لم تقتصر الرعاية الإنجليزية للمشروع الصهيونيّ على الجهود الرسميّة فحسب، وإنّما تعدّتها لتشمل مساهمةً لمجموعةٍ من الصهاينة المسيحيّين الذين حاربوا من منطلقٍ عقائديّ. مقالٌ لأحمد مصطفى جابر، عن ثلاث شخصياتٍ محوريّةٍ ساهمت في دعم المشروع الصهيوني.

*الصورة الرئيسية: متحف الكتائب العبريّة المشاركة في الحرب العالمية الأولى، “موشاف أفيحيال” شمالي قرية أمّ خالد المُهجّرة. (كانون الثاني، 2019).

لم يقتصر المسعى الصهيوني، وما كان له أن يتحقّق، بالاعتماد على جهود اليهود فقط، بل كان للدول والعناصر الاستعمارية الناشطة، من متصهينين غير يهودٍ، أو إمبرياليين يريدون إيجاد حلٍّ يهوديٍّ بعيداً عن أوروبا، دورٌ حاسمٌ في تمكُّن الحركة الصهيونية من تحقيق غاياتها في فلسطين، كما في بناء المقدمات الضرورية للاستيلاء على فلسطين. وتحضر، هنا، الجهود الصهيونيّة لتجنيد أوروبا ودولٍ أخرى في العالم لتمرير وعد بلفور، وتجميع مجمل الوعود التي حصلوا عليها في نصٍّ قانونيٍّ في مؤتمر السلام بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وهو أمرٌ كان من الخطورة أنْ منَحَ الحركة الصهيونية مظلةَ تأييدٍ كبيرةً من الدول المتحالفة والمنتصرة، أو التي انضمت إلى ركب المنتصرين، على حساب الشعب الفلسطيني والآمال العربية. بطبيعة الحال، كان المجال العسكريّّ جزءاً من الجهد الصهيونيّّ، وهدفاً رئيساً للحركة الصهيونية لبناء قوّةٍ يهوديّةٍ تسهّل لها الاستيلاء على فلسطين، وتملأ الفراغ الذي سيخلّفه الاحتلال البريطاني.

بعد احتلال فلسطين من قبل بريطانيا عام 1917، وصل إليها آلافُ الجنود البريطانيين ممّن مكّنوا الصهيونيّة وأمّنوا الدعم لها للسيطرة على فلسطين. ومن بين هؤلاء، كان هناك ثلاثةُ ضباطٍ مشهورين؛ أحدُهم “تشارلز أورد ويجنيت”، الذي وصفه الصهاينة بـ “الصديق” لمساهمته بشكلٍ حاسمٍ في تطوير القوى العسكرية الصهيونيّة، وخصوصاً المستوطنات الدفاعيّة، والثاني قائدُ الفيلق اليهوديّ “جون هنري باترسون”، الأب الروحي للجيش اليهوديّ، والثالث ضابطُ المخابرات “ريتشارد ماينر تزهاجن” المتعاطف “بإخلاصٍ” مع المشروع الصهيوني. في هذا النصّ تعريفٌ بهؤلاء الثلاثة، وأدوارهم في سياق تحقيق ودعم المسعى الصهيوني في فلسطين، اعتماداً على عشرات التقارير الصحفيّة والأرشيفيّة حول الشخصيات الثلاث، وتمّ تثبيت بعضها في السياق.

ربما ليست مصادفةً أن اثنين من هؤلاء (باترسون و ماينرتزهاجن) كانا على علاقةٍ وثيقةٍ بعائلة “نتنياهو” وبـ”بن تسيون نتنياهو”، والد رئيس حكومة العدوّ الحالي، لدرجة أنه تمّ اختيار كليهما ليكونا عرَّابَيْ شقيق نتنياهو الأكبر “جوناثان”، قتيل عملية عنتيبي، والذي كان قد سُمّي تيمُّناً بأحدهما “جون باترسون”.

لقراءة وتحميل هذا المقال بصيغة (PDF) من هنا

“أورد تشارلز وينغيت” : وطنٌ قوميٌّ لليهود

يُوصف “وينغيت“، في الأدبيات العسكريّة الصهيونيّة، بأنه ضابطٌ عبقريٌّ، ورغم ذلك كان سلوكه مدعاةً للاستغراب، إذ كان يحبّ التجوّل عارياً، ولديه ميلٌ دائمٌ لعصيان الأوامر والحطّ من شأن قادته، لكنّّ غريب الأطوار هذا كان تقريباً أول رئيسٍ غير رسميٍّ لهيئة الأركان الصهيونية.

وُلد “وينغيت” في “نايني تال” في الهند يوم 26 شباط عام 1903، لوالدين كانا عضوين في جماعةٍ تبشيريّةٍ هامشيّةٍ تُدعى “أخويّة بلايموث”، أسّسها “ج.ن. ديربي” في ثلاثينيّات القرن التاسع عشر، كما كان والده ضابطاً. تبنّت هذه الطائفة ما يسّمى بـ”اللاهوت التعويضيّ” الذي كان يدعو إلى “عودة الشعب اليهودّي إلى أرضه،” وهو أحدُ جذور المسيحيّة الصهيونيّة، ليرِثَ “وينغيت” هذه المعتقدات عن والديه، وليصبحَ صهيونيّاً متطرّفاً فيما بعد. 

في عام 1921، التحق “أورد وينغيت” بالأكاديميّة العسكريّة الملكيّة، وتخرّج عام 1923 كضابط مدفعيّةٍ، إضافةً إلى دراسته اللغة العربيّة والسياسة. وفي عام 1928، توجّه إلى السودان في مهمّةٍ ضمن دوريات الجنود، ابتدع خلالها نظام دوريات الكمائن بدلاً من دوريات الحدود العادية. حصل “وينغيت على هذه الوظيفة بوساطةٍ من ابن عمه “فرانسيس ريجينالد وينغيت” –مُشغّل “لورنس العرب” الذي كان يمدّه بالمال لرشوة شيوخ القبائل- والذي كان سابقاً حاكماً عاماً للسودان، قبل أن يشغل منصب المفوّض السامي في مصر والسودان. 

وصل “أورد وينغيت” إلى فلسطين عام 1936، كقائدٍ للاستخبارات العسكرية لمكافحة الثورة الفلسطينية، وبنى علاقاتِ صداقةٍ مع القادة الصهاينة، وأبلغهم أنه يريد مساعدتهم، مثل “وايزمان” و” شاريت”، ليسودَ اعتقادٌ أنّه جاء كهديةٍ من السماء، نظراً للكراهية التي كان يكنّها ضبّاط الاستخبارات البريطانية لليهود حينها.

