يقدّم أحمد العاروري، في هذه المقالة، قراءةً سياسيّةً في عواقب نجاح حيش الاحتلال الصهيوني وأدواته في كسر صورة الضفة الغربية المحتلة، باعتبارها ساحةً لفعلٍ شعبيٍّ جماهيريٍّ واسعٍ، خصوصاً بعد انقضاء الانتفاضة الثانية. على وقع ذلك، تبحث المقالة في سؤال “هل كان بالإمكان غير الذي كان؟”، وكيف للضفة الغربية أن تعيد فرض صوتها في معادلة الردع لعدم الاستفراد بغزّة؟ كما تبحث المقالة في آفاق الحراك الحالي وممكناته.

إنّ أكبر حكمةٍ مستقاةٍ من التاريخ هي ما تُعيننا على قراءة الواقع والصعود له برؤيةٍ نقديةٍ تكسر حدود الآني واللحظي. كما أن السياسة بصيغتها العملانية، التي تسعى لخلق نفسها وأدواتها من بيئتها، يجدر بها أن تسير على بصيرة مما حدث في الماضيَيْن القريب والبعيد، وهذا ما نحاول فعله في هذه المقالة.

نجح الاحتلال الصهيوني وأدواته، حتى اللحظة، في كسر صورة الضفة الغربية المحتلة باعتبارها ساحةً لفعلٍ شعبيٍّ جماهيريٍّ واسعٍ. فمنذ سنواتٍ طويلةٍ، وخاصةً بعد انتهاء الانتفاضة الثانية، انحصرت نقاط الاشتباك مع العدو على مناطقَ جغرافيةٍ معينةٍ تتبادل في ما بينها، إذ أصبح بعضها بحكم الموقع الجغرافي يشكّل استنزافاً ما للاحتلال ومستوطنيه. هذه المسألة يمكن البناء عليها لضمان ديمومة الفعل بأدواتٍ بسيطةٍ ليست بحاجةٍ للشكل التنظيمي والهرمي لخلايا المقاومة، وما قد يجرّ ذلك من كشفها واعتقال أفرادها أو تصفيتهم.

أفرغت الانتفاضة الثانية، وفي القلب منها عملية “السور الواقي”، بنسبةٍ كبيرةٍ الضفةَ الغربيةَ المحتلةَ من البنية التحتية للمقاومة من خبراء ونشطاء في العمل العسكري، إذ كان لهؤلاء مساهمتُهم التي لا ينفيها شيءٌ في دفع عجلة الانتفاضة، وقد تنوعت مصادر خبراتهم من نشاطهم في الانتفاضة الأولى أو في انتظامهم في صفوف الثورة الفلسطينية في الخارج أو في الأجهزة الأمنية الفلسطينية.

أثناء اجتياح الجيش الصهيوني للضفة الغربية ضمن عملية "السور الواقي" عام 2002

في هذا السياق، يمكننا اتخاذ مدينة طولكرم كنموذجٍ عن استنزاف الانتفاضة الثانية للمخزون الثوري والإنساني الذي تعيش عليه أيُّ هبةٍ أو انتفاضةٍ أو ثورةٍ، فقد قدم مخيمها لوحده خلال الانتفاضة 54 شهيداً، وخرج منها عددٌ لا يستهان به من العمليات الموجعة للعدوّ تنوعت بين العمليات الاستشهادية مثل عملية “فندق بارك”، وعمليات إطلاق النار التي نفَّذها من أصبح في ما بعد أيقونةً للنضال الفلسطيني، مثل الشهيدين رائد الكرمي وعمر صبح من “كتائب شهداء الأقصى” و”كتائب الشهيد أبو علي مصطفى”، بالإضافة لعملية إطلاق صاروخ “قسّام” تجاه محطة الكهرباء في “نتانيا” التي نفذها الشهيد سائد عواد، وكانت علامةً فارقةً تركت مخاوفَ لدى العدو من نقل تجربة الصواريخ من غزة إلى الضفة المحتلة.

