إنّ دراسة الحروب الجوّيّة ومداخلها النّظرية، والاطلاع على التّغيرات التّكنولوجية والعملياتية، هي خطوةٌ بالغةُ الأهمية في محاولة فهم وتفكيك آليات التّحكم الاستعماريّة، وطرق وسبل مواجهتها المختلفة. 

مقدمة عن دراسة القوّة الجويّة

تتضمن دراسات القوّة الجوّية مداخلَ عدّةً، منها ما هو نظريّ، ومنها ما هو عملياتيٌّ- تكتيكيٌّ يختصّ في دراسة استخداماتها بهدف استقصاء المعلومات الاستخباراتية، وصولاً إلى التّدخلات في الحروب البريّة التّقليدية وغير التّقليدية. وتتضمن هذه الدراسات كذلك المعرفة بالطّائرات المستخدمة، وطبيعية القذائف والصّواريخ التي تحملها، وقدرات الطّائرات من حيث سرعتها، ومدى طيرانها، وغيرها من أمور تفصيلية.

تحاول الكثير من النّقاشات والنّظريات الأكاديمية ضمن دراسات القوّة الجوّية الإجابة على أسئلة جوهريّة، أهمّها ما ارتبط بنجاعة هذه القوّة في إطار الصّراعات السّياسيّة ما بين الدّول، أو ما بين الدّول والمنظمات العسكريّة المختلفة. الأسئلة الأكثر أهميةً في هذا السّياق هي: هل يمكن لسلاح الجوّ أن يحسمَ الحرب دون الحاجة إلى القوّة البحريّة أو البريّة؟ كيف يجب استخدام القوّة الجويّة، وما هي طبيعية الأهداف التي يجب التّركيز عليها من الجوّ؟ هل تختلف استخدامات القوّة الجويّة في الحروب التّقليدية عنها في الحروب اللامتماثلة؟

وفي هذا الإطار، وظّف الكولنيل جون واردن [1] حديث كلاوزفتيز[2] عن “مركز الثّقل” في مجتمعات الخصم من أجل تطوير تقسيمٍ خماسيٍّ لطبيعية ونوع الأهداف التّي يُمكن للقوّة الجويّة استهدافها، وهي القيادة، والقدرة الصّناعيّة، والبُنية التّحتية، والبشر، والقوات العسكريّة.

يقول الكولونيل واردن إن الاستخدام الأنجع هو ضرب كلّ الحلقات في محاولةٍ لإضعاف الإرادة القتالية لدى الخصم، وذلك مع التّركيز على القيادة، والتي إن تمّ القضاء عليها، يتم شلُّ بقية الأطراف في البُنية العسكريّة، وخلق حالة من الفوضى في قدرات القيادة والتّحكم، ما يؤدي إلى انهيار العدوّ واستسلامه. وقد تزاوجت نظرية “واردن” مع التّطور التّكنولوجي في الأسلحة وخاصةً القذائف الذكيّة، ومع التّطور في البُنية المعلوماتية العسكريّة، وهو الأمر الذي أدى إلى بزوغ نظريات تروّج لإمكانية الحسم العسكريّ بواسطة القوّة الجوّية.

لكن مثل هذه النّظريات اصطدمت بعوائقَ عدّةٍ، أهمُها انتهاء عصر الخصوم العسكريّين التّقليديين للهيمنة الأمريكية، والتّحول إلى نمط التّنظيمات الهجينة، والتي تستخدم أدوات الحرب غير التّقليدية أو حرب العصابات، والتي أثبتت قدراتها على التّأقلم مع حروب الجوّ والاستمرار بالرغم من التّفوق الجويّ الغربيّ.

وبالتّالي، أصبح الحديث عن القوّة الجويّة وقدراتها في الحسم أمراً مثيراً للسخرية لدى كثير من كبار العقول العسكريّة الغربيّة. ولعل أوضح الأمثلة التّي تستدعي مثل هذه السّخرية هي الحروب التّي خاضتها أمريكا، والتي افتقرت فيها إلى قوّةٍ بريّةٍ متمكنةٍ، ولم تستطع فيها تحقيق الأهداف السّياسية المرجوة، مثل الحرب في فيتنام، وعمليات القصف الجوّيّ التّي أمر بها بيل كلنتون في صربيا والعراق وأفغانستان.

