تستعرض هذه المقالة لمحاتٍ من تاريخ غزّة في المقاومة والحصار، حتى يومنا هذا، محاولةً الإجابة على سؤال “لماذا شكّل قطاع غزّة، تاريخياً، حالةً نضاليةً متقدمةً على غيره من المكانيات الفلسطينية؟”، وما دلالات المعركة المستمرة التي تخوضها غزّة.

البداية: 

“أبداً لن أنسى ساق نادية المبتورة من أعلى الفخذ، لا، ولن أنسى الحزن الذي هيكل وجهها واندمج في تقاطيعه الحلوة إلى الأبد…  لقد خرجتُ يومها من المستشفى إلى شوارع غزة، وأنا أشدُّ باحتقارٍ صارخٍ على الجنيهين اللذين أحضرتهما معي لأعطيهما لنادية، كانت الشمسُ الساطعةُ تملأ الشوارعَ بلون الدم … كانت غزة، يا مصطفى، جديدةً كلَّ الجدة، أبداً لم نرَها هكذا أنا وأنت: الحجارة المركونة على أول حيِّ الشجاعية، حيث كنّا نسكن، كان لها معنىً كأنما وُضعت هناك لتتشرحه فقط، غزة هذه، التي عشنا فيها ومع رجالها الطيبين سبعَ سنواتٍ في النكبة كانت شيئاً جديداً، كانت تلوح لي أنها… بدايةٌ فقط، لا أدري لماذا كنت أشعر أنها بدايةٌ فقط، كنت أتخيل أن الشارع الرئيسي، وأنا أسير فيه عائداً إلى داري، لم يكن إلا بدايةً صغيرةً لشارعٍ طويلٍ طويلٍ يصل إلى صفد، كلُ شيءٍ كان في غزة هذه ينتفض حزناً على ساق نادية المبتورة من أعلى الفخذ، حزناً لا يقف على حدود البكاء، إنه التحدي، بل أكثر من ذلك، إنه شيءٌ يشبه استرداد الساق المبتورة!”(1)

منذ تاريخ النصّ، وتخوض غزّة معركةَ تراجيديا استرداد ساق نادية المبتورة. ليس لنا أن نشير في ذلك إلى تناصٍ مع اليومٍ أو محاكاةٍ للأمس، فلكلِّ حدثٍ في غزّة امتدادٌ سحيقٌ وذاكرةٌ حيّةٌ تكسر منطقة الاستعادات التي تطلُّ على ماضٍ يمضي. إنَّ في سحر استرداد الساق فائضاً من الألم الإنساني، من النوع الذي يُخلِّد ناسها ومكانها، ويسبّب ألماً انعكاسيّاً يذكي الصراع. إنّه ألمٌ يعيش في بطن المفارقة، فلكي تسترد نادية ساقها، كان على أبناء جلدتها التداعي، اليوم، ليخلِّفوا مزيداً من السيقان المبتورة على الخطّ الزائل، ومزيداً من تفاؤل العقل والإرادة معاً الذي يُعتبر أسلوباً لخلاصةٍ موسوعيةٍ عنوانُها الممكنُ والامتلاءُ الدائمُ بالحقّ والبدايةُ التي استشرفها كنفاني في نصّه.

الباب الأول: المخيّم والعودة

إنّ راهِنَ الفلسطيني في قطاع غزّة يحيا معيشاً يوميًا مكثّفاً مُستلّاً من جدلية اللجوء والعودة دوماً، إذ يشحن فعله النضالي من حلمٍ واقعيٍّ يراه مُوشكاً على الامتثال أمامه، مقابل إقامةٍ تكتسب دلالة “المؤقتيّة” في القطاع، ويتم التعاطي معها باعتبارها مرحلةً انتقاليةً بين اللجوء والعودة؛ لكنها مرحلةٌ لا يجري تطبيعها في الذهنيّة الغزيّة، بل تتأتّى في سياق التذكير الدائم بأنّ النزوع نحو التطبيع سينفي عنهم القيمة الأساسية التي يقاتلون من أجلها، وهذا ما يجعل غزّة، التي يشكّل فيها اللاجئون النسبةَ العظمى من سكانها، متشبّعةَ الحضور بالعودة مفهوماً وممارسةً، وإن لم تكن مكتملةً، “إذ أعاد هؤلاء القريون (الجنوبيون) تشكيل المجتمع الغزيّ الجديد، فمنذ بداية وصولهم كان واضحاً أنهم يرفضون أن يعمّقوا جذورهم في القطاع، فهذا الرحيل هو رحيلٌ مؤقتٌ”؛ (2) “لقد كانوا يعملون في السنوات الماضية من أجل أن يصبحوا واعين لشخصيتهم، فمشاكلهم ليست من النوع الذي يمكن أن يحلّ بمرور الزمن. لقد كان في مقدورهم، وهم في مخيماتهم التعِسَة، أن يطلّوا على بيوتهم وحقولهم التي طُردوا منها”.(3)

