منذ الإعلان عن اختيار اللواء “أفيف كوخافي” رئيساً جديداً لهيئة أركان الجيش الصهيونيّ، تكاثرت الكتابات الصحافيّة الصهيونيّة والعربيّة مُعرِّفةً بـ “كوخافي” وتاريخه العسكريّ الممتدّ 35 عاماً في الخدمة العسكريّة، بما فيه من إخفاقاتٍ في جنوب لبنان وغزّة، و”إنجازات” اجتياح البلدة القديمة في نابلس ومخيّم بلاطة، وتطوير عمل وحدة “السايبر” خلال رئاسته الحالية لشُعبة الاستخبارات العسكرية “أمان”.

يُعالج هذا المقال ما قيل عن “ابتكار كوخافي”، للسيرِ خلال الجدران في عملية اقتحام نابلس ومخيّم بلاطة في نيسان 2002 خلال عملية “السور الواقي”، كما يقول الصهاينة، وكما يردّد خلفهم بعضُ العرب، في سياق العلاقة ما بين “كوخافي” وتجربة مركز تطوير النظريّة العملياتيّة في الجيش الصهيونيّ، وصولاً إلى الإخفاق العملياتيّ الصهيونيّ في المواجهة العسكريّة الأخيرة في غزّة.

حروبُ ما بعد البطولة
” يُمكننا الانتصار على العدو، ولكنّ الأمر يحتاج إلى تضحيةٍ، فهل أنتم مستعدون لها؟”
(نتنياهو، 18، تشرين الثاني 2018)

لطالما كانت الحروب مَعْملاً لصناعة الأبطال القوميّين عند الجماعات البشريّة؛ فنُسِجت الأساطير حول بطولاتهم وتضحياتهم في سبيل تحويلهم إلى “نموذجٍ أعلى” ومثالٍ للتنشئة الاجتماعيّة وبناء الهويّة القوميّة. في حروب الالتحام المباشر والقتال وجهاً لوجه، كانت الشجاعة والتضحية هما ما يجعلان البطل بطلاً. أمّا في زمن القصف الجويّ والأسلحة غير المأهولة والسايبر والقتال عن بُعد، كما هي حال الحرب عند الصهاينة اليوم؛ فقد تحوّلت البطولة إلى بطولة الابتكار، من المقاتل الشجاع إلى المقاتل الذكيّ. وأمّا الأساسُ الماديُّ لهذا التحوّل عند الصهاينة فهو الحساسية المُفرِطة لوقوع قتلى بين الجنود في المجتمع الصهيونيّ الرأسماليّ الليبراليّ. تريد “إسرائيل” الجديدة من قادتها العسكريّين أن يخوضوا الحرب وينتصروا فيها دون أكياس الجُثث السوداء، وبهذا أصبحت أمّهات الجنود لاعباً أساسياً في الأمن القوميّ الصهيونيّ.

استمع/ي إلى محاضرة (قراءة في كتاب “لتعلم كل أمٍّ عبريّةٍ جيش الدفاع الجديد”)

النجم القادم: القائد المُبدع

تخضع عملية اختيار رئيس هيئة أركان الجيش الصهيونيّ لاعتباراتٍ رسميةٍ، على صعيد المؤسّسة العسكرية والمستوى السياسيّ، وأخرى اجتماعيةٍ تتعلّق بما يُكثّفه رئيس الأركان من شعور المجتمع الصهيونيّ بالأمن والثقة بالمستقبل. والأهمّ أن تشعر الأمّهات أنّ الأولاد (الجنود) في أيدٍ أمينةٍ، خاصّةً في زمنٍ دخلت فيه “إسرائيل” زمن العجز عن الحسم العسكريّ منذ العام 2006. وفي البعد الاجتماعيّ تحديداً، تلعب الصحافة الصهيونيّة دور الجهاز الأيديولوجيّ في صناعة صورة رئيس الأركان القادم، وتبدأ عملية الصناعة دائماً بشكلٍ مُبتذلٍ بالقول: إنّه منذ البداية، كان واضحاً للجميع بأنّ المُرشّح “مصنوعٌ من مادة رؤساء الأركان”، ومن ثمّ يأتي دور التشديد على الخبرة عبر سردٍ لتسلسل التطوّر القياديّ منذ دخول الخدمة حتى المنصب الأخير. وأثناء عملية السرد، يأتي الحدث الذي يُكثّف المؤهّل للمنصب “القوميّ” الحسّاس. وفي حالة “كوخافي” (كوخاف تعني بالعبرية: نجم)، أجمعت الصحافة الصهيونيّة على اليمين واليسار، وبالنسبة لنا كلّهم يمين، على وصفه بـ “القائد المبدع”.        