(أورد وينغيت أثناء تواجده في فلسطين، أرشيف البالماخ، الكتيبة الثالثة )
(أورد وينغيت أثناء تواجده في فلسطين، أرشيف البالماخ، الكتيبة الثالثة )

وفي عام 1937، وبعد أربعة أشهرٍ من وصوله فلسطين، اقترح على ابن عمه “فرانسيس ريجينالد” اتحادَ الإمبراطورية البريطانيةّ مع اليهود، إذ زعَمَ أنّهم سيكونون جنودًاً أفضلَ من البريطانيين على الرغم من عدم امتلاكهم جيشاً في ذلك الوقت، وأنّه بإمكانهم توفير مفتاحِ الحفاظ على الإمبراطورية. وحينها، توقّع “وينغيت” حرباً عامةً كبيرةً، وهو ما حدث فعلاً، إذ قال إنّ فشل عصبة الأمم في وقف الضمّ الإيطالي لإثيوبيا في عام 1936 جعل ​​الحرب حتميًّةً، مؤكّداً أيضاً أنّه بمقدور فلسطين الانتدابيّة استيعاب مليون يهوديٍّ في سبع سنواتٍ.

ويعود تحيّزه هذا إلى كونه مسيحيّاً متشدّداً اعتبر أنّ واجبه الدينيّ والأخلاقيّ يُحتّم عليه مساعدةَ اليهود على إقامة “وطنٍ قوميٍّ” في فلسطين، ليخطو هذه الطريق بصهيونيّةٍ مخلصةٍ، عبّر عنها بعد تعيينه في فلسطين بمساعدة عصابة “الهاجناه” من خلال إنشاء وتدريب وحداتٍ قتاليّةٍ، وأصبح يُعرف بين اليهود باسم “الصديق”.

إلى حدٍّ كبيرٍ، قدّم “وينغيت” لقادة الحركة الصهيونية درساً في الصهيونيّة والواقعيّة السياسيّة، حسب “موشيه بيغار” أحد كتّاب سيرته، إذ كان الرجل يرى أنّ البريطانيين يعانون من عجز فهم الساعة التاريخيّة التي تتطلّب منهم التحالف مع اليهود، معبّراً عن نفسه بالقول: “أنا صهيونيٌّ من كلّ قلبي”.

وهكذا، سرعان ما أصبح “وينغيت” صديقاً مقرّباً لـ”حاييم وايزمان” و”موشيه شرتوك” (شاريت)، ورؤساء “الهاجناه”، وكثيرين آخرين في قيادة “اليشوف”. وكان شديدَ الصراحة في الإعلان عن آرائه، ففي رسالةٍ بعث بها إلى ابن عمه “فرانسيس ريجينالد” الذي كان مندوباً سامياً في مصر، أعرب فيها عن طموحه لبناء دولةٍ يهوديّةٍ على جانبي نهر الأردن، “من خلال إزالة “عبد الله الفاسد” وتقليل القدرات العسكرية للدول العربية”، مُلقياً اللومَ على البريطانيين في تعاطفهم مع العرب ومعاداتهم لليهود.

وفي أحد خطاباته إلى جنوده، قال: “سوف يساعدنا الله على قتل جميع أعداء اليهود، لأنّ أعداء اليهود هم أعداء الإنسانية جمعاء”. وحول قدسيّة القدس للعرب، قال: “يستندُ الادعاء الإسلامي حول قبّة الصخرة برُمَّته إلى قصةٍ يمكن تصوّرها مثل ألف ليلةٍ وليلة”. ويشهد العديد من اليهود بأنّ “وينغيت” وصل بالصهيونية إلى درجةٍ لم تجرؤ قيادتهم الصهيونيّة عليها. 

أنشأ “وينغيت” نظام الوحدات القتالية الصغيرة والمتنقّلة لمكافحة الثورة الفلسطينيّة، وكتب في تقريرٍ قدّمه في 5 حزيران 1938 تحت عنوان “التقدير السرّيّ لإمكانيّات الحركات الليليّة من قبل القوات المسلحة للتاج – بهدف وضع نهايةٍ للإرهاب في شمال فلسطين”: “ثمّة طريقةٌ واحدةٌ للتعامل مع الوضع، بإقناع العصابات العربية بأنّ غاراتهم سترتدُّ عليهم، وأن هناك عصابةً حكوميّةً مصمّمةً على تدميرهم. سوف ننقل الهجوم إلى أرض العدو، ونسلب مبادرته ونُبقيه غيرَ متوازنٍ”. وأضاف: “سنزرعُ في أذهانهم أنّ القوات الحكومية ستفاجئهُم في أيّ وقتٍ في قراهم، وعبر البلاد، وستكون القوّةُ مختلطةً بريطانيّةً ويهوديّةً، تتمّتع بمزايا الصدمة والمفاجأة”.

في توجّهٍ لدعم الصهيونية، قرّر “وينغيت” في هذه الخطة الاعتمادَ على “المجتمعات اليهوديّة” بدلاً من القوات الحكومية، إذ كانت لديه اتصالاتٌ مع عصابة “الهاجاناه” كما ذكرنا آنفاً، التي تعرف الأرض استخباريّاً، ولدى البريطانيين بالمقابل التدريبُ الرسميٌّ، فجمع “وينغيت” بين الأمرين، تحت قيادة “يتسحاق ساديه”، الذي قاد وحدات “البلماخ” عند تأسيسها، والذي قال عن وينغيت: “كنا ننظر إليه كزعيمنا”، ويمكن العثور على اسمه في سجلِّ الشخصيّات المركزيّة في “الهاجناه” على موقعها.

في البداية، تمّ تجاهل خطة “وينغيت”، ولم يرغب البريطانيون في التعاون مع اليهود، إضافةً إلى القلق من الأساليب غير التقليدية التي كان يقترحها، لكن في النهاية تمّت الموافقة عليه من قبل “أرشيبالد ويفل”، قائد القوات البريطانيّة في فلسطين. وفي حزيران 1938، منح القائد البريطانيّ الجديد الجنرال “هاينينغ” تصريحاً لـ”وينغيت” لإنشاء وحداته الجديدة، وهي فرقٌ ليليّةٌ خاصةٌ تحت اسم (SNS)، ما ساعد “وينغيت” على الفوز بثقة الوكالة اليهودية و”الهاجناه”، بعد أن كانوا متشكّكين من أن أيَّ ضابطٍ بريطانيٍّ سيساعدهم.