يدرك العدوّ، على الدوام، أن المخيمات في غزّة أبعد من كونها مجالاً مكانيّاً، بل هي الحقل الأقصى في صناعة مفهوم “العائد” قبل “اللاجئ”، وفي تشكيلها بُنيةً تحتيةً لتدوين ممارسات العودة وكل يمكن أن يُحال إليها ويوصلنا بها؛ بل هي شاهدة تغييب مساحات التسوية قُبالة استدعاء مساحات نضالية؛ بمعنى أنّ المخيم بحضوره يقدّم موقفاً سياسياً يكسر الخطابة المبنية على اعتقادٍ مجرّدٍ بحق العودة يحفظ في داخله إعاقة تحقيقه بنزع الفعل المؤدّي له عنه، ما يلحقه بمفهوم الأسطورة الواجبة، وذلك على العكس من المخيّم الذي يطرح بموجبه سلطة الفعل الحقيقي التي تجعل من أسطرة العودة محضَ أسطورةٍ، ليس إلّا، إذ لم تكن غزّة يوماً متخلّفةً ثورياً، بل لطالما اُعتبرت بطبيعتها وبنيتها المجتمعية مقولةً نضاليةً متقدّمةً غلى غيرها من المكانيات الفلسطينية، وهو ما خلق لها مرجعيةً تراثيةً ثقافيةً بعناوين ثابتة وأيقونات مُضافة إليها على الدوام، وهو ما أفضى إلى “عملية تغييرية اجتماعية، باعتبارها عمليةً تراثيةً ثقافيةً”،(4)  ويشكّل كلٌّ من الشهيد والاستشهادي والجريح والأسير والعودة والفداء والمخيم عمقَ تلك المرجعية وما وراءها.

لقد دفع ما سبق العدوّ عام 1971، بعد حلول أيلول الأسود وخروج منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن، والشعور بانعدام الغطاء لفدائيي غزّة، إلى التوجه نحو “مدننة” المخيّمات، وشقّ الطرق العرضية فيها، وتقسيمها إلى زاويا منفصلةٍ لتوفير حقولِ رمايةٍ للجنود، وهدم حوالي 13 ألفَ منزلٍ فيها، وتهجير ما يقرب من 38 ألف من ناسها إلى مدينة غزة وسيناء ومخيم الدهيشة، فضلاً عن كشف العشرات من مخابئ الأسلحة، وإيداع حوالي 12 ألف من أقرباء المغاوير في مخيمات ومعسكرات سيناء، واستشهاد حوالي 100 فدائي؛(5) أهمهم محمد الأسود (جيفارا غزّة)؛ ما أثّر بشكلٍ مباشرٍ على هبوط الهجمات الفدائية، دون أن يُفتقد العزم. إنّ في منطق التوّحش ذاك، المستمر حتى يومنا هذا، تلمّساً واقعياً للنهم الدائم نحو التطهّر من القطاع الغزي باعتباره معضلةً نفسيةً للعدوّ قبل تشكيله أيّ معضلةٍ أمنيةٍ أو ماديةٍ، وبالتالي محاولة استرداد “الذكورة المنتهكة” من قبل فدائيي وجماهير غزّة عبر تخويل آلات قتل البشر بممارسة ذاك الدور الروتيني.

لكنْ، يخفق العدوّ حين تعيد الجماهير استقبال مدلول الانتقام من الحركة الثورية عبرها وعبر إدارة ميدان الحياة والموت الخاص بها، على نحوٍّ يستحيل فيه الانتقام انتقاماً مرتدّاً على صاحبه، كاسراً خطّه المفترض، ومتحمّلاً أعباء المقاومة، ليصبح الانتقام المرتدّ عنصراً مُعوَّلاً عليه في بناء الهوّية، فتتحوّل الحركة الثورية من مسارها الطليعي إلى الجماهيري، وهذا ما حصل في قطاع غزّة على مدار سنواتٍ طويلةٍ، إذ لم تنجح كلّ محاولات العدوّ إلحاقَ مسٍّ فظيعٍ بالناس في غزة في ترسيخ تصوّرٍ متنافرٍ ثنائيّ القطبية حول المقاومة بمعناها التنظيمي والمجتمع الأكبر، بل تعثّر بالضرورة ليس بـ”محاربةِ مجموعةٍ متناثرةٍ من الفدائيين، بل وجد نفسه يحارب شعباً بأكمله”.(6)

فحين يصل المرء إلى مرحلة السموّ على الموت، والتغلّب على الخوف منه، ويقف وصدرُه مكشوفٌ لرصاصات العدو في مسيرات العودة الأخيرة، لا يعني بالضرورة أنّه انعدم الأداة، لكنّه ينظر إلى جسده بتفانٍ كأداةٍ أبلغَ في التعبير عن رفضه للهامش والأداة الوسيطة وحالة التكييف؛ الأمر الذي ينتج جسداً مُسيّساً مُنافياً لحالاتٍ أخرى من “الجسد السياسي” المنضبط، وهو ما يخلّف شعوراً لدى العدوّ بالتهديد الساحق من هذا الجسد الأعزل الذي يحمل في صُلبه أبعاداً قيميةً كبيرةً على سكّة التحرّر، إذ يمثّل الدافع القومي لديه عاملَ حياةٍ حيويّاً، فيندفع إلى إبراز النزعة الجنونيّة منهم في قتلهم على الفور أو إصابتهم في أماكنَ حساسةٍ للغاية. في الوقت ذاته، تعبّر هذه المسألة عن قناعة هؤلاء بدورانهم في زمنٍ قاسٍ مختلفٍ عن غيرهم، ما يدفع بهم إلى ارتياء خلاصة التحرّر من أجسادهم أولاً.

