نُعيد في باب الواد نشرَ كتابِ “أفكار ثورية في ممارسة القتال”، بقلم الشهيد عبد القادر جرادات (سعد)، والشهيد جورج شفيق عسل (أبو خالد)، لقناعتنا بأهميّةِ ما يحويه الكتابُ من أفكارٍ ولّدتها تجربةُ القتال في جبل صنين، ضدّ “القوات الانعزالية” المتواطئة مع العدو الصهيوني، أثناء ما عُرف بالحرب الأهليّة في لبنان. يمكننا اعتبار هذا النصّ نموذجاً للبحث المحارب المهموم بالتقاط الأفكار التي تُولد في المواجهة، وتكثيفها في مقولاتٍ للوعيّ والسلوك، وخاصةً في مجال إعادة صياغة الذّات وتربية النفس بما يتلاءم مع ما يحمله الإنسانُ من أفكارٍ. ليس الدافعُ وراء إعادةِ نشرِ هذا النصّ الحنينُ إلى زمن الطهارة الثوريّة ووضوح المعركة، وإنّما هو الوفاءُ للشهداء، وحاجتنا إلى إعادة الارتباط بهذا الإرث الثقافيّ النبيل في زمن الزيف والنفاق.

توطئة:

نُعيد في باب الواد نشرَ كتابِ “أفكارٌ ثوريةٌ في ممارسة القتال”، بقلم الشهيد عبد القادر جرادات (سعد)، والشهيد جورج شفيق عسل (أبو خالد)، لقناعتنا بأهميّةِ ما يحويه الكتابُ من أفكارٍ ولّدتها تجربةُ القتال في جبل صنين، ضدّ “القوات الانعزالية” المتواطئة مع العدو الصهيوني، أثناء ما عُرف بالحرب الأهليّة في لبنان. يمكننا اعتبار هذا النصّ نموذجاً للبحث المحارب المهموم بالتقاط الأفكار التي تُولد في المواجهة، وتكثيفها في مقولاتٍ للوعيّ والسلوك، وخاصةً في مجال إعادة صياغة الذّات وتربية النفس بما يتلاءم مع ما يحمله الإنسانُ من أفكارٍ.

ليس الدافعَ وراء إعادةِ نشرِ هذا النصّ الحنينُ إلى زمن الطهارة الثوريّة ووضوح المعركة، وإنّما هو الوفاءُ للشهداء، وحاجتنا إلى إعادة الارتباط بهذا الإرث الثقافيّ النبيل في زمن الزيف والنفاق.

**

هذا الكتاب

تحمل موضوعات هذا الكتيّب أهميةً نظريةً وعمليةً في آنٍ واحدٍ؛ فمن الناحية النظرية تشكل تعميماً لأفكار ثوريةٍ نبعت من تجربةٍ قتاليةٍ محددةٍ، ولهذا فهو نموذجٌ لعملٍ نظري لا يحمل سمة الدراسة البحثية.

أما الجانب العملي الذي يعطي أهميةً أشدّ لهذه الموضوعات، فينبع من الدور التثقيفي الذي يمكن أن تلعبه في الصراع ضدّ الأفكار الخاطئة، وفي تكريس الأفكار الصحيحة، وهذا سيعني عملاً تثقيفياً لإعادة صياغة النفس وتصحيح الممارسة، بما في ذلك، المسلك والعادات والأخلاق، ومن هنا فإنّ المناضلين الذي يهمّهم هذا الطراز من التثقيف، سيجدون في هذا الكتيب ثراءً لا ينضب.

إنّ الشهيدين سعد وأبو خالد حين يتركان هذا الأثر الفكري يكونان قد قدما للقضية القومية العربية إسهاماً كبيراً إلى جانب حياتهما النضالية واستشهادهما.