أقام وينغيت قاعدته الرئيسية في “عين حرود”، حيث تزعَم الأساطير اليهودية أن القاضي “جدعون” خاض معركته هناك مع 300 من رجاله فقط. كما أقام قواعدَ إضافيةً في أماكنَ متعدّدةٍ، وأيضاً على الحدود اللبنانية لمنع “المتسلّلين” العرب والقضاء عليهم. وكانت وحدات (SNS) مدعومةً من الوكالة اليهودية التي تدفع رواتبها جزئياً، وتذكر المصادر أنّ مهمة (SNS) كانت في المقام الأول حمايةَ خطِّ أنابيب النفط العراقيّ إلى حيفا “التابلاين”، من خلال نصب كمائن للثوار العرب، وكذلك مداهمة القرى العربية وشنّ حرب عصابات عليها.

وقد كتب الباحث الإسرائيلي “توم سيغف” أنّ طرق “وينغيت” كانت وحشيةً متطرّفةً، تنتهك بشكلٍ كبيرٍ الحقوق العامة للفلسطينيين، فيما تشير المؤلفات الصهيونية إلى أنّ طرق “وينغيت” وعصابته مثل “شيرتوك” لم تكن أكثرَ وحشيةً من طرق الجيش البريطاني نفسه. ويصفه “سيغف” بأنه “مجنونٌ وساديٌّ”، ويضيف الصحافي الإسرائيلي “جدعون ليفي”، في ثناءٍ على “سيغف”، بأنّ “وينغيت كان أحمقَ ذا ميولٍ سياسيّةٍ”.

اتّبع “وينغيت” في قيادة “جيشه الخاص” نهجَ الوحشية المطلقة في ملاحقة الفلسطينين، وقمعهم وتدمير قراهم أثناء الثورة الفلسطينيّة الكبرى عام 1936، وشاع عنه استخدامُ الفلّاحين الفلسطينيين كدروعٍ بشريّةٍ، كما نفّذ نهج إعدام شخصٍ من أصل عشرةٍ ضمن سياسة العقاب الجماعي، مُجبراً أيضاً المعتقلين الفلّاحين على تلويث وجوههم بالوحل والزيت، ومُطلقاً النارَ عليهم إنْ حاولوا الفرار. ويقول “يسرائيل كرمي” الذي رافقه في إحدى المعارك: “لقد قتل كلَّ عربيٍّ في الميدان”.

لم تكن الانتقادات لأساليب “وينغيت” مجّردَ أقاويل، ففي تشرين الأول من عام 1938 عاد في زيارةٍ إلى لندن، حيث اجتمع مع وزير المستعمرات “مالكولم ماكدونالد” لمناقشة نتائج لجنة “وودهيد” التي تخلّت عن مقترحاتٍ سابقةٍ لتقسيم فلسطين إلى دولتين يهوديٍّة وعربيّةٍ. وعندما وصلت أخبار الاجتماع إلى قادته في فلسطين، غضبوا بسبب تجاوزه لهم وعزلوه عن منصبه. وفي أيار 1939، رُحِّل إلى بريطانيا، وخُتِم جواز سفره مع منعٍ من العودة إلى فلسطين، إذ اتُهم “وينغيت” بأنّه يهوديٌّ، وأصبح هدفاً لما زُعم أنّه هجومٌ مُعادٍ للسامية، واضُطرّ لإصدار تصريحٍ رسميٍّ قال فيه: “لا أنا ولا زوجتي ولا أيٌّ من أفراد عائلاتنا لديه قطرةُ دمٍ يهوديٍّ في عروقنا”، مضيفاً: “لا أخجل أن أقول إنني معجبٌ حقيقيٌّ ومتحمسٌ لليهود …. لو كان المزيد من الضباط يشاركونني في وجهات النظر، لوصل التمرّد إلى نتيجةٍ سريعةٍ قبل عدّة سنواتٍ”.

ورغم منعه من دخول فلسطين وقِصَر الفترة التي قضاها فيها، إلا أنّ أساليبه وأفكاره أضحت جزءاً من العقيدة العسكرية في “الهاجناه”، والجيش الصهيوني لاحقاً. كما يُعتبر أوّل من غرس تقاليد حرب “الكوماندوز” والقتال الليليّ والعمليات السريّة في “الهاجناه”، وكذلك التقليد الذي يقوده الضباط من الجبهة.

بعد فلسطين، خدم “وينغيت” في أماكنَ عديدةٍ ونقل إليها خبراته العسكرية، متنقّلاً ما بين السودان والحبشة، ثمّ حطّت قدماه أخيراً في بورما، حيثما لقي مصرعه في تحطّم طائرةٍ، إذ قاد عمليّة اختراقٍ لخطوط اليابانيين في بورما، لبناء قواعد وراء خطوط العدو، بواسطة الطائرات الشراعية، وعندما أقلعت طائرته من قاعدة “بونداي” يوم 24 آذار 1944، سرعان ما تحطّمت في العاصفة، وقُتل مع عددٍ من الأمريكيين والإنجليز.

دُفن “وينغيت” ومَن لقيَ حتفه في حادث تحطّم الطائرة في بورما في البداية، و في وقتٍ لاحقٍ نُقلوا إلى مقبرة “أرلينغتون” الوطنية في “فرجينيا” في الولايات المتحدة حيث أُقيم لـه نصبٌ تذكاريٌّ،كما أقُيم تكريماً له معهدٌ رياضيٌّ في مستوطنة “نتانيا”، يُدعى “معهد وينغيت”.

حصل “وينغيت” على وسام الخدمة المتميّزة ثلاثَ مرات:ٍ من أجل الشجاعة في المعركة في فلسطين، ومن أجل عمليات قوّة “جدعون” في إثيوبيا، ومن أجل حملة قوّة “تشنديت” الأولى في بورما، خلال الحرب العالمية الثانية. قال ونستون تشرشل عنه: “لقد كان رجلاً عبقرياً”، وقال فيه “ديفيد بن غوريون”: “وينغيت كان سيكون أول رئيس أركانٍ عسكريٍّ إسرائيليٍّ، لو بقي حيّاً”. أمّا “موشيه ديان” وغيره من الصهاينة الذين خدموا في “قوات الليل الخاصة”، فرأوا فيه قائداً “علّمنا كلَّ ما نعرفه”، تبعاً لـ”دايان”، فيما قال “يغال يادين” عنه: “إنّ إسهامه الأساسي- وكان عملاً عظيماً- هو أنْ تعلّمنا أنّ الحرب عِلمٌ وفنٌّ في نفس الوقت. لقد كان النموذج المثاليَّ للرجل العسكري،كونه المزيجَ الممتازَ للعالِم والفنان”.