لماذا نهتم بدراسات القوّة الجوّية؟

بالرغم من أهمية القوّة الجويّة في تحديد معالم وأسباب الهزيمة في الحروب العربيّة- الصّهيونيّة المتتالية، وكذلك أهميتها ومركزيتها في البُنية العسكريّة الأمريكية، إلا أن دراستها ودراسة مختلف الأبعاد العسكريّة اتخذّت مقعداً خلفياً وانحسرت أمام تأويلاتٍ ثقافيةٍ-اجتماعيةٍ للهزائم العربيّة.

وقد بدأ الكثيرون بجلد الذات واتهام الواقع الحضاريّ العربيّ والإسلاميّ. وعليه، تعددت الأجوبة ما بين “الإسلام هو الحل” إلى أجوبةٍ اتخذت من الماركسية أو الليبرالية، أو غيرها من أيديولوجيات الثّورة الصّناعيّة والحداثية وما تبعها، ملاذاً لكيفية الخروج من “الأزمة” الحضاريّة الإسلاميّة والعربيّة، وذلك في محاولة تأطير الهزيمة بما يتسق مع المشاريع الأيديولوجية والسّياسية للأقطاب المختلفة في السّاحة العربيّة والإسلاميّة.

وبعيداً عن أهمية بعض هذه النّقاشات، إلا أنها بالكاد تتطرق إلى أسباب الفشل العسكريّ، والتي تكمن في بعض الأحيان في بساطة تشغيل الدّبابة السّوفيتية، أو التّوزيع الجغرافيّ للقواعد العسكريّة المصريّة، أو فشل الرادار في رصد القوّة الجويّة الصّهيونيّة المعتدية، أو تمكُّن العدوّ من اختراق مراكز صنع القرار العسكريّ المصريّ في حرب 1967، أو فشل العرب في اختراق العدوّ معرفيّاً واستخباراتياً، أو أنها – أي أسباب الفشل – لها علاقة بفعالية القوّة الجويّة الصّهيونيّة أمام نظيراتها العربيّة.

وتهدف القوّة الجويّة الصّهيونيّة بالأساس إلى شلّ “الإرادة” الاجتماعيّة للاستمرار في المقاومة، وإن اختلفت في واقع الأمر أهدافها العسكريّة، وتنوعت اتساعاً أو كثافةً أو امتداداً. والتّعويل المفرط على القوّة الجويّة هو في نهاية الأمر محاولةٌ لتخفيف التّوتر ما بين ضرورة الحرب في الأيديولوجيا الصّهيونيّة، وبين التّكلفة الباهظة للحروب البريّة، وخاصةً أعداد القتلى في صفوف الجنود.

من هنا، فإن دراسة الحروب الجوّيّة ومداخلها النّظرية، والاطلاع على التّغيرات التّكنولوجية والعملياتية، هي خطوةٌ بالغةُ الأهمية في محاولة فهم وتفكيك آليات التّحكم الاستعماريّة، وطرق وسبل مواجهتها المختلفة. إن دراسة وتفكيك نظريات القوّة الجويّة وأنظمتها، وتحديد معالمها وأهدافها وطبيعية ومستقبلها، وكثافة الاستهداف الصّهيونيّ في غزة أو لبنان، وابتكار أساليبَ مدنيةٍ وعسكريّةٍ في مواجهة وتحييد القوّة الجويّة، قد يشكل الفرق ما بين الهزيمة والانتصار في حروب الكيان الجديدة، خاصّةً أن حروب اليوم هي حروب الإرادة والنّفس أساساً.

(2)

للحروب الاستعماريّة الجويّة في السّياق العربيّ والإسلاميّ تاريخٌ طويلٌ يمتدُ لأكثر من مئة عام. وقد كان العربُ أولَ من قُصِف من الجوّ تاريخياً، وذلك على يد الطّيار الإيطالي والملازم الثّاني في القوّات الجويّة الإيطالية “جوليو غافوتي” (Giulio Gavotti)، والذي رمى أربعَ قنابلَ يدويّةٍ على تحصيناتٍ عثمانيّةٍ في ليبيا في العام 1911.