ورغم كل الضربات الأمنية التي تعرضت لها خلايا المقاومة في المدينة وقراها طوال سنوات الانتفاضة وما بعدها من قبل الجيش الصهيوني والأجهزة الأمنية الفلسطينية، إلا أنها لم تحوْل دون استمرار محاولات إعادة بعث المقاومة فيها، وقد نجح بعضها في تنفيذ عملياتٍ، فيما تمكّن الاحتلال من اكتشاف عددٍ آخر، نتيجةً لأخطاءٍ تقنيةٍ وأمنيةٍ في الاتصالات والتواصل مع الخارج، أو خلال محاولة شراء السلاح والحصول عليه، وهي مصادرُ يعتمد العدو عليها دائماً في الوصول للخلايا وإحباط عملها.

ومن بين الخلايا التي كشف الاحتلال عن اعتقالها، في العام 2014، كانت خليةً تضمّ الأسرى المحررين “عبد الله زيتون، محمد ملحم، راجي عموري، مناف إغبارية، مصعب ذويب، عدنان سمارة، صهيب ثابت، محمد شوربجي”، مدعياً الاحتلال أن الخلية خططت لتنفيذ عملياتِ تفجيرٍ. في الواقع، لا يمكن الوثوق بكل ما يصدر عن مخابرات الاحتلال من بياناتٍ تعلن فيها عمّا تسميها “إنجازاتٍ” في الوصول للخلايا، إذ يُسوَّق ذلك في إطار طموحات الضباط للرتب أحياناً وطمأنة مجتمع المستوطنين، وضرب البنية المعنوية لمجتمع المقاومة الفلسطيني.

 في السياق عينه، ربما ما يميز الانتفاضتين السابقتين في تاريخ الشعب الفلسطيني وجودُ قيادةٍ أخذت على عاتقها رعاية العمل العسكري في الضفة، مثل إبراهيم حامد وجمال أبو الهيجا وأبو علي مصطفى ومروان زلوم، وغيرهم ممن قضوا شهداء أو انتهوا إلى السجون. ومن الملاحظ أن دولة الاحتلال عملت بكل جهودها على منع أيٍّ قياديٍّ عسكريٍّ أو سياسيٍّ كبيرٍ من العودة للضفة الغربية المحتلة، خلال صفقة “وفاء الأحرار”، وبعد عملية خطف المستوطنين الثلاثة في الخليل عام 2014، فاعتقلت بقية المحررين رغم أن معظمهم لم ينخرط في أيِّ نشاطٍ  منذ الإفراج عنه.

كما كان اغتيال الشهيد مازن فقهاء في قطاع غزة، العام الماضي، عبر خليةٍ من العملاء، بمثابة رسالةٍ من الاحتلال، مفادُها عدمُ السماح لأحدٍ بإعادة إحياء المقاومة في الضفة الغربية، وإلّا ستتوجّه لقتله فوراً. غير أنّ هذه السياسة لم تثبت نجاعتها دوماً في ظل خروج عددٍ من الفدائيين؛ جزءٌ منهم بمبادراتٍ شخصيةٍ وأخرى تنظيميةٍ، ليثبت ذلك أن الحكم بنجاعة سياسة الاحتلال قد يلقي بالإحباط والضرر علينا، أكثر من اعتباره دراسةً لحالةٍ يمكن تطويرها وتوفير البنى الاجتماعية التي كانت تحمي المقاومة دوماً.

خلايا الشهيد” نشأت الكرمي” نموذجاً

في رمضان العام 2010، وبعد صلاة المغرب، كانت الخليل على موعدٍ مع عمليةٍ كبيرةٍ غابت عنها لسنواتٍ، إذ ترجَّل الشهيد “نشأت الكرمي” ورفيقه “مأمون النتشة”، وأطلقا النار على الشارع الالتفافي قرب بلدة بني نعيم، وقتلا أربعةً من المستوطنين، وتمكّنا من الانسحاب من المكان بسلامٍ، لتنطلق بعدها حملةٌ أمنيةٌ مشتركةٌ بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية والجيش الصهيوني في الضفة الغربية، تخللها اعتقالُ العشرات ممّن تربطهم أيُّ علاقةٍ بالشهيد، وتعريضهم للتعذيب الشديد، حتى ضاقت على الكرمي “الأرض بما رحبت”، وارتقى خلال اشتباكٍ مع العدوّ برفقة صديقه النتشة.