في نهاية الحديث عن “وينغيت”، لا بدَّ من ذكر أنّه كان هناك مشروعٌ صهيونيٌّ-بريطانيٌّ، مؤخراً، لتخليده عبر فيلمٍ سينمائيٍّ يؤرّخ لحياته، لكن الفيلم لم يجد أيّ جهةٍ مستعدةٍ لتمويله، على حدّ علم الكاتب. والمهم في مقترح هذا الفيلم الرؤيةُ المطروحةُ حول مقتل” وينغيت” في حادث الطائرة الغامض، حيث زَعَمت “كارول جولد”، التي تقف وراء المشروع، أنّ مقتله كان مدبّرا ًمن جانب جماعةٍ أو مؤسسةٍ بريطانيّةٍ مناوئةٍ لليهود، وأنّ التزام “وينغيت” تجاه هؤلاء كان متعارضاً مع سياسات الحكومة البريطانية، زاعمةً أيضاً أنّ هناك أشخاصاً أرادوا إبعاده عن الطريق، على الرغم من عدم وجود دليلٍ يثبت أن طائرته سقطت نتيجةَ عملٍ تخريبيٍّ.

للمزيد، استمع/ي لمحاضرة: ليل الجليل الطويل: “أورد وينغيت” والأصول الإمبريالية البريطانية للقوات الخاصة الصهيونية

“جون هنري باترسون”: الأب الروحيّ للجيش اليهوديّ

يُعرف هذا الضابط بأنّه “الأب الروحيّ المسيحيّ للجيش الإسرائيليّ”، وتشير أفضل المصادر إلى أنه إيرلنديٌّ، بينما تزعم أخرى أنّه اسكتلنديٌّ، ولد في العاشر من تشرين الثاني عام 1867، في مقاطعة “لونجفورد”، لأبٍ بروتستانتيٍّ وأمٍّ كاثوليكيّةٍ. اشتُهر بعد أن نشر كتابه “أكَلَةُ البشر في تسافو” (The Man-Eaters of Tsavo) عام 1907، ويحكي قصة بناء جسرٍ للسكك الحديدية في كينيا، الذي كُلّف” باترسون” بالإشراف على بنائه عام 1898، وتمّت عنونته لذكرى الرجال الذين افترسهما أسدان قتلهما “باترسون” فيما بعد. كما شارك الأخير في حرب البوير الثانية (1889-1902) بين بريطانيا والأوروبيين المستوطنين في جنوب أفريقيا الذين سعوا للاستقلال عن بريطانيا. 

كان هذا جزءاً من نشاطه العسكري الكبير في أفريقيا عموماً، قبل أن يصبح صديقاً للرئيس الأمريكي “ثيودور روزفلت”، ويشاركه الكثير من رحلات الصيد. في نهاية المطاف، وصل الرجل إلى مصر بحلول العام 1919، وكان حينها قد بلغ 47 من عمره، إذ كتب أنّه رغم تقدمه بالسن كمحاربٍ، إلّا أنّه واجه حينها أهمَّ فصلٍ من فصول حياته؛ في إحالةٍ مباشرةٍ إلى مساهمته في دعم الصهيونيّة. 

(صورة لجون هنري باترسون خلال الحرب العالمية الأولى، متحف الحرب الإمبراطوري، لندن)
(صورة لجون هنري باترسون خلال الحرب العالمية الأولى، متحف الحرب الإمبراطوري، لندن)

سنركّز، هنا، على نشاطه الصهيونيّ بمناسبة إصدار مؤسسة “جابوتنسكي” في الكيان الصهيوني كتاباً عنه، من تأليف “موشيه بيجار” بعنوان “جون هنري باترسون: الكتائب اليهودية والصهيونية”.

في العام 1914، ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، غادر “جوزيف ترومبلدور”، وهو ضابطٌ روسيٌّ يهوديٌّ صهيونيٌّ، فلسطينَ مع اليهود الذين فرّوا منها، باعتبارهم أعداءً للسلطة العثمانية بسبب تحالفهم مع أعدائها. وهناك في مخيم اللاجئين اليهود، التقى “جوزيف ترمبلدور” مع “زئيف جابوتنسكي”، الصحافيّ والمتحدث الصهيونيّ وزعيم الصهيونيّة التنقيحيّة فيما بعد، كما هو معروفٌ.

كان عشرة آلاف يهودي قد فرّوا من فلسطين إلى مصر، وهؤلاء في معظمهم كانوا مستوطنين روساً جاؤوا إلى فلسطين أصلاً مع مطلع الحرب، وتزامن إبعادهم مع وجود “جابوتنسكي” و”ترمبلدور”. في ذلك الوقت، كان اهتمام الصهيونيّة كبيراً بتأسيس قوّةٍ يهوديّةٍ مسلّحةٍ تساهم بالحرب إلى جانب الحلفاء، ما يتيح لليهود الجلوسَ معهم كندٍّ على طاولة تقسيم الغنائم بعد الحرب.

ومن هنا، جاءت فكرة “جابوتنسكي” لإنشاء قوّةٍ عسكريّةٍ يهوديّةٍ من شأنها تفعيلُ المطالب السياسية الصهيونية، وهي جهودٌ قام بها، إضافةً إلى “جابوتنسكي”، “حاييم وايزمان” و”ديفيد بن غوريون”، وإن كان لـ”جابوتنسكي” السبقُ المبكّرُ. ومن المعروف أنّ ثمّة شقاقاً حلّ في أوساط القيادة الصهيونية حول هوّية الطرف الذي ينبغي تأييده في الحرب، مقترحاً بعضهم إعلانَ التأييد اليهودي والحركة الصهيونية للأتراك وحلفائهم الألمان.

اقرأ/ي أيضاً: الرحلة الأمريكية: مهمّة إنشاء جيشٍ يهوديّ

وجد “جابوتنسكي” في “ترمبلدور” أذناً صاغيةً لأفكاره، وبعد مساعٍ عديدةٍ، وافق مقِرُّ الجيش البريطاني على إنشاء “كتيبة البغّالة” من المتطوعين اليهود، وهي كتيبةٌ لوجستيّةٌ تمثّلت مهمتها في نقلَ المعدّات والمواد الغذائية والذخيرة إلى جبهات القتال، وذلك على الرغم من رغبة “جابوتنسكي” في السماح لهذا الفيلق بالمشاركة الفعليّة في القتال، وليس مجرد المساهمة اللوجستيّّة.

