يقع الوادي حوالي 30 كم شمال أم الرشراش، ويمتدُ على مساحة شاسعة 70 كم مربع، ويأخذ وادي المنيعة شكل حذوة الفرس تحيط بجبل المنيعة 453م،  وينفتح عند الشّرق نحو العربة. وللوادي أسماءٌ متقاربة؛ المنيعيّة والمنايعة والمنّاعية. وأغلب الظن أن الاسم مشتق من المِنعة أي المكان المحصّن.

في الطريق إلى المنيعة: ليلةٌ في واد حِنْدِس

في طريقي إلى وادي المنيعة وصلتُ، بعد غروب شمس الـ 22 من نيسان، إلى وادي حِندِس. يبعد الوادي حوالي 18 كم إلى الشمال من أم الرشراش (أو المرشرش) أو ما تُسمّى “إيلات”. وحندس هو الظلام الشديد، وكانت العرب تُسمّي ليالي 22 و23 و24 من كلّ شهرٍ قمريٍّ بالحنادس لشدّة ظلمتها. بعد جولةٍ قصيرةٍ باحثاً عن مكانٍ أبيتُ فيه ليلتي، مددتُ فراشي، وأوقدتُ ناري على منبسطٍ من الأرض. كانت النسائم العليلة تطردُ وحشةَ المكان، كأنها مسامرةُ أهل المكان الغائبين لضيفٍ حلَّ في ديارهم.

دعوني قبل الحديث عن تلك الديار وأهلها، أَقُصُّ عليكم قصةَ لقاءٍ غير متوقع في الوادي. ونحن نبحث عن مكانٍ نبيت فيه، أنا ورفيق دربي، وإذا بضوءٍ مُتقطعٍ يَلمعُ في ظلام الوادي الدامس. أَوْقفنا السيارةَ، وبدأ الضوء يقترب مِنَا شيئاً فشيئاً، تحسّسنا هراواتنا، وإذا به رحالةٌ ألمانيٌّ في الثلاثينيات من عمره، يحمل خيمته على ظهره. صُدِمتُ من هذا اللقاء، وسألتُه ما الذي يفعله هنا وحيداً في هذه الأرض المقطوعة، فقال إنه وَصَلَ صبيحة اليوم إلى “إسرائيل”، وإنّه سيقوم برحلةٍ استكشافيّةٍ في جبال “إيلات”. نَخَزَت قلبي كلمةُ “إسرائيل”.

سألني ذلك الألمانيّ عمّا إذا كان المكان الذي ينوي التخييم فيه آمناً، خاصةً من خطر الفيضانات، فأجبته بأنّ المكان في بطن الوادي غيرُ آمنٍ، وأن المنطقة تجوسُ فيها الذئاب والضباع ليلاً “لتطفيشه”، انتقاماً منه لكلمة “إسرئيل”.

الحاصلة، نَصَبَ خيمتَه في مكانٍ يبعد عنا حوالي 500م. وقد منحنا ذلك الإفرنجي فرصةً للتسلية طوال الليل، فكان صاحبي كلما رآه قد أطفأ نورَ خيمتِه لينام، أخذَ يعوي عواء الذيب. وهكذا، قضى ذلك الإفرنجي اللعين ليلتَه ما بين إطفاء النّور وإشعالِه حتى شَقْشَقَ الصّبحُ.

 

          

ما بين غيمٍ وجبلٍ، طَلَعَت الشمسُ

طَـلَـعَت الشمسُ من على جبال الشّراة، الحدّ الشرقي لوادي عربة، وبدأتُ التّعرفَ إلى المكان ومعالمه، وبالأخص بير حِندِس التي تقع شمال الوادي، وهي من آبار وادي عربة المشهورة في ديار عرب الأحيوات. احتل الصهاينة البئر في عملية “عوفدا” التي انطلقت من بئر السبع في 6 آذار 1949 لاحتلال أم الرشراش “إيلات”، والتي انتهت في 10 آذار دون قتالٍ، حيث انسحبت قوات الفيلق العربيّ من مواقعها بأوامرَ من قيادتها، ووقعت مناوشةٌ وحيدةٌ مع القوات الصهيونية، على ما يبدو بمبادرةٍ فرديةٍ بالقرب من عين غضيان، ما يُسمّيه الصهاينة “يوطفاتا”. وبعد احتلال أم الرشراش، كانت بير حِندِس مصدرَ المياه الوحيد لمستعمرة “إيلات” المقامة فوقها.