 الهندسة المعكوسة”: أسطورة المشي خلال الجدران

كان الحدث المؤسّس في سيرة “كوخافي” العسكرية، والذي كثّف سيرته في الإبداع، “ابتكارَه” للعبور من خلال الجدران أثناء عملية الهجوم على حيّ القصبة في نابلس ومخيّم بلاطة في عملية “السور الواقي” في نيسان 2002، بعدما قرّر “كوخافي” أنّ استخدام الجنود شوارعَ البلدة القديمة وأزقّةَ المخيّم للتقدُّم سيجعلهم أهدافاً سهلةً لإطلاق النار والعبوات الناسفة. ولهذا، أصدر أوامره بالتقدُّم من خلال تحويل البيوت إلى ممرّاتٍ للجنود عبر شقّ فتحاتٍ في الجدران الجانبية والعُلويّة والسفليّة للبيوت المتلاصقة. وفي المحصّلة، فإنّ نتيجة التخطيط الإبداعيّ تجلّت في احتلال نابلس وبلاطة بـ”خسارة” قتيلٍ صهيونيٍّ واحدٍ فقط بنيرانٍ صديقةٍ، حسب الرواية الصهيونيّة. 

وبدأت أسطورة عبقريّة “كوخافي” تتضخّم بعد مقابلةٍ صحافيّةٍ معه بُعيْد العملية العسكريّة، وصف خلالها العمليات العسكريّة في نابلس وبلاطة بـ”الهندسة المعكوسة”، مُستخدماً لغةً فلسفيةً حول المكان وإعادة تعريف الحيّزين العام والخاصّ؛ حيثُ المشي خلال الجدران تعبيرٌ عن مفهومٍ جديدٍ للمكان المدينيّ كحيّزٍ سائلٍ. وأمّا حركة الجنود في النسيج المدينيّ، فقد وصفها “بالانثيال السربيّ”، (Swarming)؛ أيّ الحركة المتناغمة للأفراد عبر المكان، مُتحرّرةً من سلسلة القيادة والتحكّم التقليديّة في الجيوش، والمُعتمِدة على التنظيم الذاتيّ للجنود، والتي يضمن تناغمها وضوح الهدف، وترك الحرية للقادة الميدانيّين في اتّخاذ القرارات والمبادرات الميدانيّة.

بعد هذه المقابلة المُشبَعة بالمصطلح الفلسفيّ المعقّد، لم تعد عملية اقتحام نابلس وبلاطة نتاجاً لعقليّةٍ عسكريةٍ مبدعةٍ فحسب؛ وإنّما صارت أيضاً نتاجاً لعقليّة المُحارب الفيلسوف العارف بنظريات الفلسفة الفرنسية المابعد حديثة لكلٍّ من “فوكو وديلوز وغيتاري وتشومي”.

التقطت الكتابات النقديّة مقابلة “كوخافي” هذه -“إيال وايزمان” في كتاب “أرض جوفاء” تحديداً- مُساهِمةً في صناعة الأسطورة، سواءً بوعيٍ منها أو دون وعي، عندما خرجت بعنوانٍ جذّابٍ “النظرية الفتّاكة: الجيش الصهيونيّ يستخدم الفلسفة الفرنسيّة في العمليات العسكريّة”. ولم تبقَ أسطورة المشي خلال الجدران، وقد شُبِّعت بالفلسفة الفرنسيّة، مسألةَ إبداعٍ محليٍّ، وإنما أيضا أُشيع أنّ الصهاينة قاموا بتعليم التقنيّة العبقريّة للجيش الأمريكيّ، وتمّ استخدامها في الحرب في العراق وأفغانستان. أمّا عن الكيفيّة التي صارت اللغة الفلسفية المعقّدة، التي استخدمها “كوخافي” في توصيف العمليات العسكرية، لغةً للجيش الصهيونيّ، فهنا تأتي قصة  “مركز أبحاث النظريّة العملياتيّة” …

