كثرت المقالات والنقاشات والوثائقيات التي تناولت وحدات المستعربين، وأصبحت السّرديات التاريخية حول أصول هذه الوحدات (القسم العربيّ في عصابات البلماخ الصّهيونية) وطرق عملها محل نقاش اجتماعي وإعلامي، وهذا النقاش والتعريف -على أهميته- بقي قاصراً عن مواجهة الحرب النّفسيّة الصّهيونية على المجتمع الفلسطينيّ من خلال عمل هذه الوحدات.

“الخداع هو أساس كلّ الحروب” –  “صن تزو”

مقدمة

يعتبر الخداع والتّخفي والتّمويه من ألف باء الحروب والعمل العسكريّ، فكلُّ جيوش العالم وحركات المقاومة عملت وتعمل على بناء وتأهيل أفراد ووحدات خاصّة، للقيام بمهام وراء خطوط العدوّ وداخل مؤسساته، والانغماس بين صفوفه، لمدة قد تطول أو تَقصُر بحسب المهمات المنوي تنفيذها. ولكي تنجح هذه المهمات، من الطّبيعي أنّ تعتمد على قدرات التّمويه والتّشبه بالخصم وانتحال شخصيات من المجتمع المُستهدف، بناء على معرفة العادات والتقاليد، واللغة واللهجات المحكيّة، وتفاصيل اللباس وغيرها من الأمور.

ومن المهم الانتباه إلى أنّ الحرب النّفسيّة مكونٌ أساسيٌ في عمليات الوحدات الخاصّة، إذ تهدف هذه العمليات ذات الطبيعة الصّاعقة والصّادمة إلى ضرب الروح المعنويّة للخصم، وخلق حالةٍ من البلبلة والشّعور بالعجز وصولا إلى  ردع الخصم وشلّ قدراته. أما الطرف المُنفِذ فإن يسعى إلى رفع الروح المعنويّة بين صفوف قواته ومجتمعه، ففي كثير من الأحيان يتم اللجوء إلى هذا النّوع من العمليات الخاصّة لاعتبارات نفسيّة معنويّة أساساً وليس لاعتبارات عملياتيّة بحتة.

ضمن هذا السّياق العامّ يندرج قيامُ العدوّ الصّهيوني ببناء وحدات انغماسيّة للعمليات الخاصّة، والتي أطلق على بعضها اسم “المستعربين”. وقد عملت ماكينته الإعلامية على بناء صورةٍ خارقةٍ وفريدةٍ لهذه الوحدات وكأنها “علامة مسجلة” حصريّة للأجهزة الأمنية الصّهيونية، وذلك ضمن الحرب النّفسيّة على المجتمع الفلسطينيّ والعربي. وهنا يمكن فهم مغزى الكشف المدروس عن عمل هذه الوحدات عبر التّقارير الاعلامية الصّهيونية (والعربيّة)، وضمن مسعى رفع معنويات المجتمع الصّهيوني، فكلُّ عملٍ عسكريٍّ صهيونيٍّ تدخلُ في اعتبارات إخراجه اعلامياً صورتُه في المجتمع الفلسطينيّ والمجتمع الصّهيوني في الوقت ذاته. وقد تجاوزت عملية الاخراج الاعلاميّ لوحدات “المستعربين ” لتصل الثقافة الشعبية الصّهيونية عبر انتاج مسلسل “فوضى” الذي يحكي قصة عمل وحدات “المستعربين” في الضّفة، مازجاّ ما بين الإثارة والدراما، وقد لاقى المسلسل نجاحاً باهراً على الصعيد الصّهيوني.

المستعرب أداة لكي الوعي الفلسطينيّ (والعربيّ):

كثرت المقالات والنقاشات والوثائقيات التي تناولت وحدات المستعربين، وأصبحت السّرديات التاريخية حول أصول هذه الوحدات (القسم العربيّ في عصابات البلماخ الصّهيونية) وطرق عملها محل نقاش اجتماعي وإعلامي، وهذا النقاش والتعريف -على أهميته- بقي قاصراً عن مواجهة الحرب النّفسيّة الصّهيونية على المجتمع الفلسطينيّ من خلال عمل هذه الوحدات.