في شهر كانون الأول من العام 1950، أقام الصهاينة معسكراً لقوات “الجدناع” في بير حندس. قررتْ “لجنة الأسماء الحكومية” تسميةَ المعسكر، ولاحقاً المستعمرة، ببئر النور (באר אורה). يقول الصهاينة إنّ هذا الاسم اختير لمخالفة الاسم العربي “حندس” الذي يعني الظلام، وهذا من مُماحكات الصهاينة الصبيانية في تسمية الأماكن في فلسطين.

 

كانت منطقة بير حندس ساحةً للعديد من العمليات الفدائية في منتصف الستينيات، التي تنوّعت ما بين إطلاق الرصاص، وبين محاولةِ خطفٍ للصهاينة لتبادل الأسرى، وبين زراعة الألغام الأرضية. في 18 آذار 1968، تسللت مجموعةٌ فدائيةٌ من شرق الأردن، وزرعت لغماً أرضيّاً بالقرب من المعسكر الصهيوني في بير حندس. أدّى انفجار اللغم تحت حافلةٍ صهيونيةٍ إلى مقتل ضابطٍ وجنديٍّ صهيونيَيْن وجرح 28 آخرين. على إثر هذه العملية. شنّ الصهاينةُ عمليةً عسكريةً انتقاميةً، والتي ستتحوّل إلى معركةٍ شرسةٍ، وستُعرَف لاحقاً باسم معركة الكرامة، والتي بدأت في 21 آذار، وانتهت بهزيمةٍ صهيونيةٍ.

     

   

وقفة عند دوم عين الدافية

ودّعت بير حندس قبيل الضحى، وتوجهت إلى وادي المنيعة مقصدي من الرحلة وغايتي. في الطريق، عرجت على آخر ما تبقى من أشجار نخيل الدوم المصريّ أو السوداني في فلسطين قرب عين الدافية (عفرونا عند الصهاينة). وقد تعرفتُ إلى الدوم للمرة الأولى، وشربتُ شرابه اللذيذ قرب حرم مولانا البدوي في طنطا في مصر. وفي بلادنا فلسطين، يُطلق اسم الدوم على أشجار النبق والسدر المنتشرة في الكثير من المناطق، وهي المقصودة في الأغنية الشعبية:
عالدوم عيني عالدوم  واش جاب امبيرح لليوم
وامبيرح كانت عتمه   واليوم قمر ونجوم

 

 

قطفتُ بعضَ ثمارِ الدوم التي تمنعُ قطفَها لافتةُ “سلطة حماية الطبيعة”، وعُدتُ إلى طريق رقم 90، أطول طرق فلسطين تحت الاحتلال من بوابة فاطمة شمالاً إلى معبر طابا جنوباً، ولا تزال بقايا الطريق من عهد الاستعمار الإنجليزي ظاهرةً إلى الشرق من الطريق الحالي بالقرب من مصب وادي المنيعة في العربة.  

المنيعة: صخب الأركيولوجيا وصمت الوادي

في جنوب وادي عربة، وادي النّار عند البدو، تمتدُ أكثرُ مناطق النقب الجنوبيّ احتضاناً للاستقرار البشريّ منذ آلاف السنوات، بالرغم من كونها أكثرَ مناطق النقب الجنوبي جفافاً وقسوة. منذ ما يقارب العشرة آلاف سنة، تركزت المستقرات البشرية في القسم الجنوبي من وادي عربة حول وادي المنيعة، والذي يعتبر من أقدم مواقع تعدين النحاس في العالم. يقع الوادي حوالي 30 كم شمال أم الرشراش، ويمتدُ على مساحة شاسعة 70 كم مربعاً، ويأخذ وادي المنيعة شكل حذوة الفرس تحيط بجبل المنيعة 453 م، وينفتح عند الشّرق نحو العربة. وللوادي أسماءُ متقاربةٌ؛ المنيعيّة والمنايعة والمنّاعية. وأغلب الظن أن الاسم مشتقٌ من المِنعة؛ أي المكان المحصّن.

وأما المسمّى الصهيوني فهو (تمناع-תמנע وTimna بالإنجليزية) وهو اسمٌ توراتيٌّ ملفقٌ فَرضوه على المكان، ويقولون إنّ المنيعة تحريفٌ للاسم التوراتي “تمناع”. ومعروف أن لجنة الأسماء التي أسسها بن “غوريون” كانت مهمتُها العاجلةُ إعادةَ تسمية الأماكن في بلاد النقب خاصّة. ويظهر من خلال من أرخّ لعمل هذه اللجنة أنهم كانوا يقومون بالبحث في النصوص التوراتية عن اسمٍ قريبٍ من الاسم العربي، ومن ثمّ يلفقونه للمكان، وقد وجدوا ضالتَهم في الإصحاح الـ 36 في سفر التكوين: “وَكَانَتْ تِمْنَاعُ سُرِّيَّةً لأَلِيفَازَ بْنِ عِيسُو فَأَنْجَبَتْ لأَلِيفَازَ عَمَالِيقَ”. ولكي يغطوا على جريمتهم، يسمّون مواقعَ قريبةً بأسماء لها علاقةٌ بالمسمى الأول، وهكذا صار اسم المنيعة “تمناع”، والمستوطنة بالقرب منه “إليفاز”.