ومع التّطور الملحوظ في التّكنولوجيا والصّناعات الجويّة التي رافقت الحرب العالمية الأولى، لعبت القوّة الجويّة دوراً هاماً في قدرة بريطانيا وفرنسا على هزيمة  الحلفاء، وبسط سيطرتهما على أراضٍ واسعة من الامبراطورية العثمانيّة. وعندما احتلت القوات البريّطانية مدينة القدس عام 1917، كانت القوّة الجويّة البريّطانية إحدى الدعائم الأساسية التي ساهمت في انتصارات الجنرال البريّطاني “اللنبي” اللاحقة في المشرق العربيّ.

وقد أثنى الضّابط البريطاني “تايلور لورنس” المعروف بلقب “صديق العرب” على دور القوّة الجوّية في مواجهة حروب العصابات، إذ إنّها تمنح صاحبَها القدرةَ على حرمان المقاومين من الفضاءات الآمنة في الجبال وغيرها من أماكن التّخفي[3]. كما توفر القوّة الجوّية لصاحبِها القدرةَ على خلق معادلةٍ نفسيّةٍ أحاديةٍ، على اعتبار أنّ الاستهداف يحصل من بعد 10 آلاف قدم أو أكثر (ما يقارب 3 كيلومتر). وفي المقابل، لا تستطيع قوى المقاومة، في الغالب، الردَّ أو الاشتباكَ مباشرةً مع القوّة المعادية. وهذا ما جعل البعض يصف الحرب الجوّيّة على أنها محاولةٌ لإخراج “المعركة من الحرب”؛ أي القيام بعملياتٍ حربيّةٍ دون الالتحام مع الخصم، أيّ دون الدخول في حربٍ مُلتحمةٍ ومباشرةٍ.

وقد تحوّلت تلك المعادلة في عصرنا إلى معادلةٍ أكثرَ تعقيداً، فقد أُخرِجَ العاملُ البشريُّ المباشرُ من الطّائرة، وأصبح المقاومون على الأرض يواجهون آلةً يتم التّحكم بها عن بُعد بواسطة بشرٍ آخرين، دون وجود للعنصر البشريّ داخل الطّائرة نفسها.  وقد أدّى هذا التّحول والمحاولة الحثيثة للقوّة الغربيّة، ومن ضمنها الكيان الصّهيونيّ، لإلغاء التّبادلية في الحروب من خلال أتمتتها والتّعويل على أجهزة التّحكم عن بعدٍ إلى إسقاط الحروب بمفهومها التّقليدي القديم، والذي تضمن تركيزاً هائلاً على الإعداد النّفسيّ والجسديّ للمُقاتِل، في محاولةٍ لبناء قيم الشّجاعة والبطولة، ولذلك تعتبر حروب الجوّ اليوم أسلحةَ الجبان الفتّاكة.

وفي السّياق الفلسطيني والعربيّ، كانت ولا تزال القوّة الجويّة جوهريةً في انتصارات الكيان الصّهيونيّ في الحروب المتتالية، بدءاً من حرب العام 1948 وما تلاها من حروبٍ، أهمُها حرب السّويس عام 1956، والنكسة عام 1967، وحرب أكتوبر عام 1973. ولا تزال القوّة الجويّة تلعب دوراً أساسياً في حروب الكيان الجديدة سواءً في لبنان أو غزة، بل إنّها تُشكِّلُ العامودَ الرئيسَ في عقيدة الجيش الصّهيونيّ المعلنة، المسمّاة “عقيدة الضّاحية”.

تعتمد هذه العقيدة بالأساس على القوّة الجويّة، وقد وضعها قائد الجيش الصّهيونيّ “غادي ايزنكوت”، وتفيد بأنه في أي عملياتٍ عسكريّةٍ لامتماثلةٍ مع قوى المقاومة، سيقوم الكيان باستهداف البنى التّحتية المدنيّة للحواضن الشّعبية للمقاومة، وخاصّةً تلك الأكثر التصاقاً بها. يسعى هذا الاستهداف إلى خلق ردعٍ يتحقق من خلال ضغط سكان تلك المناطق على المقاومة لتأجيل أو إيقاف أيِّ فعلٍ مقاومٍ، وذلك على غرار عملية استهداف الضّاحية الجنوبيّة وتدميرها في العام 2006.