**

إعادة صياغة الذات

ما هي أفكارنا الحقيقية؟

   كثيراً ما توجد لدينا، وكذلك بالنسبة للفرد الواحد، عقليتان أو نوعان من الأفكار؛ العقلية والأفكار التي نترجمها عبر لساننا وفي أحاديثنا، والعقلية والأفكار التي نترجمها عبر ممارستنا وسلوكنا، وإذا سألنا ما هي أفكارنا الحقيقية؟

   الجواب: إنّها ما نترجمها عبر ممارساتنا وسلوكنا؛ فالأفكار التي تتشكّل منها عاداتنا وأمزجتنا ومختلف ممارساتنا ومسالكنا هي الأفكار التي يجب أن نقرّ بأنها تشكّل التركيبة التي تتكوّن منها عقليّتنا. وإذا كانت الأفكار هي نتاجٌ طبقيّ وتاريخيّ تكونت عبر الممارسة العملية في الصراع ضدّ الطبيعة، وفي الصراع من أجل الإنتاج، وفي الصراع الطبقيّ والقوميّ، وفي الصراع عبر التجربة العمليّة، فإنّها بدورها تعود فتقرّر كيف نمارس وكيف نسلك وكيف نحدّد مواقفنا الحقيقية.

   ولهذا، فإنّ تغير الأفكار التي نحمل، ومن ثمّ تغير التركيبة كلّها التي تتكون منها عقليتنا، يؤديان إلى أن تتغير ممارساتنا وسلوكنا وأمزجتنا، لأنّنا لا نستطيع أن نمارس ونسلك ونتصرف ونحدّد مواقفنا الحقيقية إلّا كما نفكر. وإذا كان هذا التغيير لا يتمّ إلا عبر الممارسة ومن خلالها وفي أثنائها، إلا أنّه لا يتمّ تلقائياً خارجاً عن عملية الصراع في ميدان الأفكار، ولا يتمّ خارجاً عن عملية الصراع الداخليّ لدى المناضل نفسه من أجل تحطيم الأفكار القديمة التي يحملها، وإعادة صياغة عقليته بالأفكار الجديدة الثوريّة، وهذا يتضمّن تغيير الأمزجة والأذواق أيضاً.

  إنّ تبنّي الأفكار الثورية يمرّ عبر مرحلتين اثنتين؛ المرحلة الأولى هي أن تكوّن قناعاتٍ أوّليةً بتلك الأفكار تترجم عبر اللسان والأحاديث، ولكنها لا تترجم عبر الممارسة والسلوك والمزاج والمواقف الحقيقية، أما المرحلة الثانية فهي المرحلة التي تنتقل فيها هذه القناعات الأوّلية إلى ترجمةٍ فعليةٍ عبر الممارسة والسلوك والمزاج، والمواقف الحقيقية. أيّ تصبح هي الأفكار السائدة فعلاً. غير أنّ الانتقال إلى هذه المرحلة يحتاجُ إلى صراعٍ شاقٍّ وطويلٍ بعد تحقيق الانتصار أيضاً؛ وذلك للمحافظة عليه من عوامل الخراب والفساد وعودة انتصار عواملَ مادّيةٍ وذاتيةٍ تمدّه بأسباب العودة إلى السيادة من جديدٍ، ولهذا فهو صراعٌ شاقٌّ طويلٌ ومستمرٌّ، وإذا لم ننتبه لهذه المسألة ونعالجها بأعلى درجات اليقظة وبذل الجهد، فإن الخطر يظلّ خطراً مُحدِقاً بلا شكّ.

   لو ضربنا مثلاً عملية إبدال الغرور بالتواضع بالنسبة للعلاقة بالشعب والأخوة المناضلين والثورة، فسنجد أنّ العملية في مرحلتها الأولى سوف تتّسم بإعلان رفض الغرور ونقده والتأكيد على التواضع وضرورة تكريسه في العلاقة بالشعب والأخوة المناضلين والثورة. ولكن دون أن يُترجم ذلك إلى الممارسة والسلوك والمزاج؛ حيث يبقى الغرور سائداً فعلياً، وهو الذي يُترجم نفسه في طريقة النظر إلى الشعب والأخوة المناضلين والثورة ومعاملتهم.