و”بقدر ما يقترب الفلسطيني من فهم العلاقة التي تربطه بالمحتل القاهر، يوظّف هذه العلاقة في حركته وفعله النضالي، فتعدُّ مواجهة المحتل نوعاً من الإحساس بالقوّة، التي تصبح رمز الحياة في فترات الثورات والانتفاضات”.(7) في حالة غزّة، ومسيرات العودة تحديداً، نجد الفلسطيني هناك الأكثر سكناً لتلك العبارة، فمفارقة العلاقة العدائية هذه أنها تحمل الأكثر تهافتاً على إنتاج معنىً للمواجهة الضمنيّة على الدوام، وبالتالي الأكثر إدراكاً لمكامن الألم عند العدوّ، ولو ببالونٍ حارقٍ، وذلك على الرغم من البعد الفيزيائي بين الطرفين في المعيش اليومي، باعتبار غزةَ أرضاً محررةً فيزيائياً. وهو ما يُعزى، أصلاً، إلى  عدم الإقرار سوى بالحدود الراسخة، ورفض حواسهم بالدرجة الأولى التعاطيَ مع المسألة باعتبارها عرضاً جانبياً لطبيعة الوجود الخاصة بالمستعمِر، وهو ما عبّر  عنه الشهيد المقاتل باسل الأعرج، بالقول: “لا تعتد رؤية الصهيوني حتى لا تألفها عينك قبل عقلك، بل افعل ما يفعله أبناء غزة حين يشاهدون صهيونياً، يركضون باحثين عن حجرٍ لرجمه به”.

الباب الثاني: التطلّع لحرب التحرير الشعبية

وبالعودة إلى ستينيات غزّة التي نجد روحها في مسيرات العودة اليوم، نجد أن ثمّة شرعيةً عليا للجماهير كان يكسبها المغاوير طوعاً؛ إنّها شرعيةٌ من نوع السهل الممتنع؛ التي تعكس وعياً بالذات وممكناتها، ولا تقف عند حدود إمداد غيرها بالشرعية المتوخاة كمنطلقٍ واجبٍ، بل تصنع عنفاً وجودياً التماساً لصناعة مصيرٍ؛ لا تلقّيه، إذ تمت تكملة حرب العصابات بحملة عصيانٍ مدني: الطلاب يتظاهرون، المحامون يرفضون الحضورَ للمحاكم، الغزيون يقاطعون المنتجات الصهيونية،(8) النساء تسكب الزيت المغلي على رؤوس الجنود من شرفات منازلهن، وتلقي قوارير الزهور عليها أيضاً. إن مفهوم الزعامة، آنذاك، لم يتبلور ضمن مرجعيةٍ تقليديةٍ أكانت سياسيةً أو دينيةً، بل استنبطت روحها من شخصية “الفدائي البطل” و”ابن الجماهير” و”المقاتل لحرية الوطن”، ما جعل الجماهير تتقبّل بارتياح الزعامة الجديدة باعتبارها “زعامة الفدائيين” التي تمثّل السلطة الفلسطينية الشرعية الوحيدة التي عرفها القطاع.(9)

كانت حرب العصابات، التي سيطرت على القطاع بعد حرب 1967، أكبر من توصيفها أسلوباً للقتال، إذ كانت تعبّر تمظهراتها عن صناعةِ سياسةٍ واعيةٍ تستمد قيمتها من إحباط أهدافٍ استراتيجيةٍ للعدوّ، والاعتصام عند مفهوم قوّة الحقّ والثابت الوطنيّ، فمثلًا تركَّزت عمليات التلغيم التي نفذّتها العصابات على المنشآت الحيوية للعدوّ التي تعتبر عنواناً لربط الاحتلال بالقطاع، ما يعني رفضاً قطعيّاً لأيِّ مشروعٍ إدماجيٍّ أو تعايشيٍّ. كما كانت زراعة الألغام على الطرق الترابية للمستعمرات الصهيونية القريبة من القطاع، والمقدّر عددُها منذ شهر حزيران 1967 حتى 1971 بحوالي 150 لغماً انفجر معظمها وتسبب في مقتل 14 صهيونياً،(10) إيذاناً بمقبلٍ زمانيٍّ يحدث عُطباً في منظومة الاستيطان وحركته حول القطاع، وبالتالي يعطّل إمكانية حسم الصراع لصالحها. بجانب ذلك، كانت العصابات تخوض هجماتٍ مفاجئةً على أهدافٍ عامةٍ في وضح النهار (حسبة السمك، مركز الشرطة، ميدان فلسطين، الكزينو..) تستهدف فيها ضباطَ مخابراتٍ صهاينةً أو عملاءَ؛ تستفيد من الغطاء الجماهيري في التخفّي في وسطها، كما اتّبعت إجراءً ثورياً مضاداً بدأ بتحذير عمال غزّة في داخل الأراضي المحتلة من الترويض الاقتصادي، وصولاً إلى تبنّي الخيار العنفي في مهاجمة المركبات التي تقلُّ العمال.