لكن “ترمبلدور” أقنع “جابوتنسكي” أنّ أيَّ مساهمةٍ عسكريةٍ، مهما كان نوعها، تعتبر ضروريةً، وأنّ الأهمّ وجودُ كتيبةٍ يهوديةٍ في الجيش البريطاني، مُبلِغاً إيّاه أنّه “لإخراج الأتراك من فلسطين، علينا أن نحطّم الترك. من أيِّة جبهةٍ نبدأ؟ فتلك مسألةٌ تكتيكيةٌ، كلّ الجبهات ستقودنا إلى صهيون”. قَبِل “جابوتنسكي” بذلك على مضضٍ دون أن يشارك في الكتيبة فعليّاً، ليغادر ساعياً لتحقيق نظريته التي تمحورت حول ضرورة أنْ يقاتل اليهود في صفّ الحلفاء، لكن تحت رايتهم الخاصة، لكي يتمكنوا من إيجاد مكانٍ لهم على طاولة المفاوضات، علماً أنّ هذا التفكير بدأ منذ الحرب العالمية الأولى، بينما اعتبر قادةٌ صهاينةٌ آخرون غير ذلك.

بقي “ترمبلدور” قائداً للكتيبة التي جنّدت مئات اليهود تحت قيادةٍ عليا بريطانيّةٍ، وكان البريطانيون يبحثون عن ضابطٍ مناسبٍ لقيادة هذه الكتيبة، ليعثروا على ضالتهم في “جون باترسون”.

كان مئات الأفراد الذين انضموا للتطوّع في تلك الكتيبة مدفوعين بأسبابٍ أيديولوجيةٍ بالنسبة للبعض، ومعيشيةٍ تتعلق بإعالة أنفسهم وعائلاتهم للبعض الآخر. وبدون مقدمات، فشلتْ هذه الكتيبة فشلاً ذريعاً في أولى مهامها على جبهة “غاليبولي” وتشتّتْ.

كانت بداية العلاقة بين “ترمبلدور” و”باترسون” إشكاليّةً صداميّةً، إذ احتجّ الأخير على أسلوب الأول الأبويّ في القيادة وحماسته للأنشطة القتاليّة. بالمقابل، أبدى “ترمبلدور” تحفّظاتٍ علنيّةً على “باترسون”، وإنْ كان “جابوتنسكي” قد أشاد بآراء “باترسون” أثناء وجوده في لندن، بعد أن غيّر موقفه وأشاد بجهود الكتيبة رغم فشلها، وهو ما ساهم في تقدّم الاقتناع البريطاني بأهمية إنشاء قوّةٍ مقاتلةٍ يهوديّةٍ. حيث كتب “باترسون”، لاحقاً، في كتابه “مع الصهاينة في جاليبولي”: “كانت هناك وحدةٌ يهوديةٌ غيرُ معروفةٍ لحوليّات العالم لنحو ألفيْ عامٍ، منذ أيام “المكابيّين”، أبناءُ إسرائيل الأبطال الذين قاتلوا ببسالةٍ، ولفترةٍ طويلةٍ بنجاحٍ، لانتزاع القدس من الجيوش الرومانية”، مضيفاً في كتابه: “كان غريباً أن يقعَ اختيارُ الجنرال “ماكسويل” عليَّ [لقيادة وحدةٍ يهوديةٍ]، لأنه لم يكن يعرف شيئاً عن معرفتي بالتاريخ اليهوديّ، أو تعاطفي مع السباق اليهودي. عندما كنتًُ صبيّاً، التهمتُ بلهفةٍ سجّلات الأعمال المجيدة للقادة العسكرييّن اليهود، مثل جوشوا، يوآب، جدعون، يهوذا مكابي. حلمتُ، وأنا صغيرٌ، أن أكون يوماً، بشكلٍ ما، كابتن مجموعةٍ من أبناء إسرائيل”.

فيما بعد، تطورّت الصداقة بين “جابوتنسكي” و”باترسون”، وأصبح هذا الأخير صهيونياً محترماً في أوساط الحركة الصهيونية، ومؤيّداً “جابوتنسكي” وأفكارَه، وبفضله تأسست لاحقاً الكتيبةُ التاسعةُ والثلاثون المعروفةُ باسم “فوج بنادق الملك”، بمساهمةٍ أيضاً من “بنحاس روتنبرغ”.

وكانت هذه الجهود محلَّ اعتراض “وايزمان” و”بن غوريون”، اللذين كانا حينها يصرّان على أن يقتصر النشاط الصهيوني على السياسة ودعم الاستيطان في فلسطين، ولكنّ دخول الولايات المتحدة الحربَ عام 1917 دفع بجهود “جابوتنسكي”، لينضمّ مئات اليهود إلى هذه الكتيبة التي تمّ استخدامها لاحقاً لقمع الثورة المصرية عام 1919، لكنّها أيضاً وعلى غرار سابقاتها لم تخضْ أيَّّ حربٍ.

مع نهاية الحرب العالمية الأولى، استولت بريطانيا على فلسطين كحكومة احتلالٍ أولاً، ثمّ في صيغة الانتداب الذي شرعن الاحتلال دولياً، لينضم “باترسون” إلى الصندوق التأسيسي اليهودي “كيرن هيسود“، بدعمٍ من “جابوتنسكي”، ويبدأ دوره الأساسي في احتلال الصهيونيّة لفلسطين.

مع صعود النازيين إلى السلطة في ألمانيا، طالب “جابوتنسكي” بمقاطعةٍ عالميّةٍ لألمانيا. ومن المعروف أنّ زعيم العُماليّة الصهيونيّة، “حاييم أرلوزوروف”، قد عارضه بشدّة،ٍ وتوصّل إلى تسوياتٍ اقتصاديةٍ مع القادة النازيين، لكن سرعان ما تم ّاغتياله في ليلة 16 حزيران 1933 في تل أبيب، حيث وُجِّهت أصابع الاتهام إلى “جابوتنسكي”، وعمّّت موجةٌ من الكراهية بين جناحيْ الحركة الصهيونية، فيما توّلى “باترسون” تبرئة “جابوتنسكي”، زاعماً أن الأدلة التي جمعها تثبت أن “أورلوسوروف” لم يُقتل لأسبابٍ سياسيّةٍ.

ولسنوات، عمل “باترسون” جنباً إلى جنبٍ مع “جابوتنسكي” في تشجيع وتنظيم موجات الهجرة غير القانونية التي تحدّت الحظر البريطاني. كما عملا معاً على خطّة إنشاء جيشٍ يهوديٍّ يقاتل إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، لكنّ هذا العمل المشترك انتهى مع موت “جابوتنسكي” في آب 1940. وكان “جابوتنسكي” قد وصف “باترسون”، قائلاً: “لم يحدث في التاريخ اليهوديّ، في أيّ وقتٍ مضى، وجودُ صديقٍ مسيحيٍّ لنا بهذا التفاني”.