   ثمّ تأتي المرحلة الثانية، وهي دخول الصراع الأشدّ، أيّ انتصار التواضع فعلياً وإنزال الهزيمة بالغرور، ولكن ذلك يحتاج إلى الاستمرار ومواصلة النضال للمحافظة على التواضع وتعميقه وتكريسه، وخوض الصراع المستمرّ ضدّ مجموعة العوامل المادية والذاتية التي تسعى لإفساده وإعادة الغلبة للغرور. إنّ هذا ينطبق على سائر الأفكار الأخرى مثل: هل نكون شجعاناً أم نكون جبناء؟ هل نكون على استعدادٍ للتضحية ونقوم بالتضحية فعلاً؟ أم نحن على غير استعدادٍ للتضحية، بل ونخشى التضحية؟ هل نكون مع التنظيم أم ضدّ التنظيم؟ مع العمل الجماعي أم مع العمل الفردي؟ هل نفكّر بأنفسنا قبل الآخرين أم نفكّر بالآخرين قبل أن نفكر بأنفسنا؟ طبعاً إنّ هذه المقولات وأمثالها التي اصطلح على تسميتها قيماً أو صفاتٍ تحدّدها الأفكار التي نحملها حول هذه القيم، وحول مسألة النضال من أجل الشعب، وحول الموقف من مسألة القيام بالثورة.

   ولهذا فإنّ الصراع بين الخطّين يعبر المراحل الثلاث: المرحلة الأوّلية، ثمّ مرحلة انتصار الأفكار الثوريّة، ثمّ مرحلة المحافظة على هذا الانتصار وتعميقه وتكريسه.

   لقد علمتنا التجربة أنّ الصراع بين الخطين في المرحلتين الثانية والثالثة هو الصراع الحاسم والذي يجب أن نشدّد عليه؛ لأنّ هنالك اتجاهاً لدى الكثيرين يجنحُ إلى التثبيط في المرحلة الأولى، أيّ إبقاء الثوريّة على اللسان وفي الأحاديث، مع المحافظة على الأفكار التي يحملونها حقيقةً، والتي توجّه ممارستهم وأمزجتهم وسلوكهم، والتي هي غير تلك الأفكار الثورية التي تدور على لسانهم وفي أحاديثهم. وهم لهذا يقومون بضراوةٍ بخوض الصراع للانتقال إلى المرحلة الثانية ومن ثمّ إلى الثالثة. ولكن دون خوض الصراع للانتقال إلى المرحلة الثانية والثالثة لا يمكن أن يعيد المناضلون صياغةَ أنفسهم وأفكارهم، ومن ثمّ يستحيل السير بالثورة حتى النصر.

  من هنا، علينا أن نُقدِم دونما خوفٍ على خوض النضال والصراع بين الخطّين في هذه المستويات الثلاثة، وخاصّةً في المرحلتين الثانية والثالثة. هذا ولنتعلم من تجربة حركتنا فتح، حين خاضت الصراع لترجمة الكفاح المسلح إلى ممارسةٍ فعليةٍ وعدم ابقائه مجرّد شعارٍ يدور على اللسان وفي الأحاديث.

هل يجب أن نغيّر أنفسنا ونعيد صياغتها؟

    عندما يحقّق كلّ مناضلٍ منّا مع نفسه، سيجدُ أنّه جاء إلى الثورة وهو يحمل عدداً كبيراً من الأفكار والعادات والأمزجة التي تلقّنَ بعضَها من المدرسة والأفكار السائدة في المجتمع، والتي تكوّن بعضُها عبر الصداقات والتجارب التي مرّ بها والتي حمل بعضها من قبل من تأثّر بهم، ولهذا عندما يلتزم بالعمل في الثورة يدخل في علاقاتٍ جديدةٍ، ويقوم بممارساتٍ جديدةٍ، ويجدُ أنّ مسألة القيام بعمل الثورة وخدمة الشعب كثيراً ما تصطدم مع تلك الأفكار والعادات والأمزجة التي يحملها، والتي تطبع ممارساته وتصرفاته ومسالكه وآراءه. هذا ويمكننا أن نعدّد هنا عدداً من الأمثلة على هذه الموضوعة؛ فهنالك الأنانيّة والفرديّة والغرور والبحث عن المصلحة الخاصة، وهنالك المزاج مثل العصبية والنرفزة واللّامبالاة وضيق النفس وعدم الرغبة في خدمة الشعب، أو الميل للسيطرة على الآخرين وقمعهم واستغلالهم. وهناك أفكارٌ مثل عدم الميل للدراسة الثورية والمثابرة على العمل، أو العناد في الدفاع عن الأخطاء. وهنالك النظرة إلى العالم وما هو الشيء الذي يجب أن نكرّس حياتنا له، هل نعيش لكي نجمع الثروة؟ هل نهتمّ باقتناء الأشياء؟ هل نهتمّ بالمظاهر والقشور؟ أم نعيش من أجل الشعب والثورة، ونتخلى عن الاهتمام بذواتنا فنفكر في صهر أنفسنا في النضال من أجل الثورة ومن أجل خدمة الشعب.