اكتسب الغزيون مهارة السلاح بشكلٍ سابقٍ على بقية المناطق الفلسطينية، إذ فتح جيش التحرير الفلسطيني في زمن الإدارة المصريّة معسكراتٍ للتدريب هناك وسلّم عدداً من الغزيين المدرَّبين قطعاً مختلفةً من الأسلحة، وما ساعده على ذلك إقرارُ قانون التجنيد الإجباري قبل حرب حزيران، كما بحث الغزيون عن أسلحةٍ متروكةٍ على أرض المعارك، وخبّأوها في مستودعاتٍ مموّهةٍ. كان ذلك أحد الأسباب التي شكلت الظروف الموضوعية لإحلال صورة “قطاع الموت للإسرائيليين المحتلين” بدلاً من “قطاع مخيمات اللاجئين”،(11) إذ لطالما تمت مُعاينة غزّة باعتبارها المكان الوحيد الذي تلتقي عندها خطوط استعصائها على الامتصاص من قبل العدوّ الصهيوني أو الأردن، كما حدث في بقية المناطق الفلسطينية، وباعتبارها كذلك تجسيداً واقعياً للقومية الفلسطينية، ومكاناً كابحاً لأيِّ تسويةٍ، كون الأخيرة لا يمكن ترتيبها إلّا إذا حازت إسرائيل على سلطة الردع، وهو ما لم يتحقّق حتى اللحظة في غزّة.

يقول شهيدنا كنفاني: “صحيح أنّ المصريين قمعوا الحركة القومية العربية في غزّة، لكن ليس إلى الحدّ الذي فعله الملك حسين في الضفة الغربية، فعندما اُحتلت غزّة، كانت خلايا الفدائيين ما تزال هناك، في حين سلَّم الملك حسين الضفةَ الغربيةَ للإسرائيليين أرضاً “نظيفةً” كأنّه وضعها بنفسه، ولم تكن هناك خليّةٌ واحدةٌ. أمّا في غزّة، فقد كان لدينا الحد الأدنى من البُنية لنبدأ، ثم أنّ هناك أيضاً عاملاً نفسياً، فغزة مُحاصرةٌ غرباً ببحر، وجنوباً بسيناء، وشرقاً من النقب، ومن الشمال من قِبَل إسرائيل”.  بجانب ذلك، لقد كان ثمّة تنازعٌ بين المقاربتين البلاغيّة والوظيفية للكفاح المُسلَّح، إجمالاً، انعكس بدوره على الضفة أكثر منه في غزّة، إذ كانت الأنماط السياسيّة في المنفى، سواءً اتخذت شكل التنافس الفئوي، أو العقائدي، أو الجدل اللفظي، تعكس نفسها على التنظيم السري في الأراضي المحتلة؛ ما أنتج عملاً لغاية العمل دون انتعاشٍ ثوريٍّ أفقيٍّ حقيقيٍّ، ما أضفى على الثورة صيغةً أسطوريةً. وكما سحق النظام الرجعي الأردني أحزاب المعارضة في الضفة، ومنع السكان المحليين من التدريب، واقتنائهم السلاحَ قبل حرب 1967، سُحِقت معنوياتُ الجماهير هناك، ما جعلها تهوي في مساحة التردّد من الإمساك بحدود الفعل، دون أن يعني ذلك أنها كانت يوماً ضد المقاومة.

يُطلعنا المؤرخ الفلسطيني عارف العارف في أوراقه المعنونة بـ”غزّة: نافذةٌ على الجحيم”(12) على خارطة اشتباكٍ يوميةٍ كانت تصنعها الجماهير الغزية  بأيديها بشكلٍ يوميٍّ ومتصاعدٍ بعد نكسة حزيران 1967، وتنوعت هذه العمليات بين “الدوريات المطاردة” والتسلل خلف الحدود الزائلة، وزرع القنابل والألغام آنذاك، إذ كان الفدائيون من قوات التحرير الشعبية يحكمون القطاع ليلاً، ويستهدفون في عملياتهم كذلك خط سكّة الحديد وشبكات المياه والكهرباء، ليبلغ عدد العمليات الفدائية في قطاع غزّة 167 عمليةً عام 1968، و471 عام 1969، و455 عام 1970، مقابل 23 عمليةً و112 و56 على التوالي في الضفة الغربية.(13) بناءً على ذلك، قرر العدوّ نزع غزة من سلطة “تل أبيب” وضمها للقيادة الجنوبية. يقول العارف “في غزّة كنت تسمع أزيز الرصاص، وفي الضفة احتجاجٌ وكتابةٌ على الجدران”.(14)

اليوم في مسيرات العودة، نعود إلى زمانيّة تثوير الشارع واعتبار المواجهة همّاً شخصياً عاتياً تجري ترجمته بالهويّة التي تُعبِّر عنه، وبالأداة التي يقرر تغييرها بتغيّر الظروف الموضوعية، وبالسردية التي يقبض عليها بلا إنابةٍ من أحدٍ، خصوصاً بعد الانسحاب الأحادي الجانب من القطاع وتضييق المجال الجماهيري المقاوم، مقابل تكفّل السلاح المقاوم بتأدية ذلك الدور، إذ إن الانسحاب غَيَّر فقط شكل الاحتلال، لكنه لم يُغيِّر قط الطبيعة الظالمة الأساسية في التعاطي مع القطاع؛(15) دون أن يعني افتتاننا بهذه الجماهير، بأيّ حالٍ من الأحوال، نزوعاً نحو تخليق ثنائية العنفي والسلمي، ونزع المتاح الكليّ من أيدي المكلومين واستباحة خياراتهم، والتنظير عليها من أعلى، أو استبطان الإدانة للخيار الذي تُعاقب غزّة عليه، بل هي دعوةٌ شموليةٌ لبلوغ حرب التحرير الشعبية، اهتداءً بمسيرة ماو الطويلة.