من “كلاوزفيتز” إلى “فوكو” 

في بداية العام 2000، لمع نجم “مركز أبحاث النظريّة العملياتيّة” في الجيش الصهيونيّ، إذ قدّم القائمون على المركز، تحت قيادة “شيمون نفيه”، ذاتَهم وعملَهم كتعبيرٍ عن روحٍ جديدةٍ إبداعيّةٍ في الفكر العسكريّ الصهيونيّ. تزامن ذلك مع تحوّل ما عُرِفت بـ”الثورة في الشؤون العسكريّة” إلى مصطلحٍ طنّانٍ بين العسكريّين ودارسي الحروب وتاريخها من خارج المؤسسة العسكريّة. انطلق “شيمون” ومجموعته من تشخيص الحالة الفكريّة في الجيش الصهيونيّ كحالةٍ جامدةٍ مُحافظةٍ، لا تزال أسيرة الفكر العسكريّ التقليديّ بمفاهيمه التقليديّة حول الزمن الخطّيّ، وتحديداً تمسّكه بالحكمة “الكلاوزفيتزيّة” القائلة إنّ نتيجة الحرب هي محصّلة مجموع المعارك، بينما رأوا همّ أنّ للحرب طبيعةً تجعلها أكبر من مُحصّلة نتائج المعارك؛ ولهذا يمكن أن تكسب المعركة وتخسر الحرب كما يُقال. فاعتبروا أنّ التصوّرات والمفاهيم الذهنيّة للعالم والمجتمع عامِلٌ حاسمٌ في الحرب التي لا يمكن اختزالها في تكتيكٍ واستراتيجيّةٍ فقط؛ لذلك شدّدوا على أهمية البعد العملياتيّ الوسيط ما بين الاستراتيجيّة والتكتيك، ومن هنا كان اسم المركز.

باختصار، إنّ النظريّة العملياتيّة أو الفنّ العملياتيّ، كما تحدّث عنها روّادها في الجيش الأحمر السوفيتيّ (الجنرال ميخائيل توخاشيفسكي)، وأخذها عنهم الصهاينة والغرب، تتعلّق بــ: كيف يرى المُخطّط العسكريّ الحربَ وأهدافَها؛ من مثلِ، ما معنى النصر أو الهزيمة في الحرب؟ ما هي المكوّنات الذهنيّة لمسرح العمليّات؟ ما هي مفاهيم الزمان والمكان عند الخصم؟ كيف نفهم العدوّ كمنظومةٍ عسكريّةٍ اجتماعيّةٍ نفسيّةٍ مُتكاملةٍ، وبالتالي تصميم حملاتٍ عسكريّةٍ قادرةٍ على شلّ هذه المنظومة وإرباكها على المستوى الكلّي؟ 

بالنظر إلى التأهيل الفلسفيّ للضبّاط في هذه المجموعة، وخاصّةً الفلسفة المابعد حديثة، المابعد بنيويةٍ بشكلٍ أدقّ، فقد اتّكأت هذه المجموعة على الجهاز المفاهيميّ لهذه الفلسفة في نقد وتفكيك النظام الفكريّ العسكريّ الصهيونيّ المُهيمن في الجيش. وبدأت من خلال مجموعةٍ من الدورات والمحاضرات الإرشاديّة في نشر أفكارها حول الفنّ العملياتيّ برعاية “موشيه يعلون”، صاحب نظرية كيّ الوعي. وفي غضون سنواتٍ قليلةٍ، تحوّلت هذه اللغة إلى لغةٍ ذات حضورٍ ملحوظٍ بين الضبّاط، دون أن يعني ذلك أنّها تحوّلت إلى لغة المؤسّسة دون منازعٍ. ولكن، من المهم هنا التنبيه إلى الإرث السوفيتيّ لهذا المركز، وخاصّةً مفهوم “المعركة العميقة” في النظريّة العسكريّة السوفيتيّة، والتي تعني باختصار تنفيذ عملياتٍ تتجاوز خطّ التماس المباشر ما بين القوّات. وتتمثل المفارقة هنا باستخدام لغةٍ فلسفيّةٍ تركّز على التصوّرات الذهنيّة (المثاليّة) للتعبير عن فكرٍ عسكريٍّ ماركسيٍّ ماديٍّ، والتي جاءت ما بعد البنيويّة لتُقوّضه، أو لنَقُل، جاءت على أنقاضه.