   كلّ هذه الأمور لا بدّ من أن نصطدم بها، وعلينا أن ندخل الصراع الحازم للتخلص من الأفكار والعادات والأمزجة والممارسات التي تبعدنا عن الثورة والشعب وتعرقل نضالنا، وعلينا أن ندخل هذا الصراع لإعادة صياغة أنفسنا من أجل التمسّك بالأفكار والعادات والممارسات وبالنفسية التي تدمجنا بالثورة، وتزيد من التحامنا بالشعب وتبنّي خطّ الجماهير. وإذا لم نفعل ذلك وباستمرارٍ؛ فإنّنا لن نقدر على القيام بالثورة والتسلّح بأعلى درجات الجرأة على خوض النضال، وأن نربّي في أنفسنا روح الصمود وعدم الخوف من أيّة تضحيةٍ حتى نحقّق النصر النهائيّ.

   إنّ مسألة الموقف من هذه القضية وممارستها أو عدم ممارستها فعلاً، هي مسألة خطٍّ سياسيٍّ وخطٍّ فكريٍّ، إنّها موقفٌ طبقيٌّ؛ فالخطُّ السياسيُّ الصحيح والخطُّ الفكريُّ الصحيح يضعان مسألة تغيير أنفسنا وإعادة صياغتها باتجاه الثورة في مقدّمة الأمور والمهمّات التي توضع على عاتق المناضلين. إنّ تبنّي هذا الخطّ هو الذي يُثبتُ قدرة الطليعة على أن تكون حقيقةً طليعة الجماهير، وتقود الثورة بنجاحٍ. وإذا لم نتشرّب بهذه الموضوعة حتى العظم، وإذا لم نطبّقها بحزمٍ فسنكون عُرضةً للفساد والخراب، ومن ثمّ إفساد كلّ ما بين أيدينا، وفي المقدمة إفساد الثورة نفسها، ليس هذا وحسب، بل سننقلب إلى أعداء للشعب في المدى البعيد، أي سنسلك طريق عتاة النفعيّين والطغاة وسائر الفاسدين المُفسدين المتسلّطين على الشعب. إذن فلنخُض هذا الصراع ضدّ أنفسنا، إنّه الجهاد الأكبر بالنسبة للطليعة المناضلة.

تكريسُ حياتنا من أجل الشعب والثورة

   ثمّة خطّان ينبعان من منطلقين فكريّين متناقضين تماماً؛ إنهما يشكّلان جزئين متعارضين من نظريتين متعارضتين. وذلك في مواجهة مختلف المسائل التي تواجه الثورة والثوار، وكذلك في تحديد موقفنا من مختلف نواحي الحياة ورؤيتنا لها.

  ولقد علمتنا تجربتنا الملموسة في الحرب التي خاضتها الجماهير الفلسطينية واللبنانية، أنّ ثمّة خطّين أساسيين دائماً في مواجهة مختلف المسائل التي تواجه الثورة والثوار، وكذلك في تحديد موقفنا من مختلف نواحي الحياة ورؤيتنا لها.

   إنّ هذين الخطّين يحملان طبيعةً فكريةً، فهما يتعلّقان بالمفاهيم التي يحملها المرء عن الحياة والعالم، أو بعبارةٍ أخرى، يتعلّقان بالأفكار التي يحملها عن مختلف الأشياء ككلٍّ وكأجزاءٍ، وقد أثبتت تجربتنا بأنّنا كما نفكر، فحقيقةً نحن نتصرّف وليس كما نقول أو نُعلِن وبين ما نفكّر فيه حقيقةً وفعلاً. لهذا فإنّ المحكّ الحاسم لما نحمل من أفكارٍ هو ما نمارس فعلاً وكيف نمارسه؛ فأفكارنا الحقيقية نعرفها في ممارساتنا العملية، ومن هنا فإنّ الطريق إلى الممارسة الثورية الصحيحة هو أن نحمل حقيقة الأفكار الثورية الصحيحة.

