إنّ مسألة حجب المواقع أكثر من مجرّد إشكال قانوني أو صراع سياسي سلطوي، هي بالفعل مواجهة مستمرة على طبيعة الخطاب وأركانه، على نوع السردية، وعلى الرواية و”المنظار” اللذين  نفهم ونفسر الواقع من خلالهما. إنها محاولة لترسيخ رواية وسردية واحدة.

مقدمة

ترتبط البنية الاستعمارية في فلسطين بشكل مباشر بسياسات التحكّم والمراقبة، والتي تتمثل بالاعتقالات والحواجز والجدران والكاميرات وأنظمة التصاريح والإغلاقات المتكررة للطرق، وهي من ضمن الأدوات الأساسية في سعي الاستعمار لإتمام مشروعه في فلسطين، وتطبيع وجوده عليها، وإخضاع المستعمَر الفلسطيني و”معالجته” لضمان احتوائه وقمع قدرته على المقاومة.

وتختلف أدوات التحكّم والمراقبة التي يستخدمها المستعمِر لبسط هيمنته، باختلاف التطورات التكنولوجية على مرّ السنين، وبتطور الفعل الفلسطيني المقاوم. فكما أن التطور التكنولوجي يطرح أدوات جديدة وأكثر تطوراً للمراقبة، فإن توظيف هذا التطور التكنولوجي لخدمة منظومات المراقبة له علاقة بتطوّر أدوات الفعل الفلسطيني المُقاوم، فكلما تطوّرت أدوات المقاومة استدعى ذلك تحسيناً وتطويراً في أدوات المراقبة وتوسيع فعاليتها ونطاقها لتناسب حجم الفعل الفلسطيني.

يمكن حصر مستويات المراقبة تلك في عدة محاور رئيسية، منها:

  • الضبط الاجتماعي والسياسي من خلال الإحصاء والتعداد السكاني. بولادة الفلسطيني، تولد أولى محاولات الاستعمار الصهيوني لفرض سيطرته وتحكّمه في المجال الجغرافي الذي يسمح له بالتواجد فيه، فإنّ شهادة ميلادنا هي أيضاً شهادة تحديد المجال الجغرافي الذي يمكننا التنقل فيه (أنواع الهويات).
  • توظيف التكنولوجيا من خلال استخدام أدوات وتقنيات حديثة في إدارة المجتمع الفلسطيني، بدءاً من الطائرات بدون طيار، إلى أجهزة الكشف عن المعادن، وأجهزة التنصت، والكاميرات، حوسبة وحفظ البيانات، واختراق المجال الاجتماعي الفلسطيني الافتراضي وحفظ بياناته وإخضاعه للتحليل والمعاينة، واستدخال خطاب صهيوني فيه (صفحة المنسق مثالاً).
  • هندسة المجال الجغرافي بما يضمن إعاقة الحركة وضبطها، وذلك بواسطة الحواجز، والجدران، والشوارع الالتفافية، وأبراج المراقبة، والمستوطنات. وتعدّ “المستوطنة القلعة” البنية الأساسية التي تعيق قدرة القرى والمدن على التمدد أو قدرة الفلاح الفلسطيني على استغلال الموارد الطبيعية.  كما تشكّل هذه القلعة “”منظاراً” تتم مراقبة الفلسطيني من خلاله.

يمكننا هنا أيضاً، الحديث عن مخيم جنين وقطاع غزّة، إذ إن إعادة تشكيل حيّزهما الجغرافي كانت رافداً أساسياً في السعي لضبط المقاومة. فعملية إعادة إعمار مخيم جنين بعد المعركة التي خاضها أبطالها عام 2002، أفقدت المخيم معناه الماديّ المعروف بالعادة بأزقته وزواياه الضيقة، وشوّهته إلى جغرافيا مختلفة تماماً، تقوّض الخيار الأمثل في المخيم كحرب العصابات، وساهمت في انكشافه وانكشاف أي مقاومة محتملة على العدوّ.

المسألة ذاتها تنسحب على قطاع غزّة، إذ إن إدخال بعض الجهات المانحة مثل UNDP  في مشروع إعادة إعمار القطاع بعد الحرب الأخيرة عليه لم يكن بريئاً سياسياً، إذ تزوّد هذه الجهة العدو بإحداثيات معمار غزّة، وتشرف مع غيرها من الجهات على كيفية البناء من ألفه إلى يائه، بل تُعتبر ذراعاً أخرى من أذرع الحصار، خاصةً مع نصب الكاميرات وأجهزة المراقبة في مستودعاتها المنوطة بتوزيع الإسمنت وفقاً لكابونات وكميات محددة لكل عائلة. كل هذا من شأنه أن يحاصر المقاومة ويحصر خياراتها ومآلاتها في مربع بعينه، ويجعلها مكنشفة في كلّ مرة على تحديات أشد صعوبة.