مكان العملية التي نفّذها الشهيد نشأت الكرمي بمساعدة رفيقه الشهيد مأمون النتشة في أحد الشوارع الالتفافية قرب بلدة بني نعيم في الخليل

اشتغل الشهيد الكرمي قبل استشهاده على بناء تنظيمٍ من الخلايا المتكاملة، والتي سرعان ما انهارت بفعل الملاحقة الشرسة التي تعرضت لها. وكانت تضم هذه الخلايا عدداً من أصحاب الخبرات، والتي اكتسبها بعضهم خلال إبعاده لفترةٍ لقطاع غزة في مطلع الانتفاضة الثانية، ولا يزال هؤلاء لا يبرحون السجون حتى يعودوا إليها.

بهذا الصدد، كان العمل على بناءٍ عسكريٍّ منظمٍ في القطاع، والتركيز على خلايا صغيرة في الضفة الغربية المحتلة تعمل بنظام “الكر والفر” من أهم الأفكار التي طرحها الشيخ الشهيد صلاح شحادة، وذلك على العكس مما حصل في عددٍ من مدن الضفة، إذ خاضت خلايا المقاومة اشتباكاتٍ مسلحةً مباشرةً مع جيش الاحتلال الصهيوني.

ما يمكن قوله من خلال هذا السرد الطويل أن الجيل الجديد من “الفدائيين” في الضفة الغربية المحتلة يفتقد بشكلٍ واضحٍ لأصحاب الخبرات الذين كانوا قلبَ الانتفاضة الثانية، بالإضافة لما خلقته “أوسلو” من ميزةٍ لجيش العدو تمكّنه من البقاء خارج المدن، مقابل الدخول في عملياتٍ خاطفةٍ أو سريعةٍ وقتما تشاء لاعتقال مقاومين أو تصفيتهم. إنّ ما حدث في مدينة نابلس، قبل أسابيع، حينما  اقتحم جيش الاحتلال المدينة، بحثاً عن منفذ عملية الطعن قرب مستوطنة “أرئيل”، و”الثورة الصغرى” التي عمت الشوارع وقتها، دليلٌ على الراحة التي يعيشها الجيش الصهيوني خارج المدن.

لكن بالمقابل، وقبل حوالي شهرٍ، اقتحمت عناصر من وحدة “الدوفدوفان” الصهيونية مخيم الأمعري قرب رام الله، وأثناء دخولها في أحد الأزقة، تعرّض عنصرٌ من الوحدة لإلقاء قطعةٍ من الرخام نقلته للعناية المكثفة، ومن ثم للمقبرة. وبعيداً عن المبالغات في توظيف الحدث، فإنّ ما جرى يعبّر عن صورة ما يمكن أن تسبّبه مشاركة الضفة الغربية المحتلة في هبةٍ أو انتفاضةٍ ضد الاحتلال؛ من إرباكٍ وتأخيرٍ في خططه، واستنزافٍ لجزءٍ من قواته. لذلك، يبذل العدو قصارى جهده لمنع ذاك الخيار بكل أدواته الأمنية والسياسية والاقتصادية والترويض الاجتماعي وغيره.

هل كان بالإمكان غير الذي كان ؟

في كتابه “نظرةٌ للمقاومة من الداخل”، يقول قائد أسرى حركة “حماس” في السجون الصهيونية “محمد عرمان”، وهو أحد مَن لعبوا دوراً محورياً في الانتفاضة الثانية، إنّه كان يستوجب بالحركة اتباعُ سياسةٍ مختلفةٍ في الضفة الغربية، وذلك عشية سيطرة حركة “حماس” على قطاع غزّة، من خلال تصعيد عمليات المقاومة ولو بأيِّ ثمنٍ، كي ينشغل العدو بهذه العمليات، ويفشل بالمقابل مخطط الاستفراد بالضفة الذي وضعه “دايتون” ورجاله في المنطقة.