إضافةً إلى نشاطاته العسكرية، شارك “باترسون” في رئاسة لجنة الجيش اليهودي لعديمي الجنسية واليهود الفلسطينيين، وأسّس “أصدقاء أمريكيون من أجل فلسطين اليهوديّة”، كما كان رئيساً ومستشاراً عسكريّاً للجنة إنقاذ الشعب اليهودي في أوروبا، ورئيسَاً للجنة إعادة التوطين الأمريكية من أجل يهود أوروبا النازحين، ورئيسَ الرابطة الصهيونية الأمريكية الجديدة، وكذلك عضواً في كلٍّ من لجنة مطبوعات جابوتنسكي، والرابطة اليهودية الأمريكية الفلسطينية.

وفي عام 1946، وُلد “يوناتان بن تسيون نتنياهو”، وقرّر الأب تسمية المولود بهذا الاسم، تيمّناً بـ”جون باترسون” الذي توفي عام 1947 ولم يكن قد وطأ أرض فلسطين. ومن المعروف أن “يوناتان نتنياهو” قُتل في تموز عام 1976 في عملية عنتيبي الشهيرة.

في أواخر أيامه، عاد “باترسون” إلى كاليفورنيا، وتوفي وقد تجاوز عمره التاسعة والسبعين بقليلٍ في 18 حزيران 1946. حينما مات، لم تنشر صحيفةٌ واحدةٌ خبرَ رحيله، حتى إنّ “ديفيد بن غوريون”، والذي خدم تحت قيادته في الفيلق اليهودي، تجاهله تماماً في مذكراته، ربما بسبب الصراع مع “جابوتنسكي”.

وقبل وفاته، أعرب “باترسون” عن رغبته في أن يُدفن في “أرض إسرائيل”. وفي عام 2011، بدأت الأنشطة الدبلوماسية والقانونية لإحضار رماده، لتكتمل العملية في 4 كانون الأول 2014، حينما دُفن وزوجته في “موشاف أفيحيال” شمالي قرية أمّ خالد المهجّرة، في حفلٍ حضره العديدُ من قادة الكيان الصهيوني. وفي هذا الحفل، قال “بنيامين نتنياهو”: “ليس من المبالغة القولُ إنّ باترسون كان قائد أول قوةٍ قتاليّةٍ يهوديةٍ فيما يقرب من الألفي عام. وعلى هذا النحو، يمكن أن يُطلق عليه عرّابُ الجيش الإسرائيلي”.

 (قبر "جون هنري باترسون"، "موشاف أفيحيال" شمالي قرية أم خالد المُهجرة، كانون الثاني 2019)
(قبر "جون هنري باترسون"، "موشاف أفيحيال" شمالي قرية أم خالد المُهجرة، كانون الثاني 2019)

 

“ريتشارد ماينرتزهاجن”: مُحبّ اليهود الدجّال

كان “ريتشارد ماينرتزهاجن” (أو ماينرز هاغن)، عضواً مؤسساً لمستوطنة “تلّ حاي“، وقّدم مساعدته لعصابة “الإرغون”، كما عمل ضدّ سياسة “الكتاب الأبيض” البريطانيّة، وكان أيضاً الأب الروحي لـ “جوناثان نتنياهو” إلى جانب “باترسون”. وُلد “ماينرتزهاجن” في لندن في الثالث من آذار عام 1878، وهو معروفٌ على نطاقٍ واسعٍ كعقيدٍ في المخابرات البريطانية وكعالمِ طيورٍ ومكتشفٍ، ومات في 19 حزيران يونيو 1967.  

(phthiraptera.org ،1922،ريتشارد ماينرتزهاجن)
(ريتشارد ماينرتزهاجن، في عام 1922)

خدم “ماينرتزهاجن” في الهند وبورما كضابطٍ صغيرٍ بين أعوام 1899 -1902، حيث تمركز في العاصمة الكينيّة “نيروبي”، وشارك في قمع ثورة القبائل في “ناندي”. وفي عام 1917، دخل مع البريطانيين إلى فلسطين يوم احتلالها، وبقيَ فيها حتى عام 1920 كمسؤول استخباراتٍ ميدانيٍّ. كما تعاون مع شبكة التجسس اليهودية الأولى “نيلي”، ويُنسب إليه الفضلُ في عملية الخداع الشهيرة في تضليل الجيش العثماني في معركة بئر السبع. ورغم فشل هذه العملية التي قُصد منها إيهامُ العثمانيين بالهجوم على غزة وليس بئر السبع، إلا أنّ جهوده ظلّت محلَّ تقديرٍ نظراً لمخاطرته الشخصيّة، وكذلك لدوره الأساسيّ في تمكين البريطانيين من دخول واحتلال مدينة القدس عام 1917.

تعود علاقاته مع شبكة “نيلي” إلى العام 1917، حيث كان مُتمركزاً في فرع المخابرات التابع لقوّة الاستكشاف البريطانيّة في مصر، وكان مكلّفاً بتركيز المخابرات الأمامية في دير البلح في قطاع غزة، وهناك التقى بأعضاءٍ من شبكة “نيلي”، خصوصاً “أرون آرونسون” الذي أُعجب به، وتحوّل، وفقاً له، من معادٍ للساميّة بالمولد إلى مناصرٍ شديدٍ للصهيونية.

وحول اسمه وأصوله، كتب “ماينرتزهاجن”: “وبسبب اسمي الأجنبي، كان من السهل النظرُ إليَّ بمزيجٍ من الغرابة الباعثة على الإهانة، فأنا ألمانيُّ القومية، وأحمل كنيةً يهوديّةً، فأصبحتُ بغرابة “اليهوديّ الألمانيّ”. ولكن في الواقع، يعود الاسم إلى أصلٍ دنماركيٍّ، وبقدر ما عدتُ في جذوري القديمة، لم أجد أيّ دمٍّ يهوديٍّّ في عروقي.. لم يكن أبداً”.

ورغم ذلك، زعَمَ أنّه سمع من والدته، وهو طفل، أنّ جدتها “ماري سيدون”، كانت مهتمّةً جداً بعودة اليهود إلى وطنهم القديم، حيث وفقاً للتقاليد جمعتْ حفنةً من اليهود في إنكلترا ووصلتْ إلى باريس، على حمارٍ أبيضَ، للمشاركة في الحروب النابوليونية، ولكن سرعان ما هجرها رفاقُها.