مع التنبيه إلى تحوّل بعض وسائل الاعلام المحليّة إلى امتداد للاعلام الصّهيوني، وإن كان بشكل غير مقصود. يمكننا القول بأنّ نموذج المستعرب هو أداة لكيّ الوعي الفلسطينيّ، ضمن “صندوق من الأدوات” في معركة العدوّ ضدّ المجتمع الفلسطينيّ، ومن المعروف أنّ كل تقنيات “علم مكافحة التمرد” تستهدف  أساساً مجتمع المقاومة بهدف خلخلة بناه النّفسيّة والاجتماعية، وخاصّة فيما يتعلق بثقة هذا المجتمع بنفسه وبالمقاومة، فضعف الثّقة في العمل النضالي تؤدي إلى عمليات “تدمير الذات” والارتياب الزائد وصولا إلى الشلل، وتأخذ عملية هزّ الثّقة عدة أشكل منها الترويج للشائعات وزرع فكرة القدرة الخارقة والسّريعة للأجهزة الأمنية بالوصول إلى منفذي العمليات ونشر الاعترافات التفصيلية للمقاومين، وخلق نموذجي “الفلسطيني الجيد” “والفلسطيني الشرير” كآلية لعزل المقاومين عن مجتمعهم.

إنّ كلّ جهد إعلامي وطني مهموم بحماية المجتمع الفلسطينيّ من الحرب النّفسيّة الصّهيونية- فيما يتعلق بالمستعربين في هذه الحالة- يتطلب أولاً تحديد مكونات الصّورة الاعلامية للمُستعربين، وذلك كمقدمة لبناء رسالة مضادة دفاعيّة كحدّ أدنى.

ويمكننا هنا الحديث عن المكونات التّالية لهذه الصورة: تغييب السّياق العامّ والتأكيد على الاستثنائية الصّهيونيّة عبر التّركيز على القدرات الخارقة للصهيونيّ عقلياً ونفسيا منذ بداية النشاط المسلح الصّهيوني في فلسطين في فترة الانتداب “البريطاني”، التركيز على النجاحات الباهرة لهذه الوحدات وتغييب الحديث عن فشلها، والاهتمام بالعوامل الذاتيّة واهمال العوامل الموضوعية المساندة من مثل القدرات التكنولوجية في التّصوير والتنصت وجمع المعلومات، أجهزة الرؤية الليلية، التواطؤ المحليّ المساند، الأصول العربيّة للكثير من منتسبي هذه الوحدات، الاحتكاك اليومي مع الفلسطينيّين في أمكنة العمل وغيرها. وقد أشرنا في بداية هذه الورقة بأنّ كلّ جيوش العالم وأجهزته الأمنيّة وحركات المقاومة بل وشبكات الإجرام المنظم قد قامت وتقوم ببناء واستخدام وحدات شبيهة بالمستعربين ومنذ عشرات السّنين وبالتّالي لا يمثل العدوّ الصّهيوني حالةً استثنائية فهو يقوم بما هو متعارف عليه، مع بالاستفادة من الظروف الموضوعية المواتية المذكورة أعلاه.

نجاحات مضادة:

وبالرغم من النجاحات العملياتيّة لوحدات المستعربين في اغتيال واعتقال العديد من كوادر المقاومة، إلا أنّ هناك العديد من العمليات التي أُحبِطَتْ ولا يتم تداولُها ضمن عمليةٍ منظمةٍ لخلق النّموذج الخارق لهذه الوحدات. ولذا من الضّروري هنا أنْ نَسرُدَ بعض الحوادث التي أحبط فيها الفلسطينيّون والعرب المستعربين المندّسين في صفوفهم وقضوا عليهم. وتشير العديد من دراسات النّكبة إلى وجود عشرات الحالات من المستعربين الذين عملوا على التّجسس أو الاغتيال أو تنفيذ عمليات بين صفوف الفلسطينيّين وتمّ اكتشافهم وإعدامهم.

ومن أهم المستعربين الذين نجح الفلسطينيّون في كشفهم والقضاء عليهم مستعربٌ جاء إلى القدس إبان النّكبة وادعى أنّهُ مُرسلٌ من عمان لاستلام قيادة قطاع القدس، إلا أنه كُشِف في 48 ساعة فقط وتمّ اعدامه. وهناك المستعرب لطفي يعقوب مدير مطبعة الصراط المستقيم الذي قبض عليه وهو ينقل أخباراً إلى العدوّ وتم اعدامه كذلك. والمستعرب يوسف شابيلا (هيلبرن) الذي عمل سكرتيراً في مكتب الشّهيد حسن سلامة، والذي ثبت لاحقاً أنّه هو من نسف فندق الملك داوود في القدس وساهم في تفجير بيت الرجاء.  وكذلك المستعرب سليم الجاعون الذي ادعى أنه من مسلمي اليمن وحاول تفجير مقر قيادة الأخوان المسلمين في باب الساهرة ، وقد اعترف بأنه من يهود اليمن وأُعدِم. وعباس الباس الذي اندس في صفوف جيش الانقاذ.