لِنَصحَب فوكو في نزهةٍ إلى بنت جبيل. يقول فوكو: العالم هو تصوّرك عنه، العالم محشورٌ في رأسك، الجدار الذي أمامك ليس هو مادّيّته بطوله وعرضه وإسمنته المسلّح، الجدار هو ما تعنيه كلمة جدارٍ في ذهنك؛ فإذا تحرّرتَ من سلطة المعنى، يصير الجدار سُلّماً أو أفُقاً أو باباً، وهذا ما قال به مُنظّرو الحرب الصهاينة الجُدد، إلى أن جاءت حرب تموز 2006، ووجد القادة الميدانيّون أنفسهم أمام أوامر مكتوبةٍ بلغةٍ مُعقّدةٍ فضفاضةٍ يصعب تحويلها إلى خُططٍ عملياتيّةٍ وأهدافٍ ملموسةٍ. تحت ضربات حزب الله، “خش” فوكو ومُنظّروه العسكريون في “حيط” الحقيقة.

وهنا، ينبغي التنبيه إلى أنّ حرب تموز جاءت في وقتٍ كانت تسود فيه بلبلةٌ في الفكر العسكريّ الصهيونيّ، بعد تولي “دان حالوتس”، المُعارض للغة الجديدة، رئاسة الأركان وعمله على إدخال تعديلاتٍ على النظريّة العسكريّة في الجيش الصهيونيّ.

في تقرير لجنة “فينوغراد” حول هزيمة حرب تموز، يورِدُ التقرير مساهمة “مركز أبحاث النظريّة العملياتيّة” في الهزيمة بالإشارة إلى المذكور أعلاه. ولكن في الوقت ذاته، كان التقرير واعياً إلى تبعات تحميل “شيمون نفيه” ومجموعته وزراً أكبر من حجمهم، وبالتالي تحويلهم إلى كبش فداء، يعفي غيرهم من المسؤوليّة عن الهزيمة، ولذلك شدّد التقرير على الطبيعة النُّخبويّة لهذا الفكر وعدم تغلغُله في كلّ صفوف الجيش الصهيونيّ.

“مركز تطوير النظريّة العملياتيّة”: “ما بعد صهيونيّة” النظريّة العسكريّة الصهيونيّة

يقدّم “وايزمان”، بصفته واقفاً على أرضية الفكر المابعد بنيويّ -حيثُ تمثّل آليات السُّلطة ومقاومتها الهمَّ الأساسَ لهذا الفكر- تفسيراً للجوء الضبّاط الصهاينة لهذه “التقليعة” الفلسفيّة  بالقول إنّ هذه اللغة الفلسفية زوّدت هذه المجموعة من الضبّاط بسلاحٍ فكريٍّ لمقاومة سلطة المعرفة العسكريّة المُهيمِنة في الجيش الصهيونيّ؛ فالمسألة التي يشدّد عليها “وايزمان” هنا، أنّها جاءت تعبيراً عن صراعٍ ما بين الإبداع والتقليد داخل الجيش الصهيونيّ. ويُسهِب في حديثه بالإشارة إلى أنّ هذا الاستخدام للفلسفة الفرنسيّة كان في إطار المعركة بين اليسار الصهيونيّ واليمين الصهيونيّ داخل المؤسّسة العسكرية، إذ إنّ الفلسفة الفرنسيّة المابعد حديثة وُجِّهت لتفكيك هيمنة الخطاب العسكريّ اليمينيّ بقصد تقديم نظريّةٍ عسكريّةٍ للجيش تُلائم فكرة الانسحاب من بعض الأراضي الفلسطينيّة وتفكيك بعض المستوطنات، حيثُ تحلّ العمليات العسكريّة الذكيّة المتحرّرة من فكرة المكان محلّ التواجد على الأرض، أو الهجوم مقابل الاحتلال عند “كوخافي” بعد عملية اختطاف شاليط، و”غال هيرش”، قائد عصبة الجليل في حرب تموز.