قبل خدمته في فلسطين، بدأت محادثاتٌ بين هرتزل والسلطات البريطانية، وتمّت مناقشة خطّة أوغاندا “لتوطين “الشعب اليهوديّ” في شرق أفريقيا، أعقبتها مناقشاتٌ عاصفةٌ في الكونغرس الصهيوني. لم ترُقْ هذه الخطّة لـ”ماينرتزهاجن”، واعتبرها خطةً سيئةً، آملاً أن يرفضها اليهود، وكتب حول ذلك: “بيتُ اليهود موجودٌ في أرض إسرائيل، وليس في إفريقيا. سوف تعزّز الخطّة الاضطرابَ السياسيَّ فحسب، واللهُ يعلم أنّنا سنجني متاعبَ كافيةً في خمسين سنةً، عندما يعلم السكّان، ولن يندمج اليهود معهم وسيكونوا عاملاً مزعجاً للغاية في شرق أفريقيا إذا جاؤوا بأعدادٍ كبيرةٍ، لماذا لا تقنع الأتراك بمنحهم أرض إسرائيل؟ لن يفعل العرب شيئاً حيال ذلك، واليهود، بقدرتهم الديناميكية ودماغهم، سيشكّلون رصيداً ضخماً لتركيا”.

وفي عام 1919، اقترح “ماينرتزهاجن” على رئيس الوزراء البريطاني “ديفيد لويد جورج” إقامة دولةٍ يهوديةٍ ذات سيادةٍ في فلسطين وفقاً لخريطة رسمه، وقال “أعتقد أنّه في غضون عشرين إلى ثلاثين سنة ستقام دولةٌ يهوديةٌ ذات سيادةٍ في أرض إسرائيل. العرب لن يعجبهم هذا، وسوف يهاجمون من جميع الأطراف، ويمكنني أن أرى ثورةً كبيرةً في الشرق الأوسط تدعم فيها الدول الأوروبية جانبًا أو آخر” . وفي “مذكّرات الشرق الأوسط” التي نشرها في عام 1959، اقترح “ماينرتزهاجن” حدود “الدولة اليهودية”، التي ستضمّ مرتفعات الجولان، وشرق الأردن ومعظم شبه جزيرة سيناء. شملت أراضي الدولة المقترحة 86.880 كيلومتراً مربّعاً – أيّ أكثر من أربعة أضعاف مساحة “دولة إسرائيل” قبل عام 1967.

وبحلول نهاية الحرب العالميّة الأولى، شغل “ماينرتزهاجن” منصب كبير المسؤولين السياسيّين البريطانيّين في الحكومة العسكريّة في فلسطين وسورية، وعُرف بتعاطفه مع الصهيونيّة. كما ساهم بدعم الجهود الصهيونيّة، كتدخّله في مباحثات “دوفيل” لترسيم حدود فلسطين، إضافةً إلى دوره في مناقشة ملحقات وعد “بلفور” بشأن مستقبل وحدود “الدولة اليهودية”. كما كانت علاقاته وثيقةً مع الحركة الصهيونيّة، خصوصاً مع “حاييم وايزمان”، رئيس اللجنة التنفيذية الصهيونية حينها.

وكان أحد المسؤولين السياسيّين الذين أدلوا بشهاداتهم في أحداث هبّة موسم النبي موسى عام 1920 أمام لجنة تحقيق “فالين”، (Fallin Commission)، زاعماً أن البريطانيين وقفوا بجانب العرب. و قدّم تقريرَ لجنة التحقيق، والذي أُرسل من لندن، “ماينرتزهاجن” كصهيونيٍّ “داعمٍ بشكلٍ مُفرطٍ” إلى حدِّ نقل التوجّهات الصهيونيّة إلى الحكومة البريطانيّة، متجاوزاً المندوب السامي. وعلى إثر ذلك، أرسلهُ الضابط البريطاني “إدموند اللنبي” إلى إنجلترا.

كان يرى “ماينرتزهاجن” أنّ الدولة اليهودية ضروريةٌ، نظراً لاستشرافه تلاشيَ الإمبراطوريّة البريطانيّة خلال ستين عاماً، وقد كتب في مذكراته لشهر كانون الثاني 1920 عن محادثةٍ أجراها مع “اللنبي”، حول مستقبل الإمبراطورية البريطانية: “يعتقد اللنبي أنّ حقيقة إدخال بريطانيا التعليمَ الغربيَّ إلى مستعمراتها سيؤدّي حتماً إلى حلّ الإمبراطورية، لكنّه يشكُّ بقدرة القادة الاستعمارييّن على قيادة حكمٍ ذاتيٍّ فعّالٍ”، معتبراً أن الإمبراطورية ستتضاءل خلال ستين عاماً.

وبمقدار ما كان يكره العرب ويحتقرهم في مدوّناته العديدة، كان معجباً ومغرماً باليهود، كما ظهر في مدحه لهم في مناسباتٍ عديدةٍ. وكان “حاييم وايزمان” أحد أصدقائه المقرّبين، وكَتَب الأخير عنه: “لم أرَ مثل هذا التفاني في سبيل تحقيق الهدف، ومثل هذا الحسم والفكر الغنيّ، متجسّداً في روحٍ واحدةٍ قطّ. كان رجلاً نادراً يتعامل مع هذه الأفكار العظيمة بصدقٍ”.

في 3 كانون الأول عام 1947، وبعد أربعة أيامٍ من التصويت على قرار التقسيم في الأمم المتحدة، أرسل له “وايزمان” برقيةً جاء فيها: “الصديق العزيز الذي لا أستطيعُ حتّى التعبير عنه في كلماتٍ بسيطةٍ – بارك الله فيكم”. وقد أطلقتْ بلديةُ القدس الاحتلاليّةُ اسمَهُ على الطريق رقم 60.

وجه الدجّال

لم تكن مصداقية “ماينرتزهاجن” عاليةً أبداً، وقد كشفتْ دراساتٌ حديثةٌ أنّه لم يكن أبداً ضابط استخبارات اللنبي كما زعَم، بلّ مجرّد الضابط المسؤول عن الرقابة على إعداد الرسائل والخرائط،كما تكشف يومياته عمّا يُمكن وصفُها بالأكاذيب، مثل الاجتماعات المزعومة مع “هتلر” و”جورينج” في عام 1934، ثمّ مشاركته في اجتماع “هتلر” و”ريبنتروب”، مدَّعياً امتلاكَه بندقيةً وشعورَه بالأسف في حياته، لأنه لم يستخدمها، حتّى إنّ قصّة خداعه العثمانيين ليستْ واضحةً، فقد تبيّن في النهاية أنّها لم تنطوِ عليهم.

ووفقاً لمذكّراته خلال حرب 1948، وصلَ “ماينرتزهاجن” إلى ميناء حيفا على متن سفينةٍ بريطانيةٍ عندما كان يبلغ من العمر حوالي 70 عاماً، وأخذ البندقية والذخيرة قاصداً المدينة، ودخل أحد مواقع “الهاجناه”، زاعماً قنصَه العربَ ليومٍ ونصف، لكن ما من مصادر تدعمُ مزاعمَهُ، سواء كانت بريطانيةً أو يهوديةً، إذ إنّ السفينة التي يزعَمُ وصوله على متنِها هي “أمبرس أسكتلندا”، وقد رَسَتْ في حيفا في طريقها من القاهرة إلى لندن في 25 نيسان 1948، بينما وقعت معركة حيفا في الثاني والعشرين من الشهر.