وحديثا فقد قتل العديد من أفراد وحدات المستعربين بعد أن انكشف أمرهم أو وقعوا في كمائن محكمة للمقاومة منذ العام 1988(تاريخ اعادة تأسيس هذه الوحدات)، هذا بالإضافة إلى العديد من القتلى في صفوف وحدة ” ماجلان ” المختصة بالانغماس والمكوث لفترات طويلة في مجتمع العدو، حيث قتل أحد قادتها في منطقة طوباس في العام 2002 عندما انكشف أمرهم أثناء مبيتهم في إحدى الكهوف، وكذلك 3 من أفراد ذات الوحدة في الحرب الأخيرة على غزة العام الماضي.

المُستهوِد: النموذج المغيّب

إنّ كان العدوّ قد نجح في خلق نموذج المستعرب اعلامياً ومجتمعيا، فإننا قد فشلنا في خلق نموذجنا الإعلامي المضادّ وهو المستهوِد/المتعبرن. ولا نعني بخلق نموذجنا أن نقوم باستحداثِهِ من لا شيء، فلدينا تاريخٌ حافلٌ وطويلٌ لقيام المقاومين الفلسطينيّين والعرب بتقمص شخصية العدوّ من ناحية اللباس والملامح واللغة (صهيونيّ متدين، جندي) مما وفر الغطاء المناسب لضرب الجبهة الداخليّة للعدوّ.

بشكلٍ عامٍّ فإنّ معظم عمليات المقاومة في فلسطين اعتمدتْ أساساً على القدرة على التّمويه والانغماس وتقمص لشخصيات صهيونيّة لتجاوز الحواجز وأنظمة المراقبة للوصول إلى العمق الصّهيونيّ. والأهم من ذلك عدم إثارة انتباه الجمهور الصّهيوني المدرّب جيداً على اليقظة الأمنية والتّنبه للأشخاص والتّحركات المشبوهة، سواء تحصّل على هذا التّدريب ضمن الخدمة العسكريّة الإلزاميّة أم من خلال الرسائل التّحذيريّة في الاعلام الصّهيونيّ، أم من خلال المُلصقات ونشرات الأمن التي توزع في المؤسسات المختلفة.

وقد اختلفت نماذج الاختراق الفلسطينيّ المُتعبرن/المُستهوِد وفقاً للمهمة الواجب القيام بها، فتراوحت بين اختراق مجتمع العدوّ لفترات زمنية طويلة أو اختراق صفوف جيشه أو أجهزته الأمنيّة أو التّنكر بأزياء وملامح صهيونيّة لتنفيذ عمليات.

وتعتبر حادثة اختراق الصّحفيّ نجيب نصّار لمكتب الوكالة اليهودية إحدى أهم عمليات اختراق العدوّ، فقد تعرّف شيخ الصّحافة الفلسطينيّة نجيب نصار على المخطط الصّهيوني في فلسطين عبر اختلاطه بالمهاجرين اليهود أثناء عمله كصيدلاني في طبريا. ولم يلبث أن عمِل في مكتب الوكالة اليهودية ليقوم لاحقاً في العام 1908 بتأسيس جريدة الكرمل ونشر على صفحاتها الوثائق التي استطاع تهريبها وفضح عشرات عمليات البيع وقد ظلت صحيفته تقوم بهذا الدور طوال 35 عاماً.  وانطوان جميل داوود الفلسطينيّ الكولومبي والمناضل الأممي الذي فجّر الوكالة اليهودية في حرب 1948 والذي حارب في عدة ثورات وحروب ضدّ الاستعمار حيث دخل في العام 1935 إلى فلسطين مع المهاجرين الصّهاينة القادمين من مرسيليا بعد أن كان أنخرط بينهم لفترة. وقد عاش لفترة من الزمن في تل أبيب على أنه يهودي من أمريكا الجنوبيّة. ومن ثمّ انخرط في صفوف الشّرطة البريطانية في فلسطين أثناء ثورة 1936 ليقوم بدعم وتسريب معلومات والتّلاعب بالأدلة والمضبوطات في المحاكم لصالح الثّوار، وأثناء عمله في السّفارة الأميركية بعد الثّورة قام بتسريب معلومات للشهيد عبد القادر الحسيني.