الباب الثالث: سال الدم… عاش الدم

إنّ الحدث لا يعيد صياغة نفسه في غزّة، لكنه يبقى طازجاً، وكأنّه حَدثَ للتو. يبقى الدمُّ قمحاً ينمو في أجساد الغزيين، وتظلّ الأرض التي تحت أقدامهم خزّاناً كبيراً يستقطب مصيراً مُغايراً لـ”رجال في الشمس”، فيصيحيون “سال الدم… عاش الدم”. كان ذلك في مارس 1955، حين وقف اللاجئون في غزّة ضد مشروع سيناء التوطيني لهم؛ برعاية “الأونروا” والحاكم الإداري المصري لغزة “سعد حمزة”، إذ جسّدت غزّة، آنذاك، أكثرَ أماكن اللجوء امتحاناً للتخلّف الثوري من الاكتمال الثوري، باعتبارها حقلَ تجاربَ سيُستشرف منه قادمٌ زمنيُّ في هزيمة قيمة العودة في الشتات الفلسطيني برمّته. وليس من المبالغة القول إنّ إسقاط الغزيين لمشروع سيناء حينها شكّل تكريساً دائماً لفعل إعاقة الانتكاسة؛ بمعنى إعاقة المشاريع التوطينية الأخرى من التحقّق، وهزيمة الأبعاد التصفويّة التي تحملها.

انطقلت التظاهرة الأولى من مدرسة فلسطين الثانوية، ويقول شاعرنا الفلسطيني معين بسيسو في كتابه “دفاتر فلسطينية” من موقع عضويته في “عُصبة التحرّر الوطني” التي أدّت دوراً مهماً في إفشال المشروع: “كلما مشت التظاهرة متراً، كانت عشرات الأمتار تنضمُّ إليها”، (16) وكانت الحناجر الجماهيرية تُردّد “لا توطين ولا إسكان يا عملاء الأمريكان”، و”كتبوا مشروع سيناء بالحبر، سنمحو مشروع سيناء بالدم”، إذ كان الطرح يدور حول تجربة الأمر على عشرين ألف لاجئ كمرحلةٍ أولى، ومن ثم معاودة الكرّة على آخرين.

“ظهرت البنادق في أيدي المباحثات والمخابرات، البنادق التي لم تظهر، حينما أغار الإسرائيليون على مخيم البريج عام 1953، ولا حينما أغاروا على محطة سكّة الحديد في غزّة. ظهرت الآن لتعترض طريقَ تظاهرةٍ من الطلاب والمدرسين والفلاحين والعمال. الجماهير التي تحبّ البنادق في أيديها، تكره السلاح حينما يكون في أيدي شرطة المباحث والمخابرات. دائماً كان الفرق بين البنادق في أيدي الجماهير، والبنادق في أيدي البوليس، هو الفرق بين حبّة الرمان وبين الجرادة”،(17) إذ إنّ عبثيّة هذه البنادق تبدأ من اللحظة التي ينظِّر فيها رصاصُها لخصومة اللاجئ في غزّة مع الدمّ، بيد أنّ مجابهة الخصومة تلك أُعلنت منذ اليوم الأول للتظاهرات، ليرتفع دمّ “حسني بلال”، عامل النسيج في المجدل واللاجئ إلى غزّة، كأول شهيدٍ فلسطينيٍّ ضد التوطين والإسكان، كباكورةِ إقامةٍ دائمةٍ في محوّ وتدمير الدمّ عمليةَ الكتابة السياسية لتجريد اللاجئ من حلمه في العودة.

على إثر ذلك، واستمرار اللاجئين في التظاهرات والإضراب العام، ورفْع الشيوعين والإسلاميين، الذين اتحدُّوا ضد المشروع، مطالبَهم للحاكم الإداري المصري في غزّة، أعلن “سعد حمزة” للجنة الوطنية العليا في غزّة أن مشروع سيناء بات غير ذي موضوعٍ، ولقد تقرّر تسليح المخيمات وإقرار قانون التجنيد الإجباري. يقول بسيسو: “فوق حائطٍ وقفتُ وأعلنتُ باسم اللجنة الوطنية العليا سقوطَ مشروع سيناء. سال الدم، عاش الدم. هكذا كان صوت مخيم جباليا. كانت كل رؤوس اللاجئين في المخيم تريد أن تدخل دفعةً واحدةً في السيارة وتصيح: لقد انتصرنا وسقط مشروع سيناء”.(18)

لم تكن هذه هي المرةَ الأولى التي تقدّم فيها “الأونروا” نفسَها كفاعلٍ سياسيٍّ يبني موقعه على تضادّ ثنائية الإغاثة وانتزاع السياسة من اللاجئ، بل ما بين 1949- 1952 والتي عُرفت بسنوات الجوع والضياع،(19) جوّعت “الأونروا” اللاجئين في غزّة، إلى الحدّ الذي خلعت فيه الناس نوافذ بيوتها وأسقفها لبيع خشبها، ومنحتهم ما هو أدنى من الحد الأدنى (2500 سعرة حرارية وفقاً لإعلان الصليب الأحمر آنذاك) من الإغاثة، المقدّرة بـ 1600 سُعرة حرارية للفرد الواحد و 4.8 سنتات كطعامٍ يوميٍّ للاجئ بمعدلٍ يقلّ عن 1/30 من معدل دخل الفرد الأمريكي في تلك الفترة.(20) غير أن سخط اللاجئ على الإفقار والخيار المعيشي لم يدفعه نحو الانحياز لمقاومة الإفقار بالامتثال لهوية الإدماج والتوطين مقابل خسارةٍ دائمةٍ للعودة والهوية الفلسطينية، مُقاوِماً ذلك بمزيدٍ من النار الذي تشعله الأجساد الجائعة.