من المؤكّد أنّ “الصراع” بين اليسار واليمين الصهيونيَيْن داخل المؤسّسة العسكريّة كان عاملاً في الصراع حول النظريّة العسكريّة الصهيونيّة، والذي تُوّج بإغلاق “مركز أبحاث النظريّة العملياتيّة” (يساريّ النزعة) في أيار 2006. بيد أنّ هذا التحليل الذي قدّمه “وايزمان” يُغفِل حقيقةً أهمّ تتعلّق بتحوّلٍ تاريخيٍّ عابرٍ للأيديولوجيات في المجتمع الصهيوني، تتمثل في التحوّل الرأسمالي الليبراليّ والفردنة، والحاجة إلى تطوير علم حربٍ صهيونيٍّ يتوافق، ويعبّر، عن هذه التحوّلات. تتلخّص الحكمة التي يُجمع عليها مؤرخو الحروب بالقول: كيفما يكون النظام الاجتماعيّ الاقتصاديّ للمجتمع، تكُن النظريّة العسكريّة لهذا المجتمع. يُمكننا القول هنا، إنّ الفلاسفة العسكريّين الجُدد لم يكونوا سوى المثقفين العضويّين للتحوّل في المجتمع الصهيونيّ الجديد؛ إذ يعملون على صياغة فنٍّ للحرب الذكيّة، حيثُ الذكاء يعني خسائرَ ماديةً وبشريةً صهيونيةً أقلّ أو حرباً قليلة التكلفة مادّياً وبشرياً، كبيرة الأثر على العدوّ.

كما أسلفنا، يعود الفضل إلى “إيال وايزمان”، في كتابه “أرضٌ جوفاء”، في تقديم قراءةٍ لمغامرة الفلاسفة المابعد حداثيّين والجُدد في الجيش الصهيونيّ، ولكنّ “وايزمان” وإن كان قد حذّر من الربط السببيّ ما بين الفكر المابعد حداثيٍّ كرافدٍ للنظريّة العسكريّة الصهيونيّة -كما حالة كوخافي- والممارسة العمليّة في الميدان، إلا أنّ تحليله ينقُصُه التعمُّق التاريخيّ في الفكر العسكريّ لحرب المدن. فمع أنّ “وايزمان” يُشير إلى المشي خلال الجدران كتقليدٍ عسكريٍّ معروفٍ، ولكنه لا يُشير إلى الأدبيّات العمليّاتيّة في هذا التقليد، والتي يُعيد “كوخافي” إنتاجها حرفيّاً بلغةٍ فلسفيةٍ. وساهم هذا القصور، وبدون قصدٍ، إلى تكاثر الحديث المبالغ به حول دور الفلسفة الفرنسية وفلسفة العمارة، أو الحيّز تحديداً، في النظريّة العسكريّة الصهيونيّة من قِبل كثيرين من قارئي “وايزمان” من المهتمّين بالشأن العسكريّ الصهيونيّ، ومن ثمّ المساهمة في بناء أسطورة “كوخافي”: المُحارِب الفيلسوف.