ويُذكر هنا المناضل فوزي أحمد النّمر قائد المجموعة 778 التي قامت بعدة عمليات كبيرة داخل الأراضي المحتلة بين عامي 1968 و1969. وكان فوزي متزوجاً من يهودية وله أبناءٌ منها، وبعد تشكيل الخلية اخترق جهاز الشّاباك واستطاع تضليله على مدى عامين كاملين. ومن ثمّ اعتقل في العام 1969 وحكم بالسّجن 40 مؤبداً، ومن ثمّ تحرر في صفقة التّبادل عام 1983.

بالإضافة إلى ذلك هناك تجربة  المناضل محمد حسين غريفات من نفس الخلية الذي اخترق جيش العدوّ وقام بتهريب الأسلحة والمعلومات من داخل المعسكرات الصّهيونية، وقام بتهريب كامل مخططات الاستحكامات الصّهيونيّة على نهر الأردن، وحكم بالسجن 18 مؤبداً ومن ثم تحرر في صفقة عام 1983.

وقد تلاحقت عمليات اختراق أجهزة أمن العدوّ خلال فترة السّبعينات (حرب الأشباح) والتي كان يغلب عليها طابع العمل الاستخباري والاختراق عبر جاسوسٍ مزدوج، أو عبر التّنكر وعمليات التجميل والانخراط في صفوف العدوّ كما حدث في عدة عمليات لخطف الطائرات.

مع بروز العمليات الاستشهادية كأداة رئيسية في العمل العسكريّ، اختلفت طبيعة عمل المتعبرن/ المستهوِد. وقد أصبحت وظيفتُه تقتصر على التّمويه حتى تنفيذ العملية عبر التّنكر بأزياء صهيونيّة (جيش، مستوطنون، إسعاف، أزياء دينية، أزياء نسائية)، وأيضاً استخدام التّمويه والتّنكر في عمليات الرصد وتوصيل الاستشهاديين.

وتقريبا نستطيع القول أن أغلب العمليات التي حدثت في داخل عمق الكيان الصّهيوني في الأراضي المحتلة عام 1948 لجأ الاستشهاديون فيها إلى التّنكر، ولا تكاد تكون هناك أي عملية في العمق الصّهيونيّ إلا وقد تنكر فيها الاستشهادي واستطاع الانغماس في المجتمع الصّهيونيّ (ويصعب حصر وذكر جميع هذه العمليات لكثرتها).

وأما عن علميات الاستهواد/التعبرن التي كانت تهدف إلى الرصد وتوصيل الاستشهاديين والتي اضطر فيها الراصد والناقل إلى التّنكر فقد لعبت المناضلات دوراً كبيراً فيها. ومنهن الأسيرة المحررة أحلام التّميمي التّي كانت وظيفتها تحديد أماكن تنفيذ العمليات التي يخطط لها المهندس عبدالله البرغوثي، ومن ثمّ توصيل الاستشهادي وتوصيل العبوات الناسفة. ومن أشهر العمليات التي شاركت فيها التميمي عمليةُ الاستشهادي عزّ الدّين المصريّ الذي تنكر بزي شاب موسيقي، وزرع العبوة النّاسفة داخل جيتار. وتذكر هنا المحررة قاهرة السّعدي التي قامت بإيصال استشهادي عبر التّنكر ونقل أسلحة ومتفجرات. وكذلك الأسيرة المحررة اوكرانية الأصل ايرينا السّراحنة التي قامت بتوصيل استشهاديين إلى عمق دولة الاحتلال عبر التّخفي خلف جنسيتها الإسرائيلية وديانتها اليهودية.

ولم يغب التّنكر والانغماس في داخل المجتمع الصّهيوني عن العمل المقاوم الراهن، فقد قام منفذ عملية الطعن في 25 تشرين الأول 2015 بالقرب من مستوطنة غوش عتصيون بالتّنكر بزي صهيونيّ.

الخلاصة:

إن الأثر الذي يتركه أي فعلٍ مقاومٍ معقدٌ وذو أبعاد متعددة. يُشكّل الفعل المقاوم بالدرجة الأولى تحدّياً للبنية الأمنيّة الصّهيونيّة وتحايلاً واضحاً عليها. فالأمن متداخل مع العقيدة الصّهيونيّة ويشكل جوهرها وقابلية نجاحها واستمراريتها. وقد بُنيت الحركة الصّهيونيّة على أسس استعمارية إحلالية تتطلب درجةً عاليةً من “المرونة” الواقعية المرتكزة على القوة العسكريّة والاستخباراتية لتحقيق الردع والنّصر في محيطٍ يعادي وجودها. فليس من الغريب أن يؤكد نتيناهو هذا الأسبوع على ضرورة العيش بالسيف في ذكرى مقتل رابين إذ قال: “أنتم تعتقدون بوجود عصا سحرية وهو الأمر الذي لا أؤمن به، وتسألونني إذا ما كنا سنعيش على حدّ السّيف إلى الأبد وأنا أقول لكم نعم”.

