تربّت عليها أجيالٌ صهيونية بأكملها؛ أنشدها كُلّ طالب مدرسة صهيوني، وغنّتها أكثر من مُغنيّة، واستخدمت في الأفلام السينمائيّة، واستعيرت كلماتها في كثير من المناسبات الاجتماعية والسياسية، إنها قصيدة “قدس الذهب”، وبالعبريّة: “يروشاليم شل زهاف”.

في العام 1967، وعلى أعتاب الاحتفالات بالذكرى التاسعة عشرة لإعلان إقامة الكيان الصهيوني في 15 أيار 1948، طلب رئيس بلدية الاحتلال في القدس آنذاك “تيدي كوليك” من الملحن الصهيوني “جيل ألدميع” أن يساعده في البحث عمّن يكتب قصيدةً باللغة العبرية تخصّ القدس.

كان كوليك يرغب في إنتاج قصيدة عبرية تتغنى بمدينة القدس لتشارك في “مهرجان المغني والجوقة”، وهو مهرجان موسيقي صهيوني أقيم بين السنوات 1960-1980، يتنافس فيه المغنون والملحنون الصهاينة، وكان من المعتاد أن تقام فعالياته على شرف الاحتفالات بذكرى إقامة الكيان.

بحسب المصادر الصهيونية، لم يجد” ألدميع” في أرشيف إذاعة “صوت إسرائيل” الإذاعة الرسمية الصهيونية أغانِ كافية تعبّر عن “حنين اليهود وارتباطهم” بمدينة القدس. ولم تكن أيٌّ من الأغاني الموجودة حينها قد كُتبت بعد إقامة الكيان في العام 1948، كما أن أيًّا منها لم يذكُر أن “اليهود محرومون من الوصول إلى البلدة القديمة بفعل تقسيم المدينة”.

جاء هذا الطلب من “تيدي كوليك”، رئيس بلدية الاحتلال، الذي استلم منصبه في العام 1965، في محاولة لتعزيز مكانة القدس صهيونيًا. في ذلك الوقت، كانت تل أبيب هي المنافس الأبزر لما عرف بـ”غربي القدس” التي احتلّها الصهاينة عام 1948.

أما شرقيّ المدينة ببلدتها القديمة وبقية قراها، فقد كانت تحت الحكم الأردني. وكان ذلك يعني في عرف الصهاينة أن المدينة “مُقسّمة” وأن اليهود محرومون من الوصول إليها ومن دخول “جبل الهيكل”. في المقابل كانت تل أبيب تزدهر وتتطور عامًا بعد عام، السفارات الأجنبية تفتتح مكاتبها في تل أبيب وليس في الجزء الغربي من القدس، وبينما كانت القدس مهملة كانت تل أبيب تبني صورتها كمتروبولين ثقافي واقتصادي صاعد في الكيان الجديد. في هذا السياق، أراد “تيدي كوليك” قصيدة أو أغنية تعيد لفت الانتباه إلى “مركزية القدس” صهيونيًا.

توّجه حينها “ألدميع” إلى الشاعرة الصهيونية “نعومي شيمر” لينقل لها هذا الطلب. بحسب ما يروي “ألدميع”، فإن “شيمر” ردّت بالقول أنه لا يمكنها الكتابة تحت الضغط، فقال لها “إذا شعرتِ بالإلهام اكتبي، لستِ مجبرة على شيء”.

فيما بعد كتبت “شيمر” قصيدة رفعت من رصيدها الشعري والفني في المجتمع الصهيوني، وأصبحت واحدة من أبرز القصائد القومية المعبرة عن هذا المجتمع الاستعماري، حتى أنها اعتبرت بمكانة النشيد القومي، وتسمى في كثير من الأحيان “النشيد القومي غير الرسمي لدولة إسرائيل”. كانت هذه قصيدة “يروشاليم شِل زهاف”، أو “قدس الذهب”.

لحّنت “شيمر” نفسها القصيدة، وأدتها المغنية الصهيونية “شولي نتان” في المهرجان المذكور، ليس كواحدة من الأغاني أوالقصائد المتنافسة، وإنما كأغنية أديت على شرف المهرجان.

بعد خمسة أيام فقط من الأداء الأول للقصيدة، منحت الشاعرة شيمر وسام “المواطنة الفخرية في مدينة القدس”، وفي العام 1983، مُنِحت “شيمر” جائزة “إسرائيل”؛ وهي جائزة تمنح كل عام عشية احتفال دولة الاحتلال بذكرى إقامتها، وتُمنح لكلِّ من “يساهم في تطور الدولة بشتى المجالات”، وقد منحت هذه الجائزة تقديرًا لإسهاماتها في مجال الموسيقى الصهيونية.