وادي المنيعة من ديار عرب الأحيوات (أو اللحيوات) التي كانت عامرةً بأهلها قبل تهجير النكبة. امتدت ديارهم في فلسطين لتشمل القسم الجنوبي من وادي عربة، وصولاً إلى خليج العقبة. وبحسب الإحصائيات الصهيونية، بلغ عديدها 1000 نسمة قبل النكبة، وبحسب بعض أفراد العشيرة حوالي الـ4000 نسمة. وقد اعتاش عرب الأحيوات على الرعي والزراعة وصيد الأسماك في البحر الأحمر، ولا تزال بقايا مزارعهم وبساتين نخيلهم إلى يومنا هذا في عين غضيان (يوطفاتا). وقد ورد ذكر بساتين غضيان المزروعة بالتبغ والبطيخ في شعر البدو:  

يا راكب من عندنا من فوق سحوان
يمّك على الغمر من دون غضيان
أملا صميلك وادهج الدرب يمه
التتن والبطيخ دونه خشب زان

وبقي أفرادٌ من عرب الأحيوات يتسللون من سيناء لزراعة أرضهم حتى نهاية الخمسينيات، وخاصّةً في وادي الجفي. وكانت الأحيوات تبيعُ تمورَها لقوافل الحجيج على درب الحج المصريّ التي تمرُّ في ديارها. وشكّلت حراسة قوافل الحجيج مصدراً مهماً للدخل عند الأحيوات.

وقد بدأ تضعضُعُ الوضع الاقتصادي للأحيوات، بعد أن أغلقَ الإنجليزُ طريقَ الحج المصري في سيناء في العام 1883، وصاروا ينقلون الحجيج بالسفن البخارية عبر البحر الأحمر، وذلك انتقاماً لمقتل الجاسوس والمستشرق “إدوارد بالمر” (Edward Palmer) في سيناء، وقد أرَّخ البدو للحدث شعراً:

والحج صبّح عن مشاحيه مدحور
وصارت غلايين البحر ينقلنه

ولا تزال أطلال الأحيوات شاهدةً في جنوبي وادي عربة على أهل الديار، وتتوزع هذه الأطلال على مطامر الحبوب، والمخازن وساحات درس الحبوب، ونقوش على الصخر حدّدوا فيها حدودَ ديارِهم وعلاماتٍ على الكلأ والماء. وللأسف، فإن قبيلة الأحيوات في فلسطين مهملةُ التاريخ والتوثيق، ولا تكاد تذكر. حتى إن عارف العارف، الخبير في قضاء بئر السبع وأهله، يقول إنّه لم يكن يعرف بوجود قبيلة الأحيوات إلا عن طريق الصدفة خلال رحلةٍ له إلى خليج العقبة.

في العام 1960، وصل طبّاخٌ سويسريٌّ، هو “ألفونسو نوسيمبور”، للعمل في فندقٍ صهيونيٍّ في “هرتسيليا” المُقامة على أنقاض قرية حرم سيدنا علي. وفي رحلةٍ له إلى “إيلات”، “عشق المكان”، كما يقول، وقَرَرَ أن يقضي بقية عمره هناك، وصار يقوم برحلاتٍ “استكشافيةٍ” بمساعدة دوريات الجيش الصهيوني في تحركاتها في منطقة جنوب وادي عربة.

جمع “نوسيمبور” مئات الأدوات والمقتنيات الخاصة بالأحيوات في فلسطين. والمُضحك المُبكي أن “ألفونسو” هذا “اكتشف” نقشاً على الصخر في أحد كهوف وادي المنيعة، فصار يُعرَف بـ”كهف ألفونسو”.  

تاريخٌ موجزٌ للنحاس في وادي المنيعة

عَرف الإنسانُ النحاسَ منذ ما يقارب الـ8000 عامٍ في بلاد ما بين النهرين والأناضول. وكان أول المعادن التي اكتشفَها واستعملَها الإنسان، ولعب اكتشافُه واستخدامُه في صنع الأدوات والأسلحة دوراً حاسماً في تاريخ الحضارة الإنسانية، ولهذا يُلقَب النحاسُ بـ”معدن الحضارة”.