الباب الرابع: الحصارُ المُرُّ

إن كانت غزّة، اليوم والأمس كما رأينا، تُعاقَب في استحالة حياتها نوعاً متطوراً من الحياة العارية (Bare Life)، وتحويل فردها إلى الإنسان الحرام أو المستباح (21) (Homo Sacer)، الذي يعتبر نموذجاً مستحقاً للقتل المباشر أو البطيء، على اعتبار أن هذا الإنسان يتشكّل بالوسائل القانونية والسياسية، فتصبح استباحته مباحةً، بل واجبة من داخل القانون نفسه، لتنفلت من عقال الاستثناء لتصبح العنوان الدائم، فإن تلك الحياة العارية ليست سوى تخويل السياسية الحيوية بأن تصبح سياسةَ إماتةٍ (Thanatopolitics) التي تعتبر لُبَّاً للسلطة السيادية الاستعمارية على مبدأي Let die ,Make life، إذ إن امتلاك القرار حول الحياة هو نفسه حول الموت، بفعل الفصل بين الحياة الإنجابية الطبيعية (Zeo) والحياة المؤهلة للمواطنة والسياسة (Bios)، إذ إنّ الحياة العارية لا تشير إلى العريّ الطبيعيّ والأصليّ، أو غير التاريخي لكنها تعرض منتجاً اصطناعياً، وعرياً مخفياً يخفي الترميزات والعلامات الاجتماعية، ليتم اختزال وجود الإنسان الغزيّ المستباح بأكمله إلى الحياة العارية وتجريده من كلّ الحق.

بناءً على ما تقدّم، لنا أن نفهم كثيراً من العقوبات المفروضة على القطاع من باب السيطرة على البيولوجيا، بمنح الغزيّ الحد الأدنى مما يحعله على قيد الحياة (الميّت الحيّ)، كائناً قائماً على عملية الأيض فحسب، دون أن يتخطّى ذلك للمعنى الآدمي للحياة، وهذا ما نلاحظه في تحديد السعرات الحرارية اللازمة له يومياً، والتي قدرها العدو بـ2279،(22) إذ يسلب منك العدوّ سلطتك على تحديد احتياجاتك، ويحلُّ بدلاً منها احتياجاته وضروراته التي تقرر المواد الغذائية والدوائية المسموحة والممنوعة. يجدر الإشارة هنا إلى أن معركة الناس مع الحصار طويلة لم تبدأ بالمطلق منذ 12 عاماً، فحتى بعد مجيء السلطة الفلسطينية، كانت غزّة تتحوّل، على الدوام، إلى صورة “الغيتو” المعزولٍ عن العالم إذ كانت تُغلق يوماً كل ثلاثة أيام، بواقع 342 يومَ إغلاقٍ بين 1993- 1996،(23) ولم تحظَ يوماً بـ 20 ميلاً للصيد كما نصّت اتفاقية “أوسلو”، بل ظلّت هذه المسافة تتناقص من 9 أميال إلى 6، ثم نهايةً بثلاثة أميال.

اللافت هذه المرة أن العقوبات الاقتصادية الجديدة التي فرضها العدوّ على غزة قبل أيامٍ معدودةٍ بإغلاق معبر كرم أبو سالم أتت كردٍ على البالونات الحارقة التي أطلقتها جماهير مسيرات العودة؛ ما يعني أنه يتعاطى معها كامتدادٍ تامٍّ للمقاومة المسلحة، ففي هذه المرة ليست الجماهير ميداناً وسيطاً للانتقام، بل هي الميدان المباشر للتساوي بين الفعل ومردود الانتقام. ولأنّ “الثورة تتقدّم باستثارة حركةٍ معاديةٍ للثورة، متحدة قوية؛ أيّ أنها تجبر العدوّ على اللجوء إلى وسائلَ دفاعيةٍ قصوى فقصوى، وهكذا تستنبط وسائلَ هجوميةً أقوى فأقوى”،(24) فقد أعلنت وحدة الطائرات الورقية والبالونات الحارقة توسيع مدى استهدافها للمستوطنات الصهيونية المحيطة بالقطاع؛ ما يعني أن العقل المقاوم التقط المفارقة التي خلّفها الحصار في تجسير المسافة مع العودة وتمثّلاتها، بل واعتبرها تحدياً حقيقياً

الباب الختامي: كلُّنا ننتظرك.. العودة إلى الساق

صحيح أنّ كثيرين يتعاطون مع قطاع غزّة بصفته “إقليماً مجرَّداً” (25) (Abstract Territory )خارج المسرد الزماني والمكاني للعالم، تمنحه إرهاصات الكارثة فرصة الذكر، غير أن القطاع الذي يُعتبر أكبرَ سجنٍ مٌشيِّدٍ في الهواء الطلق (Open Air Prison) استحال نموذجاً معيارياً في صناعة الهوية الفلسطينية المُعتدّة بقوّة الحقّ والفعل، بل وتمثيله موقعاً كابحاً لتلاشيها حرفياً في ضوء مسخ الحدود الإدراكية للذات إزاء عدوّها، والاستعانة بمقارباتٍ سياسيةٍ تُبدّد معنى الصراع تماماً.