بعد ثلاثة أسابيع فقط من أداء تلك الأغنية للمرة الأولى، وقعت هزيمة حزيران عام 1967، وكأنّ القصيدة أوجدت الحدث الذي يحتضنها ويساهم في نشرها وتبنيها. وهكذا هُيأت الفرصة -سياسيًا- من أجل صعود هذه الأغنية واحتلالها مركزا متميزًا في الثقافة الصهيونية المهووسة بصناعة العلاقة مع المكان.

وفي بحثها عن القدس في الخطاب الشعري العبري، تقول الباحثة الفلسطينية نهال مهيدات: “لقد بلغ نص (أورشليم من ذهب) من الشهرة والخطورة والتأثير أنه كان مرشحًا ليكون النشيد الوطني الرسمي لـ”إسرائيل”، فقد كان منسجماً في تمثيلاته مع شتى التصورات الأيديولوجية المُشكّلة لـ “ذات” اليهودي العقائدية وتحقيقًا للانتصار العسكري/ (القوة) 1967. إن تشكيله الفنّي ومضمونه صورة حقيقية عن شقيّ (إسرائيل) العقائدي والسياسي”.

ومن جهتها، تقول الباحثة في الثقافة الصهيونية “داليا جبرائيلي نوري” إنّ أغنية “قدس الذهب” ظاهرة ثقافية استثنائية، لأنّه منذ كتابتها منذ أكثر من 50 عاماً حافظت هذه القصيدة على مكانتها كرمز قومي أو كنشيد قومي غير رسمي.

تستدل “نوري” على هذه المكانة بالإشارة إلى أنّ هذه القصيدة يتم أداؤها في الكثير من الاحتفالات الرسمية الحكومية في الكيان الصهيوني، وفي الاحتفالات شبه الرسمية. بالإضافة إلى أنه في العام 2008 تم اختيار هذه الأغنية لتكون “أغنية الستين” أي الأغنية المعتمدة في الذكرى الستين لإقامة دولة الاحتلال. وفي العام 1998، تم اختيار الأغنية لتحوز على لقب “أغنية اليوبيل”.

وتعدد الباحثة “نوري” -في بحث كتبته عن مكانة هذه الأغنية في الثقافة الصهيونية- الدلائل المتعددة على هذه المكانة المميزة، فتقول إنها حظيت بموقع إنترنت مخصص لها، وأن كتاب “قدس الذهب – قصائد حرب الأيام الستة” والذي يفتتح بهذه القصيدة، اعتُبر حتى سنوات التسعينات، أكثر الكتب مبيعًا في دولة الاحتلال. عدا عن أن القصيدة تُرجمت إلى عدة لغات. بل أن عضو الكنيست الصهيوني “أوري أفنيري” قد قدّم مقترحَ قانون إلى الكنيست من أجل اعتماد القصيدة كنشيد قومي صهيوني، في المرة الأولى قدم مقترحه عام 1968، وفي المرة الثانية في العام 2003، ولكنه لم ينجح في ذلك.

اعتبرت الباحثة “نوري” هذه القصيدة/ الأغنية رمزًا مفتاحيًا (key symbol) في الثقافة الصهيونية، وقالت إنّ تحوّل موضوع ما، في ثقافة ما، إلى رمز مفتاحي يتطلب عدة شروط؛ من هذه الشروط ما ينطبق على قصيدة “قدس الذهب”، ومنها أن أبناء هذه الثقافة يتعاملون مع هذا الموضوع  بطريقة سلبية أو إيجابية واضحة، وهم فعليًا مهتمون لأمره، ومنها كذلك أن أبناء هذه الثقافة يشهدون على أهمية هذا الموضوع. وهما شرطان ينطبقان بشكل كامل على قصيدة “قدس الذهب” وتفاعل المجتمع الصهيوني معها.

معياران آخران يدلان على تحوّل الأغنية إلى رمز مفتاحي في الثقافة الصهيونية، أضافتهما الباحثة “نوري”، وهما: ارتباط الرمز بالدولة، وبقائه واستمراره في التأثير لفترة طويلة. الدليل على المعيار الأول أن القصيدة تُغنّى في احتفالات رسمية لدولة الاحتلال، مثلًا، غُنيّت القصيدة في الاحتفالات الخمسين لإقامة الدولة، كما  يتم التعامل مع كلمات الأغنية باهتمام بالغ، مثلًا تنشر كلماتها على الموقع الرسمي لوزارة الخارجية الصهيونية.