يُعتبر وادي المنيعة من المواقع الأولى التي عرف فيها الإنسان صنعة التنجيم وتعدين النحاس، إذ تتفق معظم الدراسات الأثرية على أن النشاط التعديني في الوادي يعود إلى أكثر من 6000 عام، تمتد من العصر الحجريّ النحاسيّ مروراً بالعصر البرونزي، وخلال حكم الأسرتين الـ19 والـ20 من الدولة الفرعونية الحديثة (1400-1200 ق.م)، مروراً بالعهد النبطيّ والرومانيّ ووصولاً إلى العصر الإسلامي المبكر. ونرى آثار هذا النشاط التعديني في الوادي؛ إذ ينتشر فيه وحوله أكثر من 300 موقعٍ ما بين آبار التنجيم وأفران الصهر، ومكبات فضلات الصهر. وتؤكد العديد من الدراسات أن وادي المنيعة يحتضن أقدمَ فرنٍ لصهر خام النحاس في العالم.

وخلال الفترة المصرية، وَصَلَ النشاطُ التعديني في وادي المنيعة إلى أوْجِه. وإلى هذه الفترة، تعود أهم المواقع الأثرية في وادي المنيعة، والتي تشمل معبدَ الآلهة “حتحور”، أو معبدَ عُمالِ المناجم، ونقشاً جميلاً على الصخر يظهر فيه رمسيس الثالث، والمعبودة “حتحور” تحمل بيدها مفتاح الحياة الأبدية، فضلاً عن نقوشٍ للمحاربين المصريين على العربات، والتي تُظهِر دور القوات المصرية في حراسة الوادي، “وضبط القوى العاملة فيه”. لم أستطع أن أمنع نفسي من مقارنة الجنود المصرييين على عرباتهم شاهرين أسلحتهم على عمال المناجم والعبيد مع الجنود الصهاينة الواقفين على الحواجز يعبرها عُمالُنا كلَّ صباحٍ.

المنيعة وما حوله مليءٌ بالنقوش التي تعود إلى عصورٍ وفتراتٍ زمنيّةٍ مختلفةٍ، فهو سجلٌ للأمم والشعوب التي عرفها الوادي في حلّهم وترحالهم منذ فجر التاريخ وصولاً إلى أهل الديار من بدو وادي عربة الذين نقشوا وسومهم على ذات صفحات الصخر التي نقش عليها الغابرون.

وفي الفترة الإسلامية المُبكِّرة، شَهِدَت منطقةُ المنيعة نشاطاً تعدينياً مزدهراً، رافقه ازدهارٌ عمرانيٌّ وزراعيٌّ في عين الغضيان (يوطفاتا) وبير حندس (بير أورا) وقنوات نقل المياه المطمورة، وعين الدافية (عرفونا)، وصولاً إلى أيلة (إيلات) على شاطىء البحر الأحمر ، التي وصفها الرحالة المقدسي بأنها “ميناء فلسطين”.

عادةً ما يشير الصهاينة في مقدمات دراساتهم الأثرية والتاريخية لجنوب وادي عربة إلى صعوبة الاستيطان البشري في هذه المنطقة، منوِّهين في المقابل إلى نجاح المشروع الصهيوني في هذه المهمة بشكلٍ غير مسبوق.

وفي ذات السياق، فقد درجت الأركيولوجيا الصهيونية على التأريخ لمعظم مواقع المستقرات البشرية في جنوب العربة إلى الفترة البيزنطية والرومانية، إلا أنّ تحولاً حصل عند علماء الآثار الصهاينة في بداية التسعينيات، وأخذوا يرجعون معظم هذه المواقع إلى العصر الإسلامي المبكر. حصل ذلك بعد الكشوفات الأثرية في الجهة الشرقية لوادي عربة في الأردن، خاصةً تنقيبات “دونالد ويتكومب” (Donald Whitcomb) في تل المفجر والعقبة، والتي لا يكن تجاهلها علمياً لأنها تنتمي إلى ذات النطاق الجغرافي الحضاري.

(وادي المنيعة، خارطة Arabia Petraea، ألويس موسيل، 1907)

علماءُ آثارٍ وجواسيسُ

لا نَشُطُّ في الحكم إذا ما قلنا بأنَّ ما دخل وادي المنيعة مستكشفُ أو عالمُ آثارٍ إلا وكان جاسوساً. ففي العام 1902، وصل المستشرق والكاهن الكاثوليكي “ألويس موسيل” (Alois Musil) وادي المنيعة، ووصف خربة المنيعة، وكان أول من اقترح تاريخاً توراتياً للموقع يربطه مع الملك سليمان، إذ اعتقد “موسيل” أن وادي المنيعة هو موقع “عصيون جابر” الذي بنى فيه أسطوله على البحر الأحمر. ولم تكن رحلةُ “موسيل” إلى جنوب فلسطين، وما صار يُعرَف بالأردن لاحقاً، بعيدةً عن التحضيرات لرسم خريطة المنطقة من جديد على أنقاض الدولة العثمانية، وقد ساهم “موسيل” لاحقاً في رحلته إلى صحراء العرب في ولادة المملكة السعودية.