تحرّضنا هذه المسألة على استعادة الماضي القريب للضفة الغربية المحتلة، والوقوف أمام الثمن الكبير الذي تدفعه الضفة حالياً قبل القطاع، فمع بداية عمليات ضرب الصواريخ وقذائف الهاون من قطاع غزة تجاه المستوطنات في العام 2001، اتخذ الاحتلال سياسة تدفيع أهالي القطاع الثمن باهظاً عن كل صاروخ يسقط في المستوطنات الصهيونية، غير أنّ المقاومة في الضفة كانت بأفضل حالاتها، وقادرةً على فرض صوتها وردِّ الثمن بمثله أو أكبر أحياناً في شوارعنا المحتلة. لكن اليوم، ومع غياب دور الضفة في فرض نفسها في معادلة الردع والحؤول دون التجرؤ على الدم الفلسطيني في غزّة، يصبح أيُّ خيارٍ للحرب في غزة مكلفاً حتى من ناحيةٍ سياسيةٍ على القطاع، لأنّ ضغط العدوّ على هذه الخاصرة التي تنافح وحيدةً قد يدفع المقاومة لتقديم تنازلاتٍ أكبر.

صورة تجمع فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة

منذ سنواتٍ، تعمل عدة أطرافٍ على إعادة إحياء المقاومة في الضفة، بشكلها التقليدي المعروف من خلايا والخ، ويقف وراء ذلك مبعدون وأسرى محررون في الخارج، لكن هذا الخيار لم يكن آمناً على الدوام، إذ خلّف في أحايينَ كثيرةٍ آثاراً سلبيةً على العمل المقاوم، عبر تمكين مخابرات الاحتلال من تسجيل إنجازاتٍ بكشف خلايا كبيرةٍ ومتشعبةٍ، يُقدَّر عدد أفرادها بمائتي فلسطيني خلال السنوات الأخيرة فقط؛ وهو الأمر الذي يجعلنا أمام سؤالٍ مفادُه: هل نحن بحاجةٍ للاستمرار بنفس الشكل القديم من الخلايا، أم العمل على تطوير نقاط تماس تعمل بشكلٍ يوميٍّ واستنزافيٍّ للاحتلال؟ لا إجاباتِ محددةً في هذا الإطار يملكها أحدٌ سوى أن العمل المباشر هو ما يخلق الحلول دوماً.

ومن ضمن الآثار السلبية التي ألمّت بالعمل المقاوم، أيضاً، كانت عملية تحييد تيارٍ واسع من حركة “فتح” عن العمل النضالي الفلسطيني، والتي لم تكن نتيجة ما اُصطلح عليه بـ”الانقسام” وما نتج عنه من منكافاتٍ فحسب، بل إثر مجموعةٍ من الخطوات والسياسات المنوطة بكسر الحركة، وزيادة تعميق بعض عناصرها، التي كانت تقود الانتفاضتين السابقتين، بمنظومة السلطة الفلسطينية وما يتحتّم عليها من وظائفَ وامتيازاتٍ.

على إثر ذلك، تشير مراقبة سلوك السلطة الفلسطينية إلى أنّ الأخيرة لن تسمح بما حدث خلال انتفاضة الأقصى من تفجّر العمل العسكري في وجه الاحتلال، لكنها بالمقابل تعمل على تشكيل “نضالٍ” تحت عينيها على نقاطِ تماسٍ محددةٍ، يختار الاحتلال فيها مجموعةً من المحددات والتعليمات لـ”إطلاق النار” على الأطراف في الغالب، إضافةً إلى منع سقوط شهداء يقود لتطور المواجهة وتوسعتها. في ذات السياق، تعلم أجهزة أمن العدو أنّ مشاركة عناصر حركة “فتح”، بما تملكه الأخيرة من قاعدةٍ جماهيريةٍ واسعةٍ، وبخاصةٍ المسلحين منهم، في أيّ هبةٍ قادمةٍ، ستعمل على “تفجيرها” بشكلٍ كبيرٍ، دون أن ننسى أن جزءاً من هؤلاء مرتبطٌ  بقياداتٍ تابعةٍ للسلطة لا ترى نفسها جزءاً من أيِّ مشروعٍ تحرريٍّ حقيقيٍّ.