  • ضبط الفلسطيني وحاجاته ضمن مفهوم “السلطة الحيويّة” بمعنى اعتباره مشكلة سياسية وعلمية وبيولوجية، فمثلاً، عملية الاشتغال على تحويل الفلسطيني، تحديداً في قطاع غزّة، من ذات سياسية فاعلة وضبطه في ذات بيولوجية طبيعية ليس إلا، تتمّ عبر تصنيف نوعية المواد الغذائية التي تدخل إلى القطاع عبر المعابر التجارية، فضلاً عن مجمل البضائع الأخرى ومواد البناء. بل قيل، أيضاً، أن العدو يجنح نحو عدّ السعرات الحرارية التي من المفترض أن يتناولها كلّ فلسطيني في غزة، وضبطها في مستوى معين. بذلك، تستحيل هذه السياسة إلى سياسة إماتة تدريجياً، بل وتأديب للفلسطينيين في غزة على نحو يجعلهم يتنصلون من المقاومة تدريجياً.

ويمكن القول إنّ فلسطين مختبر لهذه الأدوات، فقد أصبحت الأدوات المستخدمة في المراقبة إحدى أبرز صادرات دولة الاحتلال، يكون المجتمع الفلسطيني فيها مختبراً لعمليات هندسية اجتماعية يعاد إنتاجها في العالم بأسره، من ضواحي الفقراء في البرازيل إلى أحياء المهاجرين المهمّشة في باريس، وغيرها من دول ومجموعات سكانية تعاني من تهميش أعمى ومحاولات لفرض الهيمنة وإحكام السيطرة. 

وبالرغم من أهمية الدور الذي لعبه المشروع الصهيوني في خلق وابتكار أدوات المراقبة والتحكّم، إلا أنّه يمكن إرجاع غالبيتها للاستعمار البريطاني وأدواته في فترة الانتداب بين الحرب العالمية الأولى وصولاً لعام 1948، فغالبية أدوات المراقبة والتحكّم (من سجل السكان والهويات والتصاريح والإغلاقات والسجن والتحقيق) هي صناعة بريطانية تمّ الاستحواذ على آلياتها من قبل المليشيات الصهيونية، ومن ثم تم تطويرها بما يناسب السياق الحالي. (استمع/ي لمحاضرة: ليّل الجليل الطويل: “أورد وينغيت” والأصول الامبريالية البريطانية للقوات الخاصة الصهيونية)

السلطة كإحدى مستويات التحكّم والمراقبة

استكمالاً للأدوات التي وظّفها المستعمِر الصهيوني في محاولات تدجين الفلسطيني بما يتلاءم مع أهدافه، أتت السلطة الفلسطينية بعد اتفاقية أوسلو لتلعب دوراً مهماً في إدارة المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية على وجه الخصوص، نيابة عن الاحتلال. ليست السلطة مشروعاً فريداً، وإن كان المشروع الأكبر من ضمن مشاريع خلق وكلاء للقيام بأدوار نيابة عن الاستعمار، فهي امتداد لسياسة صهيونية واضحة بدأت في ظل الحكم العسكري الذي طال فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948 منذ النكبة، واستمرت عقب مضاعفة حيز المشروع الصهيوني الجغرافي ثلاثة أضعافه في العام 1967.

وفي ظل عدم توافر خيار “الترانسفير” الجماعي لأسباب سياسية تتعلق بالتفاعلات الدولية أساساً (مجزرة كفر قاسم كانت محورية هنا في هذه التفاعلات)، دأبت المؤسسة الأمنية والعسكرية الصهيونية على خلق أدوات تحكّم وسيطرة ومراقبة مبتكرة، لضمان أمنها. وقد عبّر عن هذه الفكرة الباحث أحمد السعدي في مقال له بالقول إنّ المخطط الصهيوني ارتكز على ثلاثة ركائن رئيسية في الأراضي المحتلة عام 1948، وهي:”أولاً، على الرغم من أنه لا ينبغي استبعاد الطرد أثناء الحرب، فإن الترانسفير في ظروف عادية لم يعد ممكناً. وثانياً، لا يمكن دمج الفلسطينيين كمواطنين متساوين في المجتمع الإسرائيلي والنظام السياسي؛ بالرغم من إمكانية القيام بعملية دمج جزئي (مشروع المواطنة). ثالثاً، ينبغي أن تكون الاعتبارات المتعلقة بالرقابة والأمن هي الاعتبارات الأكثر أهمية”.