وفي العام 1932، وصل إلى وادي المنيعة عالمُ الآثار والجاسوسُ الألمانيُّ “فريتسس فرانك” (Fritz Frank)، وهذا اللعين من المستوطنين الهيكليين الألمان في بلادنا فلسطين، وامتدت حملته للتنقيب في وادي المنيعة وما حوله حتى العام 1934.  

 

في العام 1937، قام “نيلسون كلوك” (Nelson Glueck) عالمُ الآثارِ والحاخامُ اليهوديُّ بحملة التنقيب الأكثر شموليةً حينها، وادعى بأن النشاط التعديني في الواد يعود لعصر الملك سليمان، وسمّى أعمدة الصخر الطبيعية عند معبد “حتحور” “أعمدة سليمان”، إلا أنه حدد أن موقع “عصيون جابر” في تل الخليفة على البحر الأحمر.

وسيقوم “كلوك” خلال الحرب العالمية الثانية باستخدام معرفته التفصيلية بجغرافيا جنوب فلسطين لصالح تقديم خدماته إلى “مكتب الخدمات الاستراتيجية”، والذي سيصير اسمه لاحقاً “وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية” (CIA)، من أجل وضع خطةٍ لمواجهة تَقدُّم قوات رومل في شمال إفريقيا.

في العام 1949، رافق الفيلسوف وهاوي التصوير الصهيوني الألماني “بينو روتنبرغ” القوات الصهيونية في معارك النكبة، وقام بتصوير العديد من المواقع؛ من ضمنها عملية تهجير قرية عراق المنشية. وقادته هواية التصوير إلى علم الآثار، وبالتحديد إلى علم آثار المعادن. وسيقوم في العام 1959 بالمسح الأثري الأكثر شمولاً في المنيعة بدعمٍ من شركة “فولسفاغن” الألمانية، شريكة الصهاينة في نهب معادن وادي عربة، وخاصةً المغنيسيوم، وخالف “بينو روتنبرغ” أستاذه “كوليك” في مسألة العلاقة ما بين مناجم وادي المنيعة والملك سليمان.

ولا تزال إلى يومنا هذا بعثات التنقيب الصهيونية والعالمية تجوس الوادي وما حوله، وخاصةً بعثة التنقيب الدائمة لقسم الآثار في جامعة “تل أبيب”، والتي تعقد كل سنة مؤتمراً دوليّاً في وادينا حول عمليات التنقيب في الوادي وما حوله. إنّ أبحاث الآثار حول تنجيم النحاس خاصةً، وآثار وادي عربة عامةً، مرتعٌ للمطبعين، وخاصةً من دائرة الآثار الأردنية.

صمت المنيعة الثقيل

بالرغم من الأرشيف الهائل الذي أنتجه وينتجه علماءُ الآثار حول وادي المنيعة، وبالرغم من صخب الألوان والأشكال، إلا أنني أحسست بالوادي يغرق في صمتٍ ثقيلٍ، بعد أن أخرستْهُ النكبةُ، وصار علم الآثار ينطقُ بلسانه. فنحن نعرف عن تاريخ الوادي بالتفصيل خلال 6000 سنة، ولكن لا نعرف شيئاً عن أهله قبل 70 عاماً قبل التهجير. أصبح الوادي متحفاً كبيراً منزوعَ الحياة، مكاناً للفرجة وموقعَ تنقيبٍ.

إنّ هذا الحشد من جمال الألوان وروعة الأشكال التي نحتتها الرياح والمياه، لا بدّ وأنه قد فجر ينابيعَ من الأحاسيس والمشاعر عند أهله، الذين قالوا يوماً “كلُّ بلادٍ عند أهلٍها شامُ”، ولا بدّ أن هذه الأحاسيس قد تحولت إلى كلامٍ عذبٍ، فالمعروف أن البدو أكثرُ الناس إحساساً بالأمكنة وتعبيراً عنها، وأن ما يراه غيرهم بعين الواحد فيها، يرونه هم بعين الكثرة، فأين أحاديثهم “وهجينيهم؟ إذا كان الناس يرتحلون إلى الصحراء بحثاً عن الصمت، ها أنا يستفزني الصمت في الوادي الذي تشهد نقوشه على بدايات تطور الأبجدية.