أمّا القصور الثاني في تحليل “وايزمان”، فيعود إلى السياق التاريخيّ لنشوء مركز تطوير النظريّة العملياتيّة؛ إذ يُمَوضع “وايزمان” افتتاح المركز كأحد التجلّيّات المحلّيّة في الجيش الصهيونيّ ضمن ظاهرة تكاثر الدراسات الحضريّة ودراسة البيئة المدينيّة كساحةٍ رئيسةٍ للحروب المعاصرة في الجيوش العالمية. وهذا صحيحٌ إلى حدٍّ ما بالنسبة لمركز تطوير النظريّة العملياتيّة، ولكنّه ليس السياق الوحيد؛ فقد جاء المركز تعبيراً عن تأثُّر المنظّرين العسكريّين الصهاينة بما يُعرَف بالثورة في الشؤون العسكرية (RMA) كتعبيرٍ عن التحوّل في كيفية خوض الحروب بعد حرب الخليج الأولى؛ حيثُ الحرب السريعة والأسلحة الذكيّة وثورة الاتصالات كعاملٍ حاسمٍ في الحرب، وبالتالي التحوُّل نحو تطوير فنٍّ وعلمٍ عسكريّيْن يتوافقان مع هذه التحوّلات التقنيّة؛ بمعنى أنّ التقنيّة غيّرت مفهوم ومعنى الحرب، ولم يعُد التحدّي متمثّلاً باستيعاب التقنيّة الجديدة ضمن الرؤية التقليدية للحرب فحسب. وهنا يبرُزُ تأثُّر المنظّرين الصهاينة بمفهوم المعركة الجوّيّة-البريّة (Air-land Battle) في الجيش الأمريكيّ. وفي هذه القضية تحديداً، كان الصهاينة تلاميذاً للعسكريّين الأمريكان.

اقرأ/ي أيضاً: الجنديّة كحرفة: عن التحوّلات في الحرب والثورة في الشؤون العسكرية، هنا.

“ثقوب الفئران”: المشي خلال الجدران، الطريقة التقليديّة في الحرب المدينيّة

مُنذ الحرب العالميّة الثانيّة تحديداً، أصبح تحدّي خوض العمليّات القتاليّة داخل المدن الشُّغلَ الشاغلَ لجيوش العالم الغربيّ؛ فقد جرَت معظم العمليّات القتاليّة في هذه الحرب داخل الحيّز المدينيّ المكوَّن من المساكن والمباني في مدن “ستالينغراد” الروسية، و”أورتونا” الإيطالية، و”مانيلا” الفلبينية. ولّدت هذه التجارب وغيرها مراكزَ بحثيةً متخصّصةً في الحرب داخل المدن منذ الخمسينيّات، وبدأت الأدبيات العسكريّة تظهر، بشكلٍ مكثّفٍ، حول دليل القتال في الحروب المدينيّة في جيوش العالم. ففي “الدليل الميدانيّ للجيش الأمريكيّ للحرب داخل المناطق المبنيّة والمُحصّنة”، الصّادر في عام 1964، نجدُ بالتفصيل الجهاز المفاهيميّ والتعريفات والتكتيكات التي تحدّث عنها “كوخافي” بلغة الفلسفة المابعد حديثة بلغةٍ تقليديّةٍ واضحةٍ وبسيطةٍ تُسمّي الأشياء بمُسمّياتها. 

بحسب الدليل، فإنّه من الخطأ تسمية الحرب داخل المدن بـ”حرب الشوارع”؛ لأنّ عليها تجنّب الحركة في الشوارع بشكلٍ صارمٍ؛ لأنّ هذه الشوارع ستتحوّلُ إلى حقولٍ للقتل ويسهل اصطيادها من قبل المتحصّنين في المدينة، وإنّما يجب عليها الحركة داخل المباني من خلال ما يسمّيه الأمريكان ثقوب الفئران (Mouse-holing). وينطبق ذاتُ الشيء على ما يسمّيه “كوخافي” بـ”الانثيال السربيّ”، والذي تعالجه أدبيّات حرب المدن تحت مسألة حجم الوحدات المُقاتلة، والاعتماد على وضوح الهدف لدى القوات في ظلّ صعوبة ممارسةٍ لسلسلة القيادة والتحكّم في البيئة المبنيّة؛ حيثُ ساحةُ المعركة معقّدةٌ .

 يقول الجنرال السوفيتيّ “فاسيلي شويكوف” في كتابه “معركة ستالينغراد” ( 1965):

“من الخطأ الاعتقادُ بأنّ الحرب داخل المدن شبيهةٌ بحرب الشوارع، فعندما يكون العدو مُتحصّناً في المدينة؛ في بيوتها وعماراتها، تكون ساحة القتال في غرف البيوت وممرّات البيوت ومخازنها التحتيّة، لا في الشوارع والميادين”.