   هذا ولا يمكن أن نطوّر ممارساتنا إذا لم نطوّر أفكارنا؛ فمسألة إعادة صياغة أنفسنا تشكّل شرطاً ضرورياً لكي تستطيع الإسهام مع الجماهير، ونمارس دوراً قيادياً في تغيير العالم. ولا تقتصر إعادة صياغة النفس على تبنّي خطٍّ سياسيٍّ صحيح، وإنّما تتطلب أيضاً، وبأهميةً كبرى، إعادة صياغة ما نحمل من أفكار ومفاهيم. لأن ذلك سيقرّر سلوكنا وأخلاقنا ومختلف نواحي ممارستنا. إنه سيقرّر على سبيل المثال مسألة تجرّؤنا على النضال أو عدم تجرّؤنا عليه، مسألة خشيتنا أو عدمها من الإقدام على أيّة تضحية. إنّه سيقرّر مسألة استعدادنا للتخلّص من أخطائنا ونواقصنا، وهكذا بالنسبة إلى مختلف المسائل والقضايا.

    عندما ارتفع الموج الثوريّ في لبنان وانتقل الصراع إلى مستوى المواجهة المسلّحة طويلة الأمد، برز خطّان فكريان متعارضان داخل صفوفنا يدوران حول حقيقة نظرتنا إلى الثورة وقضية الشعب. هل نعطي الثورة كلّ شيءٍ؟ هل نتمسّك بقضية الشعب حتى النهاية؟ هل نخدم الشعب بكلّ تفانٍ ونكران ذات؟ أم نحن مع الثورة وقضية الشعب ضمن مدى محدودٍ لا نتعدّاه، ولا نسمح لأنفسنا بالتخلّي عن مصالحنا الخاصة؟ ونظلّ نتمسّك بتأمين مستقبلنا الفرديّ؟ فإذا كان هنالك من تضحيةٍ فلقيدّم سوانا هذه التضحية، وإذا كان هنالك من صِعابٍ فليتحمّل غيرنا هذه الصعاب؛ فنحن بهذا دائماً نفكّر بإنقاذ جلدنا وبتأمين راحتنا وأمننا، وحين نتعب أو نشقى فلا بدّ أن يكون هذا التعب وهذا الشقاء إلى حدٍّ محدودٍ، ويجب أن نتغنّى فوراً بما قدّمنا وبما تحمّلنا ونُبرزه ونتقاضى عليه ثمناً غالياً من الشعب.

    إنّ الإجابة على هذه الأسئلة تقود فوراً إلى خطين من فكريّين متناقضين، ولا شكّ في أنّ كلاً منهما ينتمي إلى طبقةٍ من الطبقات، وأنّ كلاً منهما له مداه الذي يختلف فيه عن الآخر في النظر إلى الثورة وقضية الشعب. وإلى أيّ حدٍّ تتسأهل قضية الثورة الفلسطينية والثورة العربية، قضية جماهير الأمة العربية أن نعطي لها.

    ومن خلال هذا الصراع بين الخطّين، أخذ الخطُّ الثوريّ الصحيح يتحدّد، وتبلورت نظرتنا في مواجهة مختلف المسائل والقضايا، وجاءت الحصيلة النهائية تقول بأنّ ليس لحياتنا الفردية من معنىً وقيمةٍ إلا بالتزامنا الالتزام الصادق وغير المحدود بقضية الثورة والشعب؛ فكلّ حياةٍ بالنسبة لنا خارج النضال من أجل الثورة ومن أجل قضية الشعب ومن أجل قضية الوطن العربي هي حياةٌ نرفضها ونراها حياةً تافهةً ولا قيمةَ لها أبداً. لذا ينبغي أن نكون دوماً على استعدادٍ للتضحية، أيّة تضحيةٍ، من أجل هذه القضية، وما من شيءٍ في الحياة أنبل من أن يكون الإنسان مناضلاً في صفوف الجماهير. وما من مظهرٍ أو مكسبٍ أو حياةٍ، وما من مركزٍ أو منصبٍ أو شهرةٍ أو مالٍ يستحقُّ أن يُغري المناضل بالبحث عنه والسعي له وترك قضية الشعب والثورة، بل ما من عزيزٍ من أمٍّ، أبٍ، أخٍ، أختٍ، ولدٍ، بنتٍ، زوجٍ أو زوجةٍ، حبٍّ أو عائلةٍ أو أيّة علاقةٍ أخرى يمكن أن تُعطى أولويةً على قضية الشعب والثورة.