 

 

المنيعة: تاريخٌ استيطانيٌّ

بعد احتلال المنيعة وتهجير أهلها عرب اللحيوات من ديارهم، قام الصهاينة بمسحٍ جيولوجيٍّ،  وعلى أثره تم افتتاح مناجم “تمنع” للنحاس جنوبي الوادي. وفي العام 1959، بدأ إنتاج النحاس بكمياتٍ تجاريةٍ. وفي العام 1965، قامت وكالة التنمية الدولية الأمريكية (USAID) بتمويل مشروعٍ لتطوير المناجم بمبلغ 4.4 مليون دولار. كان مخططاً للمناجم أن تكون رافعةً اقتصاديةً لتعزيز مستعمرة إيلات النائية، ولكن الهبوط الحاد في أسعار النحاس في الأسواق العالمية أدّى إلى إغلاق المناجم للمرة الأولى في العام 1976، وجرت محاولة أخرى لإنعاش المشروع، إلا أن المناجم أُغلِقَت نهائياً في العام 1984.

في العام 2008، اشترت المناجمَ شركةٌ مكسيكيةٌ، وأنشأت (Araba Mines) والتي تصف ذاتها بأنها أقدمُ منجمٍ للنحاس في العالم، بإدارة كارلا جراسيا جراندس، والتي ورّثها جدُّها خورخي جراسيا جراندس الحبَّ “لإسرئيل”، مما جعلها تعتبرُ تجديدَ عملِ مناجم المنيعة “فعلاً صهيونياً”. وخورخي اللعين هذا كان سفير جواتيمالا في الأمم المتحدة في العام 1947، ولعب دوراً نشطاً في إقناع غالبية دول أمريكا اللاتينية للتصويت لصالح قرار التقسيم.

 

 

وفي العام 1982، حوّل الصهاينة منطقة وادي المنيعة إلى متنزهٍ بمساحة 60 ألف دونم، ويسوّقونه سياحياً في العالم كأقدمِ مكانٍ لاستخراج النحاس. وفي العام ذاته، حوّلوا معسكر قوات “الناحل” المقام في الجزء الشرقي من وادي المنيعة إلى مستعمرة “إليفاز”. في العام 2017، أعلن الصهاينة عن الموافقة على مخططٍ استيطانيٍّ لبناء منتجعٍ سياحيٍّ على مساحة 91 دونماً في الجزء الغربي من وادي المنيعة، وذلك في الوقت الذي بدأ فيه الصهاينةُ الرحلات التجريبية لمطار “رامون” جنوبي الوادي، والذي سيكون المطار الدولي الثاني للعدو بعد مطار اللد (بن غوريون)، ومن المفترض أن يكون مطار طوارئ في حال تعرض مطار اللد لهجوم صاروخي.     

المنيعة: تاريخٌ نضاليُّ

لوادي المنيعة تاريخٌ نضاليٌّ طويلٌ، بدأ مبكراً بعد الاحتلال الصهيوني، ففي 14 تموز 1952 قُتِل 5 حراسٍ صهاينةٍ في الوادي. وفي 6 آب من العام ذاته، قُتِل جنديان. وما بين الأعوام 1968- 1970، تحوّل مصنع النحاس الصهيوني في وادي المنيعة إلى هدفٍ استراتيجيٍّ للعمليات الفدائية،  وقد تنوعت العمليات ما بين زراعة الألغام وإطلاق قذائف الهاون والكاتيوشا.

في 19-10-1969 قامت وحدةٌ من قوات عين جَالُوت بقيادة ضابط الصاعقة المصري النقيب علي عثمان بلتك بتنفيذ إحدى عمليات القصف هذه، روى تفاصيلها:  
“يقع مصنع النحاس بمنطقة (تمناع) شمال مدينة إيلات، وهو مصنعٌ كبير ٌ، ويقوم بخدمة الإنتاج الحربي الإسرائيلي. ونظراً لأهمية المصنع الاستراتيجية، فقد قام العدو بإنشاء هدفٍ هيكليٍّ بعيداً عن المصنع بحوالى 2,5 كم يُضاء بالأنوار ليلاً، فكانت دوريات المنظمات الفدائية الفلسطينية تقصف ليلاً الموقع الهيكلي بدون أيِّ تأثيرٍ على الهدف الحقيقي، هذا بالإضافة إلى أجهزة الإنذار المكتظة حول المصنع”.