ليس من المبالغة القول إنّ غزّة، تحديداً في السنوات الأخيرة، حدّدت شكل القائم من صراع، والمفروض من نضال، وأعاقت تحوّلنا إلى خرائبَ صامتةٍ قائمةٍ على فكرة “الأصلانية”؛ ينتظر جزءٌ منها الإبادة، والآخر في طور استدخالها في شروط التسوية والعيش تحت وطأة “الغالب”؛ أيّ أنَّ غزّة لم تنذر نفسها لغاية تحقيق الذات، بل لحماية الفلسطينيين برمّتهم- حتى من لم ينصفها منهم- من موت قضيتهم في حدود البقاء والهنديّ الأحمر، منزوعةً من الأصل التحرريّ، وكذلك لإبقاء الفلسطيني حاضراً في الوعي الصهيوني كعدوٍّ يهدّد وجوده ومشروعه على الدوام؛ لا كعنصرٍ غائبٍ عن حسبته.

على ضوء ما تقدّم من تبيان ملامح المقاومة والحصار في غزّة، يتّضح أنّ انكشاف المجال في غزّة ما بين الحياة والموت هشٌّ للغاية؛ هناك الناس تموت حرفياً، وتُساوم على ما يفترض بأن يكون شأناً رتيباً في الحياة الآدمية من الغذاء والدواء والحركة. ليس في محاولة التوصيف هذه مدعاةٌ للرمنسة أو هويةٌ تعبيريةٌ عنوانٌها وثيقة استسلام، لكنّها إحالةٌ إلى تشكيلها إحدى أكبر العوالم الممكنة في تاريخنا المعاصر التي يلتقي عندها التآلف بين أكثر منتجات العصر قسوةً وضراوةً؛ من هيمنةٍ وضبطٍ ورقابةٍ وإماتةٍ. كل هذا يجعل غزّة في حالةٍ دائمةٍ من القلق الذي تُدفع بموجبه، بشكلٍ جبريٍّ، نحو محاولة تجاوزه ومقاومته، ولذلك كانت مسيرات العودة والبلالين والطائرات الحارقة التي كلّفت العدوّ أكثر من 14 مليونَ شيقل.

لقد تحوّلت الحصاراتُ المتعاقبةُ على القطاع، منذ سنين طويلةٍ، إلى مساميرَ في عِظام ناسه، مُستملِكاً فارِضُها دورةَ الطبيعة البشرية، ومُحوِّلاً إياها على الدوام إلى مُشغِّلٍ أساسيٍّ في طاحونة حرب الإبادة. وبقدر ما بات يُعبّر الحصار الصهيوني والتواطؤ معه من قِبَل “الأونروا” والسلطة الفلسطينية عن تفاهة الشر واستحصاله على مسارٍ بيروقراطيٍّ استعراضيٍّ، إلا أنّه يُخفي من ورائه يأساً من غزّة في تحقيق الخيار العسكري النتيجةَ المرجوّة، وتعويلاً على القوّة الكامنة في سياسات الإماتة البطيئة، باعتبارها القوةَ التي تقترب خطوةً واحدةً من الإبادة الجماعيّة. غير أنّ قوّة سياسة الإماتة تلك تقابلها قوّةُ لحمِ مسيرات العودة الحيِّ منذ 100 يوم، إذعاناً برفض القوّة الأولى مقابلَ إعلانٍ بقبولِ موتٍ يدركه على مرمى حجرٍ، واعياً لخياره المرّ؛ باعتباره امتداداً لرضىً ذاتيٍّ وجمعيٍّ عن فرض صوته في سياسة التحكم بالمصير، وبصفته كذلك طقساً عمليّاً لتفاؤل العقل والإرادة معاً، وتعليقاً لحالة الانتظار الدائمة التي يحاصره العدوّ داخلها.

لم تنجح مسيرات العودة، حتى اللحظة، في صناعةِ كوَّةٍ في جدران الحصار، بل من الواضح أنّ غزّة تتجه إلى حالةٍ غيرِ مسبوقةٍ من حرب الحياة العارية والتكالُب السياسيّ عليها، إلّا أنّها نجحت في فرض المرجعية الجماهيرية لحقّ العودة باعتباره المقدسَ القائمَ في قلب الشعب، بدلاً من مرجعيّة القانون الدوليّ التي أحالت المفهوم إلى مبرّرٍ وظيفيٍّ لمؤسسة القانون تلك، نزوعاً نحو نتيجةٍ لن نصلها يوماً. حين تُسأل وزيرة صهيونية عن سبب قنص المتظاهرين في مسيرات العودة، فتردّ بالقول: “لأننا غيرُ قادرين على اعتقال كل هؤلاء، فنقتلهم”، تتيقّن أنّ هذه العبارة بقدر ما هي تجلٍّ مدهشٌ عن ساديّة الغالب تجاه المغلوب، إلّا أنّها تُعبِّر عن قدرة القطاع الغزيّ على تحقيق فرزٍ هوياتيٍّ وسياسيٍّ خاصٍّ به، بتشكيله “أرضاً حراماً” على “الغالب” ومشروع الطرد والإحلال القائم عليه.