وسواء كان الحديث هنا عن الأراضي المحتلة عام 1948، أو عن الأراضي المحتلة عام 1967، فنحن نتحدث عن سياسة جوهرها واحد: محاولة إرساء سُبل التحكّم والسيطرة بالوكالة، أي خلق بنى تفوّضها البنية الاستعمارية القيام ببعض مهمات التحكم والمراقبة، ومن خلال ذلك يمكن قراءة دور السلطة الفلسطينية.

يلتقي هنا مستويان مترابطان في العمل: مستوى أول يتم في تحويل العلاقة مع “قيادات” فلسطينية محلية وسياسية إلى علاقة إدارية  بحتة، يتم التعامل معها في قضايا يومية معيشية منسلخة عن سياقها السياسي من التصاريح وأوقات دوام الجسر وصولاً للتحويلات الطبية، ومستوى ثانٍ يتم من خلاله إعلاء شأن هذه “القيادات” من خلال تطوير قدراتها على خلق شبكات اجتماعية زبائنية حولها ترتبط بالخدمات التي توفرها (مثال: انظر/ي فلسطين المحدودة). لربما الجديد في سياق السلطة الفلسطينية هو المستوى الثالث الأبعد من ذلك، وهو توكيلها دوراً أمنياً لتصبح نفسها أداة للمراقبة والتحقيق والسجن.

وفي تبنيها لهذا الدور، فقدت النخب الفلسطينية حاضنتها الشعبية الوطنية والتي كانت أساس تشكّلها في الحقل السياسي الفلسطيني، ما أفسح المجال لصعود بدائل سياسية- تنظيمية تبنّت مشاريع إقليمية ذات أيديولوجية إسلامية كحركة “حماس”، وكانت حاسمة في موقفها من العدوّ. ومن جهة أخرى، إن أيّ توجّه يعيد هذه النخب إلى سياقها التحرّري ويرمم علاقتها مع القاعدة الشعبية، فإنه يفقدها في المقابل دورها الوظيفي بالعلاقة مع المستعمِر والمانح الذي غدا شرطاً وجودياً بالنسبة لها. أمام هذه المعادلة توجهت النخب إلى الاستثمار بالبنية الأمنية الداخلية، وتعزيز الزبائنية السياسية والرعيّة الاقتصادية، والعمل على تهميش واحتواء البدائل السياسية أو الاجتماعية و تفكيكها في بواكيرها.

حرب الأفكار: حجب المواقع 

وبالحديث عن الحجب اليوم، نقف أمام ثلاثية قمع ومراقبة وتحكّم تمسّ الحيز الاجتماعي والسياسي والنضالي والإعلامي الفلسطيني. فبينما اعتقلت سلطات الاحتلال العاملين في راديو السنابل (في قرية دورا، قضاء الخليل) بحجة تجنيدهم الأموال لإعادة إعمار بيوت الشهداء، وحاولت إغلاق واحتواء نفوذ تلفزيون “فلسطين اليوم”، أغلقت السلطة مواقع إخبارية متنوعة (بعضها يرتبط بمشاريع سياسية، وبعضها الآخر مستقل تماماً) في محاولة للتحكّم في المعلومة والهيمنة على الخطاب السياسي والاجتماعي.

وفي القرار الأخير لحجب المواقع الإلكترونية، نالت السلطات الرسمية في حجبها من ثلاث جهات:

• بعض المنابر الإعلامية المرتبطة بمحمد دحلان، في سياق الأزمة التي تعصف بالنظام السياسي الفلسطيني والمتعلقة بخلافة الرئيس الحالي محمود عباس وظهور تلك الخلافات في أقطاب اللجنة المركزية داخل حركة فتح وانتقالها إلى الساحات الميدانية (الصراع الدائر في المخيمات مثلاً) والسياسية والدبلوماسية (علاقات أقطاب من حركة فتح بدول إقليمية بشكل منفصل عن النظام السياسي).
• بعض المنابر الإعلامية التابعة لحركة حماس أو المقربة منها، على إثر سلسلة من القرارات التي اتخذت بهدف تشديد الحصار على قطاع غزة.
• منابر إعلامية مستقلة، لا ترتبط بشكل مباشر في أيّ من التيارات السياسية، ولكنها ذات توجه وطني ضدّ استعماري واضح، لما تلعبه هذه المنابر من دور هام في تحدّي الخطاب السلطوي والخروج عن أبجدياته، كشبكة قدس الإخبارية، وهي الشبكة التي حاولت سلطات الاحتلال إغلاق صفحاتها على الفيسبوك من خلال اتفاق مع شركة فيسبوك، ولم تفلح في ذلك، فتقوم اليوم السلطة الفلسطينية بحجب موقعها الإلكتروني.