وفي الحرب الأخيرة على غزة 2014، كانت الأهداف الصّهيونيّة مُعدّةً مسبقاً، واعتمدت بشكلٍ خاصٍّ على المعلومات الاستخباراتية الواردة عبر شبكات التّجسس البشريّة والتّكنولوجيّة[4]، وقد تمّ استهداف معظمها في الأيام الأولى للحرب (حوالي 3 آلاف هدف). بالإضافة إلى ذلك، فقد استهدف جيش الاحتلال أهدافاً آنية تخرجُ من رحم المعارك الدائرة[5]، مثل استهدافِ مواقعَ جديدةٍ لانطلاق الصّواريخ، أو الحصولِ على معلوماتٍ جديدةٍ حول أماكن تواجد المقاومين، أو بهدف مساندة العمليات البريّة.

إضافةٍ إلى ذلك، فقد لعبت القوّة الجوّية الصّهيونية خلال الحرب دوراً هامّاً في تنفيذ عملياتٍ نفسيةٍ –عقابيةٍ تهدف إلى خلقِ شرخٍ ما بين الحاضنة الشّعبيّة وقوى المقاومة، وذلك من خلال تقننة وبرمجة القصف لخلق حالةٍ نفسيّةٍ عامّةٍ مضادّةٍ للمقاومة. وتجلى ذلك من خلال تكثيف القصف بالليل في سياسةٍ ممنهجةٍ لحرمان الناس من النوم، وصولاً إلى قصف الأبراج لخلق مشهدياتٍ تلفزيونيةٍ تؤدي افتراضاً إلى إضعاف الإرادة المجتمعية للاستمرار في الحرب.

ويأتي ذلك تطبيقاً لنظريات الحروب التي تتعلق بالقوّة الجويّة، والتّي ترتكز بالأساس على مفهوم إضعاف الإرادة لدى الخصم في الاستمرار بالقتال، خاصّة ًفي ظلِّ بيئةٍ عملياتيةٍ لامتكافئةٍ. على سبيل المثال، اعتمد الأمريكيون في حرب فيتنام على القوّة الجويّة والنّارية، سعياً لضرب البُنية المعنوية وإضعاف إرادة المجتمع الفيتنامي للاستمرار في القتال.

وقد أدرك الفيتناميون تلك المعادلة، فاتبعوا استراتيجياتٍ متنوعةً، منها تطويعُ الجغرافيا والطوبوغرافيا في محاولةٍ لتحييد فعالية القوّة الجويّة، ومنها قيامهم – بقيادة الجنرال جياب (Giap) – بإخلاء معظم المدنيين من المناطق المكتظة إلى الريف ضمن منظومة إيواء وملاجىء تساهم في تعزيز الإرادة الاجتماعية والسّياسية. وقد نجحت هذه الاستراتيجية، رغم الثّمن الهائل الذي دفعه الفيتناميون، حيث قُتِل أكثرُ من 3 ملايين فيتناميٍّ خلال عشرة آلاف يومٍ من العمليات العسكريّة، وهو ما يعادل 10% من سكان فيتنام، في تحرير جنوب فيتنام وتوحيدها مع شمالها.

(3)

البحث عن إخراج المعركة من الحرب

بعد انتهاء حقبة الصّراع الأيديولوجي والسّياسيّ ما بين الاتحاد السّوفيتي والغرب، ظهرت نظرياتٌ جديدةٌ في محاولةٍ لصياغة التّحديات العامّة التّي تواجه الهيمنة الأمريكية في عالمٍ افتقد للثنائيات الأيديولوجية الصّارخة. فبعد انتهاء الحرب الباردة، أصبحت ضرورةُ البُنية العسكريّة العالميّة الجويّة والبحريّة والأرضية محلَّ شكٍّ، وتصاعدت بالتّالي أصواتٌ تطالب الولايات المتحدة بالتّفرغ للتوّسع الاقتصادي الدّاخليّ والابتعاد عن شؤون الغير؛ أي اتباع سياسةٍ انعزاليةٍ تشابه تلك التي اتبعتها قبل الحرب العالمية الثّانية.

شهدت هذه الفترة، أيضاً، تصاعدَ نظرياتٍ أخرى تنوّعت في مضامينها، ولكنها توافقت على ضرورة إبقاء البُنية العسكريّة الأمريكية العالمية. ومن أكثر تلك النظريات أهميةً نظريةُ “نهاية التّاريخ” لفرانزز فوكوياما، ونظرية “صراع الحضارات” لصامويل هانتغنتون.