هذا التوصيف الحقيقيّ البسيط لحيّز العمليات هو ما قاله “كوخافي” بلغةٍ فلسفيةٍ معقّدةٍ حول تصوّر مفهوم المكان التقليديّ والمابعد حداثيّ، وإرباك الخصم، بسبب إعادة تعريف الحيّزين العام والخاص.  

باختصار، من الغباء لأيّ قائدٍ عسكريٍّ أمام مهمّة القتال المدينيّ ألّا يحوّل مباني المدينة (أو المخيّم) ممرّاً لقوّاته عبر إحداث فتحاتٍ في الجدران؛ إذ لا تمثّل هذه المسألة فعلاً خارقاً أو عبقريّاً بقدر ما هي الطريقة المُتعارف عليها في القتال المدينيّ. وتاريخيّاً، خَبِر الصهاينةُ العبورَ خلال الجدران جيّداً قبل 70 عاماً؛ ففي تأريخهم لحرب النكبة داخل أسوار القدس، أشاروا إلى نجاح تكتيك قوات الفيلق العربيّ “الأردنيّ” تحت قيادة “غلوب باشا” بالاعتماد على تقنية السير خلال الجدران في الهجوم على مواقع الصهاينة في حارة الشرف في البلدة القديمة في القدس.

لم تصِل هذه المغامرة الفلسفيّة، كسلطةٍ للمعرفة النظريّة في داخل الجيش الصهيوني، إلى نهايتها بحسم الصراع الداخليّ لمصلحة اليمين؛ وإنّما بفضل التفوُّق الإبداعيّ للمقاومة الفلسطينيّة واللبنانيّة التي أسقطت هذه النظريّات على أرض الواقع في الميدان وتحت النار؛ في بنت جبيل وفي أزقّة مخيم جنين.

ولكن، لم تنتهِ الحكاية هنا، إذ بدأت أقليةٌ من المنظّرين الصهاينة يتحرّرون شيئاً فشيئاً من الرّهاب النفسيّ لهزيمة تموز؛ هذه الهزيمة التي خلقت جوّاً عدائيّاً لأيّ طرحٍ فلسفيٍّ ونظريٍّ داخل الجيش، ومن ثمّ نشطت هذه الأقليّة في نقد هذه العدائيّة للفلسفة لكونها تساهم في تكبيل حرية التفكير الإبداعيّ الخلّاق في مواجهة التطوّرات العسكريّة المتلاحقة. وفي عام 2015، عاد “شيمون نفيه” ليقدّم محاضراتٍ في الفنّ العملياتيّ للضباط الصهاينة، وإن كانت هذه المرة بصفته محاضراً جامعياً خارجياً.

القنفذ الصهيونيّ والثعلب الفلسطينيّ

“القنفذ يعرف شيئاً واحداً كبيراً، أمّا الثعلب فيعرف أشياءَ صغيرةً كثيرةً”.

                                                                                          الشاعر الإغريقي “أرخيلوخوس”.

في المواجهة العسكريّة الأخيرة مع المقاومة في غزّة، كان قرار “التهدئة” قراراً عسكريّاً بالأساس، لاعتباراتٍ مُتعدّدةٍ، ما يهمُّنا هنا تعليلُ المحلّلين العسكريّين الصهاينة لهذا القرار؛ بالقول إنّ الجيش يعاني من أزمة إبداعٍ في التخطيط والقيام بعمليّاتٍ إبداعيّةٍ ضدّ المقاومة تستغلُّ نقاط الضعف، لا بل وتصنعها. وبما أنّ الجميع مُتّفقٌ على مِحورية القصف الجويّ كاستراتيجيّةٍ أساسيّةٍ؛ فقد أشار الصهاينة إلى أنّ عمليات القصف الجويّ أصبحت أسيرةَ منطق استهداف وعي الخصم (المقاومة)؛ كرافعةٍ للتأثير على قراراته ومن ثمّ حَسْم المعركة. ولهذا تمّ، ويتمّ، تهميش العمل الجادّ، والذي يرونه مُمكناً، على ملاحقة واستهداف منصّات الصواريخ ومُطلِقيها. وختموا تحليلهم هذا بالقول: في مسألة الإبداع تحديداً، يوجد الكثير من العمل أمام “أفيف كوخافي”، بعد تولّيه رئاسة الأركان رسميّاً. 