   كذلك من غير الممكن لخطرٍ أو تضحيةٍ أو لصعوبةٍ أو مشقّةٍ أو بؤسٍ أو نكسةٍ أو حتى للموت نفسه، أن يُثني عزم المناضل عن الاستمرار بالثورة والقيام بخدمة الشعب وتحقيق انتصار قضية الشعب والوطن.

   إنّ التسلّح بهذه النظرة إلى الحياة والأشياء وتجذيرها في عقولنا وفي صميم قلوبنا، وجعلها تطردُ بعيداً كلّ الأفكار النقيضة لها، يشكّل شرطاً ضرورياً لولادة الطليعة الثورية التي تستطيع أن تحمل بشرفٍ قضية الشعب والثورة والوطن، وتصبح عندئذٍ جديرةً بأن تمحضها جماهير أمتنا العربية الثقةَ والحبَّ، إنّه شرطٌ ضروريٌّ من شروط السير بالثورة حتى النصر.

الموقف الأخلاقي

    عندما يحتدمُ الصراع بين الخطّين على المستوى الفكري، وينتقل لمسائل العادات والتقاليد والمسلك، وأساليب معالجة القضايا، يبرزُ اتّجاهٌ يتميّزُ بالاستهتار بالمسائل ذات الطابع الأخلاقيِّ، ويقول إنّكم تحوّلون المسألة إلى مسألة أخلاقٍ. وفي نظرهم يتصوّرون أن ما يستأهل الصراع حوله هو المسائل السياسية فقط، أمّا الأخلاق، فشيءٌ مبتذلٌ ولا يجوز أن تدخل في الموضوع، إنّ هذا الاتجاه هو وجهٌ آخرُ للصراع بين الخطّين؛ فهو يريدُ أن يتحرّر من أيّ قيدٍ أخلاقيٍّ -هذا بحدّ ذاته أخلاقٌ محدودةٌ- والسبب في ذلك هو أنّ الأخلاق هي استمرارٌ لسياسةٍ محدّدةٍ وعن فكريةٍ وعقليةٍ محدّدةٍ ولا مناص.

    عندما نشنّ النضال على المستوى الأخلاقيِّ كجزءٍ من شنّ النضال على المستوى السياسيّ والفكريِّ، نفعل ذلك لأنّ الخطّ السياسيّ الصحيح يحملُ أخلاقَه، والخطّ الفكري الثوري يحمل أخلاقه أيضاً، ولهذا لا بدّ أن تمتدّ أصابع الصراع بين الخطّين إلى المجال الأخلاقيّ، وما دام الأمر كذلك علينا ألّا نُبتزّ من المقولة التي تصوّر أيّ حديثٍ عن الأخلاق ابتعاداً عن العلم والفكر الثوريَّ والسياسة؛ لإنها لا ترى العلاقة العضوية بين كلّ ذلك، ولكنّها لا بدّ من أن ترى تلك العلاقة حين تجدُ الصراع يمتدُّ إلى مجال الأخلاق لا محالة.
إنّ تجربة ثورتنا بقيادة فتح علّمتنا أن هناك عدداً من القيم الأخلاقية والتي هي شرطٌ من انتصار حرب الشعب، ليست شيئاً لا معنى له، أو لا علاقة له بالثورة والسياسة. إنّ تلك القيم التي هي استمرارٌ لتراثٍ ثوريٍّ تاريخيٍّ مجيدٍ لأمّتنا العربية لا يمكن أن تتأكّد وتُكرّس وتُطوّر عبر حربنا الشعبية.