يمكننا هنا الاستدلال بتحليلٍ قدّمه عرفات الحاج في محاضرةٍ ألقاها بعنوان “غزّة: من المجزرة إلى المعركة”، وذلك بعد الحرب الأخيرة على القطاع، إذ اعتبر أن أحد أسباب تراجع المقاومة في الضفة يُعزى إلى وقوف ضباطٍ من الأجهزة الأمنية الفلسطينية خلف جزءٍ من الخلايا التي قادت الاشتباكات في فترة الاجتياحات، بينما قادت المواجهات في القطاع، أثناء فترة الاجتياحات، أوساطُ شعبيةٌ بعيدةٌ عن أيّ ارتباطٍ سلطويٍّ. ولا نعني بذلك أيَّ تشكيكٍ في الخلفيات الوطنية لعدد من الضباط الذين شاركوا في الاشتباكات بالضفة، غير أن هذه المسألة  تعكس جزءاً من إشكالية عدم الانفكاك عن السلطة، وما يعكسه سلوكها أحياناً من خوض المواجهة لأهدافها.

من "جمعة الكوشوك" التي نظّمها شبان فلسطينيون ضمن مسيرات العودة الكبرى في قطاع غزة

يقودنا هذا الأمر إلى دراسة جميع الاستراتيجيات التي اتبعتها المقاومة الفلسطينية في محاولتها لإعادة إحياء وبعث جبهة الضفة الغربية من وسط المرحلة السابقة التي اتسمت بالعمل الفدائي “الفردي” المستند على إرثٍ مقاومٍ لم ينمحِ نسبياً، وبقيت لديه القدرة على التأثير في جيلٍ واسعٍ من الفلسطينيين، موزعٍ على مخيمات وقرى ومدن الضفة، إضافةً إلى بؤرٍ ساخنةٍ استمرت في المواجهة، رغم محاولة العدو استنزافَها بالاعتقالات، خصوصاً مَنْ هم دون سن 18 عاماً، كما يحصل في العيسوية وأبو ديس وحزما ودير أبو مشعل وغيرها.

وهنا نستدل بما كتبه الشهيد باسل الأعرج، في دراسته حول الهبة الشعبية الفلسطينية، إذ قال إنّ هبة البراق كانت تمهيداً لثورة عام 1936، فيما كانت هبة النفق– بشكلها الذي اتسم بمشاركة عناصر من الأجهزة الأمنية الفلسطينية واندلاع مواجهاتٍ واسعةٍ على نقاطِ تماسٍ- مقدمةً لاندلاع الانتفاضة الثانية في العام 2000. بناءً على ما تقدّم، يمكننا أن نؤطّر ما يجري منذ العام 2014 في الضفة والقدس المحتلتين كاستدلالٍ على شكل الحراك القادم، مع الحذر في الوقت ذاته من ترك الأمور لِيَد القدر، في ظل عمل أجهزة الاحتلال بشكلٍ يوميٍّ على نزع أيّ فرصةٍ لحراكٍ ثوريٍّ قادمٍ، خصوصاً مع مراكمتها خبراتٍ تمكّنها من ذلك، ولو نسبياً وآنياً.