وليس هذا فحسب، فقد تكشّفَ “ماينرتزهاجن” كمستكشفٍ مُزوّرٍ، حيث زوّر عيّنات الطيور التي عرضها، وكُشف عن التزوير في عام 1990، حيث قال “آلان كوكس”، وهو كشافٌ بريطانيٌّ تمكّن من كشف التزوير: “لقد سرق أفضل العيّنات من مجموعات أشخاصٍ آخرين، ثمّ قام بتلفيق البيانات لتقديمها نيابةً عنهم”، ويدورُ الحديثُ عن عشرات الآلاف من عينات طيور جنوب آسيا التي قام “ماينرتزهاجن” بسرقتها من المتحف البريطاني للطبيعة، وقُدِّمتْ اكتشافاته المزيّفة إلى متحف علم الحيوان البريطانيّ في “ترينغ”.

موجزٌ للصهيونيّة المسيحيّة

رغم أنّ هذا موضوعٌ مركّبٌ ومتشعّبٌ، ويُمكن تناوله في سياقاتٍ متعدّدةٍ، إلا أنّه من المهم توضيح الخلفيّة العقائديّة التي تستند إليها الصهيونيّة المسيحيّة بشكلٍ مكثّفٍ، والتي اعتنقها وانتمى لها كلٌّ من “باترسون” و “وينغيت” و “ماينرتزهاجن”، بشكلٍ متفاوتٍ.

يُطلق مفهوم “الصهيونيّة المسيحيّة” عموماً على أتباع مجموعةٍ من الكنائس البروتستانتيّة الأصوليّة التبشيريّة التي انتشرت في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكيّة، ثمّ في أماكنَ أخرى لاحقاً. تستند الصهيونيّة المسيحيّة في قراءة السياسة والوقائع التاريخيّة والأخلاقيّة إلى فكرة نهاية العالم وعودة المسيح، وترى في قيام “إسرائيل” مقدمةً لاستكمال نبوءات الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد، كما ترى أنّ واجب معتنقيها الدينيّ يقتضي “التعجيل” من هذه النبوءة، ودعم “الشعب اليهودي” والدفاع عنه.

أتت موضوعات الصهيونيّة المسيحيّة في سياقٍ تاريخيٍّ مبكّرٍ وعبر مراحلَ متتاليةٍ، حيث لعبتْ كنيسة “البليموث”، ومؤسّسُها “جون نلسون داربي”، دوراً تأسيساً ومحوريّاً لمنهج التدبير في قراءة الكتاب المقدّس. ويستندُ هذا المنهج إلى ارتباط الخلاص بقيام دولةٍ لليهود، إذ ربط بين النصوص الدينيّة والسياسيّة وبين مجيء المسيح الثاني وإقامة الدولة اليهوديّة، وظهر مبكّراً في إنجلترا منذ عهد حركة “الطهوريّين”، أو “البيوريتانيين”، على يدِّ رجل دينٍ يُدعى “بريتمان” عام 1588، الذي دعا إلى “إعادة” اليهود إلى فلسطين، وجاء بعده البرلماني السير “هنري فينش” الذي تبنّى الدعوة ذاتها.

وبالمعنى السياسيّ، لا يُمكن تجاوز “أوليفر كروميل”، رئيس المحفل “البيوريتاني” بين عامي 1649-1659، حيث بدأ حينها خلق الصّلة بين المصالح الاستراتيجيّة لبريطانيا مع الصهيونيّة المسيحيّة.

انتقلتْ أفكار المذهب التدبيريّ، الذي روّج له “داربي” و”البليموث”، إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة في القرن التاسع عشر، بفضل جهود لاهوتيّين بروتستانت مثل “دوايت مودي” وغيره.

ويرى الباحثون أنّ ثمّة ثلاثَ ركائزَ للصهيونيّة المسيحيّة؛ الأولى هي نظرتها الكتابيّة إلى العالم ارتباطاً بالكتاب المقدّس وتفسير كلّ شيء استناداً إلى نصوصه، والثانية هي السؤال المتعلّق بنهاية العالم وعودة المسيح، مؤمنين بأنّ نهاية العالم قد أوشكتْ، وأنّ عودة المسيح قريبةٌ، والثالثة هي التركيز على “الشعب اليهوديّّ” ودولة “إسرائيل”. حيث تقول الصهيونيّة المسيحيّة إنّّ الوعود المقدّمة إلى الكنيسة في نهاية الزمان والمتعلّقة بالاعتراف الشامل بالمسيح كإلهٍ ومُخلّصٍ، يجب أن يسبِقَه الإيفاءُ بوعود العهد القديم لإسرائيل. وتتضمّن هذه الوعود عودة اليهود إلى وطنهم، وتأسيس دولةٍ يهوديةٍ، وبناء الهيكل الثالث. وهذا كلّه يدعو إلى شبوب حرب نهاية الزمان التي يجب أن تسبق عودة المسيح الثانية.

للمزيد حول هذا التوجّه اللاهوتي، اقرأ/ي: علم الآثار ورسالته: الحضور البريطاني في القرن التاسع عشر وبصمة المسيحيّة الصهيونية: جولةٌ في متحف “أصدقاء صهيون”

ختاماً، لعبتْ الدول والعناصر الاستعماريّة النشطة غير اليهوديّة، ولا سيما البريطانيّة، دوراً محوريّاً وفاعلاً في السعي نحو إيجاد حلٍّ يهوديٍّ بعيداً عن أوروبا،كالشخصيات التي تناولها هذا المقال. فعملتْ على تمكين ودعم الحركة الصهيونيّة، معنويّاً وماديّاً، في مساعيها نحو الهجرة والتوطين والاستيلاء على فلسطين، وصولاً إلى اختلاق دولةٍ للكيان الصهيوني في بلادنا. ويجدُر التنبيه هنا إلى أنّ دعم الصهيونية ودولة الاحتلال لا يقتصرُ على معتنقي الفكر الصهيوني، غير اليهوديّين، من منطلقٍ عقائديٍّ فحسب، بل إنّ الاستعمار الإمبرياليّ يستندُ بالأساس إلى فكرة المنفعة، ورأى في استعمار فلسطين، وتوطين اليهود فيها، مكسباً للمساعي الاستعمارية للسيطرة والهيمنة على منطقتنا، وامتداداً للاستعمار الغربيّ فيها، فضلاً عن التخلّص من عبء المجتمع اليهودي في أوروبا.