وبعيداً عن الجدل القائم حول كلتا النّظريتين وارتباطهما عضوياً بتبرير وأدلجة الهيمنة الأمريكية في العالم، إلا أن نبوءة هانتغنتون حول طبيعة “الصّراع” ما بين الغرب والشّرق الأوسط تحقّقت، إذ تنبأ باتخاذ الحربِ طابعاً يهمين عليه استخدامُ القوّة الجويّة من قبل الغرب في محاربة ما أسماه “الارهاب”. واليوم، يُستخدم الجوّ في حروب الغرب الجديدة في سوريا واليمن والعراق وليبيا وأفغانستان، علاوةً على صراعه مع إيران، وتلويحه المستمر باستخدام القوّة الجويّة لضرب المفاعلات النووية.

وبالفعل، تحتلُ القوّةُ الجويّةُ مركزيةً هائلةً في البُنية العسكريّة واللوجستية الأمريكية، في معادلةٍ أصبح فيها العالمُ من شماله إلى جنوبه، ومن أقصى شرقه إلى أقصى غربه أرضاً لمعركةٍ دائمةٍ (Perpetual battlespace) تتمكن فيها الولايات المتحدة من خلال ما تملك من البُنية العسكريّة اللوجستية والتّفوق التّكنولوجي، ومن خلال تحالفاتها، من ضرب أيِّ بقعةٍ على سطح الأرض في ثوانٍ معدودةٍ.

ونتيجةً لذلك، أصبح العديدُ من أطراف الصّراعات المحليّة في المنطقة يتنافسون على توظيف القوى الجويّة الغربيّة والأمريكية لصالحهم، سعياً لضرب وهزيمة الخصوم المحليين. وتشارك اليوم عدّةُ دولٍ عربيّةٍ مشاركةً “رمزيةً” في حروب الجوّ الأمريكية، في محاولةٍ ممنهجةٍ لتبرير التّدخل الغربيّ في المنطقة العربيّة، وإعطائه صبغةً عربيّةً – إسلاميّةً، بُغيةَ شرعنتِه.

وقد شكلت القوّة الجويّة محوراً مهماً في القدرة الغربيّة -والأمريكية على وجه الأخصّ- في فرض قوّتها على العالم، وتحديد معالمه السّياسية والاقتصادية. يُعزى ذلك لخاصيتين أساسيتين: أولاً، الحاجة الماسة إلى الحرب كأداةِ تطويعٍ وتحكّمٍ أمام قوىً معاديةٍ للهيمنة الأمريكية تتفاوت خطورتها على المصالح الجيو-استراتجية الأمريكية في مناطقَ مختلفةٍ، من ضمنها العالم العربيّ والإسلاميّ.

ثانياً: نمو معارضةٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ داخليةٍ في المجتمعات الغربيّة الليبرالية للحرب المكلفة، خصوصاً التكلفة البشرية، وهو ما أُطق عليها “متلازمة كيس الجثث” (Body Bag Syndrome). وهنا يبرز التّناقض بشكلٍ واضحٍ بين ضرورة الحرب في بسط السّيطرة والتحكم على مناطقَ واسعةٍ من العالم، وبين افتقار دول المركز الاستعماريّ للحاضنة الشّعبية المؤيدة لحروبٍ طويلةِ الأمدِ وغيرِ واضحةِ المعالمِ، يترتّب عليها تضحياتُ بشريةُ لا تستطيع تلك المجتمعات استيعابها.

وهنا، تبرز أهمية القوّة الجويّة، إذ إنها تُشكّل أبرز الحلول المركزية لحلّ لتلك التّناقضات، وذلك من خلال تطوير القدرة النّارية للآليات العسكريّة الجويّة التي يصعب إسقاطها، والتي بحكم طبيعتها تعني تكلفةً قليلةً من حيث أعداد القتلى، خاصةً في مواجهة مجموعاتٍ لا تمتلك القدرات النّارية الملائمة لحرب أرض-جو أو لا تمتلك أيَّ قوّةٍ جوّيّةٍ تُذكر.

وقد كانت إحدى أهم تلك الحروب هي الحرب التي خاضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها في البلقان في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون، اذ تم تقييد حركة الطّائرات الأمريكية التي حلقت فوق صربيا حينها، فلم تحلق أية آلية أمريكية تحت الـ 15 ألف قدم، تجنّباً لإسقاط أيّ طائرةٍ عسكريةٍ. وقد كان كلنتون واضحاً في تعليماته لجنرلات قيادة الجيش الأمريكي آنذاك بأن العمليات العسكريّة يجب ألّا  تسفر عن مقتل أيِّ جنديٍّ أمريكيٍّ.