تقليل “العمر الافتراضي” للمطاردة

خلال السنوات الأخيرة، يُلاحَظ انخفاض ما يمكن تسميته بـ”العمر الافتراضي” للمقاومين في الضفة المحتلة ممّن  تلاحقهم مخابرات وجيش الاحتلال، إذ اُعتقلت بعض الخلايا بعد أيامٍ فقط من تنفيذ عملياتها؛ وهو الأمر العائد لعدة أسباب، من بينها: كاميرات المراقبة والتكنولوجيا التي عمل العدوّ على نشرها بكثافةٍ في الشوارع، والتنسيق الأمني، وانخفاض مستوى الوعي الأمني والحساسية المطلوبة إزاء نشر المعلومات لدى قطاعٍ واسعٍ في المجتمع الفلسطيني، خصوصاً مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، فضلاً عن تخصيص الاحتلال وحداتٍ كاملةً لمراقبة الفلسطينيين، وفرز هذه المعلومات والاستفادة منها في عمله الأمني، مع أن هذه المراقبة لم تنجح دائماً في منع العمليات. وخيرُ مثالٍ على ذلك عمليةُ الأسير عمر العبد في مستوطنة “حلميش”، التي قُتل على إثرها ثلاثة مستوطنين وأصيب رابعٌ، إذ كان العبد قد كتب وصيته على صفحته الشخصية في “الفايسبوك” قبل ما يقارب الساعة من العملية، دون أن يتمكن العدو من اعتقاله أو منعه من تنفيذها.

في تلك الفترة، أُطلقت حملاتٌ على مواقع التواصل الاجتماعي لبثّ الوعي الأمني، وحققت نجاحاتٍ نسبيةً في التحذير من خطورة الكاميرات، مُطالِبةً أصحاب المحلات التجارية بإتلاف تسجيلاتها بعد كل عمليةٍ للمقاومة، لكن بقي تأثير هذه الحملات محدوداً حتى اللحظة، وربما ينقصها خطواتٌ أكثرُ عمليةً على صعيد تطوير الحساسية الأمنية لدى جيلٍ واسعٍ من الفتية والشبان من “المقاومين الجدد”، الذين لم تعركهم التجربة كثيراً بعد.

بجانب ذلك، لا يمكن إسقاط خطط وإجراءات العدو لتحييد الجغرافيا الفلسطينية ومراقبتها ومنع المقاومين من الاستفادة منها من تحليل قضية خفض عمر المُطارَدة، وذلك عبر شقّ الطرق وبثّ العملاء في الجبال بعد كل عمليةٍ، ورفع التقارير بشكلٍ دائمٍ عن كل من يتردد على الجبال، فضلاً عن امتلاك خرائطَ عن المغارات والكهوف والوديان، والأماكن التي عُرفت بوجود مطاردين فيها سابقاً، أو ارتقى بداخلها شهداء خلال الانتفاضات السابقة.

من مسيرات العودة الكبرى التي تشهدها غزّة منذ 30-3-2018

كما يجري، بقصدٍ أو دون قصدٍ، تحييد ثقافة التعامل مع الأرض ومعرفتها عن الفلسطيني، ولا يعود ذلك إلى أسبابٍ مرتبطةٍ بشكلٍ مباشرٍ بالعمل الأمني، بقدر ما يعود لتغيُّرٍ كبيرٍ في اهتمامات المجتمع، وازدياد ثقافة الاستهلاك والتوجه للمدن .. والخ، يقابلها مبادراتٌ شبابيةٌ لإعادة هذا الاهتمام لاكتشاف الأرض والارتباط بها.

لكن ما تعلمنا إياه وقائع الأرض والذاكرة أن كل مخططات الاحتلال وأدواته قد ينفرط عقدها مع أول عمليةٍ أو حدثٍ، كما حصل عقب عملية الشهيد أحمد جرار وخليته قرب نابلس، والمطاردة الساخنة التي تبعتها وانتهت باستشهاده، وقبله ابن عمه أحمد إسماعيل جرار، حيث “انهار” ما أُطلق عليه “نموذج جنين”، الذي تفاخر بنجاعته محافظُ جنين قدورة موسى يوماً، إذ حوَّل المدينة وقراها من “عاصمةٍ للمقاومة” إلى واقعٍ أكثرَ أمناً من “تل أبيب”.(1) ففي ساعاتٍ معدودةٍ، خرج أكثر من 1000 شاب للشوارع في مواجهاتٍ أغلبُها من “مسافة صفر” مع قوات الاحتلال الصهيوني، وذلك خلال مداهماتها الواسعة التي شنّتها للبحث عن الشهيد.