أمّا فيما يتعلق بالمعيار الثاني، فقد نجحت القصيدة على مدار سنوات طويلة بالاحتفاظ بأهميتها ومكانتها، ولم تتطور حولها أية خلافات صهيونية داخلية. وتقول الباحثة إنّه وعلى الرغم من أن البعض في اليسار الصهيوني اعتبر القصيدة “عمياء تجاه العرب الموجودين شرقي القدس” إلا أنّ هذا الادّعاء لم يحظَ بالكثير من الاهتمام، وأنّ مكانة القصيدة لم تتأثر به.

دليلٌ آخر على نجاح القصيدة في الاحتفاظ بمكانتها، تقول الكاتبة “نوري”، بأنه على الرغم من أن “ألدميع” كشف في العام 2005 أن اللحن الخاص بالقصيدة متأثر بشكل واضح بلحن لأغنية شعبية باسكية (من الباسك)، لم تكن هناك أية ردود فعل غاضبة تجاه ذلك، ولم يؤثر هذا الاعتراف على مكانة القصيدة.

وتعليقًا على كون القصيدة المغناة “قدس الذهب” قد طُلبت بشكل مسبق، ولم تكن نتاج ولادة عفوية من فم الشاعرة الصهيونية “نعومي شيمر”، يذكر البروفيسور “نيسيم كلدرون” أستاذ الأدب العبري في جامعة بن غورويون، أن الأغاني العبرية كلّها “تم طلبها”، وأن الثقافة الشعبية الصهيونية في بداية المشروع الصهيوني لم تكن باللغة العبرية، إنما كانت بلغات المستوطنين الجدد، باللغة اليديشية، العربية، وباللغات اللاتينية المختلفة. ولم تكن أغنية “قدس الذهب” استثناء، فهي كباقي الأغاني العبرية الأولى، أغنية تمت توصيتها، أو تم طلبها، ولم تولد من رحم ثقافة قائمة.

ويضيف “كلدرون”: اسأل أيَّ شخص من أيِّ ثقافة ما، مصدر أغنية شعبية لديه، لا يعرف، فهذه الأغاني الشعبية تسمع في الأسواق، تتناقل من الأمهات، أمّا الأغاني العبرية، فكلها تم طلبها، كلها نعرف من كتبها ومن لحنها”.

الروح العسكرية للقصيدة

عدا عن أنّ القصيدة قد ألهبت المستمعين الصهاينة عشية أدائها في مهرجان الأغاني، إلا أنّ مكانتها وتجذُّرها في الثقافة الصهيونية اليومية قد تعمّقت بفعل حرب عام 1967. فقد اكتسبت هذه القصيدة مكانتها، بالدرجة الأولى، لأنها ارتبطت بحرب الأيّام الستة، خاصّة أنّ هذه الحرب مرتبطة بذاكرة الصهاينة الجمعية بتجربة جماعية مُهمّة أثرت على مسار الكيان الصهيوني.

وتعتبر الباحثة الصهيونية “نوري” أن قصيدة “قدس الذهب” هي الطلقة الأولى في صناعة قصائد وأغاني الحرب في الثقافة الصهيونية، وأنّها كانت من القصائد الأولى التي افتتحت بها عملية التكاتف ما بين الأغاني الصهيونية وبين الجيش الصهيوني بين الأعوام 1967 و1973.

قد تم توظيف القصيدة لرفع الروح المعنوية عشية حرب عام 1967، إذ كانت تُبث بشكلٍ مكررٍ ومكثفٍ على إذاعة “صوت إسرائيل”، كما أنها كانت تبث في الملاجىء لرفع معنويات الصهاينة. وقد عنونت جريدة “معاريف” حينها أحد أخبارها بالقول إنّ الأغنية هي الأغنية الأكثر شيوعًا في الملاجىء الصهيونية عشية الحرب.