تمكنت أمريكا من خلال القوّة الجويّة والدبلوماسية الفاعلة من تطويع واحتواء مشروع الرئيس الصّربي السّابق “ملوزفيتش” في محاولته لضمِّ مناطقَ واسعةٍ من يوغوسلافيا تحت مسمى “صربيا الكبرى”. في المقابل، تجنّب كلنتون الدخولَ في حروبٍ طويلةِ الأمد،  واقتصرت سياسات القوّة العسكرية لديه على ركائز الجوّ والاستخبارات والوحدات الخاصّة والدبلوماسية. وقد أعلن حينها في أروقة صنع القرار الأمريكي أن القوّة الجويّة هي الثّورة الحقيقة في الماكينة العسكريّة.

لاحقًا، شكّلت حقبة الرئيس جورج بوش انسلاخاً عن سياسات كلنتون حين قرر الأول الاصطدامَ المباشرَ. عوّل بوش حينها على كافة أركان الميكانيكية العسكريّة الأمريكية، الجوّ والأرض والبحر والدبلوماسية، إضافةً إلى محاولات حثيثة في إعادة بناء وهيكلة دولٍ؛ أهمٌها العراق (State-Building Project). بعيدًا عن جدل الإخفاق أو النجاح في العراق، والدائر في أوساط النخب الأمريكية السّياسية، شكلت العراق درساً جديداً وقاسياً للولايات المتحدة في محدودية الدّعم الشّعبي الغربيّ لحروبٍ طويلةِ الأمدِ وغيرِ واضحةِ الأهدافِ، ومكلفةٍ من حيث العتاد والخسائر البشرية.

ويمكن القول إنّ الفروق البسيطة بين سياسة الرئيس بوش وبين سياسة الرئيس الحالي باراك أوباما تكمن في الأساس في تحوّل القوّة الأمريكية في الشّرق الأوسط من حالة اصطدامٍ مباشرٍ إلى أتمتة حالة الاصطدام، وذلك من خلال التّعويل على الطّائرات من دون طيار (UAV’s or Drones) بالدرجة الأولى.

وقد تخللت حقبة بوش سياسات الاعتقال (سجن غوانتانامو) والترحيل لإتاحة التعذيب (Rendition) والحروب المباشرة التي لعبت فيها القوّة البريّة دورًا واضحًا وأساسيًا. في المقابل، تمكّن أوباما من تقليل أهمية سياسة الاعتقال (غوانتانامو كأبرز مثال)من خلال عقيدةٍ جوّيةٍ تتخذ من القتل جوهراً أساسياً بديلاً عن القتل، وتتفادى الدّخول في صراعاتٍ بريّةٍ في سوريا وليبيا واليمن.

واليوم، تقصف الولايات الأمريكية المتحدة اليوم أكثرَ من ستِ دولٍ في المنطقة، وقد قتلت طائراتها أكثرَ من 2500 شخص خارج مناطق الحرب المعلن عنها؛ أي خارج أفغانستان وسوريا والعراق. ومن غير المستغرب أن الميزانية الوحيدة التي لم يتم المسّ بها في ميزانية وزارة الدّفاع الأمريكية هي الميزانية المتعلقة بالطّائرات دون طيار ،وبمراكز تصنيعها وتطويرها، بل تم رفعها بمعدل 30% منذ العام 2008 حتى يومنا هذا.

****

الهوامش:

[1]  الكولونيل واردن: قائد متقاعد في سلاح الجوّ الأمريكي.
[2]  كارل كلازوفتز: جنزال بروسي من أهم منظري الحروب المعاصرة.
[3]  يعتبر التّحدي الرئيس في حروب العصابات هو إيجاد الخصم وليس تدميره، في مقابل الحروب التقليدية التي يكون التّحدي فيها هو تدمير الخصم، ولذلك شبّه “لورنس” حروب العصابات بالبخار يتصاعد ويختفي ويبقى كالوهم، وفي هذا السّياق يظهر دور القوّة الجوّية في مواجهتها.
[4]  وهو ما يُطلق عليه في العلوم العسكريّة HUMINT and SIGINT. 
[5]  يسمى باللغة العسكريّة Real Time Intelligence.