   إذا لم يتشرّب الثوار حملة البنادق بالأخلاق الثورية ويعطوها الاهتمام اللازم، فلن يستطيعوا أن يخدموا الثورة والجماهير، وإذا لم يُصارِعوا في ميدان الأخلاق كجزءٍ لا يتجزّأ من صراعهم ضدّ العدوّ، وكذلك من صراعهم الداخليِّ داخل الخطوط السياسية والفكرية الخاطئة والمنحرفة؛ فإنهم لن يستطيعوا السير بقضيّتهم الثورية حتى النهاية… نعم هنا يكمنُ الصراع بين الخطّين أيضاً.

الجرأة على النضال ضدّ الأخطاء والنّواقص

   إذا كان النضال ضدّ العدو يحتاج إلى الجرأة، ويحتاج إلى التجرؤ على خوضه فإنّ الجرأة في الحالتين تختلف باختلاف الحالتين. ولكنها تلتقي في الجوهر من حيث الطبيعة الطبقيّة مع الأفكار التي نحملها. كما أنّ التشرّب بفكرة الجرأة على النضال ضدّ العدو والتجرؤ المستمر على خوضه، ترتبط بوحدةٍ عضويّةٍ مع التشرب بفكرة النضال ضد أخطائنا ونواقصنا والتجرؤ على خوضه. إنّنا نحمل التجرؤ على خوض النضال ضدّ العدو لأنّنا نريدُ خدمة الشعب وانتصار الثورة. وكذلك نحن نحمل فكرة التجرؤ على أخطائنا ونواقصنا لأننا نريد خدمة الشعب وانتصار الثورة. كما أنّ كل خطوة نحرزها على طريق النضال ضد أخطائنا ونواقصنا تعني التقدّمَ خطوةً إلى الأمام في النضال ضدّ العدو. ولهذا، فنحن لا نستطيع أن نكون متماسكين إذا تشرّبنا بروح الجرأة على خوض النضال ضدّ العدو وبقينا متقاعسين أو جبناء في مواجهة أخطائنا ونواقصنا. كما أنّ روح الجرأة علي خوض النضال ضدّ العدو سوف تبقى معرضةً للانتكاسة إذا بقينا متقاعسين أو جبناء في مواجهة أخطائنا ونواقصنا.

   من هنا، إنّ الخطّ الفكريّ الذي يعتبرُ بأنّ التجرؤ على خوض النضال ضدّ العدو يكفي، ولا يقرنه بالتجرؤ على النضال ضدّ الأخطاء والنواقص، إنّما يشكل اتجاهاً فكرياً خاطئاً، ولا بدّ من خوض الصراع الفكريّ ضدّه باتجاه تكريس فكرة التجرؤ على خوض النضال ضدّ أنفسنا وضدّ أخطائنا ونواقصنا .

   لقد أظهرت تجربتنا في الحرب الشعبية الطويلة إنّ التجرؤ على خوض النضال ضدّ النفس، وضدّ الأخطاء والنواقص، أصعبُ من التجرؤ على خوض النضال ضدّ العدو. إنّ عملية التعرض للنفس، لأخطائنا ونواقصنا، تشكّل الجهاد الأكبر وتحتاج إلى التحلي بقناعةٍ فكريةٍ عاليةٍ بقضية الثورة والالتزام بقضية الجماهير وبضرورةِ التحوّل إلى جزءٍ من حركة الجماهير الثوريّة. لأنّه بدون مثل هذه القناعة الفكريّة لا يكون هنالك مسوّغٌ للمساس بعاداتنا ومسالكنا وممارساتنا ونقد أخطائنا السياسية والفكرية. وهنا تسود المكابرة والغرور وعدم الثقة بالجماهير وعدم الحرص على الثورة والخوف من اهتزاز الهيبة والمكانة. وحيث تكون السيادة لهذه كلّها فإنّ مواجهة أخطائنا ونواقصنا تصبح أصعب من التجرؤ على مواجهة العدو .

    من هنا، علينا أن نتمسك بالخطّ الفكري الذي يكرّس الجرأة على النضال ضدّ أنفسنا، ضدّ أخطائنا وضدّ نواقصنا، ودخول الصراع ضدّ الخطّ الفكريّ الذي يتقاعس أن يجبنَ في النضال ضدّ النفس وضدّ الأخطاء والنواقص. نعم، يجب أن يجري هذا الصراع ونحن نكرّس خطّ الجرأة على النضال ضدّ العدو.

لمتابعة قراءة النصّ وتحميل الكتاب من هنا