ويُكمل: “قمتُ خلال الفترة 27 – 29 /9 /69 بدوريةِ استطلاعٍ  مكونةٍ من 5 أفراد: ملازم أول فلسطيني سليمان حلس، والرقيب الفلسطينى صالح الحواجري، وآخرين من قوات عين جالوت، وتم استطلاع الهدف جيداً ليلاً ونهاراً، وتم تحديد أسلوب التعامل معه. فى آخر ضوء يوم 17/10/69، تم تلقين الدورية بالمهمة وبخطّ السير ومكان الهدف على أن تتكون الدورية من 8 أفراد وعدد 12 صاروخاً 130 مم، وحضر التلقينَ الرائدُ ساهر لاشين من مكتب المخابرات الحربية بالأردن، والرائد ماهر خليفة من مكتب المخابرات العامة بالقاهرة (كان فى ذلك الوقت في الأردن).

تم التحرك من قاعدة معان جنوب الأردن …وكان أحد قادة منظمة فتح  (الحاج اسماعيل) قد عرف عن طريق قيادة قوات عين جالوت بموعد ومكان الدورية. فأبلغ أحد الضباط الفلسطينيين الذين يعملون بالجيش الأردني، والمكلف بالعمل فى قطاع العقبة عن طريق تحركنا ليساعدنا، ويبعد كمائن ودوريات الجيش الأردني عن طريق تحركنا لتسهيل مهمة عبورنا إلى أرض العدو.

 

)  

 

وعند وصولنا مساء يوم 19/10/69 إلى منطقة التجهيز التى حددتها فى دورية الاستطلاع، فوجئنا بكمينٍ من القوات الأردنية فى انتظارنا، وعلى الجهة المقابلة كمينٌ من القوات الإسرائيلية بما يؤكد التنسيق التام بينهما! جربنا أن نهدد الدورية الاردنية بإلقاء قنابل يدوية عليهم بلا جدوى، فعرضنا عليهم رشوةً ماليةً ليتركونا لاستكمال المهمة، إلا أنهم رفضوا. وفى تلك الاثناء، قمت بالاختباء وإخفاء 3 قواعد صواريخ وفردين معهم، وأبلغت الملازم أول سليمان حلس بتسليم نفسه للقوات الأردنية، حيث كانت القوات الإسرائيلية على مسافة 100 متر من تواجدنا.. انصرفت القوات الأردنية بعد إلقاء القبض على رجال دوريتنا (5 أفراد) بالمعدات والصواريخ (9 صواريخ)، فقمت مع الفردين الباقيين بتجهيز الصواريخ الثلاثة على مصنع النحاس وتم إطلاقهم، فتم تدمير الجزء الشمالى من المصنع وإحداث حرائق (واعترف العدو بالعملية).

رجعت القوات الأردنية وألقت القبض علينا، وتم تجميع المجموعة الأولى، ثم المجموعة الثانية فى مكانٍ منخفضٍ (صحن) تحرسنا 4 عرباتٍ مدرعةٍ أردنيةٍ مُوجِّهةٍ نيرانَها علينا، وتم تهديدنا بإطلاق النيران علينا، إن لم نسلِّم أسلحتنا الشخصية، وكان كلٌّ من التحقيق والمباحثات يتمذ مع ملازم أول الفلسطينى سليمان حلس، حتى لا يتم معرفة شخصيتي كضابطٍ مصريٍّ، ولكنه كان يحضر إليّ في كل مرة ليأخذ رأيي، وتأكَّد للقوات الأردنية أن هناك قائداً آخرَ يصدر التعليمات غير الملازم أول حلس. وكانت الأمطارُ غزيرةً جداً كالسيول تنهال علينا، وتركونا 36 ساعة بدون طعام أو شراب، ولم نستسلم لهم.

لم نسلم أسلحتنا، وكنت على استعدادٍ لاستخدام القوة لو حاولوا استخدام القوة معنا لانتزاع أسلحتنا. وبعد اتصالاتٍ مع قادة منظمة فتح، تم وضعنا فى سيارة لوري مكشوفة أوصلتنا لمسافة 100 كم بعيداً عن المنطقة، ثم اتصلنا بقواعدنا فى منطقة الطفيلة، وبعد عشر ساعات وصلت إلينا سيارةٌ أقلتنا إلى قواعدنا. وهكذا، لم تنجح الدورية، كما كنت أتمنى، لإفشاء سرية الدورية عن طريق أحد القادة العاملين معنا من قوات عين جالوت. وقد بيّت النية على أن أقوم بتنفيذ هذه الدورية وقصف هذا الهدف الاستراتيجي الهام بطريقةٍ أخرى وتكتيكٍ جديدٍ يحقق أكبرَ نجاحٍ للعملية”. (النصُّ مأخوذٌ من صفحة اللواء علي عثمان على الفيسبوك)

في عين حُصُب

يا ونّتي ونّيتها على كل المواجيع
واليوم ونّيتها وَنّه ثقيلة

قبيل الغروب وفي طريق العودة من المنيعة إلى القدس، وقفتُ عند قرية عين حُصُب المهجرة، 36 كم جنوب البحر الميت، والتي أقيمت على أنقاضها مستعمرة “حتسباه”. ومن على هضبةٍ سُميت بـ”مطلة السلام” بعد اتفاقية وادي عربة، جُلتُ النظرَ، باحثاً عن درب العطاشى في وادي عربة المطعون بذل السلام والتطبيع.