يعنوَن هذا الصراع بـ”حرب الأفكار”، حرب خطابية تجمع ما بين المعلومات والصوّر ولا تعتمد على البنية الإعلامية التقليدية فحسب، بل يُشارك فيها غالبية المجتمع من خلال عوالم التواصل الاجتماعي، وما يلحقها من نقاشات البيوت والشوارع والمقاهي. يتنافس المتحاربون في هذا المجال الافتراضي والمعلوماتي بالكلمات والصور لخلق روايات أكثر إقناعاً من تلك الموجودة لدى الجانب الآخر، رواية أفضل في تفسير وتوصيف الواقع المعاش.

من صفحة “المنسق” إلى صفحات مثل “مش هيك”، يمكن القول إن صراع وحرب الأفكار هذه هي ذات أهمية بالغة خصوصاً في ظل غياب البنى التنظيمية والسياسية التقليدية. ولربما نحتاج إلى بحث متكامل حول أدوات الخطاب المستخدَم والمستحدَث وأهدافه من أجل خلق تصور مترابط عن شكل وطبيعة الصراع في المجال الافتراضي.

وبما أن الإعلام من أهم الأدوات المتاحة في ترسانة الضعفاء في مواجهة القوى المتنفذة والدكتاتوريات الشمولية والاستعمار، تصبح السردية التي تُبنى اجتماعياً ذات أهمية مركزيّة في خلق وتأطير الفعل السياسي والنضالي. وفي مواجهة ذلك، كانت المخابرات في عدة بلدان تنشر الإشاعات كإحدى أوجه محاربة السرديات والروايات المعارضة لمصالحها ومصالح النظام. وهنا تظهر عمليات الاعتقال المتلاحقة للشباب الفلسطيني من قبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية والصهيونية بتهم التحريض كمحاولة لاحتواء عناصر السردية من خلال إرساء رادع اجتماعي وسياسي أمام التحدث بالبديهيات دون مراقبة ذاتية.

إنّ عملية سرد المواجهة وخلق رواية حولها فعلٌ يصبّ في خلق أساليب للمواجهة ذاتها، خاصةً عند توفر حيز افتراضي اجتماعي واسع يسرد ويقصّ ويفنّد روايات الخصم. مثلاً، إن تآمر البعض على شخص الشهيد نشأت ملحم كان محاولة لاحتواء النموذج من خلال الترويج لسردية مضادة لسردية وطنية نضالية، بحيث تنقلب الرواية تماماً من “شهيد” يتّسم بالبطولة إلى رجل يعاني من إشكال “نفسيّ”. ويمكن الحديث هنا عن سلسلة طويلة من محاولات قتل الشهيد من خلال إسقاط الشهادة من مضامينها المتعلقة بالبطولة والتضحية والإيثار. ولا يمكن في ذات الإطار فهم تلقائية الهبّة الفلسطينية وتكرارية الفعل دون التطرق للدور الذي لعبته الصورة والكلمة في خلق نماذج نضالية جديدة.

إذاً، أصبح السرد (والرواية) عنصراً مكوّناً وجوهرياً للصراع الاجتماعي والسياسي، وإطاراً ناظماً لمخرجات العملية للسياسة المتّبعة في المواجهة. بالفعل، لا يمكن أن توجد “السياسة” دون أساس متشابك من “الحقائق” التي يقبلها الناس بسهولة لأنها تبدو بديهية ويصعب إنكارها. ويكمن الصراع هنا في هذه البديهيات ومكوناتها وأسسها وينعكس على مخرجاتها. خاصةً أنّ السرد والخطاب ليسا مقتصرين على مجموعة من وسائل الإعلام التابعة لأنظمة وتيارات سياسية بحد ذاتها، بلّ يتّخذان أبعاداً شعبية واسعة.

إنّ مسألة حجب المواقع أكثر من مجرّد إشكال قانوني أو صراع سياسي سلطوي، هي بالفعل مواجهة مستمرة على طبيعة الخطاب وأركانه، على نوع السردية، وعلى الرواية و”المنظار” اللذين  نفهم ونفسر الواقع من خلالهما. إنها محاولة لترسيخ رواية وسردية واحدة، لا نرى فلسطين فيها إلا من خلال منظار واحد يخرج لنا على شاكلة بيانات حكومية ومراسيم رئاسية. علاوة على ذلك، هي حرب تخوضها السلطة والكيان على منابع الوعي الفلسطيني المقاوم وعلى الذاكرة الجماعية للمجتمع الفلسطيني، خصوصاً في محاولة حجب منبر إعلامي ذي حضور شعبي واسع كشبكة قدس الإخبارية.

صُممت “السلطة الفلسطينية” بشكلٍ واعٍ ومدروس بحيث تُمارس على الفلسطيني كلّ سيئات السلطة السياسية: القمع والضبط والمراقبة، دون إيجابياتها الحماية والدفاع عن مواطنيها، باختصار، إنها سلطة التنسيق والحجب.