كذلك، من المهم الإشارة، هنا، إلى أنّه ليس في الشخصية الغزيّة أمرٌ جوهرانيٌّ يمنحها التفرّد والأسطرة، لكنها ابنةُ ظروفٍ ذاتيةٍ وموضوعيةٍ أكسبتها التجربةَ المختلفةَ؛ تجربة استقطبت جيلاً طالعاً لم يشهد احتلالاً عسكرياً، لكنّه تمكّن من الاستئناف عليه عبر مراكمة شحناتٍ طويلةٍ من القهر الماديّ والرمزيّ والمقتلة اليومية، التي جعلت وجوده حساساً إزاء وجود الآخر، وقتاله أبعد ما يكون عن صورة النبوءة، ولنا في الجملة التي كتبتها مجموعةٌ أطلقت أحد المناضيد الحارقة على أراضينا المحتلة خيرُ شاهدٍ: “إنْ كُتِبَ علينا أن نعاني، فإنّنا لن نعاني وحدَنا”.

ختاماً، قد يبدو ما سأنهي به هذه المقالة قاسياً وشخصيّاً ومتعصّباً لغزّة بعض الشيء، لكن ثمّة ألماً من فصيلة الطغاة في داخلنا نحن- أهل غزة- يؤلّفه رفضُه تلقيَّ أنماط الآلام العادية، والذي يتغّذى أساساً من اعتبار غيرِنا سلوكَ غزةَ وناسِها، على مدار هذه السنوات الطويلة، من بداهة الطبيعة، والتعثّر بغيره لا يعني سوى خروجٍ عن ذاك القانون، فأنْ تعتبر قذفي وابني في حوضِ موتٍ كبيرٍ اسمه قانون الطبيعة الخاص بغزّة، لا يعني سوى إفلات الأمر من بين يديك وإراحة نفسك من تهافت سلطة الفعل عليك. ولذلك، “لن آتي آليك، بل عُد أنت لنا… لنتعلّم من ساق نادية المبتورة من أعلى الفخذ، ما هي الحياة… وما قيمة الوجود. عُد إلينا، فكلٌّنا ننتظرك”.(26)

” حينما تتوقف الطاحونة، فهذا ليس أبداً دليلاً على خيانة القمح. يرى اللاجئ في غزة الزرع ينمو في أرضه، وراء الأسلاك الشائكة. يمضي ويقصُّ بأصابعه الأسلاك، ويذهب لزرعه. يعود بحزمة سنابل ويسقط مثقوباً بالرصاص، وفي صباح اليوم التالي يعلنون عن مقتلِ متسللٍ.”(27)

……….

 1) كنفاني، غسان، ورقة من غزة. https://bit.ly/2NXKQJZ

2) الحسيني، على زين العابدين. تموز 1974، “ملامح من التجربة النضالية الفلسطينية: حرب العصابات في مدن ومخيمات قطاع غزة”، بيروت: مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، مجلة “شؤون فلسطينية”، العدد 35، ص 62- 75.

 3)  نفس المرجع السابق.
 4)  الرملاوي، نبيل. تموز 1974. “المفهوم الاجتماعي لحرب التحرير الشعبية الفلسطينية”، بيروت: مركز الأبحاث الثابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، مجلة “شؤون فلسطينية”، العدد 35، ص 56- 61.
 5) صايغ، يزيد. يناير 2002، “الكفاح المسلّح والبحث عن الدولة: الحركة الوطنية الفلسطينية 1949- 1993″، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ترجمة: باسم سرحان
 6) الخليلي، غازي. أيار 1976، “دروس الانتفاضة”، بيروت: مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، مجلة “شؤون فلسطينية”، العدد 57، ص 15- 36
 7)  سلامة، بلال. نوفمبر 2015، “العمليات الاستشهادية: تطور الجسد كأداة مقاومة”، مجلة المستقبل العربي، ص 65- 88
 8)  Lesch, Ann. (Autumn 1985), “Gaza: Forgotten Corner of Palestine”, Journal of Palestine Studies, Vol 15, No 1, PP 43- 61
 9)  الحسيني، علي زين العابدين. مرجع سابق
  10) نفس المرجع السابق.
 11)  نفس المرجع السابق.
 12)  العارف، عارف. “غزة: نافذة على الجحيم”، المجموعة الثالثة، بيروت: مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، الدار العربية للموسوعات.
  13) صايغ، يزيد. مرجع سابق، ص 317
  14) العارف، عارف. مرجع سابق، ص 762
  15) Filiu, Jean- Pierre. 2014- 2015, “The Twelve Wars on Gaza”, Journal of Palestine Studies, Vol 44, No 1, PP 52- 60
  16) بسيسو. معين. 1978، “دفاتر فلسطينية”، بيروت: دار الفارابي. ص 57
  17)  نفس المرجع السابق، دفاتر فلسطينية. ص 58
  18) نفس المرجع السابق، دفاتر فلسطينية. ص 65

  19)  أبو النمل، حسين. أبريل  1979، “قطاع غزة 1948- 1967: تطورات اقتصادية واجتماعية وسياسية وعسكرية”، بيروت: مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، ص 33

  20) أبو النمل، حسين. نفس المرجع السابق. ص 40-41
  21)   Agamben. Giorgio. 1995,”Homo Sacer”, Stanford: Stanford University Press

 22)  The Twelve Wars on Gaza. Ibid
  23)  نفس المرجع السابق
  24) الخليلي، غازي. دروس الانتفاضة، مرجع سابق.
  25) نفس المرجع السابق
  26) غسان كنفاني، ورقة من غزة
  27)  دفاتر فلسطينية. مرجع سابق، ص 46- 47