الخاتمة

تشهد الضفة المحتلة، هذه الأيام، حراكاً مسقوفاً بشعار “ارفعوا العقوبات”؛ هدفه إسقاط العقوبات التي تفرضها السلطة الفلسطينية على قطاع غزة منذ شهور، والمنضوية ضمن منظومة الحصار القاسي التي يتعرض لها القطاع منذ 12 سنة، في محاولةٍ من العدو وحلفائه في المنطقة لخنق أهلنا هناك أو “تأديبهم”، جراء اختيارهم المقاومة كمذهب سياسيًّ ووطنيًّ نهائي بغرّض التحرّر، ودفعهم لها للأمام وتطويرها. بذلك، نحن أمام فرصةٍ حقيقيةٍ في قادم الأيام لتعزيز دورٍ شعبيٍّ يواجه ما رسّخته الأجهزة الأمنية عبر هذه السنوات، من مصادرةٍ للحيز العام وكسر التعبيرات الصادرة عن الأخير والمخالِفة له، و”تحريم” الخروج للشارع عبر اعتقال النشطاء وقمعهم، وتشويه المسيرات التي ترفع الشعارات المناهضة لـ”التنسيق الأمني” مع العدو ، وغيرها. 

من المظاهرة التي شهدتها رام الله السبت الماضي ضمن حملة "ارفعوا العقوبات"

والأهم من ذلك كلّه الانحياز السياسيّ والأخلاقيّ لتجربة غزّة ككل، وما يحتِّم هذا الموقع على الضفة من ضرورة اللحوق بنهج غزّة، وليس التمترس عند حدود الدفاع عن التجربة، والدعم المعنوي لمسيرات العودة تحديداً. صحيح أن ثمّة أطرافاً عدّة تحاول تقديم مقارباتٍ مختلفةٍ عن الحراك الراهن، ومنها من تُصوِّر أن المسألة لا تتعدّى حدود تحسين شروط الحصار المفروضة على القطاع، وكأنّ الأمر مرتبطٌ بخلافٍ سياسيٍّ آنٍ يمكن حلّه ضمن سقف السلطة السياسية، غير أنّه ما يمكننا التعويل عليه هو أنّ الحملة بذاتها تتعاطى مع العقوبات بشكلٍ متشابكٍ للغاية مع هوية صاحبها ونظامه السياسي دون أيّ تعويمٍ أو تعميةٍ، وباعتبارها كذلك انتصاراً لمشروع المساومة على حساب المقاومة، وهو ما يحتّم عليها، بالضرورة، توسيع قواعدها الجماهيرية في مختلف أماكن التواجد الفلسطيني، وصيانة خطابها ضمن وعيٍّ سياسيٍّ حادٍّ بعدم شرعية أيّ مشروعٍ مخالفٍ للمشروع التحرريّ.

ختاماً، فإن ما يبقينا “على قيد الأمل”، وهو الأمر الذي يتجاوز كل ما نسميه “تحليلاً” أو محاولةً لفهم ظروف المقاومة في الضفة الغربية المحتلة، أنّ جمالية المدّ الثوريّ تكمن في أنها تكبر في المجهول الذي لا تراه عيوننا ربما، فبإمكان فدائيٍّ واحدٍ يخرج شاهراً سلاحَه على الاحتلال، أن يُعجِّل بنضوج الظروف التي تختمر خلال سنواتٍ طويلةٍ، تحت رماد ملاحقة الاحتلال وأدواته.

…………………….

الهوامش:

1انظر: منشور حسن السائح على صفحته الشخصية على الفيسبوك، بتاريخ 19-1-2018. https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=2012389132331670&id=100006818077614