ترتكز العقيدة الصّهيونية الأمنية على خاصّيتين أساسيتيين، من جهة تعتمد على “أمننة” جميع القضايا ومنها الديموغرافي، والطوبوغرافي، والجغرافي والاجتماعي والسّياسي، والاعلامي والطّبيّ والاقتصادي إلى الأكاديمي ويصل حد إدارة عملية الموت.

ومن جهة اخرى، فهي تعتمد على حل العقد النابعة من التحديات المختلفة من خلال “التقننة”. أي أن المجتمع الصّهيوني يعتمد في منظوره على بعدين أساسيين مترابطين “الأمننة” والتقننة” وكلاهما يتجلى في الشّخصية العسكريّة لدى العدوّ من الاعتماد الفارط والمبالغ على القوة الجوّية إلى خلق أدوات حماية وردع ك”القبة الحديدية”. بل يتعدى الشّخصية العسكريّة ويتداخل في الاجهزة “المدنية” (بلدية القدس، الكنيست وغيرها) والتي تشكل في علاقتها مع الفلسطينيّ اجهزة استعمارية يتم من خلالها فرض معادلات ضبط وتحكم على ما يسمى صهيونيّاً بـ”المجتمع المحليّ” أي الفلسطينيّ.

ومن هنا فإن أي فعل مقاوم هو ضربة للبنية العقائدية للمجتمع الصّهيوني وجوهره، لا يمس فقط المستهدَف المباشر، بل يمس بعداً هاماً في العقيدة الصّهيونية وأساساتها وقابلية وجودها، وهي أن الكيان يشكل مكاناً آمناً “ليهود” العالم. والتّمويه واستخدام التّنكر وتقمص شخصية العدوّ بتعدديتها يجعل من “التشكك” داخل المجتمع الصّهيوني أمراً دائماً لا مناص منه. وهذا ما يعيد الفعل المقاوم والمباشر إلى حيز الفاعلية والأثر المباشر، في النهاية ومهما كان السلاح: مقاتلة نفاثة ب 30 مليون دولار أم حجراً مجانياً مُلقى على جانب الطريق، فإنّ الصّراعات تحسم في العقل والنّفس أساساً، وفيهما يُعلن الخضوع أو المقاومة، الاستمرار أو التراجع.

ختاماً نقول: للتمويه والتّخفي والخداع تاريخٌ طويلٌ في الفعل المقاوم المباشر وفي عمليات التّجسس والرصدّ وغيرها. ولكن هنالك قصور اعلامي وتعبوي فلسطيني في تحويل هذا التاريخ إلى نموذج- اجتهدنا في تسميته في هذه الورقة ” المُستهوِد/المُتعبرِن”، كنموذج مضاد للمستعرب بصوره المختلفة، وذلك ضمن رؤية أكثر شمولية لمواجهة عملية كيّ الوعي بصور وانجازات المستعربين “الباهرة” ضمن الحرب النفسية على المجتمع الفلسطيني والتي للأسف نمارسها نحن على أنفسنا في كثير من الأحيان بدون وعي.

في عملية اعتقال الجريح الشلالدة في مستشفى الخليل، من الواضح أنه كان يمكن الانتظار وتنفيذ عملية الاعتقال بطريقة أقلّ “دراماتيكية”، ولكنّ العدو اختار اقتحام المستشفى ليلا ب22 عنصراً من قوات المستعربين ومنتحلاً تشكيلة مُنوعة من الشّخصيات الفلسطينية، ودون أية محاولة لتعطيل كاميرات المراقبة، ما جرى كان أقرب إلى عملية إخراج سينمائي من كونه عملية عسكريّة سريّة، في هذه العملية كان مقصوداً بأن تكون السّريّة مُعلنة جيداً، ومرئية بوضوح للفلسطيني والصهيوني، للأول حرباً على معنوياته، وللثاني رفعاً لمعنوياته وترويجاً لهذه الوحدات لاستقطاب المُجندين الجدد.

(ودائما يجب التنبيه والتحذير من خطورة التقليل من شأن العدو وقدراته وانجازاته، ومن تضخيم قدراتنا وانجازاتنا، وإنما يجب العمل على بناء رؤية متوازنة تستند إلى الحقائق أساسا) .

يمكن حفظ الورقة كملف هنا.