 

ففي مساء 31 أيار 1950، وصلت شاحناتٌ عسكريةٌ صهيونيةٌ محملةً بـ 120 لاجئاً فلسطينياً حاولوا التسلل للعودة إلى ديارهم، وكان الصهاينة قد احتجزوهم في معتقل “قطرة”، المقام على أراضي قرية قطرة المهجرة قضاء الرملة. وما إن وصلت الشاحنات عين حصب، حتى أجبر الجنود الصهاينة اللاجئين المعصوبي الأعين على النزول من الشاحنات. وعندما طلبوا الماء، قاموا بسكب الماء أمامهم، وشرعوا في إطلاق النار على فوق رؤوسهم، لإجبارهم على عبور صحراء وادي عربة، ومن ثم صعود جبال الشراة الصمّاء الملتهبة نحو الأردن.

بعد أربعةِ أيامٍ في الصحراء، وصل حوالي 70 لاجئاً إلى معسكرٍ للفيلق العربي، بينما استشهد الباقي في صحراء وادي عربة عطشاً وجوعا. بعد أن وصلت أخبار الحادثة المريعة إلى الصحافة العالمية، وخاصةً بعد المقال القاسي لفيليب توينبي (ابن المؤرخ أرنولد تويني) في 11 حزيران على الصفحة الأولى لصحيفة “الأوبزرفر”، شكّل الصهاينة لجنةَ تحقيقٍ، على إثرها قال موشيه ديان إن هذه الحادثة “اللاأخلاقية” لم تكن لتحصل لولا الأصول العربية للجنود الجدد القادمين من المغرب والعراق.

وأما “تيدي كوليك”، والذي سيصبح في العام 1965 رئيس بلدية الاحتلال للقدس، فسيقول مع عدد من الدبلوماسيين في واشنطن بعد الجريمة: “لقد اضطررنا لطرد “المتسللين” من هذا المكان البعيد في الصحراء القاسية، لكي نُطيل المسافة بين اللاجئين وقراهم التي يحاولون العودة إليها”.

مسامرةٌ مع ابن عربي في طريق العودة إلى القدس

يحدثنا الشيخ الأكبر ابن عربي في فتوحاته عن فن معرفة المكان فيقول: “ولا شكَّ عندنا أن معرفة هذا الفن، أعني معرفة الأماكن، والإحساس بالزيادة والنقص، من تمام معرفة العارف وعلـوّ مقامه”. يقترح هذا القول معرفةً للمكان هي محصلةٌ للتفاعل ما بين المكان والحالّ فيه، فليس المكان موضوعاً للنظر والاستكشاف فقط، وإنما شريكٌ في المعرفة بما يكتنزه مِن “همة من كان يَعمُرُه”. وبهذا، فكلُّ الأمكنة هي أمكنةٌ روحيةٌ تتمايز فيما تبعثه في النفس من مشاعر وأحاسيس، ولهذا يحذرنا الشيخ الأكبر من حجاب الغفلة الذي يمنعنا من الانفعال بالمكان.

في رحلتي في الوادي وما حوله وفي الأرشيف الهائل الذي راكمه الاستعمار الصهيوني حول الأمكنة، كان هاجسي الدائمُ التقاطَ اللحظة التي يتحرر فيها المكان، وأتحرر معه من ثقل الأرشيف/الحجاب. فتنني قولُ الشيخ الأكبر إن همة المكان هي من همة من كان يعمره. وفيما يكتنزه الوادي من همم، كانت همّةُ الفدائي المقاتل في سبيل عودة أهله إليه أكثرَ يوميات الوادي توهجاً بعلو الهمّة. لا أقول إنها أهمُّ ما في سيرة الوادي الممتدة في عمق الزمان السحيق، ولكن العمل الفدائي كان محاولةً جليلةً  لإحداث قطيعةٍ مع الزمان الأركيولوجي الرتيب للوادي والعودة به إلى زمان أهله الحيّ المتدفق كهبوب الريح في الوادي.