومانويد.
[3] اُنظر مقال: الجنود وانفتاح الكينونة، الجزء الثاني، باب الواد.

المراجع:
1. Ådahl, Susanne. (2007). Good Lives, Hidden Miseries. An Ethnography of Uncertainty in a Finnish Village, Helsinki University Printing House, Helsinki.
2.Alaszewski, Andy. (2015) Anthropology and risk: insights into uncertainty, danger and blame from other cultures – A review essay, Health, Risk & Society, 17:3-4, 205-225.
3. Beyerchen, Alan. (1992). Clausewitz, Nonlinearity, and the Unpredictability of War. International Security 17, no. 3 : 59-90.
4.Boholm, Åsa. (1996) Risk perception and social anthropology: Critique of cultural theory, Ethnos, 61:1-2, 64-84.
5. Bouthoul, Gaston. (1961). Traité de polémologie : Sociologie des guerres, PAYOT, Paris.
6. Clausewitz, Carl Von. (2014). De la guerre, Tempus Perrin, Paris.
7. Dein, Simon. (2016). The Anthropology of Uncertainty: Magic, Witchcraft and Risk and Forensic Implications. Journal of Anthropology Reports. 01. 10.35248/2684-1304.16.1.107.
8. Gat, Azar. (2001). A History of Military Thought: From the Enlightenment to the Cold War.
9. Inwood, Michael. (1999). A Heidegger Dictionary, Blackwell Publishers Ltd, Maiden-Massachusetts.
10. Waldman, Thomas. (2010). ‘Shadows of Uncertainty’: Clausewitz’s Timeless Analysis of Chance in War, Defence Studies, 10:3, 336-368.
11. غليك، جايمس. نظرية الفوضى علم اللامتوقع. ترجمة أحمد مغربي. بيروت: دار الساقي، 2008.