“لأنّكَ بِالتَّدَابِيرِ تَعْمَلُ حَرْبَكَ”. (כִּי בְתַחְבֻּלוֹת תַּעֲשֶׂה לְּךָ מִלְחָמָה).
                                                                                (سفر الأمثال، الإصحاح 23).

منذ بداية المشروع الصهيونيّ في بلادنا فلسطين، احتلّ مفهوم “تحبولاة” التوراتيّ، أيّ التدابير، موقعاً مركزيّاً في الفكر العسكريّ الصهيونيّ. ويُشير المفهوم إلى الإبداع في المناورة، واستخدام الحِيل التي “برَع ويُبرع فيها “اليهود” في حروبهم منذ القدم، والتي مكّنتهم من كسب الحروب في مواجهة أعدائهم الذين “يتفوّقون عليهم عِتاداً وعدداً”. وكمثالٍ على محوريّة “التحبولاة” (أحد المبادئ الأربعة الرئيسة للحرب عند الصهاينة) في العقليّة الصهيونيّة، يُورد قائدُ منطقة جنين الحوار التالي مع جنوده:

سألَه الجنود: ما الذي يمنع سكّان مدينة يعبد، البالغ عددهم 14400 نسمةٍ، من الهجوم على مستوطنة “ميفو دوتان” المجاورة لهم و البالغ عدد سكانها 3500 مستوطن؟

فأجاب قائد المنطقة: لسببين؛ الأول: الردع بسبب الخوف من النتائج، والثاني: “التحبولاة” التي توهمهم بأنّنا موجودون في كلّ مكانٍ وكلّ زمانٍ.

من المعروف أنّ الخدعة مبدأٌ أساسيٌّ في الحرب عند كلّ الأمم، ولكنّ الصهاينة حوّلوا الخديعة في الحروب إلى أسطورةٍ خاصّةٍ بهم، بل وأعطت عقليّة الحصار الصهيونيّ للخديعة، كتهديدٍ دائمٍ للإبادة، معنىً وجوديّاً، فأصبح عجزُ العقليّة الإبداعيّة الصهيونيّة العسكريّة يساوي الخراب، أيّ “نهاية وجود الشعب اليهوديّ”.

من المثير هُنا للانتباه أنّ أيقونات الإبداع في الفكر الصهيونيّ، مثل القبّة الحديديّة، النظريّة العملياتيّة الذكيّة، التي يُمكنها أن تحسِم المعركة بعملياتٍ مؤثّرةٍ على الوعي وباقتصادٍ شديدٍ للقوّة، أصبحت اليوم هي السجن الذي يُكبّل العقليّة الصهيونيّة.

قبل أسبوعين، تجوّلت كاتبةٌ صهيونيةٌ في مستوطنات غلاف غزّة، وكتبت مقالاً تتساءل فيه:

“هل الشعب المُبدع، شعبُ “الستارت أب” والسايبر والقبّة الحديدية عاجزٌ أمام طائرةٍ ورقيةٍ وبالوناتٍ بدائيةٍ حوّلت الحياة إلى جحيمٍ؟”. ما لا تراه الكاتبة والصهاينة أنّ المسألة في حقيقتها ليست العجز عن الإبداع، هذا الإبداع الذي حاول مركزُ تطوير النظريّة العملياتيّة، وتلميذه النجيب “كوخافي”، إيصاله إلى أقصى درجاته بـ “تحرير الخيال” من هيمنة اللغة العسكريّة التقليديّة للجيش الصهيونيّ، وإنّما هي النظام الاجتماعيّ الاقتصاديّ (كبنيةٍ تحتيّةٍ في التعبير الماركسيّ) للكيان الذي حدّد التقنية كمجالٍ وحيدٍ لهذا الإبداع في مواجهة الثعلب الفلسطينيّ الذي يعجز القنفذ الصهيونيّ عن مجاراة إبداعه المجنّح، وإن كان هو الآخر يعاني من إشكالية تحويل منجزات إبداعاته الميدانيّة إلى منجزٍ سياسيٍّ .