وعلى الرغم من أن كلمات القصيدة نفسها لا تحمل روحًا عسكرية مباشرة، إلا أنّها وُظفت واستخدمت في نطاق وسياق عسكري بحت، إذ تحولت القصيدة إلى قصيدة “النصر في الحرب”. وساهم في هذا التحوّل وتعزيز مكانة القصيدة، أن جنود وحدة المظليين في الجيش الصهيوني، والذين كانوا أول من وصل إلى المسجد الأقصى وإلى حائط البراق عام 1967، وبعد أن أطلق الحاخام العسكري مزماره، قاموا بأداء هذه الأغنية على أعتاب البراق، ما أكسبها بُعدًا آخر كقصيدة “النصر”.

ويُعتقد أن أغنية فيروز الشهيرة “زهرة المدائن” والتي أدتها عام 1967، ومن ثم طُرحت تجاريًا عام 1971، جاءت تفاعلًا مع هزيمة حزيران 1967، وأنها جاءت ردًا على القصيدة العبرية “قدس الذهب”.

أما عن كلمات القصيدة، فقد ركّزت الشاعرة “شيمر” على تصوير القدس حزينة وخالية من روادها اليهود، فتحكي فيها عن الأسواق الخالية من الناس، و”جبل الهيكل” الذي لا يصعد إليه أحد، وعن طريق البحر الميت الذي لا يمشي فيه أحد، في إشارة إلى غياب السيطرة الصهيونية على تلك الأماكن، وذلك أشبه بمقولة: “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، بالإضافة لتعبير الأغنية عن الشوق اليهودي للوصول هناك.

وقد اعتمدت في تصوير ذلك على جملة محورية مقتبسة من قصة تلمودية شهيرة، هي قصة الحاخام عكيفا وزوجته راحيل، اللذين عانيا من فقر شديد، فكانا يستليقان في مخزن للتبن، وبينما كان ينزع الحاخام التبن العالق في شعر زوجته قال لها “لو كان الأمر بيدي كنت أعطيتك أورشليم من ذهب”. أي أنّه لو لم يكن فقيرًا، لأهداها تاجًا على شكل القدس مصنوعًا من الذهب.

وبعد هزيمة عام 1967، أضافت “شيمر” جزءًا جديدًا للقصيدة، تقول فيه “عدنا إلى آبار الماء، إلى السوق وإلى الميدان، وإلى جبل الهيكل..”

نصّ القصيدة، مُترجمًا:
نسيم الجبال ينساب شفّافًا كالنبيذ 
ممتزجًا بأنفاس الغروب ورائحة الصنوبر
وقرع الأجراس
في سكون الشجر والحجر
سكنت حُلمها المدينة التي تقبع وحيدة
ملتفة بأسوارها
أورشليم من ذهب.. ومن نحاس ومن نور.. لكل أغانيك أنا قيثارة

*******

كيف نضبت آبار الماء في البلدة القديمة 
ميدان السوق خالٍ
وما من زائر لجبل الهكيل
وفي الكهوف التي في الصخور عويل الريح
ولا أحد ينزل باتجاه البحر الميت في طريق أريحا
أورشليم من ذهب ومن نحاس ومن نور
لكل أغانيك أنا قيثارة

*******

ولكني من أجلك اليوم جئت أغني
أنا أصغر من أصغر أبنائك
ومن آخر المغنين
لأن اسمك لاذع فوق شفتيّ كقبلة ملتهبة
إن نسيتك أورشليم التي كلها ذهب أورشليم من ذهب ومن نحاس ومن نور
لكل أغانيك أنا قيثارة

*******

عدنا إلى آبار المياه
للسوق وللميدان
مزمار يعلو في جبل الهيكل في البلدة القديمة
وفي الكهوف التي في الصخر
آلاف الشموس تشرق
ونعود للنزول في طريق أريحا إلى البحر الميت
أورشليم من ذهب ومن نحاس ومن نور لكل أغانيك أنا قيثارة

 

———————

المراجع:
1.نهال مهيدات، القدس في الخطاب الشعري العربي والخطاب الشعري العبري الحديث (1967-2012).
2.حلقة من برنامج “الجامعة المبثّة” على إذاعة الجيش الصهيوني، استضافت فيها الإذاعة البروفيسور “نسيم كلدرون”، أستاذ الأدب العبري في جامعة بن غوريون. عنوان الحلقة: “نصوص مؤسسة في الثقافة الإسرائيلية: قصيدة “القدس من ذهب”: http://glz.co.il/1097-82598-HE/Galatz.asp 
3. Gavriely-Nuri, Dalia. 2007. “The Social Construction of “Jerusalem of Gold” as Israel’s Unofficial National Anthem”. Israel Studies. 12 (2): 104-120G.